ألفيته رحمة الله تعالى عليه يهش في وجوه الناس فهو كما أسلفت من حديث عنه في الصفحات السابقة كان تاجرا ماهرا يرى أن حلاوة اللسان مفتاح للقلوب سيما تلك العنيدة؛ يأتي رمضان فيتغير البيت والكفر من حولنا؛ ننتظر رؤية المغرب كما لو أننا نترقب حبيبا كيف لا ونحن رسل إلى أهلنا نبشرهم بأن يفطروا؛ نلتف حول الطبلية ونتقاسم أرغفة الخبز الطري وتتراقص المواعين بما احتوته من لحم ومرق سيما وأول الشهر الكريم يكون عامرا بديك من الرومي تربيه أمي في حوش بيتنا الكبير أو ذكرا من البط السوداني يكون قد تعتق وتزغط بالفول؛ وإن أنس لاأنسى يوم سرق طعام أول الشهر؛ خرج البط يتهادى فطمعت امرأة عرفناها فيما بعد فيه؛ ذهبت أمي تسأل جاراتها فأعياها البحث فطعمنا ما شاء الله لنا أن نرزقه؛ وقد كانت فجيعة أن نحرم مما أعد مسبقا!
تتبقى من تلك السنين نتف علقت بذاكرتي؛ تلك الأهازيج نرددها محملين بعبق الصيام؛ فمنها مثلا:
خالة يا أم رمضان قومي اتسحري بالعيش والجرحير الطري!
رمضان وراء الكوم يزرع ثوم من شافه؟
نجري ونلهو في جنبات كفرمجر؛ لأننا أدركنا من شيخ الجامع القبلي سيدنا أحمد أبوقمر رحمة الله تعالي أن الجن تربط بسلاسل من حديد طوال شهر رمضان؛ كان مولانا ذا هيبة وطيبة يغلفهما وقار؛ تبصره فتتهادى إليه مقبلا يديه؛ أعد مسابقة لحفظة القرآن فتقدمت إليها وفزت بجنيه لاأزال أتذكره إذ كان كبيرا ومن فرط خيالي به خلته يشتري بقرة!
قدمته لأبي فدعى لي بالبركة والرضا؛ ومن يومها وأحسبني مباركا راضيا بما وهبني الله من نعم أعدد منها ولا أعددها!
لم يكن رمضان شهر أغان وتلفاز فقد دخلت الكهرباء كفرنا وعمري عشر سنوات ونيف؛ لدينا مذياع نستمع منه إلى برامج مفيدة وتراتيل لصفوة القراء؛ نفطر ونفترش حصيرا من السمر ونحتسي أكواب الشاي وهنا يبدأ أبي في حكيه عن بيعه وشرائه؛ يأتينا أحد أعمامي أو نزور بيت العائلة الكبير عند المصرف؛ نهاية الكقر ممايلي الجبانة، وكان أبي كما أسلفت انعزل بنا وابتنى بيتا له حديقة صغيرة تحفل أشجار الكافور!
كنا بسطاء في معيشتنا نتدبر حالنا بما يتيسر؛ يصدح المنشاوي البكاء أو عبدالباسط عبد الصمد كروان الإذاعة فنخشع صامتين وكأن أشجار الحديقة تهتز طربا لما تسمع؛ هكذا تخيلت في سن الحداثة الأولى!
أبصرته يرتدي جلبابه ويتعمم بشاله الأبيض فكأنما انعقد له حال من الولاية.
نمضى الليل في اللعب والسمر وقد كانت ألعاب الصغار خالية من البهرجة وتعقيدات الزمن الحاضر؛ يتزعم حارتنا فتى مفتول العضلات أو ممن لديه مهارة في العراك مع عصابة من الحارة المجاورة؛ وقد ألفت من نفسي خشية الشجار أو التحزب ضد الآخرين؛ فأميل إلى الدعة والهدوء، أنعزل منعطفا جهة شاطيء النيل من فرع رشيد؛ أمكث حتى يقترب موعد السحور يضرب فيه المسحراتي يتمثل برمضان وقد حمل طبلة كبيرة يضرب بها كأنه بين يدي غارة حربية!
ومما أذكره من عادات رمضان أن نخرج مع لداتنا بما قسم لها لنا من طعام، يتجمع صغار الحارة فتأتي كل أم لوليدها بطعامه فيشبه الإفطار الجماعي كأننا صوم قوم!
هذه صورة علقت في ذاكرتي من رمضان بروحانياته وآفاقه التي تصل إلى أبواب السماء؛ ننتظر ليلة القدر فيدخر كل واحد دعوة يبتهل بها إلى الله عساه يكون من الذين سعدوا برؤيتها؛ ويحفل الموروث الشعبي بطرائف قددا من أدعية هؤلاء الذين دعوا بالأوتاد قبل البقر فأصبحوا وقد امتلأت الحظائر أوتادا دون البقر فتعجلوا وقد أغلقت السماء أبوابها!
تتبقى من تلك السنين نتف علقت بذاكرتي؛ تلك الأهازيج نرددها محملين بعبق الصيام؛ فمنها مثلا:
خالة يا أم رمضان قومي اتسحري بالعيش والجرحير الطري!
رمضان وراء الكوم يزرع ثوم من شافه؟
نجري ونلهو في جنبات كفرمجر؛ لأننا أدركنا من شيخ الجامع القبلي سيدنا أحمد أبوقمر رحمة الله تعالي أن الجن تربط بسلاسل من حديد طوال شهر رمضان؛ كان مولانا ذا هيبة وطيبة يغلفهما وقار؛ تبصره فتتهادى إليه مقبلا يديه؛ أعد مسابقة لحفظة القرآن فتقدمت إليها وفزت بجنيه لاأزال أتذكره إذ كان كبيرا ومن فرط خيالي به خلته يشتري بقرة!
قدمته لأبي فدعى لي بالبركة والرضا؛ ومن يومها وأحسبني مباركا راضيا بما وهبني الله من نعم أعدد منها ولا أعددها!
لم يكن رمضان شهر أغان وتلفاز فقد دخلت الكهرباء كفرنا وعمري عشر سنوات ونيف؛ لدينا مذياع نستمع منه إلى برامج مفيدة وتراتيل لصفوة القراء؛ نفطر ونفترش حصيرا من السمر ونحتسي أكواب الشاي وهنا يبدأ أبي في حكيه عن بيعه وشرائه؛ يأتينا أحد أعمامي أو نزور بيت العائلة الكبير عند المصرف؛ نهاية الكقر ممايلي الجبانة، وكان أبي كما أسلفت انعزل بنا وابتنى بيتا له حديقة صغيرة تحفل أشجار الكافور!
كنا بسطاء في معيشتنا نتدبر حالنا بما يتيسر؛ يصدح المنشاوي البكاء أو عبدالباسط عبد الصمد كروان الإذاعة فنخشع صامتين وكأن أشجار الحديقة تهتز طربا لما تسمع؛ هكذا تخيلت في سن الحداثة الأولى!
أبصرته يرتدي جلبابه ويتعمم بشاله الأبيض فكأنما انعقد له حال من الولاية.
نمضى الليل في اللعب والسمر وقد كانت ألعاب الصغار خالية من البهرجة وتعقيدات الزمن الحاضر؛ يتزعم حارتنا فتى مفتول العضلات أو ممن لديه مهارة في العراك مع عصابة من الحارة المجاورة؛ وقد ألفت من نفسي خشية الشجار أو التحزب ضد الآخرين؛ فأميل إلى الدعة والهدوء، أنعزل منعطفا جهة شاطيء النيل من فرع رشيد؛ أمكث حتى يقترب موعد السحور يضرب فيه المسحراتي يتمثل برمضان وقد حمل طبلة كبيرة يضرب بها كأنه بين يدي غارة حربية!
ومما أذكره من عادات رمضان أن نخرج مع لداتنا بما قسم لها لنا من طعام، يتجمع صغار الحارة فتأتي كل أم لوليدها بطعامه فيشبه الإفطار الجماعي كأننا صوم قوم!
هذه صورة علقت في ذاكرتي من رمضان بروحانياته وآفاقه التي تصل إلى أبواب السماء؛ ننتظر ليلة القدر فيدخر كل واحد دعوة يبتهل بها إلى الله عساه يكون من الذين سعدوا برؤيتها؛ ويحفل الموروث الشعبي بطرائف قددا من أدعية هؤلاء الذين دعوا بالأوتاد قبل البقر فأصبحوا وقد امتلأت الحظائر أوتادا دون البقر فتعجلوا وقد أغلقت السماء أبوابها!