أدب السيرة الذاتية سعيد سالم - ذكريات.. مقطع من السيرة الذاتية

كنا قد توجهنا نحن مجموعة الاسكندرية من كتاب وأصدقاء لنجيب محفوظ الى القاهرة لنقدم له التهنئة على فوزه العظيم ، وكان اللقاء فى كازينو قصر النيل حيث اعتاد عقد لقائه الأسبوعى به مع أصدقائه و مريديه ومحبيه.. وبينما نتحدث جميعا فى جو من البهجة والفرحة وإلقاء القصائد وارتجال الكلمات الصادقة المعبرة عن فرحتنا به، فإذا بمجموعة من الصحافيات السويديات – وكن شديدات الجمال لدرجة الابهار - يقدمن اليه وهن يحملن باقات رائعة من الورود، ساعيات – من خلال مندوبهم المصرى - للقائه ومصافحته والحصول على توقيعه على صورة كبيرة جدا له ملأت صفحة كاملة من جريدة سويدية..ورأينا جميعا هذا الرجل المتواضع إبن أحد أزقة الجمالية الكائنة بالقاهرة ، وقد انحنى أمامه تقديرا واحتراما وإجلالا هؤلاء القوم الذين أتوا اليه من أقصى شمال العالم وأغنى بلاد الدنيا، فأدركنا كم ارتفع بإسم مصر، وكيف جعل منها محطا لأنظار العالم بفضل ماقدم له من نتاج فكره وعبقريته.
ووسط هذا الجو المتخم بالتقدير والاحترام والإجلال فوجئت بالأستاذ يميل الى جانبى هامسا دون أن يسمعه أحد ، مسكّنا السين فى أول حرف من إسمى كعادته:
- يابختك ياسعيد..قعدت عند القمرات دول أربعة اشهر!!
ذلك أننى كنت أراسله عام 1980 خلال بعثتى العلمية بالسويد وأبعث اليه من هناك بالصور الطبيعية الجميلة ، وأحكى له عن لقائى المثير بالكاتب الشهير "آندرز هارننج" الذى تنبأ له بالحصول على نوبل ..وكذلك بزوجته "شرستين" التى ترجمت له رواية زقاق المدق الى اللغة السويدية، وسوف أعود اليهما فيما بعد لأحكى عن زيارة هارننج للقاهرة ولقائه بكبار كتاب مصر قبل ذلك بسنوات عديدة.
عموما لقد كان من الصعب أن يفلت الأستاذ من العديد من المجاملات لمهنئيه بمختلف أطيافهم ، خاصة من بنى وطنه. ولقد فوجئنا بحضوره الاحتفال الحكومى الرسمى بالمولد النبوى الشريف ورأيناه فى لقطة سريعة بنشرة الأخبار وهو يغالب النوم بصعوبة. ولما سألناه عن سبب حضوره هذا الحفل رغم أنه عادة ما يتجنب حضور معظم الاحتفالات التى يدعى اليها، قال ان الدعوة وجهت اليه من الرئاسة وانه وجد حرجا شديدا فى رفض الدعوة ، وكان يجلس فى الحفل مرهقا لايسمع شيئا فضلا عن خشيته من أن يراه المشاهدون وهو يغالب النوم خلال الحفل.
كل هذا أمره سهل ، لكن الذى أغاظه بشدة فى تلك الليلة أنه ما أن انتهى الحفل حتى تنفس الصعداء وسارع بالخروج وهو يحلم بالنوم حتى استوقفه أحد الشيوخ من أعضاء مجلس الشعب بغلظة ، متهما إياه بأن مايكتبه من أدب يفسد الشباب ويهبط بأخلاقهم، فما كان منه إلا أن أجابه ببديهته السريعة وهو يجرى بعيدا عنه:
- بينى وبينك المحكمة.
وفى تلك الجلسة المفعمة بالفرح والمرح ، وكان الحديث يدور عن"بن جونسون" عدّاء الدورة الاليمبية ومطالبة المسئولين بسحب البطولة منه، فاجأنا سيد قناوى ملك القفشات الثقافية وغير الثقافية التى تطلق فى مجلس الاستاذ ، وهو من أقدم أصدقائه السكندريين وأخفهم ظلا ، والأستاذ هو الذى عرفنا به.. والحق أننى لم أره متجهما مرة واحدة خلال معرفتى به ، فهو إنسان دائم البسمة منشرح الصدر ميال للفرحة والبهجة بشكل عام يندر أن تجد له كثيرا من الأشباه من بين الناس ، حين قال له بجدية شديدة:
- سمعت آخر خبر يانجيب بيه؟
- خير؟
- بيقولوا انهم حيسحبوا نوبل من سعادتك
- ليه ؟!!
- لأنهم اكتشفوا انك أخذت حبوب منشطة
كان بصحبتنا فى هذه الجلسة الشاعر عبد الله الوكيل وهو من عائلة ارستقراطية عريقة ، وقد ألقى قصيدة جميلة فى تهنئة الأستاذ، سجلها مصطفى عبد الله الذى كان المحرر الأدبى لجريدة الأخبار فى ذلك الوقت ، على جهاز كاسيت متناه فى الصغر..ويبدو أننى تورطت بحسن نية فى حديث سياسى حساس يمس شخصية نسائية هامة ، حيث رددت – دون حذر - ما قرأته عنها من خبر شديد الإثارة بجريدة عربية. ولما انتبهت لوجود الكاسيت قلت لمصطفى:
- شيل يامصطفى البلوه دى ما توديناش فى داهية
وحين شعر عبد الله الوكيل أن مصطفى سيضع الكاسيت فى جيبه حاول جذب الشريط من يده ليحتفظ لنفسه بقصيدته المسجلة ، لكن مصطفى لم يمكنه من ذلك وأصبح الاثنان على وشك النزاع وكل منهما يشد الشريط تجاهه ، الأمر الذى لفت نظر الأستاذ وأثار استياءه.. حينئذ عاتب مصطفى قائلا:
- احنا مش قاعدين فى فصل يامصطفى..عاوزين نتكلم على راحتنا
وحسما للنزاع فقد أخذ منهما الشريط ووضعه فى جيب البالطو قائلا بجدية شديدة:
- أنا حاخد الشريط ده عشان حاجتين:أول حاجة انى خايف على سعيد ، وتانى حاجه عشان أبتزه بيه !!
أما المفاجأة الكبرى التى أدهشنا بها الأستاذ فقد كانت على شاطىء النيل بعد مغادرتنا الكازينو ونحن نمشى بصحبته ، فإذا به يخرج شريط الكاسيت من جيبه – حين اقترب الرصيف من الماء - ويلقى به فى هدوء شديد الى قاع النيل.


سعيد سالم / مصر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى