سهير السمان - "بيت من لحم” للكاتب يوسف إدريس حين يكون الصمت أداة للفعل

بيت من لحم قصة قصير للكاتب يوسف إدريس تطرق قضية اجتماعية مسكوت عنها، وهي منتشرة في الطبقة الفقيرة وسكان العشوائيات في المجتمع، الفئة الكادحة الذي أصبح الفقر والحرمان قدرها والذي يتولد عنه العديد من المآسي والمشاكل الاجتماعية، وقد قدمت هذه القصة واحدة من تلك المآسي دون أن يكون للكاتب فيها دور المنصح أو المرشد في عرض هذه المشكلة، ولكنه أتقن تصويرها فنيا وأدبيا، حتى تقرع النفوس ويكون لها تأثير عميق في ذهن القارئ، وهذا دور الأدب والفن عموما حين يعكس الحياة بثوبه المؤثر.


” جو القصة” تبدأ القصة بوصف المكان، المكان الذي تدور فيه أحداث القصة، وبحدث معين، هو الحدث الذي انتهت إليه بطلات القصة، وهو تبادل الأدوار في لبس الخاتم كل ليلة. ” الخاتم بجوار المصباح، الصمت، الصمت يحل فتعمى الآذان، وفي الصمت تتسلل الأصبع، يضع الخاتم، في صمت أيضاَ يطفئ المصباح، والظلام يعم، في الظلام أيضا تعمى العيون.” وهنا نجد امرأة شابة في الخامسة والثلاثين، لديها ثلاث بنات في سن الشباب، مات عنهن الرجل الوحيد الذي استمر مرضه سنتين، فأطبق الصمت على البيت وتمر أيامهن في انتظار وأمل، علّ احدا يأتي خاطبا إحدى الفتيات، وكل واحدة منهن تنتظر نصيبها، ووسط هذا الصمت،صوت واحد يقطه شاب مقرئ، يأتي كل يوم عصر من يوم الجمعة، يقرأ الآيات على روح الفقيد، وبعد فترة من الزمن الصامت، تقرر الفتيات أنه يجب على إحداهن أن تتزوج هذا الشاب الأعمى، وينتهي النقاش بينهن إلى اتفاق على أن أمهن هي من ستتزوجه، ليجلب إلى البيت الحظ والنصيب، وتبدأ البهجة والضحكات والنكات إلى البيت، وزاد عدد الأنفس نفساَ، إلا أن الصمت يعود ويصبح سيد الموقف أيضا إلى النهاية، بعد أن تقرر الفتيات أن يكن لهن نصيب في هذا الأعمى، وبصمت تتواطئ الأم في قبول هذا الحال، تضحية منها ورأفة في بناتها الجائعات أبدا، وبصمت أيضا يستمر الأعمى في العيش معهن، مقنعا نفسه أنه أعمى، وليس على الأعمى حرج.



” المكان” حجرة ضيقة، فقيرة جدا، ولكنها مرتبة بلمسات الإناث، مصباح واحد، وهو يعادل الرجل الواحد الذي سيكون في البيت، وبينهما تضاد، الإنارة والعمى، ولكنه يطفأ كل ليلة ليتساوى عمى المكان مع عمى المقرئ. ويتحد مع عمى الضمير أيضاَ. وهنا يلف المكان الصمت والعمى والظلام. “الزمان” غير محدد، فعادة لا يحدد الزمان في القصة القصيرة، وقضية هذه الحكاية ممتدة عبر الزمن، فهي اجتماعية لا يخلو منها مجتمع من المجتمعات عبر الزمن. “


” الشخصيات”

الأم: أرملة طويلة بيضاء ممشوقة في الخامسة والثلاثين، حزينة، لم تحيا حياة زوجية سعيدة.

الفتيات: طويلات فائرات، الصغرى في السادسة عشرة، والكبرى في العشرين، الوسطى جريئة النظرات، قبيحات ورثن جسد الأب الأسمر المليء بالكتل غير المتناسقة والفجوات. وهذه صفات جسدية للشخصيات نستشف من خلالها بعض الصفات النفسية، والتي تتضح أيضا من أحداث القصة، فالأم صبورة عانت مع زوجها، تحمل هم بناتها، وتضحي من أجلهن. الفتيات يعانين من الجوع العاطفي والحرمان، بسبب الفقر والقبح.

الاعمى: شاب نظيف الملابس والهندام، وله شارب أخضر، وهذا يدل على أنه شاب، ولديه روح مرحة يحب النكات والضحك.


“التحليل النقدي

” يطالعنا العنوان ” بيت من لحم” ويضع تساؤلا للقارئ لأول وهلة ، كيف يكون البيت من اللحم؟ ويعد العنوان من عتبات النص الذي يسهم في إنشاء دلالة مكثفة لمضمون النص، ويومئ بالتشويق والإثارة.

مقدمة النص” أيضا اختزلت المعنى في محاور أساسية كان لها الدور في صناعة الأحداث” الخاتم، الصمت، العمى، المصباح” دلالة الخاتم: عقد زواج، حلال” المعنى القريب” وفيه حجة لإقناع النفس بالحلال. أما المعنى العميق، ففيه دلالة عميقة توحي على الحركة الدائرية المفرغة، ويوحي بالوصم، والختم الذي يلتصق بصاحبه. وهي هنا تعني الخطيئة التي تتكرر كل ليلة.

المصباح: يدل على الإنارة وكشف الحقيقة، ولكن ينطفئ كل ليلة أيضا ليصبح أداة لإخفاء الخطيئة، التي تواطئ الجميع في إخفائها

. الصمت” وهو صانع الحدث، والذي تكرر خلال النص بدلالات مختلفة، تتبدل أدواره من خلال السياق والأحداث. فهو صمت الحزن بسبب موت الزوج وانتظار الأزواج. وصمت يقطعه الصمت وهو صوت المقرئ الذي يصبح وسط الصمت صمتا. وصمت منفي: انقطاع الصمت بعد زواج الام. وصمت مطبق اختياري متفق عليه يخشى خدشه بعد ممارسة الخطيئة.

كان الصمت هو البداية صمت الحزن والانتظار، صمت الفقر، والحاجة، ويأتي صوت الاعمى ليخترق جدار الصمت، ولكن تلاوته أصبحت اشبه بالصمت لأن القلوب لم تعد تأبه لها، وينقطع الصمت مرة أخرى عند زواج الأم بالكفيف، ويمتلئ البيت بالنكات والضحك وغناء الشاب لأم كلثوم وعبدالوهاب، ويتسلل الصمت مرة أخرى حين تتحول غصة الأم إلى صمت، بعد أن علمت ما كان من ابنتها الوسطى، صمتت الأم ومن لحظتها لم يغادرها الصمت ليصبح أبديا، صمت الفجيعة والانكسار، ويسيطر الصمت على الوسطى، ليكون في هذه الحالة لإخفاء خطيئتها وهكذا يغشى الصمت تدريجيا جميع الفتيات حين يشاركن في لعبة الخاتم، ويبقى الكفيف وحده وسط هذا الصمت رغبة تجعله يثور على الصمت، فهو يريد ان يتيقن مما يشك فيه. ولكن الصمت يقف أمامه ويسأل نفسه ماذا لو تكلم الصمت، تساؤل جعله يلوذ بالصمت تماما، ولكنه خوف أن يخدش ذلك الصمت. فأصبح الصمت إرادي لا سبب له سوى الرذيلة، النتيجة الحتمية للفقر والحرمان، والقبح واليأس، الصمت المتفق عليه، التواطؤ مع الصمت ذاته ليؤكد له أن من معه هي حلاله، ويحل العمى مرة أخرى في نهاية القصة ليصبح تعاميا من الجميع. ويعود الكاتب للمقدمة من جديد في حلقة مفرغة تشبه حركة الخاتم وهي ذاتها حركة المجتمع الذي يدور في حلقة مفرغة من الفقر والحرمان والجهل، والذي لا يصل إلى حل إنما يلف حول المشكلة ويكررها، وتلف حوله المشكلة، والصمت المسيطر على نقاض البيت هو ذاته المتربع على أنقاض الضمير في المجتمع، صمت سائر القوى المجتمعية، صمت متفق عليه. ويقفل الكاتب قصته بسؤال مفتوح يترك إجابته للقارئ . هل على الأعمى حرج ؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى