أ.
في سَورة غضب حَطّم الكأس الذي حملته معي من عَمّان، لقد خبأته لسنوات بين الكُتب، كان له حيز معلوم لا ينافسه فيه شيء وهو المُزيّن باسم العراق وعَلَمِه. إن إولئك الذين يرزحون تحت احتلال يعرفون تماماً ماذا يعني أن تسقط الأوطان، لم يطل الأمر! فقد سقطت بغداد بعد ذلك بالفعل.
على أية حال، يعرف أيضاً خريجو كليات الحقوق ماذا تعني "سَورة غضب" المنصوص عليها في قانون العقوبات كعُذر مُخفف للقتل، فأُعاتب نفسي لردة فعل كانت مُحتملة، ثم أُقارن خسارتي بأعداد الأرواح التي أطفأ نورها قتلة غاضبين، خُفف عنهم لاحقاً اعمالاً لحكم القانون فيما الجمع المُتفرج من الناس ساكت، فسكتُ.
وفي غضبه الذي يزيد ولا ينقص، سقط مغشياً عليه ككل مرة، يثور ثم يتهاوى، مشكلته المزمنة في جهازه الهضمي، هكذا يصبح المستبدون بجسده اثنان: هو وجهازه الهضمي.
يحلو له في قمة ألمه العضوي اجتراع المزيد من السموم كالمُسكنات، المشروبات الغازية، تناول ملعقة كبيرة من الشطة وشرب الدخان وكؤؤس القهوة. يعجبه انهياره، ولا أُبالغ إذ قلت أنه يستجديه. كم تَلوّى وهو مُلقى على أرضيات المطبخ والصالون والحمام، له قدرة عجيبة على الإنهيار حتى في الزُقاق أيضاً، يتكوم على نفسه ويئن بشكل مزعج. في لحظات الفوضى تلك، يحلو له النظر في عيني ليخبرني بصوته الواهن عن حبه المؤكد لي، أتفهم جزعه ولا أزيد حرفاً.
الشعور بالحب بيننا محصور في حالات الضعف، نعرف بعضنا منذ عشر سنوات، عرفته في لحظة غضب أيضاً قلت "هذا مجنون وهذا ما أحتاجه تماما" أكاد أجزم أنه لا حب بيننا، لكننا في احتياج شبه دائم لبعضنا. اتفاقٌ أعلنّا عنه بالزواج، فتشاركنا ذات السقف مع الحفاظ على هامش كبير من نمط حياتنا الشخصية السابقة، لم نسعَ بشكلٍ جدي لإيجاد مساحة مشتركة حقيقية، ربما لأننا أصلاً لم نثق في هذا الرابط الموجود بيننا، نرقبه ونتساءل كل يوم عن لحظة انهياره لكنه لا زال –وبشكل مُبهِر- صامد.
ب.
نعم، نتشارك سوياً ذات البيت، في كل صباح أنظر إلى جانب السرير، أُفتش عنها فأجدها وقد غطى شعرها الأسود القصير وجهها النائم، أتنفس الصعداء "لا زالت هنا هذه السمراء." يتلاشى احتمال الفراغ، فأفكر بمكافآة لها من قهوة الإسبرسو.
نتجهز كلانا للذهاب إلى العمل، في المنفى حيث نعرف القليل جداً من الناس، خلعتُ قميصي المُحافظ الذي حشرتني فيه أمي طفلاً، أدخلتُ بعض التعديلات على مظهري وقد راقني المكوث في هيئة رعنة تشي بفوضوية الهيبيز فارتديتُ (الشورتات) المخططة ووضعت "الحلق" والأساور المطاطية ذات الألوان الزاهية، وقد تجرأتُ ذات نهار بالدخول إلى الحلاق وبعد تردد طلبت منه اضافة بضع خصلات من الهايلات الأشقر إلى شعري الفاتح، اخترنا دَرَجة اللون سوياً وقد شعر بالزهو بعد ما ظهرت النتيجة. أنتبهُ إلى نظراتها الثابتة نحوي وقد أطلّت في هندامها الجدي: بذلة نسائية رمادية لا يكسر رتابة لونها إلا أحمر الشفاه اللافت الذي يشع من شفتيها دون تردد، أفكر "هل تشتهيني في هذه الساعة المبكرة من الصباح؟" تصير النظرات أكثر بروداً، يراودني شعوراً بأنني طالبٌ يقف أمام مدير مدرسة على وشك شتمه أو صفعه.
- لم يعجبكِ الحلق
- لم يعجبني مجدداً
- أظن أنه لا يليق بإطلالتك الكلاسيكية؟ استغرب! لقد قالت لي (ألما) أنه جميل ومُثير
- الله يخليلك (ألما) إذا... Bana ne!
- غرتِ؟
-ههههههه أنا؟ وبعد كل هذه السنين التي تأكدنا فيها أنه لا يُحب أحدنا الآخر، تسألني! لقد تأخرنا وحياتك!
ج.
بلى! تأخرنا كثيراً في تدوين سنوات العمر التي فقدنا خلالها جرأة التسكع ليلاً كشَبحين هائمين تنشق الأرض عنهما مساءً فيخرجان إلى طرق الله الواسعة، يعانقان ألحان الأغاني التي أُدت في غيابهما ويرقصان ثم يضحكان كثيراً وقد يبكيان في النهاية من أثر الرحلة البعيدة التي تركت فيهما كل هذا التعب.
لقد ظننا أننا سنبقى كثيراً على تلك الحال، لكن سرعان ما أصبحنا زوجين تقليديين، استأجرنا بيتاً، اشترينا الأدوات الكهربائية والأثاث، وقد توقفنا قليلاً ذات مرة في لهاث توضيب البيت واتفقنا على عدم الإنزلاق أكثر: فلم نصبح أبوين. وفي حمى ايجاد المسميات لأحوالنا الكثيرة، عثرنا على مصطلح "اللاإنجابيين" فهربنا إليه من الحقائق الكثيرة التي يطول شرحها للمتسائلين الفضوليين عن عدم أبوتنا. كلمة واحدة تبنيناها ودفنا فيها مخاوفنا الكثيرة من الألم والعجز وطبول الحرب التي لا تُميز بين صغير أو كبير، وايماننا المُرتبك أمام طفل صغير يسأل عن بيته المُهدم ووالديه المفقودين. لقد أنقذنا امتدادنا البشري من التشرد والجوع واليتم، فلم نُنجب.
ثم يُطل الصّباح مرة أخرى، ونفاجئه بأننا لا زلنا نتشارك ذات السرير.
في سَورة غضب حَطّم الكأس الذي حملته معي من عَمّان، لقد خبأته لسنوات بين الكُتب، كان له حيز معلوم لا ينافسه فيه شيء وهو المُزيّن باسم العراق وعَلَمِه. إن إولئك الذين يرزحون تحت احتلال يعرفون تماماً ماذا يعني أن تسقط الأوطان، لم يطل الأمر! فقد سقطت بغداد بعد ذلك بالفعل.
على أية حال، يعرف أيضاً خريجو كليات الحقوق ماذا تعني "سَورة غضب" المنصوص عليها في قانون العقوبات كعُذر مُخفف للقتل، فأُعاتب نفسي لردة فعل كانت مُحتملة، ثم أُقارن خسارتي بأعداد الأرواح التي أطفأ نورها قتلة غاضبين، خُفف عنهم لاحقاً اعمالاً لحكم القانون فيما الجمع المُتفرج من الناس ساكت، فسكتُ.
وفي غضبه الذي يزيد ولا ينقص، سقط مغشياً عليه ككل مرة، يثور ثم يتهاوى، مشكلته المزمنة في جهازه الهضمي، هكذا يصبح المستبدون بجسده اثنان: هو وجهازه الهضمي.
يحلو له في قمة ألمه العضوي اجتراع المزيد من السموم كالمُسكنات، المشروبات الغازية، تناول ملعقة كبيرة من الشطة وشرب الدخان وكؤؤس القهوة. يعجبه انهياره، ولا أُبالغ إذ قلت أنه يستجديه. كم تَلوّى وهو مُلقى على أرضيات المطبخ والصالون والحمام، له قدرة عجيبة على الإنهيار حتى في الزُقاق أيضاً، يتكوم على نفسه ويئن بشكل مزعج. في لحظات الفوضى تلك، يحلو له النظر في عيني ليخبرني بصوته الواهن عن حبه المؤكد لي، أتفهم جزعه ولا أزيد حرفاً.
الشعور بالحب بيننا محصور في حالات الضعف، نعرف بعضنا منذ عشر سنوات، عرفته في لحظة غضب أيضاً قلت "هذا مجنون وهذا ما أحتاجه تماما" أكاد أجزم أنه لا حب بيننا، لكننا في احتياج شبه دائم لبعضنا. اتفاقٌ أعلنّا عنه بالزواج، فتشاركنا ذات السقف مع الحفاظ على هامش كبير من نمط حياتنا الشخصية السابقة، لم نسعَ بشكلٍ جدي لإيجاد مساحة مشتركة حقيقية، ربما لأننا أصلاً لم نثق في هذا الرابط الموجود بيننا، نرقبه ونتساءل كل يوم عن لحظة انهياره لكنه لا زال –وبشكل مُبهِر- صامد.
ب.
نعم، نتشارك سوياً ذات البيت، في كل صباح أنظر إلى جانب السرير، أُفتش عنها فأجدها وقد غطى شعرها الأسود القصير وجهها النائم، أتنفس الصعداء "لا زالت هنا هذه السمراء." يتلاشى احتمال الفراغ، فأفكر بمكافآة لها من قهوة الإسبرسو.
نتجهز كلانا للذهاب إلى العمل، في المنفى حيث نعرف القليل جداً من الناس، خلعتُ قميصي المُحافظ الذي حشرتني فيه أمي طفلاً، أدخلتُ بعض التعديلات على مظهري وقد راقني المكوث في هيئة رعنة تشي بفوضوية الهيبيز فارتديتُ (الشورتات) المخططة ووضعت "الحلق" والأساور المطاطية ذات الألوان الزاهية، وقد تجرأتُ ذات نهار بالدخول إلى الحلاق وبعد تردد طلبت منه اضافة بضع خصلات من الهايلات الأشقر إلى شعري الفاتح، اخترنا دَرَجة اللون سوياً وقد شعر بالزهو بعد ما ظهرت النتيجة. أنتبهُ إلى نظراتها الثابتة نحوي وقد أطلّت في هندامها الجدي: بذلة نسائية رمادية لا يكسر رتابة لونها إلا أحمر الشفاه اللافت الذي يشع من شفتيها دون تردد، أفكر "هل تشتهيني في هذه الساعة المبكرة من الصباح؟" تصير النظرات أكثر بروداً، يراودني شعوراً بأنني طالبٌ يقف أمام مدير مدرسة على وشك شتمه أو صفعه.
- لم يعجبكِ الحلق
- لم يعجبني مجدداً
- أظن أنه لا يليق بإطلالتك الكلاسيكية؟ استغرب! لقد قالت لي (ألما) أنه جميل ومُثير
- الله يخليلك (ألما) إذا... Bana ne!
- غرتِ؟
-ههههههه أنا؟ وبعد كل هذه السنين التي تأكدنا فيها أنه لا يُحب أحدنا الآخر، تسألني! لقد تأخرنا وحياتك!
ج.
بلى! تأخرنا كثيراً في تدوين سنوات العمر التي فقدنا خلالها جرأة التسكع ليلاً كشَبحين هائمين تنشق الأرض عنهما مساءً فيخرجان إلى طرق الله الواسعة، يعانقان ألحان الأغاني التي أُدت في غيابهما ويرقصان ثم يضحكان كثيراً وقد يبكيان في النهاية من أثر الرحلة البعيدة التي تركت فيهما كل هذا التعب.
لقد ظننا أننا سنبقى كثيراً على تلك الحال، لكن سرعان ما أصبحنا زوجين تقليديين، استأجرنا بيتاً، اشترينا الأدوات الكهربائية والأثاث، وقد توقفنا قليلاً ذات مرة في لهاث توضيب البيت واتفقنا على عدم الإنزلاق أكثر: فلم نصبح أبوين. وفي حمى ايجاد المسميات لأحوالنا الكثيرة، عثرنا على مصطلح "اللاإنجابيين" فهربنا إليه من الحقائق الكثيرة التي يطول شرحها للمتسائلين الفضوليين عن عدم أبوتنا. كلمة واحدة تبنيناها ودفنا فيها مخاوفنا الكثيرة من الألم والعجز وطبول الحرب التي لا تُميز بين صغير أو كبير، وايماننا المُرتبك أمام طفل صغير يسأل عن بيته المُهدم ووالديه المفقودين. لقد أنقذنا امتدادنا البشري من التشرد والجوع واليتم، فلم نُنجب.
- لو تُلاعبين شعري هذا المساء؟
- ما الذي يُخيفك؟
- أشياء كثيرة، لقد حلمت بأن كلباً أسوداً ضخماً على وشك الإنقضاض علي، لا بل عضني مرات ومرات، تجمدت، حتى أنني لم أحاول ابعاده عني، استسلمت أمامه تحت وطأة ذل الخوف، كنتُ أناديكِ، علّك تنقذيني كما تفعلين دوماً، نظرتِ تجاهي لكنك لم تفعلي شيئاً، كنتُ وحيداً وخائفاً كما أنا الآن.
- لقد أخبرتكَ مِراراً أنك لو تهتَ في شِعاب الأرض فإنني سأعثر عليك، خرائطك معلومة لدي! لكنني عاجزة تماماً عن حمايتك من أحلامك...
- كوابيسي.
- نعم، كوابيسك. لا زالت مشاهد الحرب تستبيح نومك؟
- كأنها تحدث للتو.
- تعال استلقِ، سأخبرك حكاية وربما إذ أحسنت التصرف هدهدتُ لكَ قليلاً.
- أليس هذا هو الحب؟
- لماذا في كل مرة تُصر على تعريف هذا الذي بيننا؟ ما هذا الهوس باختيار المُحددات المفاهمية؟ sus artık
- سكتُ ههههههه.
ثم يُطل الصّباح مرة أخرى، ونفاجئه بأننا لا زلنا نتشارك ذات السرير.