عزيزي حنّا،
ما أشد رغبتي في ان أكون إلى جانبك في يوم تكريمك السوري ـ العربي. فلقد مضى وقت طويل منذ التقينا، وليتني كنت هنا لأسعد برؤية ملامح الزهو تكسو وجهك ـ وهو زهو تستحقه بكل جدارة، مكافأة على جُهدك الأسطوري وكفاحك الطويل من أجل تشييد واحدة من أبهى عِماراتنا الروائية العربية.
يا صديق العمر،
أنا منذ تسعة شهور ونيّف رهين محبسين: المُستشفى وسرير البيت. الى المستشفى أذهب ثلاث مرات في الأسبوع لأخضع لغسيل كليتي، تُوصلني رفيقة عُمري ودربي عايدة، فأتمدد أراقب دمي يسري من الشرايين الى النرابيش، ومن النرابيش الى الشرايين. بعدها أعود الى سريري في البيت، فأُطعم، ثم أنظر الى أحفادي وأولادي وزوجتي، وقلما أرد على أسئلتهم بأكثر من كلمتين: «أنا منيح»، «كيفك إنت؟»... هذا إذا لم يأتِ سماح ليقرأ لي من شعر المتنبي او نزار او إبراهيم طوقان او الشابي. فإذ ذاك يستيقظ في شراييني كل ما كنت قد توهمت أنه مات، وتعود القوافي تغزل في رأسي أعذب الأحلام والألحان، بل أجد الكلمات تخترق ثِقل لساني لتصحح لسماح خطأ ارتكبه في التفعيلة ـ عن عَمد او من غير عَمد.
يا حنّا، يا حبيبي،
لكم وددت ان أجالسك لأواصل ما انقطع بيننا من أحاديث طويلة، عن غرامياتك الجديدة، ورواياتك الجديدة، وشخصياتك الجديدة. فلطالما شعرت أنني، كصديق وروائي وناشر، امتداد لك، وأنك امتداد لي. بل لطالما أحسست ان كل ما يكتبه الواحد منا في دنيا الرواية العربية او الدفاع عن قيم الثقافة الجادة المكافحة قطرات من شلال هادر يرفد مجتمعنا العربي بعناصر العزة والاستمرار، وسط لُجج اليأس والتراخي والانهزام.
لو كنتُ يا حنّا قادرا على ان أتحدث إليك طويلا، وبتركيز أكبر، لسألتك بشكل خاص عن مشروع راودني قبل أعوام وبثثتك إياه: إنه مشروع تشكيل لجنة للدفاع عن حرية المثقف العربي. أتذكر يا حنّا؟ قبل عشرة أعوام او أقل، اقترحت عليك، بحضور سماح ربما، ان نعمد الى تشكيل لجنة للدفاع عن مضطهدي الرأي في الوطن العربي، وربما اتصلت وقتها لهذا الغرض بأديبين عظيمين سبقانا الى العالم الآخر، هما الحبيبان سعد الله ونوس وعبد الرحمن منيف. كان قمع الكاتب والكتاب رابضا على صدورنا آنذاك، مثلما هو رابض اليوم، رغم تشدق الأنظمة العربية بالاصلاح والانفتاح والتقدم. وكان هاجسي، يومذاك، ان أُسهم في ان نكرّس على الساحة العربية مبدأ رفض عقاب اي كان بسبب أفكاره. وإلى اليومت ما زلت أهجس بضرورة إلغاء الرقابة وكل أشكال الكبت على حرية الإبداع العربي، أيا كانت الذرائع، وعلى رأسها ذريعة ممارسة الرقابة والقمع من أجل «حماية» المجتمع والوطن والأمة!
أذكر الآن ان سماح سألني، أثناء إعداده لأطروحته عن المثقف العربي والسلطة في أوائل التسعينيات، «لماذا سكتّ يا أبي عن قمع المثقفين أيام عبد الناصر؟». تناقشنا طويلا، وبحدة، وحاولت ان أُقنعه بهزال ليبراليته، وبأن المرحلة كانت مرحلة بناء مشروع قومي كبير، وأن الأخطاء مغتفرة في هذه الحال. ولكن شيئا فشيئا راح يتضح أمامي خطأ تبريراتي، الى ان أقررت أمام سماح بأن سكوتي عن قمع المثقفين، أمثال محمود أمين العالم وصنع الله إبراهيم وغالب هلسا، قد كان من أعظم أخطاء حياتي الفكرية، ان لم يكن أعظمها على الاطلاق. وحين رأيت الصديق الغالي محمود أمين العالم في بداية التسعينيات اعتذرت إليه عن سكوتي عن الاضطهاد الذي حاق به في السجن الناصري، وعن سخف المبررات «القومجية» التي قدمتها آنذاك، رغم إيماني الى يومنا هذا بعظمة القائد جمال عبد الناصر ونُبل القضية القومية التي حملها.
نعم يا صديقي حنّا، لو كنت قادرا على مجالستك اليوم لسألتك عما حل بفكرة «اللجنة» التي تحدثنا عنها؟ ألست تعتقد، مثلما أعتقد، أنها ما زالت ضرورة ملحة اليوم بسبب بقاء كثير من زملائنا المثقفين واقتصاديينا اللامعين في السجون العربية، وبسبب استشراء مِقص الرقيب واجراءات المنع بحق الكتب والمجلات العربية وغير العربية، وبسبب تزايد المهاجرين من مثقفينا ومثقفاتنا الى خارج أوطانهم هربا من قمع الأصوليات والديكتاتوريات معا؟ وكيف يواجه وطننا، يا حنّا، الأخطار الاميركية والاسرائيلية المحدقة بنا، وهو مشلول او معوّق او مسجون؟ أيستطيع ان يتحرك وطننا أصلا بكليتين هشتين ككليتيّ، وبنرابيش تربطه من عن يمين وشمال، وليس ما تضخه في الشرايين... إلا دم التعذيب والقتل؟
الحبيب حنّا،
لو التقينا لكنت سألتك ايضا عن رأيك في ما نستطيع ان نفعله لتحسين العلاقات اللبنانية ـ السورية التي تشارف الانهيار هذه الأيام منذ اغتيال الحريري. لو التقينا لكنت، على الأرجح، سأتمنى عليك، ومِن موقعك كرمز ثقافي سوري كبير، ان تكرس ما تبقى لديك من قوة ثقافية إشعاعية، أنت ونبيل وشوقي وياسين والعشرات، للإسهام في ذلك التحسين. فعلاقات بلدينا التاريخية تحتاج اليوم، وأكثر من أي وقت مضى ربما، الى بعد ثقافي يعصمها من العنصرية ونزعة التفوق الشوفينية من جهة، ومن نزعة الوصاية وفرض الإملاءات الاستبدادية من جهة ثانية. وكل من قرأ رواياتك لن يفوته ان يلحظ تشديدك على نضال السوريين واللبنانيين المشترك في وجه الانتداب الفرنسي والعسف العثماني من قبله، وهو نضال يأمل الوطنيون اللبنانيون والسوريون اليوم ان يتجدد على أسس الندية والتوازن والتكامل (لا الاستتباع والاستلحاق) في مواجهة الاعتداءات الاسرائيلية ومشاريع الشرق الأوسط الجديد المدمرة والقاتلة.
العزيز حنّا،
مزيداً من الطموح يا صديق العمر. عزائي في عدم قدرتي اليوم على العطاء الثقافي هو في قُدرة مبدعين عرب، أمثالك، عليه. أعانقك.
سهيل إدريس (الافتراضي)
المصدر: السفير
ما أشد رغبتي في ان أكون إلى جانبك في يوم تكريمك السوري ـ العربي. فلقد مضى وقت طويل منذ التقينا، وليتني كنت هنا لأسعد برؤية ملامح الزهو تكسو وجهك ـ وهو زهو تستحقه بكل جدارة، مكافأة على جُهدك الأسطوري وكفاحك الطويل من أجل تشييد واحدة من أبهى عِماراتنا الروائية العربية.
يا صديق العمر،
أنا منذ تسعة شهور ونيّف رهين محبسين: المُستشفى وسرير البيت. الى المستشفى أذهب ثلاث مرات في الأسبوع لأخضع لغسيل كليتي، تُوصلني رفيقة عُمري ودربي عايدة، فأتمدد أراقب دمي يسري من الشرايين الى النرابيش، ومن النرابيش الى الشرايين. بعدها أعود الى سريري في البيت، فأُطعم، ثم أنظر الى أحفادي وأولادي وزوجتي، وقلما أرد على أسئلتهم بأكثر من كلمتين: «أنا منيح»، «كيفك إنت؟»... هذا إذا لم يأتِ سماح ليقرأ لي من شعر المتنبي او نزار او إبراهيم طوقان او الشابي. فإذ ذاك يستيقظ في شراييني كل ما كنت قد توهمت أنه مات، وتعود القوافي تغزل في رأسي أعذب الأحلام والألحان، بل أجد الكلمات تخترق ثِقل لساني لتصحح لسماح خطأ ارتكبه في التفعيلة ـ عن عَمد او من غير عَمد.
يا حنّا، يا حبيبي،
لكم وددت ان أجالسك لأواصل ما انقطع بيننا من أحاديث طويلة، عن غرامياتك الجديدة، ورواياتك الجديدة، وشخصياتك الجديدة. فلطالما شعرت أنني، كصديق وروائي وناشر، امتداد لك، وأنك امتداد لي. بل لطالما أحسست ان كل ما يكتبه الواحد منا في دنيا الرواية العربية او الدفاع عن قيم الثقافة الجادة المكافحة قطرات من شلال هادر يرفد مجتمعنا العربي بعناصر العزة والاستمرار، وسط لُجج اليأس والتراخي والانهزام.
لو كنتُ يا حنّا قادرا على ان أتحدث إليك طويلا، وبتركيز أكبر، لسألتك بشكل خاص عن مشروع راودني قبل أعوام وبثثتك إياه: إنه مشروع تشكيل لجنة للدفاع عن حرية المثقف العربي. أتذكر يا حنّا؟ قبل عشرة أعوام او أقل، اقترحت عليك، بحضور سماح ربما، ان نعمد الى تشكيل لجنة للدفاع عن مضطهدي الرأي في الوطن العربي، وربما اتصلت وقتها لهذا الغرض بأديبين عظيمين سبقانا الى العالم الآخر، هما الحبيبان سعد الله ونوس وعبد الرحمن منيف. كان قمع الكاتب والكتاب رابضا على صدورنا آنذاك، مثلما هو رابض اليوم، رغم تشدق الأنظمة العربية بالاصلاح والانفتاح والتقدم. وكان هاجسي، يومذاك، ان أُسهم في ان نكرّس على الساحة العربية مبدأ رفض عقاب اي كان بسبب أفكاره. وإلى اليومت ما زلت أهجس بضرورة إلغاء الرقابة وكل أشكال الكبت على حرية الإبداع العربي، أيا كانت الذرائع، وعلى رأسها ذريعة ممارسة الرقابة والقمع من أجل «حماية» المجتمع والوطن والأمة!
أذكر الآن ان سماح سألني، أثناء إعداده لأطروحته عن المثقف العربي والسلطة في أوائل التسعينيات، «لماذا سكتّ يا أبي عن قمع المثقفين أيام عبد الناصر؟». تناقشنا طويلا، وبحدة، وحاولت ان أُقنعه بهزال ليبراليته، وبأن المرحلة كانت مرحلة بناء مشروع قومي كبير، وأن الأخطاء مغتفرة في هذه الحال. ولكن شيئا فشيئا راح يتضح أمامي خطأ تبريراتي، الى ان أقررت أمام سماح بأن سكوتي عن قمع المثقفين، أمثال محمود أمين العالم وصنع الله إبراهيم وغالب هلسا، قد كان من أعظم أخطاء حياتي الفكرية، ان لم يكن أعظمها على الاطلاق. وحين رأيت الصديق الغالي محمود أمين العالم في بداية التسعينيات اعتذرت إليه عن سكوتي عن الاضطهاد الذي حاق به في السجن الناصري، وعن سخف المبررات «القومجية» التي قدمتها آنذاك، رغم إيماني الى يومنا هذا بعظمة القائد جمال عبد الناصر ونُبل القضية القومية التي حملها.
نعم يا صديقي حنّا، لو كنت قادرا على مجالستك اليوم لسألتك عما حل بفكرة «اللجنة» التي تحدثنا عنها؟ ألست تعتقد، مثلما أعتقد، أنها ما زالت ضرورة ملحة اليوم بسبب بقاء كثير من زملائنا المثقفين واقتصاديينا اللامعين في السجون العربية، وبسبب استشراء مِقص الرقيب واجراءات المنع بحق الكتب والمجلات العربية وغير العربية، وبسبب تزايد المهاجرين من مثقفينا ومثقفاتنا الى خارج أوطانهم هربا من قمع الأصوليات والديكتاتوريات معا؟ وكيف يواجه وطننا، يا حنّا، الأخطار الاميركية والاسرائيلية المحدقة بنا، وهو مشلول او معوّق او مسجون؟ أيستطيع ان يتحرك وطننا أصلا بكليتين هشتين ككليتيّ، وبنرابيش تربطه من عن يمين وشمال، وليس ما تضخه في الشرايين... إلا دم التعذيب والقتل؟
الحبيب حنّا،
لو التقينا لكنت سألتك ايضا عن رأيك في ما نستطيع ان نفعله لتحسين العلاقات اللبنانية ـ السورية التي تشارف الانهيار هذه الأيام منذ اغتيال الحريري. لو التقينا لكنت، على الأرجح، سأتمنى عليك، ومِن موقعك كرمز ثقافي سوري كبير، ان تكرس ما تبقى لديك من قوة ثقافية إشعاعية، أنت ونبيل وشوقي وياسين والعشرات، للإسهام في ذلك التحسين. فعلاقات بلدينا التاريخية تحتاج اليوم، وأكثر من أي وقت مضى ربما، الى بعد ثقافي يعصمها من العنصرية ونزعة التفوق الشوفينية من جهة، ومن نزعة الوصاية وفرض الإملاءات الاستبدادية من جهة ثانية. وكل من قرأ رواياتك لن يفوته ان يلحظ تشديدك على نضال السوريين واللبنانيين المشترك في وجه الانتداب الفرنسي والعسف العثماني من قبله، وهو نضال يأمل الوطنيون اللبنانيون والسوريون اليوم ان يتجدد على أسس الندية والتوازن والتكامل (لا الاستتباع والاستلحاق) في مواجهة الاعتداءات الاسرائيلية ومشاريع الشرق الأوسط الجديد المدمرة والقاتلة.
العزيز حنّا،
مزيداً من الطموح يا صديق العمر. عزائي في عدم قدرتي اليوم على العطاء الثقافي هو في قُدرة مبدعين عرب، أمثالك، عليه. أعانقك.
سهيل إدريس (الافتراضي)
المصدر: السفير