- قراءة يقظة-
على المتابع بشكل عام توخي الحذر من حالة اللبس والخلط المتعمدين بين الاسلام كمعتقد ديني لغالبية الشعب المغربي، والاسلام السياسي كإيديولوجيا لمشروع سياسي واجتماعي، يسعى كغيره إلى السلطة أو المشاركة فيها. ما أطرحه للمناقشة هو مشروع تدافع عنه أحزاب سياسية في المغرب تعبر عن مصالح اجتماعية محددة ، وتشتغل في ظل تنظيمات هرمية تنتقي من التراث الديني ما يلائمها وتعيد تأويله و تشكيله وفق مصالحها المادية و السياسية الملموسة. كنسق رمزي لمعتقداتها وقناعاتها التي تكون قادرة على جلب الجمهور وإغرائه بنجاعة برنامجها مثل: "الاسلام هو الحل"، "بناء دولة الخلافة"، " تطبيق الشريعة الاسلامية"،... إلخ. لذلك فإن هذا المقال يتعرض بالنقد للإسلام السياسي كمشروع سياسي واجتماعي كما حددت، فالقضية ليست مرتبطة بالإيمان من عدمه.
و أعتبر أن موضوع حركة الاسلام السياسي في المغرب كباقي الظواهر سوسيو- سياسية، يجب ان يتم تحليلها وفهمها ليس بربطها بوقائع في عصور تاريخية، أو إلى كتب التراث الديني القديم. وإنما بارتباط مع التشكيلة الاجتماعية المغربية الراهنة وبنيتها الطبقية . فهي التي تحدد في الاخير كيفية اشتغالها وتعيد إنتاجها الموسع وتحدد مضمونها الطبقي. وهذا لا يعني أن هذه العلاقة مجرد انعكاس آلي، إنما هي تفاعلية، ولكن كما ذكرت يبقى المحدد الاخير هي البنية الطبقية المهيمنة في المجتمع المغربي.
في هذه المساهمة سأضيق نطاقها بالتركيز على المشترك بين أقطاب حركة الاسلام السياسي في المغرب. والمناسبة هو المأزق السياسي والاخلاقي الذي تعيشه ، بعد هذا السقوط المدوي في شباك التطبيع الرسمي مع الكيان الصهيوني لأحد أقطابها. هذا السقوط كما سيلاحظ المتابع، لم يكن بمعزل عن الدور الذي لعبه هذا القطب بشكل مباشر كأداة طيعة لتنفيذ سياسات اقتصادية واجتماعية في العشر سنوات الاخيرة. والدفاع عن اختيارات تعد الاكثر ليبرالية و توحشا في الفتك بمصالح الطبقات الشعبية في المرحلة الراهنة. كما أن التواطؤ في تزكية قمع الحريات الديمقراطية والمدنية من طرف أجهزة الحكم في مواجهة التحركات الشعبية وقوى المعارضة السياسية والحقوقية والاعلامية التقدمية. والمشاركة في عملية نهب المال العام المنظمة والتستر عليه، جعلت من هذا القطب من حركة الاسلام السياسي قوة معادية لمصالح الطبقات الشعبية في التحرر من الاستبداد والتبعية، و بناء الديمقراطية .
ثلاثة خصائص رئيسية في رأيي طبعت ووحدت كل مكونات جسم حركة الاسلام السياسي في المغرب الراهن وساهمت في تحديد هويتها الفكرية و السياسية وانتمائها الطبقي . وبالتالي قادتها إلى مأزقها السياسي والاخلاقي الراهن. مع الوقوف على التباينات السياسية الخاصة بين أقطابها التي أراها مهمة. سأعرض لهذه الخصائص بتركيز شديد، و هي في الواقع الملموس مترابطة، قمت بتفكيك عرضها منهجيا للتوضيح. والهدف هو فهم طبيعة هذا المشروع السياسي دون الوقوف على التفاصيل، بهدف بناء تصور لعلاقة الصراع السياسي مع هذه الحركة؛ وذلك في إطار التحالفات ومهام بناء جبهة النضال الوطني الديمقراطي الشعبي، التي أعتبرها مهمة مركزية في هذه المرحلة.
الخاصية الاولى، ترتبط بطبيعة النشأة والحضانة
هي حركة سياسية في مضمونها وأهدافها مهما تسربلت بالغطاء الديني، ستظل لعنة ظروف الحضانة و النشأة تلاحقها إلى النهاية. ولأن ظروف النشأة عموما في العمل السياسي الحزبي تكون دائما حاسمة في رسم المسار السياسي لأية حركة. فهي من تحدد الهوية السياسية والاختيارات وأدوات العمل. تم تأتي من بعد تجربة العمل الميداني والتمرس على السياسة لتكسبها التأهيل في لعب الأدوار المطلوبة، و الخضوع لاختبارات الصراع مع الاعداء والخصوم والأصدقاء والحلفاء.
ولأن الحركة التي أعيد تشكيل ملامحها هنا،حتى تبدو عارية على حقيقتها ؛ لا بد أن نعرف في الاول ظروف حضانتها ونستوعب تاريخ نشأتها. فالحاضنة التي تكفلت برعاية حركة سياسية بمرجعية إيديولوجية دينية رجعية ، وفي ظل نظام سياسي يجعل من الدين مجاله المحرم، مع إخضاع أي تأويل تجاسر على المنافسة من داخل أو خارج المذهب الرسمي للدولة إلى القمع والى الضبط . أقول لم تكن هذه الحاضنة بعيدة عن عيون الاجهزة الامنية المغربية وأذرعها، التي تملك كل خيوط التحكم، و في أقبيتها رسمت معالم توجهاتها السياسية، كيف ذلك؟
في المغرب بعد نهاية الستينات وبداية السبعينات من القرن الماضي، كانت هذه المرحلة حبلى بالتحولات السياسية في إطار التناقض الرئيسي الذي يتحكم في دينامية الصراع داخل التشكيلة الاجتماعية والسياسية بالمغرب ( تناقض بين كثلة طبقية/bloc de classes ، مرتبطة المصالح بالغرب الامبريالي، تهيمن عبر أجهزة سلطة استبدادية محتكرة لأدوات العنف و الثروة. تعمل على ترسيخ بنية الرأسمالية التبعية المهيمنة وتوسيعها؛ وبين الطبقات الشعبية ذات المصلحة في التحرر من الاستبداد وفك الارتباط الاقتصادي والسياسي مع الغرب الامبريالي ).
لكن هنا سأركز على تحولين حاسمين، وذلك لشرح المسلسل الذي من خلاله برزت مصلحة السلطة السياسية في أهمية وضرورة تمكين حركات الاسلام السياسي من "حصص متنامية" في الوجود و التأهيل كقوة في الساحة السياسية.
التحول الاول: في كون الحكم أصبح يدرك أن أشكال السيطرة القائمة على القمع الأسود وحدها لتوطيد اختياراته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، و التصدي بقوة الحديد و النار للمطالب و الاحتجاجات الشعبية المتزايدة، لم تعد وحدها ناجعة opératoires/. ولربما سوف ترتد عليه على المدى المتوسط والبعيد.
التحول الثاني: في ضرورة الاسراع بالانفتاح المراقب على " أجنحة المعارضة الليبرالية". وهذا لا يعني أن الامر يتعلق بصياغة "ميثاق" Pacte/ واضح يحدد قواعد الحكم بينه وبين " أجنحة المعارضة الليبرالية"؛ يرتكز على ضمانات متبادلة لاحترام المصالح الحيوية للطرفين كما يتوهم الكثيرين. وإنما يتعلق الامر بإرساء "تقنية سلطوية" تقوم على سلسلة من الاجراءات بين الصد وبين المنع الذاتي، لتفضي إلى "مسلسل ديمقراطي" ، يصبح مجالا للعبة السياسية المتحكم في قواعدها. فلا هذه الاجراءات تتخذ طابع السيف القاطع ولا هي بالعمامة الدينية المهيمنة؛ وذلك حسب تعبير الراحل "ريمي لوفو" الخبير الفرنسي في جماعات الاسلام السياسي ببلدان المغرب الكبير ، صاحب كتاب " السيف والعمامة" /Le sabre et le turban ( 1993).
وبالمقارنة بين المغرب وباقي أنظمة بلدان المغرب الكبير في التعامل مع قوى الاسلام السياسي في تلك الفترة؛ فإن الحكم المغربي هو الذي نجح أكثر في التحكم والاحتواء لحركة الاسلام السياسي المغربية؛ وذلك بواسطة شبكة معقدة من العلاقات ، وبخطط محسوبة من القمع المتناسب مع مكوناتها، بهدف هندسة المجال السياسي وتوسيعه والتحكم فيه، وإضفاء عليه تعددية حزبية صورية كما ذكرت. والسبب في هذا النجاح يعزى في رأيي إلى:
• المشروع الذي تحمله هذه الحركة بمكوناتها في نواة نشأتها الأولى ، إذ لم تكن تهدف من بتاتا إلى إقامة سلطة بديلة عن بنية السلطة الراسخة في المغرب. فهذه الحركات لا تشكل حقلا مضادا للحقل الرسمي القائم على إمارة المؤمنين ، وبالتالي فإن ظهورها سواء في تأسيسها الأول المتمثل في "حركة الشبيبة الإسلامية"، أو جماعة "العدل والاحسان" وغيرها. أو لاحقا في فترة الترويض و الاحتواء. لم تكن إلا تعبيرا عن البنية التقليدية للدولة وانعكاسا لأيديولوجيتها الرسمية.
• إن القاعدة الثابتة في البقاء والاستمرار أمام أية سلطة استبدادية هي القدرة على التأقلم الدائم l’adaptation permanente/ ، خاصة عندما يكون المجتمع يغلي بالمطالب والتناقضات الطبقية كما هو مغرب السبعينات من القرن الماضي. فكانت المهمة المواتية والمستعجلة على جدول أعمال السلطة السياسية هي إدماج الاسلام السياسي بمطالبه الجديدة في "اللعبة السياسية " وليس الدخول في مواجهته، وذلك كشرط ضروري لضمان الاستقرار السياسي والاجتماعي للنظام.
مهمة ادماج الإسلام السياسي وإعطاءه دورا في المجتمع، حددت لها السلطة السياسية أفقين مترابطين في فترة النشأة والحضانة التي تمتد من بداية السبعينات من القرن الماضي إلى التسعينات.
الافق الاول هو تسخير قوى الاسلام السياسي لمواجهة تيارات اليسار الديمقراطي والماركسي في المغرب. وهذه المهمة تندرج في مسار التحالف المقدس الأوسع الذي انشأته أمريكا مع السعودية وحلفائهما لمواجهة ما يسمى "بالبعبع الشيوعي" المتمثل آنذاك في فصائل حركات التحرر على امتداد المنطقة العربية والمغاربية. و إن المتصفح لمنشورات جميع مكونات حركة الاسلام السياسي على الاقل في المغرب في تلك الفترة بدون استثناء. يجد أن هواجسها مجتمعة في فكرها السياسي، هي التحريض على قوى اليسار الديمقراطي والماركسي ورموزها المناضلة، ومناهضة مطالبها السياسية والاجتماعية والاقتصادية ونعتها بالكفر والإلحاد والتغريب.. إلخ. وهو خطاب تحريضي سياسي مباشر يستهدف اجتثاث هذه القوى، أي في النهاية التحريض على القتل وممارسته.
الأفق الثاني هو توجيه قوى الاسلام السياسي لاختراق إطارات النضال الجماهيري من نقابات وجمعيات مدنية مستقلة وتقدمية من أجل تخريبها وشل حركتها وتشويه مطالبها. وقد باشرت هذه المهمات القذرة بدون كلل منذ نهاية السبعينات. حيث تبين للنظام المخزني أن اللجوء وحده لأسلوب القمع السياسي لإخماد مطالب الحركة الجماهيرية كم ذكرت، سيكون مكلفا سياسيا على المدى المتوسط والبعيد ( أحداث الانقلابات العسكرية في السبعينات كمثال) .
مع الوقت اتضح ان هذه الحركة أصبحت قوة قادرة على ضمان فرملة واجهاض مطالب الحركة الجماهيرية والمساهمة في منع تسييسها ، كضرورة ملحة لإنجاح تطبيق سياسات النيوليبرالية/ التقويم الهيكلي، لانجاح الاصلاحات العميقة المرتبطة بالاقتصاد الرأسمالي التبعي ( منذ المرحلة الريغانية ). ليبدأ الهجوم المنظم على قطاعات حيوية مرتبطة مباشرة بالمعيش اليومي للطبقات الشعبية ( الارض، التعليم، الصحة، الغداء، الشغل، النقل، السكن، الطاقة).
في مقابل هذه الادوار القذرة، فقد أطلقت السلطة المغربية يد قوى الاسلام السياسي لإشباع نهمها في نشر "فكرها الدعوي الإخواني" المتحالف مع الاصولية الوهابية، المستورد من بلدان الشرق إلى داخل المجتمع المغربي (الذي لا يمت بأي صلة لفكر السلفية الوطني الاصلاحي في المغرب)، ؛ وذلك من خلال تأسيس الجمعيات الدينية والخيرية والمساجد والمنازل والمقرات الخاصة والعامة. ودور النشر والكتب والأشرطة. و بإنشاء مدارس التعليم الخصوصية لنشر فكرها الدعوي. و من خلال تنظيم الاطارات النسائية عملت أيضا على نشر فكرها داخل الأسر المغربية. وارتكز عملها جغرافيا في الاحياء الشعبية بالمدن الكبيرة والصغيرة المصاحب للانفجار العمراني المشوه بسبب الهجرة المكثفة من البوادي. وفي وسط أحزمة البؤس بالمدن بدأت تبرز بؤر وقواعد الاسلام السياسي.
إن الزحف على المجتمع المغربي ونشر إيديولوجية الاسلام السياسي بهدف الهيمنة ، هو في حقيقة الامر يتماشى مع برنامج "فكر الإخوان السياسي" في تحديد أولوياته، بعد المراجعات التي تمت من طرفه خصوصا في مصر الستينات؛ لذلك يمكن القول بأن الدعوة والتمدد الأفقي لكافة فصائله شكلت آنذاك الهدف الذي وحد بين جميع فصائلها وأخفى تناقضاتها السياسية. وهو هدف مطلوب من طرف الحكم المغربي آنذاك من جهة أخرى؛ الذي أعاد بفضله الادوار وتوازن القوى في رسم قواعد التعدد الحزبي. هذا الزحف كما سبق القول على المجتمع المغربي من طرف قوى الاسلام السياسي، صاحبه قيام الحكم المغربي بإجراءات داعمة و مهمة على مستوى المناهج والمقررات في قطاع التعليم و التربية والتكوين ، ومحاصرة وقمع مختلف الاطارات النقابية والجمعوية والمنشورات التقدمية من أجل تجفيف منابع الفكر التحرري العقلاني.
هكذا نجح خطاب تيار الاسلام السياسي في الانتشار و التعبئة وسط الجماهير الشعبية باعتباره خطابا وحيدا متاحا لها من خلال المساجد وغيرها في هذه الحقبة؛ في ظل حرمان الطبقات الشعبية التام من أية تعددية سياسية حقيقية ومستقلة بالمغرب إلى اليوم.
و يمكن القول أن حركة الاسلام السياسي بالمغرب استفادت من دعم بلغ حد التواطؤ في بناء مسارين مرتبطين: بناء وتعزيز حركة اجتماعية من المنظمات النقابية والمهنية والنسائية والشبابية... إلخ والجمعيات الخيرية؛ وإنشاء حركة سياسية تنافس في الحقل السياسي المسيج بقواعد "المسلسل الديمقراطي" و "التناوب الحكومي"، مع القبول بدفع أعضائها إلى المشاركة داخل بيروقراطية أجهزة الدولة في قطاعات محددة.
الخاصية الثانية ، وهي مرتبطة بالفكر السياسي الذي يؤطر ممارسة حركة الإسلام السياسي:
علاقة الدين بالعمل السياسي هي جوهرية لدى الحركة، مثل الحامض النووي في الجسم فكرا وتنظيما .وهذا الامر مرتبط بالنشأة. ما نلاحظه بين الفينة والاخرى من دعوات وعمل، لفصل الديني عن السياسي، ليس سوى تبادل في الادوار داخل الحركة الواحدة. فالأيديولوجية الدينية هي بمثابة القوة المحركة للإسلام السياسي. وهي التي تضع القوالب للمفاهيم المرتبطة بالسياسة والمجتمع والاقتصاد والثقافة والهوية.
نعم فالعمل السياسي المباشر لحركة الاسلام السياسي ارتبط ببعض المراجعات التي تدور فقط حول "الممكن وغير الممكن" تحقيقه في ظل الاوضاع القائمة بعقلية حساب الكسب والخسارة. وفي هذا المستوى فقط يبرز التباين والاختلاف بين مكونات حركة الاسلام السياسي في المغرب، وهو ما نسميه بالاختلاف في التكتيك. وفي هذا المنحى يتم الانتقال التدريجي إلى القبول "بالديمقراطية التمثيلية"، القبول بالتعددية السياسية وتداول السلطة، القبول بشعار "الدولة المدنية"... إلخ وفقا لرؤية الحركة.
أما فكرها السياسي فهو قائم على الخضوع لمفهوم الشمولية ( شمولية الفكر والتنظيم ) الذي وضع اسسه مؤسس "جماعة الإخوان " في مصر حسن البنا؛ الذي تنهل منه حركة الاسلام السياسي في المغرب. مفهوم الشمولية هذا يعبر عن نفسه بشكل جلي في التعريف الشامل الذي وضعه حسن البنا للجماعة باعتبارها كما يقول:" دعوة سلفية، وطريقة سنية، وحقيقة صوفية، وهيئة سياسية، وجماعة رياضية، وشركة اقتصادية، وهيئة اجتماعية." فلكم أن تمعنوا البصيرة في هذا التعريف الشامل وتكتشفوا مثلا، أن الراحل السيد عبد السلام ياسين في فكره السياسي لا يتناقض مع هذه المبادئ لمفهوم الشمولية كما حدده المرشد حسن البنا. وقد قام بملائمة فكر الجماعة مع متطلبات واقع حركة "العدل والاحسان" باعتباره مؤسسها ومرشدها.
في الممارسة السياسية المباشرة لحركة الاسلام السياسي، تبرز التناقضات بين قطبيها الكبيرين. وكما سبق القول فهي لم ولن تدخل في اي صراع مع السلطة السياسية التي تتركز فيها جل تناقضات المجتمع. فهي ليست مسعى أو هدفا لها بأي شكل من الاشكال. فهي تقوم من خلال اسلمة السياسة والمجتمع بضمان ترسيخ عجز نهوض الحركة الجماهيرية . وهو في نهاية المطاف الهدف الرئيسي ا الذي يخدم مصلحة الحكم.
لقد اقتصر دور الممارسة السياسية لحركة الاسلام السياسي بكل مكوناتها في "التنافس" على تقديم الاحتياجات الحيوية للدولة في " السلم الاجتماعي " وتعزيز هيمنتها الايديولوجية. وهذا ما رجح كفتها ودورها أمام السلطة في هذه المرحلة.
بالنسبة لحزب العدالة والتنمية فقد قبل بالدور الوظيفي في علاقته بالسلطة السياسية بنعومة. ولم يكن له هامش الاختيار بحكم طبيعة قيادته ومسارها التاريخي، مما أسقطها سريعا في هاوية الخيانة، ونزع أقنعتها شيئا فشيئا وقادها إلى مأزقها السياسي الراهن.
أما القطب الثاني الكبير للحركة المتمثل في حزب العدل والاحسان فطبيعة قيادته ( كاريزمية المرشد الذي خبر مناورات السلطة من خلال تجربته في المعارضة الوطنية ) كرست فضيلة الاستقلال التنظيمي عن السلطة، وممارسة دور المعارضة في انتظار عرض أجود من الحكم ، مع ممارسة الاختلاف حول بعض الطقوس الدينية الرسمية. و قد ساهم هذان الموقفين لحزب العدل والاحسان، في التوهم بإمكانية العمل بعيدا عن إغراءات الجزرة و ثمنها، دون أن يبدي أية مواجهة تذكر في مواجهة عصا السلطة. هذا الوضع خلق من هذا القطب "قوة انتظارية"، يعيش أزمة الوقوف وانتظار القدر ( تذكروا الرؤيا التبشيرية للمرشد الراحل ) أما واقع العمل السياسي للحزب فقاده إلى مأزق سياسي منفتح على عدة احتمالات خاصة وسط مريديه واتباعه. فالتنظيم يعيش في وضعية من يريد أن يتمسك بحمل بطيختين بيد واحدة دون حركة، أعني الدين والسياسة. فهي لا تريد المشاركة لتدنيس الدين بالسياسة، ولا تستطيع فصل الدين عن السياسة لأنهما كما قلت الحامض النووي المكون لجسمها.
ومن الدروس البليغة في موضوع الممارسة السياسية لحركة الاسلام السياسي، هو الموقف من حركة 20 فبراير 2011 الشبابية. فهي حركة مناضلة فتحت لأول مرة في المغرب الحديث، إمكانية انتقال ديمقراطي حقيقي، من موقع نضالي، يتيح الفرصة لممارسة الحريات النقابية والسياسية والجمعوية والاعلامية. في حرية التنظيم والتظاهر والاضراب والاحتجاج والتعبير عن الرأي المعارض، بمنتهى الحرية. وهو الشرط الحقيقي لكسر الطوق والحصار المضروب على تسييس الطبقات الشعبية صاحبة المصلحة في التغيير. وكانت هذه الحركة في حاجة إلى الوقت الكافي لكي تنتشر وتتعمق وتتجذر وسط الجماهير.
فماذا حصل؟ هو مناصبة حزب العدالة والتنمية العداء لحركة 20 فبراير عند منعطف الطريق ، و خروج حزب العدل والاحسان كمعارضة من صفوف الحركة أيضا عند منعطف الطريق. وهما في حقيقة الأمر وجهان لعملة واحدة.
كخلاصة لهذه الخاصية، هي مساهمة حركة الاسلام السياسي في بلورة قطبين كبيرين في الساحة السياسية؛ قطب من "الاحزاب البورجوازية العصرية"، وقطب من "الاحزاب البورجوازية المحافظة"، الكل في خدمة مشروع الكثلة الطبقية المسيطرة؛ وهو ما نشاهد تجسيده بهذا الشكل أو ذاك رغم بعض العراقيل ، في ما يسمى "بالتناوب السياسي المزعوم" لتنفيذ اختيارات طبقية واحدة ووحيدة؛ هي التي تكتوي بنارها الطبقات الشعبية الكادحة.
الخاصية الثالثة، وهي مرتبطة بالثروة و التمويل
بعد عرض االمستوى السياسي الذي يحدد الموقف الطبقي لحركة الاسلام السياسي بالمغرب من الاختيارات السياسية و الاقتصادية والاجتماعية المهيمنة. فإن جذور موقعا الطبقي فهو شديد الارتباط بالفئات المتوسطة. هذه الاخيرة بطبيعتها المتحولة، فهي خاضعة دائما في إطار الصراع الطبقي الحاد، لدينامية التقاطب الطبقي/polarisation de classes . وقد عرفت ثلاث تحولات:
- التحول الاول، ويشمل الفئة العريضة داخل حركة الاسلام السياسي. التي تمتهن "تجارة الجملة" في كل شيئ، بدءا من التجارة في المتلاشيات إلى التجارة في البضائع المستوردة أو المهربة . وقد ارتبط بوضع اقتصادي تميز بمسلسل تحرير التجارة والانفتاح على الاسواق الخارجية. وبالتالي فقد توسعت تجارتها و ازدادت غنى واصبحت بورجوازية طفيلية غنية. وقد شكلت هذه الفئة ولا زالت محفظة للنقود لتمويل حركة الاسلام السياسي الدعوية والسياسية وحملات الانتخابات.
- التحول الثاني ويهم قيادة الصف الاول والثاني من حركة الاسلام السياسي، وهي التي انخرطت مباشرة بالمشاركة في الوظائف الحكومية والبرلمانية ومجالس الجهات و البلديات والجماعات... إلخ ، وأصبحت هي أيضا كباقي قيادات الاحزاب البورجوازية، تستفيد لحسابها وتستخدم وسائل الدولة المرتبطة بالفساد والريع في مراكمة الثروة واصبحوا أثرياء جدا. و هي في معظمها منحدرة من الفئات المهنية الحاصلة على تعليم جامعي (سواء تعليم عصري أو تقليدي) . وهي التي تضطلع بمهام القيادة التنظيمية السياسية للحزب والمنظمات الرديفة للحزب ( المنظمات الدعوية والنقابات و الجمعيات الخيرية والنسائية والشبابية...إلخ )
- الفئة الثالثة، وهي التي اغتنت مباشرة من التمويل الخليجي مع ما يسمى بالإحسان العمومي، في بناء المساجد ودور القرآن لنشر المذهب الوهابي السند الاساسي لحركة الاسلام السياسي، هؤلاء الذين يرسمون لأنفسهم صورة أصبحت سائدة لرجال الدين الدعاة والمؤهلين وحدهم لتأويل النصوص الدينية حسب الطلب، الذين تحولوا إلى أغنياء كبار.
كخلاصة عامة يمكن القول، إن هذه الفئات الاجتماعية، بطبيعتها المرتبطة بالقطاع الاقتصادي الطفيلي الذي تغديه قوانين الليبرالية المتوحشة ، فإن مصالحها معادية لأية نزعة تحررية من اغلال التبعية. وعلى المستوى السياسي من خلال عملها على "أسلمة" السياسة والمجتمع؛ فهي تشكل قوة رجعية معادية للتحول الديمقراطي. دورها هو ضمان عدم قدرة المجتمع المغربي على النهوض للإجابة على تحولات العصر الحقيقية.
ملاحظة: لم أتطرق لما يسمى بالتيار السلفي الذي يبرز من خلال رموزه كتيار متطرف. فالأمر بالنسبة إلي لا يعدو أن يكون توزيعا للأدوار، حتى يبدو خطاب "العدل والاحسان" و"العدالة والتنمية" خطابا معتدلا، قابل للتسويق في الغرب وخاصة بالنسبة لواشنطن.
سعيد كنيش/ تمارة في فاتح ماي 2021.
على المتابع بشكل عام توخي الحذر من حالة اللبس والخلط المتعمدين بين الاسلام كمعتقد ديني لغالبية الشعب المغربي، والاسلام السياسي كإيديولوجيا لمشروع سياسي واجتماعي، يسعى كغيره إلى السلطة أو المشاركة فيها. ما أطرحه للمناقشة هو مشروع تدافع عنه أحزاب سياسية في المغرب تعبر عن مصالح اجتماعية محددة ، وتشتغل في ظل تنظيمات هرمية تنتقي من التراث الديني ما يلائمها وتعيد تأويله و تشكيله وفق مصالحها المادية و السياسية الملموسة. كنسق رمزي لمعتقداتها وقناعاتها التي تكون قادرة على جلب الجمهور وإغرائه بنجاعة برنامجها مثل: "الاسلام هو الحل"، "بناء دولة الخلافة"، " تطبيق الشريعة الاسلامية"،... إلخ. لذلك فإن هذا المقال يتعرض بالنقد للإسلام السياسي كمشروع سياسي واجتماعي كما حددت، فالقضية ليست مرتبطة بالإيمان من عدمه.
و أعتبر أن موضوع حركة الاسلام السياسي في المغرب كباقي الظواهر سوسيو- سياسية، يجب ان يتم تحليلها وفهمها ليس بربطها بوقائع في عصور تاريخية، أو إلى كتب التراث الديني القديم. وإنما بارتباط مع التشكيلة الاجتماعية المغربية الراهنة وبنيتها الطبقية . فهي التي تحدد في الاخير كيفية اشتغالها وتعيد إنتاجها الموسع وتحدد مضمونها الطبقي. وهذا لا يعني أن هذه العلاقة مجرد انعكاس آلي، إنما هي تفاعلية، ولكن كما ذكرت يبقى المحدد الاخير هي البنية الطبقية المهيمنة في المجتمع المغربي.
في هذه المساهمة سأضيق نطاقها بالتركيز على المشترك بين أقطاب حركة الاسلام السياسي في المغرب. والمناسبة هو المأزق السياسي والاخلاقي الذي تعيشه ، بعد هذا السقوط المدوي في شباك التطبيع الرسمي مع الكيان الصهيوني لأحد أقطابها. هذا السقوط كما سيلاحظ المتابع، لم يكن بمعزل عن الدور الذي لعبه هذا القطب بشكل مباشر كأداة طيعة لتنفيذ سياسات اقتصادية واجتماعية في العشر سنوات الاخيرة. والدفاع عن اختيارات تعد الاكثر ليبرالية و توحشا في الفتك بمصالح الطبقات الشعبية في المرحلة الراهنة. كما أن التواطؤ في تزكية قمع الحريات الديمقراطية والمدنية من طرف أجهزة الحكم في مواجهة التحركات الشعبية وقوى المعارضة السياسية والحقوقية والاعلامية التقدمية. والمشاركة في عملية نهب المال العام المنظمة والتستر عليه، جعلت من هذا القطب من حركة الاسلام السياسي قوة معادية لمصالح الطبقات الشعبية في التحرر من الاستبداد والتبعية، و بناء الديمقراطية .
ثلاثة خصائص رئيسية في رأيي طبعت ووحدت كل مكونات جسم حركة الاسلام السياسي في المغرب الراهن وساهمت في تحديد هويتها الفكرية و السياسية وانتمائها الطبقي . وبالتالي قادتها إلى مأزقها السياسي والاخلاقي الراهن. مع الوقوف على التباينات السياسية الخاصة بين أقطابها التي أراها مهمة. سأعرض لهذه الخصائص بتركيز شديد، و هي في الواقع الملموس مترابطة، قمت بتفكيك عرضها منهجيا للتوضيح. والهدف هو فهم طبيعة هذا المشروع السياسي دون الوقوف على التفاصيل، بهدف بناء تصور لعلاقة الصراع السياسي مع هذه الحركة؛ وذلك في إطار التحالفات ومهام بناء جبهة النضال الوطني الديمقراطي الشعبي، التي أعتبرها مهمة مركزية في هذه المرحلة.
الخاصية الاولى، ترتبط بطبيعة النشأة والحضانة
هي حركة سياسية في مضمونها وأهدافها مهما تسربلت بالغطاء الديني، ستظل لعنة ظروف الحضانة و النشأة تلاحقها إلى النهاية. ولأن ظروف النشأة عموما في العمل السياسي الحزبي تكون دائما حاسمة في رسم المسار السياسي لأية حركة. فهي من تحدد الهوية السياسية والاختيارات وأدوات العمل. تم تأتي من بعد تجربة العمل الميداني والتمرس على السياسة لتكسبها التأهيل في لعب الأدوار المطلوبة، و الخضوع لاختبارات الصراع مع الاعداء والخصوم والأصدقاء والحلفاء.
ولأن الحركة التي أعيد تشكيل ملامحها هنا،حتى تبدو عارية على حقيقتها ؛ لا بد أن نعرف في الاول ظروف حضانتها ونستوعب تاريخ نشأتها. فالحاضنة التي تكفلت برعاية حركة سياسية بمرجعية إيديولوجية دينية رجعية ، وفي ظل نظام سياسي يجعل من الدين مجاله المحرم، مع إخضاع أي تأويل تجاسر على المنافسة من داخل أو خارج المذهب الرسمي للدولة إلى القمع والى الضبط . أقول لم تكن هذه الحاضنة بعيدة عن عيون الاجهزة الامنية المغربية وأذرعها، التي تملك كل خيوط التحكم، و في أقبيتها رسمت معالم توجهاتها السياسية، كيف ذلك؟
في المغرب بعد نهاية الستينات وبداية السبعينات من القرن الماضي، كانت هذه المرحلة حبلى بالتحولات السياسية في إطار التناقض الرئيسي الذي يتحكم في دينامية الصراع داخل التشكيلة الاجتماعية والسياسية بالمغرب ( تناقض بين كثلة طبقية/bloc de classes ، مرتبطة المصالح بالغرب الامبريالي، تهيمن عبر أجهزة سلطة استبدادية محتكرة لأدوات العنف و الثروة. تعمل على ترسيخ بنية الرأسمالية التبعية المهيمنة وتوسيعها؛ وبين الطبقات الشعبية ذات المصلحة في التحرر من الاستبداد وفك الارتباط الاقتصادي والسياسي مع الغرب الامبريالي ).
لكن هنا سأركز على تحولين حاسمين، وذلك لشرح المسلسل الذي من خلاله برزت مصلحة السلطة السياسية في أهمية وضرورة تمكين حركات الاسلام السياسي من "حصص متنامية" في الوجود و التأهيل كقوة في الساحة السياسية.
التحول الاول: في كون الحكم أصبح يدرك أن أشكال السيطرة القائمة على القمع الأسود وحدها لتوطيد اختياراته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، و التصدي بقوة الحديد و النار للمطالب و الاحتجاجات الشعبية المتزايدة، لم تعد وحدها ناجعة opératoires/. ولربما سوف ترتد عليه على المدى المتوسط والبعيد.
التحول الثاني: في ضرورة الاسراع بالانفتاح المراقب على " أجنحة المعارضة الليبرالية". وهذا لا يعني أن الامر يتعلق بصياغة "ميثاق" Pacte/ واضح يحدد قواعد الحكم بينه وبين " أجنحة المعارضة الليبرالية"؛ يرتكز على ضمانات متبادلة لاحترام المصالح الحيوية للطرفين كما يتوهم الكثيرين. وإنما يتعلق الامر بإرساء "تقنية سلطوية" تقوم على سلسلة من الاجراءات بين الصد وبين المنع الذاتي، لتفضي إلى "مسلسل ديمقراطي" ، يصبح مجالا للعبة السياسية المتحكم في قواعدها. فلا هذه الاجراءات تتخذ طابع السيف القاطع ولا هي بالعمامة الدينية المهيمنة؛ وذلك حسب تعبير الراحل "ريمي لوفو" الخبير الفرنسي في جماعات الاسلام السياسي ببلدان المغرب الكبير ، صاحب كتاب " السيف والعمامة" /Le sabre et le turban ( 1993).
وبالمقارنة بين المغرب وباقي أنظمة بلدان المغرب الكبير في التعامل مع قوى الاسلام السياسي في تلك الفترة؛ فإن الحكم المغربي هو الذي نجح أكثر في التحكم والاحتواء لحركة الاسلام السياسي المغربية؛ وذلك بواسطة شبكة معقدة من العلاقات ، وبخطط محسوبة من القمع المتناسب مع مكوناتها، بهدف هندسة المجال السياسي وتوسيعه والتحكم فيه، وإضفاء عليه تعددية حزبية صورية كما ذكرت. والسبب في هذا النجاح يعزى في رأيي إلى:
• المشروع الذي تحمله هذه الحركة بمكوناتها في نواة نشأتها الأولى ، إذ لم تكن تهدف من بتاتا إلى إقامة سلطة بديلة عن بنية السلطة الراسخة في المغرب. فهذه الحركات لا تشكل حقلا مضادا للحقل الرسمي القائم على إمارة المؤمنين ، وبالتالي فإن ظهورها سواء في تأسيسها الأول المتمثل في "حركة الشبيبة الإسلامية"، أو جماعة "العدل والاحسان" وغيرها. أو لاحقا في فترة الترويض و الاحتواء. لم تكن إلا تعبيرا عن البنية التقليدية للدولة وانعكاسا لأيديولوجيتها الرسمية.
• إن القاعدة الثابتة في البقاء والاستمرار أمام أية سلطة استبدادية هي القدرة على التأقلم الدائم l’adaptation permanente/ ، خاصة عندما يكون المجتمع يغلي بالمطالب والتناقضات الطبقية كما هو مغرب السبعينات من القرن الماضي. فكانت المهمة المواتية والمستعجلة على جدول أعمال السلطة السياسية هي إدماج الاسلام السياسي بمطالبه الجديدة في "اللعبة السياسية " وليس الدخول في مواجهته، وذلك كشرط ضروري لضمان الاستقرار السياسي والاجتماعي للنظام.
مهمة ادماج الإسلام السياسي وإعطاءه دورا في المجتمع، حددت لها السلطة السياسية أفقين مترابطين في فترة النشأة والحضانة التي تمتد من بداية السبعينات من القرن الماضي إلى التسعينات.
الافق الاول هو تسخير قوى الاسلام السياسي لمواجهة تيارات اليسار الديمقراطي والماركسي في المغرب. وهذه المهمة تندرج في مسار التحالف المقدس الأوسع الذي انشأته أمريكا مع السعودية وحلفائهما لمواجهة ما يسمى "بالبعبع الشيوعي" المتمثل آنذاك في فصائل حركات التحرر على امتداد المنطقة العربية والمغاربية. و إن المتصفح لمنشورات جميع مكونات حركة الاسلام السياسي على الاقل في المغرب في تلك الفترة بدون استثناء. يجد أن هواجسها مجتمعة في فكرها السياسي، هي التحريض على قوى اليسار الديمقراطي والماركسي ورموزها المناضلة، ومناهضة مطالبها السياسية والاجتماعية والاقتصادية ونعتها بالكفر والإلحاد والتغريب.. إلخ. وهو خطاب تحريضي سياسي مباشر يستهدف اجتثاث هذه القوى، أي في النهاية التحريض على القتل وممارسته.
الأفق الثاني هو توجيه قوى الاسلام السياسي لاختراق إطارات النضال الجماهيري من نقابات وجمعيات مدنية مستقلة وتقدمية من أجل تخريبها وشل حركتها وتشويه مطالبها. وقد باشرت هذه المهمات القذرة بدون كلل منذ نهاية السبعينات. حيث تبين للنظام المخزني أن اللجوء وحده لأسلوب القمع السياسي لإخماد مطالب الحركة الجماهيرية كم ذكرت، سيكون مكلفا سياسيا على المدى المتوسط والبعيد ( أحداث الانقلابات العسكرية في السبعينات كمثال) .
مع الوقت اتضح ان هذه الحركة أصبحت قوة قادرة على ضمان فرملة واجهاض مطالب الحركة الجماهيرية والمساهمة في منع تسييسها ، كضرورة ملحة لإنجاح تطبيق سياسات النيوليبرالية/ التقويم الهيكلي، لانجاح الاصلاحات العميقة المرتبطة بالاقتصاد الرأسمالي التبعي ( منذ المرحلة الريغانية ). ليبدأ الهجوم المنظم على قطاعات حيوية مرتبطة مباشرة بالمعيش اليومي للطبقات الشعبية ( الارض، التعليم، الصحة، الغداء، الشغل، النقل، السكن، الطاقة).
في مقابل هذه الادوار القذرة، فقد أطلقت السلطة المغربية يد قوى الاسلام السياسي لإشباع نهمها في نشر "فكرها الدعوي الإخواني" المتحالف مع الاصولية الوهابية، المستورد من بلدان الشرق إلى داخل المجتمع المغربي (الذي لا يمت بأي صلة لفكر السلفية الوطني الاصلاحي في المغرب)، ؛ وذلك من خلال تأسيس الجمعيات الدينية والخيرية والمساجد والمنازل والمقرات الخاصة والعامة. ودور النشر والكتب والأشرطة. و بإنشاء مدارس التعليم الخصوصية لنشر فكرها الدعوي. و من خلال تنظيم الاطارات النسائية عملت أيضا على نشر فكرها داخل الأسر المغربية. وارتكز عملها جغرافيا في الاحياء الشعبية بالمدن الكبيرة والصغيرة المصاحب للانفجار العمراني المشوه بسبب الهجرة المكثفة من البوادي. وفي وسط أحزمة البؤس بالمدن بدأت تبرز بؤر وقواعد الاسلام السياسي.
إن الزحف على المجتمع المغربي ونشر إيديولوجية الاسلام السياسي بهدف الهيمنة ، هو في حقيقة الامر يتماشى مع برنامج "فكر الإخوان السياسي" في تحديد أولوياته، بعد المراجعات التي تمت من طرفه خصوصا في مصر الستينات؛ لذلك يمكن القول بأن الدعوة والتمدد الأفقي لكافة فصائله شكلت آنذاك الهدف الذي وحد بين جميع فصائلها وأخفى تناقضاتها السياسية. وهو هدف مطلوب من طرف الحكم المغربي آنذاك من جهة أخرى؛ الذي أعاد بفضله الادوار وتوازن القوى في رسم قواعد التعدد الحزبي. هذا الزحف كما سبق القول على المجتمع المغربي من طرف قوى الاسلام السياسي، صاحبه قيام الحكم المغربي بإجراءات داعمة و مهمة على مستوى المناهج والمقررات في قطاع التعليم و التربية والتكوين ، ومحاصرة وقمع مختلف الاطارات النقابية والجمعوية والمنشورات التقدمية من أجل تجفيف منابع الفكر التحرري العقلاني.
هكذا نجح خطاب تيار الاسلام السياسي في الانتشار و التعبئة وسط الجماهير الشعبية باعتباره خطابا وحيدا متاحا لها من خلال المساجد وغيرها في هذه الحقبة؛ في ظل حرمان الطبقات الشعبية التام من أية تعددية سياسية حقيقية ومستقلة بالمغرب إلى اليوم.
و يمكن القول أن حركة الاسلام السياسي بالمغرب استفادت من دعم بلغ حد التواطؤ في بناء مسارين مرتبطين: بناء وتعزيز حركة اجتماعية من المنظمات النقابية والمهنية والنسائية والشبابية... إلخ والجمعيات الخيرية؛ وإنشاء حركة سياسية تنافس في الحقل السياسي المسيج بقواعد "المسلسل الديمقراطي" و "التناوب الحكومي"، مع القبول بدفع أعضائها إلى المشاركة داخل بيروقراطية أجهزة الدولة في قطاعات محددة.
الخاصية الثانية ، وهي مرتبطة بالفكر السياسي الذي يؤطر ممارسة حركة الإسلام السياسي:
علاقة الدين بالعمل السياسي هي جوهرية لدى الحركة، مثل الحامض النووي في الجسم فكرا وتنظيما .وهذا الامر مرتبط بالنشأة. ما نلاحظه بين الفينة والاخرى من دعوات وعمل، لفصل الديني عن السياسي، ليس سوى تبادل في الادوار داخل الحركة الواحدة. فالأيديولوجية الدينية هي بمثابة القوة المحركة للإسلام السياسي. وهي التي تضع القوالب للمفاهيم المرتبطة بالسياسة والمجتمع والاقتصاد والثقافة والهوية.
نعم فالعمل السياسي المباشر لحركة الاسلام السياسي ارتبط ببعض المراجعات التي تدور فقط حول "الممكن وغير الممكن" تحقيقه في ظل الاوضاع القائمة بعقلية حساب الكسب والخسارة. وفي هذا المستوى فقط يبرز التباين والاختلاف بين مكونات حركة الاسلام السياسي في المغرب، وهو ما نسميه بالاختلاف في التكتيك. وفي هذا المنحى يتم الانتقال التدريجي إلى القبول "بالديمقراطية التمثيلية"، القبول بالتعددية السياسية وتداول السلطة، القبول بشعار "الدولة المدنية"... إلخ وفقا لرؤية الحركة.
أما فكرها السياسي فهو قائم على الخضوع لمفهوم الشمولية ( شمولية الفكر والتنظيم ) الذي وضع اسسه مؤسس "جماعة الإخوان " في مصر حسن البنا؛ الذي تنهل منه حركة الاسلام السياسي في المغرب. مفهوم الشمولية هذا يعبر عن نفسه بشكل جلي في التعريف الشامل الذي وضعه حسن البنا للجماعة باعتبارها كما يقول:" دعوة سلفية، وطريقة سنية، وحقيقة صوفية، وهيئة سياسية، وجماعة رياضية، وشركة اقتصادية، وهيئة اجتماعية." فلكم أن تمعنوا البصيرة في هذا التعريف الشامل وتكتشفوا مثلا، أن الراحل السيد عبد السلام ياسين في فكره السياسي لا يتناقض مع هذه المبادئ لمفهوم الشمولية كما حدده المرشد حسن البنا. وقد قام بملائمة فكر الجماعة مع متطلبات واقع حركة "العدل والاحسان" باعتباره مؤسسها ومرشدها.
في الممارسة السياسية المباشرة لحركة الاسلام السياسي، تبرز التناقضات بين قطبيها الكبيرين. وكما سبق القول فهي لم ولن تدخل في اي صراع مع السلطة السياسية التي تتركز فيها جل تناقضات المجتمع. فهي ليست مسعى أو هدفا لها بأي شكل من الاشكال. فهي تقوم من خلال اسلمة السياسة والمجتمع بضمان ترسيخ عجز نهوض الحركة الجماهيرية . وهو في نهاية المطاف الهدف الرئيسي ا الذي يخدم مصلحة الحكم.
لقد اقتصر دور الممارسة السياسية لحركة الاسلام السياسي بكل مكوناتها في "التنافس" على تقديم الاحتياجات الحيوية للدولة في " السلم الاجتماعي " وتعزيز هيمنتها الايديولوجية. وهذا ما رجح كفتها ودورها أمام السلطة في هذه المرحلة.
بالنسبة لحزب العدالة والتنمية فقد قبل بالدور الوظيفي في علاقته بالسلطة السياسية بنعومة. ولم يكن له هامش الاختيار بحكم طبيعة قيادته ومسارها التاريخي، مما أسقطها سريعا في هاوية الخيانة، ونزع أقنعتها شيئا فشيئا وقادها إلى مأزقها السياسي الراهن.
أما القطب الثاني الكبير للحركة المتمثل في حزب العدل والاحسان فطبيعة قيادته ( كاريزمية المرشد الذي خبر مناورات السلطة من خلال تجربته في المعارضة الوطنية ) كرست فضيلة الاستقلال التنظيمي عن السلطة، وممارسة دور المعارضة في انتظار عرض أجود من الحكم ، مع ممارسة الاختلاف حول بعض الطقوس الدينية الرسمية. و قد ساهم هذان الموقفين لحزب العدل والاحسان، في التوهم بإمكانية العمل بعيدا عن إغراءات الجزرة و ثمنها، دون أن يبدي أية مواجهة تذكر في مواجهة عصا السلطة. هذا الوضع خلق من هذا القطب "قوة انتظارية"، يعيش أزمة الوقوف وانتظار القدر ( تذكروا الرؤيا التبشيرية للمرشد الراحل ) أما واقع العمل السياسي للحزب فقاده إلى مأزق سياسي منفتح على عدة احتمالات خاصة وسط مريديه واتباعه. فالتنظيم يعيش في وضعية من يريد أن يتمسك بحمل بطيختين بيد واحدة دون حركة، أعني الدين والسياسة. فهي لا تريد المشاركة لتدنيس الدين بالسياسة، ولا تستطيع فصل الدين عن السياسة لأنهما كما قلت الحامض النووي المكون لجسمها.
ومن الدروس البليغة في موضوع الممارسة السياسية لحركة الاسلام السياسي، هو الموقف من حركة 20 فبراير 2011 الشبابية. فهي حركة مناضلة فتحت لأول مرة في المغرب الحديث، إمكانية انتقال ديمقراطي حقيقي، من موقع نضالي، يتيح الفرصة لممارسة الحريات النقابية والسياسية والجمعوية والاعلامية. في حرية التنظيم والتظاهر والاضراب والاحتجاج والتعبير عن الرأي المعارض، بمنتهى الحرية. وهو الشرط الحقيقي لكسر الطوق والحصار المضروب على تسييس الطبقات الشعبية صاحبة المصلحة في التغيير. وكانت هذه الحركة في حاجة إلى الوقت الكافي لكي تنتشر وتتعمق وتتجذر وسط الجماهير.
فماذا حصل؟ هو مناصبة حزب العدالة والتنمية العداء لحركة 20 فبراير عند منعطف الطريق ، و خروج حزب العدل والاحسان كمعارضة من صفوف الحركة أيضا عند منعطف الطريق. وهما في حقيقة الأمر وجهان لعملة واحدة.
كخلاصة لهذه الخاصية، هي مساهمة حركة الاسلام السياسي في بلورة قطبين كبيرين في الساحة السياسية؛ قطب من "الاحزاب البورجوازية العصرية"، وقطب من "الاحزاب البورجوازية المحافظة"، الكل في خدمة مشروع الكثلة الطبقية المسيطرة؛ وهو ما نشاهد تجسيده بهذا الشكل أو ذاك رغم بعض العراقيل ، في ما يسمى "بالتناوب السياسي المزعوم" لتنفيذ اختيارات طبقية واحدة ووحيدة؛ هي التي تكتوي بنارها الطبقات الشعبية الكادحة.
الخاصية الثالثة، وهي مرتبطة بالثروة و التمويل
بعد عرض االمستوى السياسي الذي يحدد الموقف الطبقي لحركة الاسلام السياسي بالمغرب من الاختيارات السياسية و الاقتصادية والاجتماعية المهيمنة. فإن جذور موقعا الطبقي فهو شديد الارتباط بالفئات المتوسطة. هذه الاخيرة بطبيعتها المتحولة، فهي خاضعة دائما في إطار الصراع الطبقي الحاد، لدينامية التقاطب الطبقي/polarisation de classes . وقد عرفت ثلاث تحولات:
- التحول الاول، ويشمل الفئة العريضة داخل حركة الاسلام السياسي. التي تمتهن "تجارة الجملة" في كل شيئ، بدءا من التجارة في المتلاشيات إلى التجارة في البضائع المستوردة أو المهربة . وقد ارتبط بوضع اقتصادي تميز بمسلسل تحرير التجارة والانفتاح على الاسواق الخارجية. وبالتالي فقد توسعت تجارتها و ازدادت غنى واصبحت بورجوازية طفيلية غنية. وقد شكلت هذه الفئة ولا زالت محفظة للنقود لتمويل حركة الاسلام السياسي الدعوية والسياسية وحملات الانتخابات.
- التحول الثاني ويهم قيادة الصف الاول والثاني من حركة الاسلام السياسي، وهي التي انخرطت مباشرة بالمشاركة في الوظائف الحكومية والبرلمانية ومجالس الجهات و البلديات والجماعات... إلخ ، وأصبحت هي أيضا كباقي قيادات الاحزاب البورجوازية، تستفيد لحسابها وتستخدم وسائل الدولة المرتبطة بالفساد والريع في مراكمة الثروة واصبحوا أثرياء جدا. و هي في معظمها منحدرة من الفئات المهنية الحاصلة على تعليم جامعي (سواء تعليم عصري أو تقليدي) . وهي التي تضطلع بمهام القيادة التنظيمية السياسية للحزب والمنظمات الرديفة للحزب ( المنظمات الدعوية والنقابات و الجمعيات الخيرية والنسائية والشبابية...إلخ )
- الفئة الثالثة، وهي التي اغتنت مباشرة من التمويل الخليجي مع ما يسمى بالإحسان العمومي، في بناء المساجد ودور القرآن لنشر المذهب الوهابي السند الاساسي لحركة الاسلام السياسي، هؤلاء الذين يرسمون لأنفسهم صورة أصبحت سائدة لرجال الدين الدعاة والمؤهلين وحدهم لتأويل النصوص الدينية حسب الطلب، الذين تحولوا إلى أغنياء كبار.
كخلاصة عامة يمكن القول، إن هذه الفئات الاجتماعية، بطبيعتها المرتبطة بالقطاع الاقتصادي الطفيلي الذي تغديه قوانين الليبرالية المتوحشة ، فإن مصالحها معادية لأية نزعة تحررية من اغلال التبعية. وعلى المستوى السياسي من خلال عملها على "أسلمة" السياسة والمجتمع؛ فهي تشكل قوة رجعية معادية للتحول الديمقراطي. دورها هو ضمان عدم قدرة المجتمع المغربي على النهوض للإجابة على تحولات العصر الحقيقية.
ملاحظة: لم أتطرق لما يسمى بالتيار السلفي الذي يبرز من خلال رموزه كتيار متطرف. فالأمر بالنسبة إلي لا يعدو أن يكون توزيعا للأدوار، حتى يبدو خطاب "العدل والاحسان" و"العدالة والتنمية" خطابا معتدلا، قابل للتسويق في الغرب وخاصة بالنسبة لواشنطن.
سعيد كنيش/ تمارة في فاتح ماي 2021.