محمد خضير - قصص الخيال السياسي

من الثيمات المفقودة في سرديتنا العراقية الثيمةُ السياسية، التي طال افتقادها منذ ظهورها الأول في قصص محمود أحمد السيد وذي النون أيوب وعبد الرزاق الشيخ علي، في الربع الأول من القرن العشرين، ثم اشتدادها وسيادتها في روايات فاضل العزاوي وياسين حسين وعبد الرحمن الربيعي وفؤاد التكرلي، في منتصف ستينيات القرن العشرين. حينئذ اكتسبت الثيمة السياسية صفةَ الخيال، بعد أن حُجّمت من قبل وتلوّنت بصفة الواقعية النقدية_ الاجتماعية. ظلّت هذه الثيمة صافية، واضحة المعالم، قبل أن تستحوذ الأيديولوجيا السلطوية على طراوتها ونقائها وتنسبها لثقافتها الدعائية في سنوات الثمانين والتسعين خلال حروب الخليج بين ١٩٨٠_ ١٩٩١. أما عودتها للظهور بعد سقوط أيديولوجيا الحزب الواحد في ٢٠٠٣، فقد ارتدَت الثيمةُ السياسية هذه المرّة ثوباً فنتازياً غريباً عليها مرّة، وتشرديّاً مازوخياً مرّة ثانية، وتلفيقاً سِيريّاً ثالثة، وابتعد بها المجال مع ما اختزنه كتّابُ المَهاجِر من حمولات نفسية/نوستالجية. بعُدَ العهدُ بتقاليد الثيمة السياسية الخيالية والاجتماعية الأولى، ووهنَ عظمُ عمودها الفقري الصلب، والشامخ، في أماكنها التي ولدت فيه: الزقاق، البيت السري، الزنزانة، المطابع، المحاجر الخاصة.
من هذا الركن/ الأخير، استمدّت مجموعة القصص الصادرة في السنة المعروفة بسنة "الجسور والأبراج والأنفاق والمحاجر"، رسومَها الجدارية ومتاريسَها الخرسانية وراياتها، وسارت النفوسُ العارية فيها بزخم الثيمة الغائبة في قصص النصف الأول من القرن الماضي، النقدية والخيالية. سرى برقُ "الثورة" من السطح الأحدب للجسور، قبل أن يختفي تحتها بين الدعائم الحديدية الضخمة، ثم تتمكّن القوى المضادة من حجزه في "المحجر" الخيالي، المقابل لمحاجر خيالية شهيرة مثل (عنبر رقم ٦) لتشيخوف، ومستشفيات الوباء وزنازين الأخوة الكبار في اشهر روايات القرن العشرين (العقِب الحديدية، والساعة الخامسة والعشرين، و١٩٨٤، والعجلة الحمراء) حيث الرعب والتشويه والعزل في معسكرات الاعتقال. ذهبت الثورة، بزخمها الرومانسي، النقيّ، لتسكن في "بيوت الموتى" و"معازل الجذام" و"حصون البرابرة" _ إشارة لرواية كوتزي.
كانت المهمّة العاجلة _إذن _ اختيارَ أدقّ الزوايا احتجاباً، وأعمق النفسيات الثائرة جرحاً، لاستخلاص مفهوم جديد للثورة. وهل هناك نفسٌ طورِدت من قبو لقبو، ومن جسر لمحجر، ومتراس لزنزاتة سرّية، أبرز تأشيراً من غيرها على قوائم "القوات" التي تطاردها؛ ولا تقلّ عنها وسماً بشعور الخوف والعار الكامن في دورها بالمطاردة والاغتيال!
من هذه الزاوية، زاوية تشرين ٢٠١٩ _ ٢٠٢٠ اختيرت المواقفُ الثورية لشخصيات "المحجر" واتيحَ لها استعادة نماذج مندثرة في صفحات التاريخ العدمي، العالمي والقومي، من دون أن تجتاز الخطَّ الوهميّ ل"ديستوبيات" الخيال السياسي.
مارست شخصياتُ "المحجر" أدوارَ الثورة باعتبارها "تمارين" تطهيرية تمهّد لها الإحساسَ بنبض التاريخ السياسي القصير، لفترة النقاء الثوري المفقود، الذي جرَحَ الواقعَ بجُرحه النقديّ والاجتماعي في السنوات بين ١٩٢٠_ ١٩٥٨ (عمر الدولة في شبابها وصورتها في مرآة خيالها). ولا أحسب هذه الزاوية (زاوية تشرين) ستمتلئ كلّياً بذلك الخيال الريادي القصير، المكبوح بشدّة، ما لم تتّقِ وتصُن وعيَها الثوري من أمراض الفترات الأيديولوجية اللاحقة؛ ومنها فترة "المحجر" الحالية، التي تذكّرنا بأسوأ النماذج الديستوبية العالمية والقومية.


أعلى