عبير عزاوي - أوريغامي..

تووووووت
تصدر الأنسة مها صوتا مصفّراً كأته صوت قطار تمسك بخاصرتي وتدفعني أمامها وندور معا حول الطاولة؛ هذه لعبتي المفضلة، سأكون يوماً ما سائق قطار ، لكني الآن لا أرغب في اللعب، أشعر بالتعب ؛ أتوقف، فتقودني الأنسة مها وتجلسني خلف الطاولة وتضع أمامي أكواماً من ورق ملون؛ تتناول يدي وتضعها فوق مجسم ورقي وتقول : - بطة
تجذبني البطة الورقية وتحلق بلا جناحين. وتذوب في الدائرة الكبرى المحيطة بغرفتي.
الدوائر تحيط بي ؛ دوائر بأحجام مختلفة ؛ وكلها تجمعها نقطة واحدة .
علمتني الأنسة مها الحروف ؛ ومقاطع الصوت ؛ هي معلمتي منذ ثلاث سنوات ، زارتني لأول مرة في عيد ميلادي الرابع ؛ شدتني دائرة صوتها ورائحتها التي تشبه رائحة شامبو الليمون التي تغمرني فيه أمي بالمياه الدافئة .
تحاول أن تدير وجهي إلى الكتلة الورقية المجعدة ، يداي تضغطان عليها فيهس صوت ملمسها .
تقول لي : أوريغامي. ..عالم ورق
تبتلع دائرتي الكبرى الوجوه والأصوات . وتشدني لمركزها فلا أحيد ببصري عنه .
تكرر الأنسة مها الأمر مرة بعد مرة، تتلاشى الحروف والأجنحة وتبقى الدائرة ، في مركزها وهج مغبش لا أقوى على صرف نظري عنه ، فيه ملامح غائمة لا أنفك أتأملها أتهجى رموزها، أعمل بجهد لتفسيرها ، لكنني كلما أمعنت فيها النظر ، تمعن في الغموض.
صوت الأنسة مها يشبه صوت أمي لكن دائرته أضيق وأكثر حدة . تدندن بأغنية مرحة ، تكرر المقاطع الصوتية :
- " او ري غا مي أو ري غا مي .."
تمط صوتها فتتكاثر الدوائر وتتراقص وتضيق عندما ترفع نبرته ويصير حاداً ؛ لكن صوت أمي تتسع دوائره وتضيق حسب مزاجها ؛ فأعرف متى تكون حزينة ومتى تكون سعيدة ، وكذلك أعرف متى تغضب ، ومتى تشعر باليأس ، وحين يحدث ذلك ألفّ حول طاولتي حتى ينهكني التعب، ولكني لا أكف عن الدوران حتى تأتي يد أمي فتنتشلني، وتضعني في فراشي فيرسم صوتها حولي دائرة حلوة أغفو على محيطها .
منذ ثلاثة أيام وأنا لا أنام . ولا أصحو ؛ لا أقوى على وقف صراخي ودوراني. أنتظر فقط يد أمي وصوتها لأغفو .
لم اعتد حضور الأنسة مها في غير موعدها؛ مع حضورها اخذت غرفتي تتسع و تضيق العتمة التي تجلل الأشياء ؛ و مع كل كلمة تنطقها يشتعل الوهج في دائرتي ؛ وأهم أن ألمسه ،و أكاد أصل لتفسير مافيه من غبش، لكنها تصمت فجأة فتهرب الخطوط . يندمج كل شيء في دائرة واحدة كبيرة.وفي وسطها ذلك الوهج الغائم .
تقول الأنسة مها :
مع أوراقكَ الملونة ، رددّ أغنيتك الجديدة؛
صوتها يختنق بشيء لم أعرف اسمه بعد .
تنساب كلمات الأغنية من فم الأنسة مها ؛ أحاول نطقها لكن الغبش يشوش عليّ ، يلجم لساني فلا أنطق .
هذه المرة بقيت معي أطول من المعتاد ؛ربما بسبب صراخي الذي لايهدأ، ماذا أفعل ؟!
الداوائر حولي تتلوى؛ وتزيد العتمة، فأخاف.
تضع الأنسة مها يدها على رأسي، ثم تحملني، تتنقل بي بين المجسمات الورقية التي ملأت غرفتي .أشكال بأجنحة وأخرى برؤوس مربعة؛ وغيرها بأعناق طويلة ، وهي تتداخل وتتشابك ، و الدائرة الكبرى تمتصني. فأغص وأزيد تركيزي في مركزها .
تدندن الأنسة مها كلمات اغنيتها : أوريغامي لعبة السحر .
فلا أنطق ، وكذلك لا أبكي .
أحاول أن أغفو في حضنها ، لكن دائرتي تضيق والغصّة تطفح في حلقي وتمنع الحروف من الخروج . تتحشرج نغمة صوت الانسة وهي تقطّع كلمات أغنيتها :
-" أو ري غا مي . او ري غا مي "
أحرك شفاهي؛ .أرسم حرف الميم .
تردد بإصرار : أو ري غا مي .
تتشكل ملامح وجه، تذوب الخطوط الباهتة لصورة امرأة تشبه أمي ، اهمسُ بنشوة :
أ.. م .... ي
تشع صورة أمي في مركز دائرتي الكبرى وتبتلعني دائرة البكاء .


عبير عزاوي


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى