ماريا جولشسكا - القيم الفنية والجمالية فى الموقف الاكسيولوجى.. ترجمة : د. رمضان الصباغ

لن نشيرعند النظر فى طبيعة القيم الى العديد من النظريات المعروفة تاريخيا عن هذا الموضوع . بدلا من ذلك ، فاننا نمضى الى تحليل المواقف التى تظهر فيها القيم وتعمل فى عالم الانسان ، والشروط التى يجب ان تكون متححققة بالنسبة للقيم لتخرج الى حيز الوجود وتبقة .

ترتبط القيم الجمالية ارتباطا وثيقا بالقيم الأخرى ، هذا ماأكده العديد من المؤلفين المعاصرين الذين لم يقدموا تمييزا حادا بين أنواع القيم المتباينة(1) . وعلى الرغم من أن هذه الأنواع يجب أن تكون متمايزة ، فان المرء يجب عليه ان يعترف بتداخلها ، ولو افترضنا أن هناك نظاما عالميا للقيم داخل عالم الانسان ، فان مثل هذا النظام لا يتم فصله عن هذا العالم ولا يحدث ولا يتأثر به . ونحن نرى أن القيم بمثابة عامل أساسى فى العالم الانسانى . تتأثر منظومة القيم بالعالم ، لأن الأحداث والتغيرات فى العالم وكذلك الأحداث والتغيرات فى الثقافة الإنسانية تسبب قيام قيم جديدة واختفاء قيم أخرى .

الا أن هذا الظهور والاختفاء لا يحدث تلقائيا ، بل نظرا لسلوك الانسان باعتباره كائنا حرا وواعيا وقادرا على تأمل ذاته والعمل واجراء خططه من خلال الوصول لنتيجة النهائية . وبالمثل تتخلل القيم المختلفة ، فى اطار منظومة القيم، وتؤثر احداها فى الأخرى . فعلى سبيل المثال ترتبط القيم الجمالية ارتباطا وثيقا بالقيم المعرفية والشخصية والأخلاقية ، فالقيم الشخصية ذات صلة بالقيم الأخلاقية والمعرفية ، وتتصل القيم النفعية بالقيم الأخلاقية والجمالية والحيوية ، وما الى ذلك .

ولذلك، من أجل تحديد طبيعة القيم الجمالية، يجب علينا دراسة القيم على هذا النحو . فعندما ننظر اليها فى مقابل خلفية عالم الانسان ، فاننا نراها لاتوجد ككيانات " فى حد ذاتها " ، بل تنشأ وتستمر فى مواقف معينة تتشكل من عدة عناصر . كل عنصر من هذه العناصر لا غنى عنه ،ولكنه لايشكل قيمة عند النظر اليه بشكل منفصل . ومن ثم سوف يكون سؤالنا الأول : ما هذا الموقف ( ونحن سوف ندعوه بالموقف الاكسيولوجى ) ؟ . ما هى العوامل وكيف تتصل داخليا ، وما طبيعة العلاقات التى تحدث بين بينها وكيف تنشأ القيم . ؟ .

كانت العوامل الأساسية للموقف الاكسيولوجى تكمن فى العالم والانسان ، فى معظم الشروط العامة ، ولكن السؤال التالى الذى يطرح نفسه هو : أى جزء من العالم وأى جزء من الانسان ؟ . نحن لا نتحدث عن العوامل الذاتية والموضوعية لعالم الانسان المشبعة والمتخللة لذاتيته ومواقفه ؛ وخبراتت والصيغ الناتجة من مختلف أشكال وعيه ، فى حين يعد الانسان من جهة أخرى ، فى اتصال مستمر مع الأشياء ، وخاضع لها ويدخلها الى عالم تجاربه ونواياه وتطلعاته .

قبل أن نشرع فى توضيح هذه المسألة ، اسمحوا لنا أن نضيف بأن القيم تختلف عن الأشياء والحقائق ؛ فالأخيرة ( الحقائق ) مجرد وجود ، معين وكامل ( محددة فى جميع النواحى ، وقابلة للقياس ، وفى ترابط سببى ، وذات طبيعة ضرورية ) ، فى حين أن قيم ما يجب أن يكون – فإن هذا الوجوب ينتمى الى طبيعة القيم ومنه تنبع فرضية التحقيق الموجهة الى الانسان : يمكن أن يحقق الانسان فقط هذه الفرضية ، وهو الوحيد الذى بوسعه ابداع القيم والحفاظ على وجودها .

عندما نفهم بهذا الشكل ، أن القيم ليست أشياءا موجودة خارج الضرورة : فاننا لا نستطيع القول بأن شيئا ما يوجود خارج الضرورة يجب أن يكون ، ولكن عندما يكون الوجوب قد تم ادراكه فاننا نقول بأن حالة الأشياء وموضوع القيمة قد ظهرا ، وأن شيئا ما قد خرج الى حيز الوجود لم يكن لديه ما يوجب القيام بذلك ، وان من الخير أن هذا حدث . وبالتالى فان الوجود الذى نخصصه للقيم يعد ممكنا ، وليس ضروريا .
يأتى المثال الأكثر وضوحا من مجال القيم الأخلاقية : اذا كان الانسان خيرا " بالضرورة " فليس بوسعه الاختيار ، فانه لن يكون كائنا بشريا بالمعنى الذى نفهمه ، ولن يكون قادرا على ابداع قيم انسانية على وجه التحديد . دعونا نتذكر هنا رواية ( البرتقالة الآلية A Clockwork Orange ) لـ " انتونى بيرجس Anthony Burgess "(*) : فان الانسان الذى ليس بوسعه أن يكون سيئا يعد محروما من الصفات الانسانية الايجابية ، لأنه فقد حريته وامكانية الاختيار . يوضح هذا المثال مانعنيه بقولنا بأن القيم ليست ضرورية ، بل تنتمى الى مجال من الاحتمالات . مع ذلك، فإن هذا يثير سؤالا : اذا كانت القيم ما يجب أن يكون ، ما الذى يتقرر عن هذا الالتزام ؟ . عندما نقول بان الانسان يجب أن يكون نوعا آخر ، نحن نعرف أنه يجب عليه ذلك لأنه من خلال الفعل قد يدرك القيمة الأخلاقية العليا للخير ، وعندما نقول بأنه يجب على الفنان ابداع الأعمال الفنية التى تعد مثالية ، وعميقة ، وحقيقية ، وأن يتعامل مع المشاكل الهامة ، فاننا نعرف أنه يدرك من خلال قيامه بذلك أسمى القيم الجمالية ، مثل - كما يقولون ( الجمال ) . لكن لماذا توجد هذه القيم العليا ؟ . هذا هو السؤال الثانى فى تخطيطنا . لأننا نعتقد أن هذه القيم العليا التى تتضمن ، ما يعتبر أساسيا وأصيلا ، وسمة من سمات " الوجوب " : قد وجدت لأنها واجبة ( والسؤال الذى لا يزال قائما : لاى سبب ؟ ) .

نحن نميز بين القيم والخير ، وتبع لخطى " شيلر Scheler "(2) واعلان أننا انفسنا نؤيد وجهة النظر التى تعارض الرؤية الطبيعية : لا تتحدد القيم بخير معين موجود فى ثقافتنا وينتج الإنسان باستمرار . فتعتبر المتعة والحياة والفن والصداقة كل الموضوعات ( بالمعنى الواسع والمعنى الفينومينولوجى للكلمة ) الممنوحة مع القيم ، لكنها لا يمكن أن تتحد مع القيم نفسها ، ومن الصائب أيضا أن القيم تعد سبب وجودها ، وان كلا منها قد يكون حاملا للقيم .

تختلف القيم عن المُثُل أيضا – فالمثل ، - على سبيل المثال – المثل الرياضية غير متغيرة وموغلة فى القدم بطبيعتها . ويجوز لنا أن نشير هنا الى التحليلات الفينومينولوجية لـ " انجاردن(**) " (3) التى تميز بين الأفكار والأشياء التى تستمر فى الزمن ، والخبرات ، والموضوعات المتعمدة .

يمكن تفسير وجهة نظر " افلاطون " باعتبارها تعريفا للقيم بالمُثُل على وجه التحديد . فقد تحدث عن مُثُل الخير والحق والجمال ، ولكن هناك من الأسباب التى تجعلنا نجد حتى فى " افلاطون " اثرا للتمييز الذى نناقشه هنا . لأنه الى جانب الافكار الموغلة فى القدم وغير القابلة للتغيير ، فقد قبل أيضا وجود قيم تحققت عندما كانت الأفكار مشاركة للأشياء ، والأشياء مشاركة للأفكار . وبالتالى فان هذا الجمال الأرضى والمادى يعد ذا قيمة ، وخاضعا للمثل الأعلى للجمال .

تختلف القيم عن المثل العليا . فتعد هذه المثل كالسعادة وخير البشرية وتحقيق المعرفة الكاملة ، وبلوغ الحكمة ، تعريفات صعبة المنال ، باعتبارها الحد النهائى لكل التطلعات ؛ ويتجاوز المثال قدرة الانسان . ومع ذلك تعتبر المثل العليا من أهم العوامل فى الموقف الاكسيولوجى : فاذا كان الانسان ليس لديه المثل الأعلى الذى يسعى اليه ، فلن تكون لديه القوة لتحقيق القيم . من جهة أخرى تعتبر القيم شيئا لا يمكن تحقيقه ، وبالتالى هناك التسلسل الهرمى ، على الأقل الكمى ، داخل كل مجموعة من القيم : شىء جميل ، وخير ، ومفيد ، بدرجة أكبر أو اقل ، وكثيرة أو قليلة .

أخيرا تختلف القيم عن خبراتنا وتقيراتنا وتقويماتنا ، وعن نوايانا وتطلعاتنا- بالرغم من أن هذه العوامل ، مرة أخرى ، لا غنى عنها فى الموقف الاكسيولوجى . وينبغى أن يضاف انه فى الغالب ، وبصفة خاصة فى الفلسفة الحديثة ، تختزل مشكلات القيم الى المشكلات التقويمية وتوصف القيم كمشتقات من الخبرات والتقويمات والمواقف ، وبهذه الطريقة تكون القيم ذاتية ونسبية ، فى حين لا تؤخذ مشكلتها الجوهرية بعين الاعتبار . توختلف السلوكيات حيال القيمة ، بالطبع وفقا لنوع القيمة على وجه التحديد ، وانها تتأثر بطبيعة القيم . هذه الاختلافات تجعل الفيلسوف يسأل : ما الذى يسبب مثل هذه السلوكيات بالضبط ؟ . عند هذه النقطة تبرز مشكلة طبيعة القيم .
لقد حازت العوامل المذكورة أعلاه على الاهتمام والمساعدة على معرفة أصل القيم . ومع ذلك فليس صحيحا أن المجموع الكلى لهذه العوامل يقدم شيئا جديدا على الاطلاق ، ويجلب القيم الى الوجود : فلا يزال هناك العامل الأسمى الذى يبرر القول بانه يجب أن توجد القيم العليا . انها دعوة الى أعلى قيمة وهى فى نفس الوقت ، على الرغم من ذلك تبدو- متناقضة – ومثالية . انها انسانية . اذا أردنا أن نبقى على أسس الفلسفة ، دون اللجوء الى الدين ، فان الانسانية التى لدينا تقبل باعتبارها قبمة عليا ، بالاضافة الى الفرضية النهائية لكل الجدل حول القيم .

يجب أن توجد ، قيم الحق والخير والجمال وغيرها من القيم العليا التى يمكن ذكرها هنا ، لأنها تعزيز وحفاظ على القيمة الانسانية ، فاذا كان الانسان يرفض هذه القيم فان انسانيته من شأنها أن تتحلل . لأن كل قيمة من القيم العليا تكشف بطريقة ما عن جانب من جوانب " الكائن البشرى " حتى اذا تخلينا عن التأكيد على أن الانسان يعد أسمى واكثر عمل مثالى للطبيعة ، فانه على الأقل الاكثر كمالا الذى نعرفه ، ونستطيع صياغة التعبيرات المدعمة له والمستندة الى خبرة الملاحظة الخارجية والتأمل الذاتى الداخلى .

من أجل وجود القيم فى عالم الانسان ، فيجب أن تكون محافظة باستمرارعلى وجودها . وهذا يجب أن تُستوعب ، وتُدرك وتتحققمن خلال أعمال الإنسان الواعية . وكل هذا يحدث فى موقف اكسيولوجى .

ما المقصود بالموقف الاكسيولوجى ؟ . كم ذكرنا فان العنصر الأساسى هو الانسان فى اتصال مع العالم ( منظورا اليه من بعض الجوانب المحددة ) . ومن هذا فان بعض أوجه عدم الاتساق والتناقضات والتعاارضات تعبر عن نفسها بشكل أكثر او اقل وضوحا . ويكمن مصدر هذه التعاارضات فى الانسان نفسه ، لأنه فى الأساس تكون خبرات الانسان دائما جديدة ، والتطلعات والانفعالات والرغبات المتناقضة والتى تأتى من خلال مجموعة متنوعة من القرارات عندما لا يعرف ماذا يختار ولماذا . ويمكن المرء أن يشير الى التعارضات المختلفة والسؤال عما يكون أكثر جوهرية .

مثل ، على سبيل المثال ،هل التعاارض بين ( أنا ) و( لا انا ) ( حيث ان " لا أنا " قد تكون خارجية ، والواقع الطبيعى الذى يفرض على الانسان للتأثير على عمليات المهددة والمدمرة للطبيعة أو الانسان الآخر الذى يعارض تطلعاتنا ) ؛ والتعارض بين الحرية والضرورة ، عندما نكون محددين من قبل العالم الخارجى ، ومن خلال العمليات التى تمضى داخل أجسادنا ، وتصرفات الآخرين ، أو عندما نسعى جاهدين لهز أوجه القصور والقيود ، او مرة أخرى نقدم عن طيب خاطر " للقوى الكبرى " الاستسلام والتخلى عن النضال والتعارض بين الخيال الذى يحرر قوانا الابداعية ومقاومة المادة والاشياء ( فى حالة الفنان ، مقاومة مادته لوسائله التعبيرية ) ؛ والمعارضة بين الفوضى والنظام ، وبين ما ليس عقليا وما يعد عقليا بالكامل ؛ بين ما يهرب من الخطاب المنطقى وذلك الذى يمكن أن يصاغ ويفسر بعقلانية كاملة . ويمكن لهذه التعارضات أن تتضاعف ؛ وبالتأكيد يدرك الجميع تبايناتها ، وقد تم اصطيادهم فى بعضها الآخر وخلال كل فترة من الحياة يتم ازعاجهم بتعارضات مختلفة .

ربما يكون التعارض الأساسى بين " انا " و" لا أنا " ؛ يتغلب عليها الانسان بافعاله الادراكية ، من خلال تفسير العالم لنفسه ، ومن خلال البحث عن معانيه – حينئذ يتلاشى التعارض ، واعتمادا على العوامل التى تظهر فى هذا الصدد وكيفيتها ، اما أن ينشأ الوضع الاكسيولوجى ، أو تولد الطرق العرفية فى العالم ببساطة . أو ربما ينشأ الوضع الاكسيولوجى بشكل غير متطابق مع قيم الابداع ، ولكن مع الحفاظ على وجودها .

يتبنى الإنسان كل أنواع المواقف ، بالمقارنة بالعالم الذى يبدو أنه ملعب لمختلف التعارضات : فيدرك امكانية التغلب على التعارضات من أجل تكييف العالم على نحو أفضل لحاجاته الروحية ( ومن أجل تكييفه لحاجاته المادية يبدع القيم بحيث تصبح أساسا لتحقيق الحاجات الروحية ) ؛ فيعامل الرخاء والرفاهية وغيرهما على أنها قيم حيوية عندما تقوم على الطموح لتحقيق القيم العليا ، وعندما يرجع اليها تحقيق هذه الاحتياجات العليا . وهكذا وُلد القصد لاجراء تغيرات فى العالم ، باسم المثل الأعلى ، مثل السعادة والرفاهية والحكمة والمعرفة ، وما الى ذلك .

لايحدد الانسان لنفسه مهمة تحديد قيمة معينة بشكل مباشر – واذا فعل ، فان القيمة تحقق وظيفة المثل الأعلى ، وبالتالى ، فان قيما اخرى غير ماكان يقصدها يتم تحقيقها ، او – فى حالة متطرفة ، لا يتم تحقيق أى قيمة على الاطلاق ولا يتم تأسيس الموقف الاكسيولوجى . هذا هو الحال مع النفاق كما تمت مناقشته من قبل " شيلر Scheler " ، والظاهرة التى جسدها " فرانسوا مورياك François Mauriac " فى ( الفريسى – المنافق – La Pharisienne ) ، من يرغب فى أن يكون خيرا بأى ثمن ويتابع على سبيل المثال ، تقليد شىء ما ، والتخلى عن نفسه الأصلية ويدخل فى مجال النفاق .

عندما يهدف الانسان الى خدمة الآخرين مباشرة ، ومساعدتهم فيما يحتاجون اليه ، والاعتراف بالمطالب الحقيقية لشخصياتهم فيما يتعلق بالمثل الاعلى الذى يعد فى هذه الحالة خيرا أوسعادة للآخرين ، حينئذ تكون لديه الفرصة لتحقيق قيمة الخير( كقيمة أخلاقية ) .
ليس الهدف أو المثل الأعلى بكاف ؛ فعلى المرء اتخاذ اجراءات تسبق االقرار لتنفيذه خلال الاتجاه للغاية . هذه مسألة واضحة ، ولكن يجب علينا ان نؤكد على أن هذا العامل ينتمى بشكل أساسى الى الوضع الاكسيولوجى . ينتمى القصد " الجيد " ، الى ذلك – بالطبع – أيضا . ويريد الانسان حقا تقديم بعض التغيير للعالم ، والذى سوف يتجه نحو شىء ما خير ، فهو يريد أن يساعد البشر زملائه ، وهذا هو السبب فى أنه يتعهد بالفعل الذى يحقق ذلك القصد ؛ ويتخلل القصد التصميم والحث على اتخاذ القرار ، على الرغم من أن القصد نفسه مهما كان جيدا ، لايكفى لتحقيق القيمة ؛ اذا لم يتم دعمها من خلال العمل ، انها تظل لا شىء سوى أنها خبرة ، وفعلا للوعى .

يمكن قياس " خيرية " القصد من خلال موقفه فيما يتعلق بالقيمة الأسمى للانسانية . ولذا فان الوضع القيمى لا يتطلب القصد فحسب ، والهدف والقراروالفعل ، بل أن يكون على بينة بالعلاقة بين كل هذا والقيمة الاسمى ؛ هل يكون عملنا ، بدلا من فعل الخير ، هو عدم ايذاء أى شخص ؟ . تعد أفعال المرء بالنسبة لتوقع النتائج عاملا فكريا ؛ لا غنى عنه يتمثل فى أن الوضع الاكسيولوجى الايجابى لا يتفكك ، ولا يصبح مقرا للقيم السلبية التى تدمر الانسانية فى الانسان .

على سبيل المثال، وجود قصد لجعل شخص آخر سعيدا بأي ثمن، يُحقق دون وعي كامل بعلاقته بالقيمة العليا ، بدون استباق النتائج ، يؤدي - لا سيما في حالة مثل علاقات الآباء بالأطفال،ومعلمي التلاميذ ، ولكن أيضا في الزواج ، وفي بداية الصداقة ، وإلى قمع الحاجة الأساسية لشخص آخر ، ولتشويه شخصيته ، وللحد من حريته ، وبالتالى اهانته ، بالمعنى العالمى ، فان القيمة الانسانية مكوناتها الاساسية هى الحرية ، ومعرفة الذات ، وتنمية الشخصية بسمات فريدة من نوعها ، تختلف فى كل حالة فردية .

ومن ثم ، فاننا أخيرا ندرج فى الموقف الاكسيولوجى النتيجة المتوافقة مع المثل الأعلى للانسانية . هذا العمل القائم على قصد الخير ولكنه لا يقدم النتيجة التى تنسجم مع تلك القيمة ويلغى الشعور بالموقف الاكسيولوجى –فلا تتحقق القيمة ؛ وينتج الشر ، بدلا من الخير . ونحن نؤكد على هذا لأنه غالبا ما يتم الاعتقاد بأن ، العامل الرئيسى والحاسم هو القصد الحسن المرتبط بالمشيئة الذاتية ، خاصة فى حالة القيمة الأخلاقية . ومع ذلك ن ليست لدى الانسان القدرة على الرغبة أى شىء فحسب ، بل وتمييز المواقف أيضا ، وتوقع الآثار ، والسبب فى تغير العالم ، وخصوصا فى الأناس الآخرين الذين يمكن تحققه من خلال أفعاله .

نشير أيضا ، من خلال اندراج نتيجة العمل الانسانى باعتبارها عنصرا لاغنى عنه فى الموقف الاكسيولوجى ، واستكمالا لها ، إلى الوضع المأساوي للانسان الذي يريد أن يحقق القيم من خلال إنتاج الخير ؛ لأن الوضع الاكسيولوجى ينشأ ضد أوضاع العالم السائدة ، فهو يختلط بجميع العمليات الضرورية فى الشخصية ، وغالبا دون المسئولية البشرية ، ولم تتحقق صناعة القيمة كنتيجة مقصودة ، أو ان النتيجة التى تحققت كانت سلبية ، ومدمرة للقيمة .

فى بعض الاحيان تكون القيمة الجديدة غير تلك التى كانت مقصودة ، على سبيل المثال ، قد يفشل المتحمس فى تحقيق فكرة جديدة أو اختراع ، فقط يثير فى الآخرين الرغبة للقيام بنفس الجهد ، لمواصلة المشروع ، وقد يحظى بالاحترام للمثابرة الانسانية التى تعد احدى القيم الشخصية ،( فالجندى المدافع عن وطنه قد يموت ، وقد يحرز العدو النصر ، ومع ذلك تبقى البطولة ) .

تعتبر هذه الحالة مماثلة للقيمة الجمالية . وقد تحققت فى موقف ( يعد نوعا من الموقف لقيمى ) ، حيث أن العوامل الرئيسية هى : الفنان ، والعمل الفنى والمتلقى ، والنتيجة التى تظهر فى هذه الحالة هى القيمة الجمالية . اذا كان الفنان مفعما بأمل بشكل غير عادى ، وبأفكار مثيرة للاهتمام ، ولكنه غير قادر على العثور على التعبير عن ذلك ، ولم يبدع عملا ، ولم يجعل هذه الافكار تصل للآخرين ، فان القيم الجمالية لم تتحقق ؛ فالقصد الأساسى لإبداع شىء رائع وجميل ، حتى عند معظم المخلصين أو الصادقين ، لايكفى ، وما يجب على الفنان القيام به هو محاولة تحقيق ذلك ، محاولة التتويج مع النتيجة ، مع العمل الذى يُقدم للمتلقى ليتم اختباره .

هذا الأخير – أى الفنان – كان لديه واجباته : لديه تفسيرا للعمل ، وفهما له ، ويواجهه وفقا لقيمته وصفاته . ويجب أن تتحقق القيم الجمالية ، مثل القيم الأخرى ، من شخص موهوب بالكفاءة والمهارة ، ومن لديه الشخصية القادرة على القيام بجهد الابداع . وكما أن الانسان الذى يلتفى مع دماثة الخلق ( القيمة الأخلاقية ) فى شخص آخر مضطر لقبول ذلك وتقديم دماثة الخلق فى المقابل ، وكذلك الانسان الذى يظهر الثقة يكون ملزما باحترام ذلك ، واذا كان يحتقر انسانا آخر أمام الآخرين ، فانه يرتكب فعلا مدمرا للقيمة .

السؤال التالى : ماهى أنواع القيم الموجودة ؟ . هل كل مجموعة متنوعة من القيم (الحيوية، النفعية والتكنولوجية والشخصية والمعرفية ،
والأخلاقية والجمالية، وما إلى ذلك) تجد نظيرتها فى المعارضة المختلفة الكامنة فى العالم ، فى نوايا واهداف محددة ، فى وسائل مناسبة للتحقيق ، وأخيرا فى وسائط معينة للصيرورة الفعلية ( اى فى طرق مختلفة للسماح لها فى داخل حياتنا والاستجابة لها ) ؟ . تتجاوز هذه الأسئلة نطاق المقالة ، لذا فاننا سنركز اهتمامنا على القيم الفنية والجمالية .

لقد اعتمدنا فى التمييز على العديد من علماء الجمال على الرغم من اختلاف مناهجهم . يعتقد " انجاردن " بأن القيمة الفنية وسيلية وتخدم تجلى مظاهرالقيمة الجمالية ، وهذه الأخيرة – أى القيمة الجمالية – تعد قيمة مطلقة ، وتشكل الهدف النهائى للفن ، ولا تحتاج الى تبرير ؛ ويتم تقديمها من خلال القيم الفنية ، والتى تحدد القيمة الجمالية وفى نفس الوقت تمدها بالأساس الوجودى ( الأخرى – اى القيمة الفنية – تعترر أساسية لا غنى عنها ، وكونها التجربة الجمالية للذات وفيها يتشكل الموضوع الجمالى فى حد ذاته )(4) .

وفقا لرأى " كولكا Kulka " تعتبر القيم الفنية والجمالية مستقلة الى حد كبير عن بعضها البعض ؛ قد تظهر الأخيرة – الجمالية – بدون السابقة – الفنية – والعكس بالعكس . تتمثل القيمة الفنية فى ادخال بعض الجدة فى طرح سؤال أو حل مشكلة فنية معينة ، فتظهر القيم الاخرى فى نطاق الادراك ، المعطى بشكل مباشر(5) .

ومن هنا يجب أن نشير الى مفهوم " بيرديزلى Beardsley " أيضا ، الذى يرى أن القيم الجمالية تكمن فى مجال الشهوانية ( الحسية ) مباشرة : فالموضوعان اللذان يمتلكان نفس البيانات الحسية يمتلكان نفس القيمة الجمالية (6) . بالنسب لـ " هرمن Hermeren " قد يكون أو بل قد لايكون لدى القيم الجمالية عنصرا من عناصر القيمة الفنية . وفى انتقاد تصور " بيرديزلى " يقول " هرمن " بانه من الصعب ان نقيم الهوية بالادراك المباشر : فالعمل الفنى الأصلى ، كما يراه شخص غير خبير بالفن ، قد يكون متطابقا مع النسخة ، فى حين أن الخبير سوف يلاحظ كل الاختلافات التى تقرر الشكل الفنى للعمل (7)

وفقا لمفهومنا عن القيم نحن نبحث عن التعارضات فى أساس القيم الفنية . هذه التعارضات مثل ما بين المواد الموجودة وهذه الفكرة ، التى وضعها المبدع ، ومابين مفهوم العمل ووسائل التعبير التى يختارها الفنان؛ وبين أنواع الفن الموجودة والأساليب والتصميم الأصلى او المشكلة الفنية الجديدة ( مثل هذا التعارض يمكن أن يستدل عليه من " كولكا " ) ؛ بين العالم الحالى والعالم الذى يتم تصميمه ؛ وبين غير المحدد والمحدد ؛ وبين هذه الجوانب من الواقع التى يمكن وصفها علميا ، وتصنيفها ، وتلخيصها فى نظريات قابلة للتحقق ، والمناطق ذات الصلة بالخيال ، والشعور والقناعات التى لا يمكن أن توصف بأى دقة او تُوضح بشكل علمى نهائى ، وبين العالم المرئى واللامرئى ، وبين الثابت والتركيب الجاهز ، وبين الديناميكية والصيرورة .

لا ينتمى العمل الفنى الحامل للقيمة الفنية حصريا الى أى من هذه المجالات . لا يتقدم العمل الفنى الى أحد هذه المجالات ولا الى مجال آخر ، بل فى ابداع العمل الفنى توجد سبل لتحويل هذه التعارضات أو لتأليف شىء جديد .

تعد الأصالة ( والجدة ) ، واتقان التنفيذ واهمية الافكار المطروحة فى العمل ، قيما الفنية . وتتشابك هذه القيم بشكل متبادل ، وتكون مختلطة فى كل حالة معينة بنسب متباينة . ويقلل الغياب الكامل لأى منها بشكل كبير القيمة الفنية للعمل ، ومع ذلك لايطمسها تماما اذاكان هذا الغياب تمت موازنته بدرجة كبيرة من خلال قيم أخرى . على سبيل المثال ، تعد الأصالة فى الفن الطبيعى متميزة جدا وقوية للغاية ، وانها توازن الافتقار الى الاتقان فى التنفيذ . ويترتب على ذلك ان القيم الفنية قابلة للتقدير ، فقد يكون العمل أكثراواقل أصالة ، وقد يتضمن افكارا اكثر او أقل أهمية ، وقد يتم تنفيذه باتقان أكثر أو اقل .

قد تكون كل هذه القيم الفنية مرتبطة بجوانب مختلفة للعمل الفنى ، ذلك أن ، الجدة والاصالة قد يكمنان فى الطريقة التى تُعرض بها الأفكار الهامة ، وفى وسائل التعبير وفى التكنيك ، أو فى بعض التفاصيل . ويجب ألا يغيب عن الذهن أن العمل الفنى يعتبر عملا " عضويا " كاملا وكل شىء فيه يساهم فى جعله وحدة موحدة ( يتحدث " أوسبورن Osborne عن الموضوعات الفنية باعتبارها كليات ناشئة )(8) . وبالتالى اذا لم يكن الابتكار مؤثرا على العمل الفنى ككل ، فمن ثم من النادراحتمال أن يمنحه قيمة فنية لأن هذا الابتكار يمكن تمييزه باعتباره قليل الأهمية بالنسبة للكل .

دعونا نتريث لفترة من الوقت بالنسبة لأحدى هذه التعارضات : التى بين الرؤية الفنية والتصميم والمفهوم ، والمسألة الموجودة فى العالم المادى . لايعد مفهوم الرؤية هو العمل ، انه لايشكل – اذا تم اتخاذه بمعزل عن غيره – قيمة فنية ، فهو ليس مادة ، بغض النظر عن امتلاكه الجدة والأصالة . فلاتحمل الأشياء الموجودة على هذا النحو أى قيم فنية جاهزة ، على الرغم من أنها تتضمن هياكل شبه فنية ، مثل الايقاع ، وبنية التعاقب والاختلاف ، والتماثل والتباين ، وترتيبات متحدة المركز أو مشتتة . انها ليست سوى ماتم التغلب عليه بعد التعارض فى المعنى ، عندما تجسدت الرؤية أو المفهوم فى الموضوع وكانت الهياكل شبه الفنية المكشوفة ، وحيث وُلدت القيمة الفنية ، وكان الاتصال مع العالم المادى قويا بشكل خاص هنا ؛ انها مسألة العوامل المادية التى تتيح الرؤية للوصول الى المتلقى .

من وجهة نظر أخرى ، يتم التعامل مع القيم الفنية باعتبارها مجموعة البنى التى ترتب العالم ، ونحن نعتقد ، من جهة ، بان العالم الحالى بعناصرة العديدة التى تبدو لتصورنا على أنها لا يمكن تفسيرها ، وعرضية ، وغير منظمة ، وتنتج انطباعا بالفوضى ، ومن جهة أخرى ، بترتيب مخططات العقل التى تعبر عن الواقع عندما يتم ابداع المعرفة العلمية . وعلينا أن نتذكر هنا أن الميل الى جلب النظام الى العالم يعتبر متجذرا فى الانسان ، الذى لا يريد الضياع فى الفوضى .

فويعد لبحث عن النظام فى نفس الوقت بحثا عن معنى الأشياء . وكانت احدى الطرق لترتيب العالم تفترض الموقف المعرفى الذى يتسبب فى ظهور النظام والبنى المنطقية ، ويقدم تعددية الأحداث المنفردة معا فى الحقائق ، وربط الحقائق معا كأنواع ، وينشىء المفاهيم ويجمعها فى مرتبة أعلى مثل الفرضيات والنظريات . فجميع التعميمات ونظم المعرفة النظرية ليست سوى محاولات لجلب بعض الانتظام الى الواقع ، لانشاء روابط السببية والتراتبية بين الموضوعات ، لتصنيفها ( فلسفيا وأخلاقيا وايديولوجيا وغيرها من الأنساق ) . ويتم انشاء الترتيب من خلال تسليط الضوء على تكراره ، وتخطيط البنى والصور النمطية والقواعد التي تعمل في الحياة الاجتماعية . ترتب احدى هذه المحاولات العالم عن طريق البنى الفنية .

دعنا نعود الى الموقف الأولى ، عندما كان – من جهة- لدينا مجموعة متعددة الأوجه ومتنوعة من الظواهر المسئولة عن اثارة القلق وعدم القدرة على التنبؤ – ومن جهة أخرى ، الواقع التخطيطى الناتج عن الترتيب المتصل بالحياة الاجتماعية والعلم . وتلعب ازاء هذه الخلفية ، البنى الفنية دورا فى ادخال نظام جديد ، نظام غير مستقر وغير تخطيطى . وتعتبر البنى الفنية وظيفية ، وهادفة ، " وعقلانية " ، لأن ذلك يرجع الى أن الانسان يرى العالم " مروضا " ومغلقا ، حيث يمكن للانسان أن يجد مكانه ويشعر "بالوطن " .

ولعل مصدر القيم الفنية هو الرغبة في جعل العالم ملك المرء ، وملائما أكثر للحاجات الفردية للانسان . وبالتالى يبدو أن الفن يتضمن تلك العوامل التى تفلت من المعرفة العلمية : الغرائز والانفعالات والايمان والاساطير وأسرار الوعى البشرى ، وما الى ذلك . ومن خلال هيكلة هذه العوامل ، يجعلها الفن تنتمى الى عالم الانسان .

تطبيق البنى الفنية لترتيب العالم يعتبر المرحلة الأولى فى ابداع القيم الجمالية . وتتخذ هذه البنى مظهر الذاتية المشتركة وتصبح مندرجة فى الموضوع المنشأ من قبل الفنان فى مثل هذه الطريقة التى بوسع الانسان أن يجربها ، وترتبط من خلالها سمات محددة للعالم بطريقة الشعور والرؤية المعبر عنها فى العمل .

هنا يبرز تعارض جديد بين " عقلنة " البنى الفنية والقناعات الانسانية غير العقلانية . ويتم التغلب عليه عندما يكون غير العقلانى مصاغا باعتباره صفة للعالم . ويبدو العالم لنا عندما تكون خبرتنا به مباشرة مدهشا ، ومتوعدا ورائعا ، ولكنه يبدو فى كل مرة بطربقة مختلفة نوعيا . ونحن نتعامل فى حالة ادراك القيم الجمالية بالطبيعة مع التعارض بين بنى ليست فنية ، بل شبه فنية وجانب غير العقلانى للعالم .

أن نفهم البنى الفنية ليس هو نفس الشىء بالنسبة لخبرة القيم الحمالية – هذه البنى يمكن أن يفسرها الخبير ، والمنظّر الذى يقول – على سبيل المثال – بأن العمل تم تنفيذه باتقان ، وأنه جديد ومبتكر، وأفكاره مهمة ، وهذه القيم تعبر عن نفسهاعندما – من خلال البنى الفنية – تكون بعض الجوانب غير العقلانية للعالم متصورة . ولذا من أجل وصف القيم الجمالية ، يكون لدى المرء استقصاءا للجانب المتصور من العالم ، الذى نقل صفاته .

دعونا نعود مرة أخرى للقيم الفنية .فكل محاولة لترتيب العالم لديها مخططا تحت تصرفها ، منتقى وفقا لطبيعة الأشياء ، وبالتالى فانه يترك ماتبقى والذى لا ينسجم مع المخطط . وهذا هو الحال مع الترتيب الفنى ايضا . وهكذا، عندما صيغت بعض الجوانب بعيدة المنال من خبرة الواقع
على سبيل المجاز، تم تنفيذ نوع من " العقلنة الفنية " ، وتم احضار شىء بالقرب أمام أعيننا ، شىء مرتب ، على الرغم من أن هذا الترتيب يختلف عن الوصف العلمى الذى يعتبر بعيدا كل البعد عن واقع الخبرة المباشرة . ولكن حتى الوصف الفنى غير مناسب لتوفير الصحيح على الاطلاق المعادل لثروة الخبرات وللجوانب الخاصة بالواقع .

وهكذا تترك " العقلنة الفنية " وراءها على خلفية معينة الاشباء المتعذر تفسيرها . وينتمى هذا العامل بالنسبة للعمل الى " عالم العمل الفنى " ، والمتعلق بصفة محددة التى لا اسم لها ويتعذر تفسيرها ( بمعنى العقلنة الفنية ) وتلك التى تعد غير عقلانية ( وخلفية هذه متعذر تفسيرها ) . وكلاهما ضرورى بالنسبة للقيمة الجمالي لتشكل نفسها ، لكن لا يمكن اختزال القيمة الى أيهما . وتعد القيم الجمالية نفيا ، كما كانت ، للترتيب المتوفر من خلال البنى الفنية ( والبنى شبه الفنية ) .

ومع ذلك ، لاتؤدى القيم الجمالية بنا الى ماهو بدائى وفوضوى غير متمايز ؛ فنحن نتعامل هنا مع محاولات للوصول الى جوهر الحقيقة ، أو على الأقل بعض الجوانب الحيوية من العالم التى تكشف عن نفسها من خلال قناعات غير عقلانية تتعلق بطبيعتها . هذا يثير طرق تفسير وترتيب للعالم جديدة كما نرى ذلك مباشرة ، ليس من خلال المخططات بل من خلال الصفات المختبرة مباشرة . وهاهنا وصلنا الى الطبيعة الأساسية للقيم الجمالية : انها قيم ذاتية موضوعية ، ويحتاج نشوء هذه القيم الى الشخص الحساس بشكل كاف والموضوع المعد بشكل مناسب . يجب أن يكون هناك الوعى الانسانى الذى يبحث عنهما والقادر على " فك شفرة " البنى الفنية بوظائفها السليمة لكشف الخلفية المتعذر تفسيرها ، والقادر على ادراك والشعور بكل ما يفلت من الترتيب الفنى –وما تسمى بالعوامل اللاعقلانية لعالم البشر بكل ما لديها من أهمية ودلالة . وكل مجموعة متنوعة من القيم الجمالية توضح صفات مختلفة للعالم ، وامكانيات متباينة للخبرة ، بافتراض مواجهتها موقفا للقبول أو التمرد .

والسؤال التالى هو : ماهى جوانب العالم التى تم الكشف عنها من خلال القيمة الجمالية ؟ . ولماذا يمكن أن تقدم القناعات اللاعقلانية قيما مثل الجمال والقبح والتشريف والتراجيدى والكوميدى والساحر والسا ذج ؟ .

اننا نميز بين مجموعتين من القيم الجمالية(9) ، وهذا اعتمادا على النظر الى العالم الذى تحدده القناعات اللاعقلانية : ( 1 ) القيم التى تُرى من خلال النظر الى العالم باعتباره وديا ، ومقبولا ، ويثير الموافقة والاعجاب وانجذابنا اليه ، ( 2 ) القيم التى تكشف عن الجانب العدائى وغير الودى للعالم باعتباره يثير الخوف فينا والتمرد ، وغير المقبول والمثير للاشمئزاز . وتعبر القيم الفنية عن هذين الجانبين ، المختلفين تماما بالطبع . ومع ذلك فاننا لانستطيع أن نعزو الانسجام والجمال للسابق ، ولقدرة على التعبير عن القبح لهذا الأخير . ولأننا يمكن أن نكون مفتونين من جانب كل من الجمال والقبح ، الجانب الأخير قد يكون جذابا لنا أيضا ، فى حين أن السابق قد يثير فينا اللامبالاة باعتباره وجودا مثاليا وبعيدا جدا عن كابوس الحياة اليومية .

وهكذا لترسيم حدود القيم الجمالية نحن بحاجة الى مزيد من المحددات من هذين المتناقضين . فى حين أن البحث عنهما ، يسمح لنا بتذكر أن التعارض الأساسى فى مجال القيم الجمالية هو بين العقلانية واللاعقلانية ( مجال المشاعر والقناعات والحدوس ، التى لا يمكن التحقق منها ، لكنها تشكل خبرة حقيقية تتعلق بسبيل ادراك العالم ) . ونحن هنا لدينا قناعات حول كمال العالم أو خلله الأساسى ؛ عن قوته وضعفه ، تفوقه أو دونيته فى علاقته بالانسان ، وصداقته ( لطفه ) ، وعدائه أو عدم اكتراثه ، وقناعات بأن العالم غامض ، أو أنه شفاف ولايحمل أية أسرار ؛ وانه خير او سىء بشكل أساسى .

يوجد بين كل نقيضين عدة احتمالات متوسطة ، والتى تعد تماما مثل النقائض السابقة ، التى لا يمكن أن تكون معقلنة بشكل كامل . ونحن نتصور العالم اعتمادا على أى جانب من جوانبه ، فنحن لدينا مشاعر متباينة عن أنفسنا ، وعن عدم اهميتنا ( تفاهتنا ) ، وقوتنا ، ووجودنا الضائع فى العالم ، وما الى ذلك . وبالتالى يحدث الترابط التام بين الموقف تجاه العالم ، وتجاه الجانب الذى يكشفه لنا ، واستجابتنا له .

دعونا الان نمضى قدما لتحليل أحد احتمالات هذه المسالة ؛ والتى يبدو فبها العالم باعتباره جبارا ومثاليا ومتفوقا بلا حدود على الانسان ، وغير مكترث ، ولا يتدخل فى مصيره ، مما يثير فينا الشعور بالصغر والفقدان ، مع مسحة انفعالية ( بأن العالم ليس معاديا لنا ) – فرحة غريبة مستمدة من حقيقة أن هناك شيئا مثاليا وكبيرا ، يجيز لنا المشاركة باعجاب . يمنحنا عدم اكتراث العالم بمصيرنا شعورا مختلفا ومستقلا ، ويعزز احساسنا بالحرية . فالعالم قوى ولا يتدمر ، ويتيح للانسان أن يعيش وجوداعديم الأهمية ، ومع ذلك فانه يسمح للانسان بأن يجعل وجوده عظيما بمجرد ان يبنى كماله أوقوته ، ليس وفقا لمعايير العالم بل وفقا لمعايير الانسان .

نحن قد نشير الى " باسكال " بشان ضخامة العالم ، فى ارتباطه بالاعتقاد بأن الانسان يعد الأفضل بسبب فكره ووعيه . ولكن حالما ينظر الى هذا ، وذلك الجانب من العالم الذى يكمن فيه االكمال والقوة اللذين لا جدال فيهما عن تحديد الانسان ، تختفى الخبرة والقناعة اللاعقلانية . ويتحول التفوق وهيمنة القوة ، أى الشروط ( المؤهلات ) الكمية الى شروط نوعية ( كيفية ) : فالعالم والانسان كيانيين متباينين .

نتيجة لرؤية العالم باعتباره متفوقا ومثاليا وقويا ، فان خبرتنا بمشاعر الاعجاب والقبول التى تعد " حيادية " وهادئة لأنه ليس بوسعنا ممارسة أى تاثير على هذا العالم الكبير وعدم تأثير العالم على مصيرنا أيضا . هذا يضيف قناعة للجميع بأن العالم لا ينضب ، ذلك أن كماله وجبروته بشكل جزئى فقط انكشف لنا ، الى درجة أننا نوجه مجالا واسعا للبحث والدراسة والاستكشاف . ويعتبر كمال ذو الخبرة ( المتمرس ) وعدا بالكمال ، ويعد غير معروف ومخفى عنا الا انه موجود .

ولذا يجوز لنا الحديث عن عمق هذا الجانب من العالم ؛ ومع ذلك فانه ليس العمق الذى يهددنا بالابتلاع او يسبب الدوار ، مثل الهاوية أو اعماق البحر . بل انه العمق الذى يحثنا على التفكير ويطالبنا بالتحرك قدما ، لتحقيق معنى للعالم وتحقيق معنى لحياتنا الخاصة . هنا تكون العظمة والقوة مرتبطتين بالكرامة والجلال ، بالاضافة الى الغنى والتنوع . أليس هذا الجانب من العالم هو الذى يتكشف لنا عندما نتعامل مع القيمة الجمالية ونسمى الجمال ، سواء فى الفن أو الطبيعة ؟ .

قد تكون مشاهدة نجوم السماء فى ليلة صافية هى أبسط مثال على الجمال فى الطبيعة . ان هذا يخلق شعورا بأن العالم كبير بشكل لانهائى عما كنا نراه ، ولكن قوته لاتهددنا ، تكشف فحسب أمام أعيننا جزئيا ، وما نراه ما هو الا جسيمات صغيرة لما يكمن وراءها من حجم غامض للفضاء ، ومع ذلك فان لدينا العمق ، وتمييز الجمال ، ما يحفز التأمل فى عدم اهميتنا الخاصة ، والتأمل فى اختلاف كيفيتنا عن كل ما يعد سوانا .

على أن الذى يمنحنا وضعا أسمى هو بعض البنى الفنية أو شبه الفنية : نحن لا نرى السماء المرصعة بالنجوم باعتبارها فوضى من نقاط البريق ، بل باعتبارها " بنى متفرقة " تسحرنا بعدم التماثل والانتظام ، ولكن نظرا للاسراف أو الغلو فى عفوية الأضواء المشكلة للمجموعة المتالقة ، والغنى والتنوع الذى يبدو بسيطا وغير مختلف . وأن القبول والاعجاب والافتتان تعتبر كل المشاعر التى تناسب هذا المنظر ، والتى تنشأ على خلفية المسافة المفترضة والشعور المحدد بالانفصال الهادىء .

يثير الفن الذى يحقق الجمال اعجابنا ، فهو مكتمل الجلال والكرامة والتوازن والتنوع والعمق ، ويشجع الحث على التفكير، وهو بطبيعة الحال ، مثال للاتقان ، والاصالة والتعبير عن الأفكار – وبعبارة أخرى تم اعداده مع القيم الفنية بدرجة عالية . فى الواقع ، وتم اختيار هذه القيم بطريقة كشفت لنا عن هذا العمق والحجم ، حتى ان الأفكار المعبر عنها فى العمل لا تعطى الانطباع بالحاجة الى التفسير ، والوضوح التعليمى الملح ، ولكنه يوصل لنا حقائق هامة جدا. وينطبق الوصف الكلاسيكى على مصنفات الفن الجميل وهو أن العمل الفنى يكون جميلا حيث لا يمكن أن يضاف اليه شىء أو يحذف منه شىء دون تدمير كمال انسجامه . وتعد هذه الأعمال مثالية سواء باعتبار تنظيمها الشكلى والبنية الفنية المطبقة ومضمونها وعمق أفكارها . ويعنى ادراك الجمال اكتشاف ذلك الجانب من العالم المعبر عنه فى العمل المحقق لهذه القيمة .

مع ذلك دعونا نعود لمشكلة العلاقة بين القيمة الفنية والقيمة الجمالية . توجد هذه العلاقة ولكنها ليست بمعنى التنازل الصارم من إحداها للأخرى ( كما يعتقد " انجاردن " ) . على الأقل تعبر القيمة الجمالية عن نفسها فى موقف وتعتمد – الى حد ما – على طريقة المتلقى فى النظر الى الأمور ، وعلى المضامين الجمالية المسبقة ، وعلى علمه وخبرته . ومن الصحيح أن القيم الجمالية تصمد أمام الاختبار عندما توفر الأساس بالنسبة للقانون الأساسى للموضوع الجمالى المكتمل القيمة الكاشف للقيمة الجمالية ، ولكن يعد ابداع القيمة الفنية فى بعض الأحيان بمثابة عملية طويلة ، والتى لايقوم بها فرد واحد ، بل يشارك بها العديد من الفنانين، فيقومون بعروض مجزأة .

ولدينا هنا مفاهيم مُعرفة بشكل غامض ، فالحدس المبهم ، هذا التعبير لا يعد أساسا بالنسبة لأصل التجسيد الجمالى لذى القيمة تماما ، أو بالنسبة لادراك قيمة جديدة . هذا السؤال يحيلنا الى مشكلة العملية الابداعية للفنان ، للحل ، والمرحلة التى تتحقق فيها القيمة الفنية – هل هى مرحلة فكرة جديدة ، أو هى مرحلة تنفيذ ؟ . ومن ثم بدء التنفيذ يكون ، كما هو الحال فى أحيان كثيرة ليس ، عدم الكمال ( على سبيل المثال ابتكار " بيكاسو " لآنسات افينون ).

فى حالة منتجات الطبيعة تلك التى نعزو اليها قيما جمالية ، نحن نتعامل مع بنى شبه فنية وبالتالى لا يوجد فرق جذرى هنا فيما يتعلق بتناظر المتطلبات المفروضة على الأعمال الفنية . وليس المقصود أن نجد جمال الطبيعة من خلال الفن ، بل أن نرى الجمال لأن البنى التى يستخدمها الفن متصورة فى عالم الموضوعات الطبيعية . فيمكن إلى جانب الفن بشكل واضح العثور عليها فى الواقع أيضا . الترتيبات المتنوعة والمتناظرة، وجميع أنواع التماثل، وكان تسلسل الأحداث بنوع محدد من التعاقب والديناميكية،والتوترات، والتناقض - كل هذا موجود في شكل رمزي في الطبيعة ، فى حين أن نظرة الانسان الى الأشياء تجعل هذه البنى واضحة وتحولها الى أسس من أجل ابراز القيمة الجمالية .

تشير القيم الفنية الى كفاءة الفنان ، والى ابتكاره ، وللمشاكل التى وضعها أمامه والطريقة التى حلها بها ، وبشكل غير مباش تشير الى العصر الذى عاش فيه ، والى الخلفية الثقافية التى نبعت منها المشاكل وطرق حلها .
تشير القيم الجمالية الى عالم الانسان المشروط ثقافيا ، لأنه فى كل عصر تأتى عوامل غير عقلانية الى المقدمة ، وقناعات ورؤى للعالم مهيمنة . ومع ذلك فليست تلك القيم مرتبطة على نحو كاف بالعصر أو الحقبة ، لانه ، من جهة ، يوجد هامش واسع هنا للتفسير الفردى للعالم ، ومن جهة أخرى ، فان القيم من حيث معناها لها خصائص انسانية متعددة وتتجاوز الخطوط الحدودية بين الحقب . فقد كانت خلال كل الحقب هذه القيم الجمالية ، مثل الجمال والأعمال التراجيدياة والشعرية والساذجة والتشريفية والكوميدية ، وما الى ذلك . يتم انتاجها ، ويكون لديها شيئا مشتركا مع غيرها وتبقى رغم ذلك مختلفة عنها ، فهى تشترك فى الموقف من العالم الذى تحدده قناعات غير عقلانية ، ولكنها تختلف فى الإشارة الى جوانب مختلفة من العالم وفى وسائل التعبير الفنية المستخدمة .


هوامش

1- Cf. Harold Osborne, "Aesthetic Relevance", Journal of Aesthetic
and Art Criticism, vol. 17, 1977, and "Moral and Aesthetic Values",
in: Reports on Philosophy, no 8, 1984
(*)البرتقالة الآلية هي الرواية التي كتبها "أنتوني بيرجس Anthony Burgess " ونشرت في عام 1962. وتقع في المجتمع الإنجليزي فى المستقبل القريب الذى يتضمن ثقافة منعزلة للعنف بين الشباب المتطرف، وبطل الرواية في سن المراهقة، " أليكس Alex "، يروي مآثره العنيفة وتجاربه مع سلطات الدولة العازمة على إصلاحه .( المترجم )
- جون انتونى بيرجس ولسن ( 1917 -1993 )- ا نشر أعماله تحت اسم ا .ر .أنتوني برجس ‏– كان كاتبًا وملحنًا إنجليزيًّا وكان يُرى برجس غالبا ككاتب هزلي، وبالرغم من أن هذا هو ما كانت تبدو عليه أعماله لمن يقرؤها ، فقد ادعى أن أعماله لم تكن مكتوبة بنية أن تكون كذلك .
2- Max Scheler, Der Formalismus in der Ethik und die materiale
Wertethik, Bern, Monachium, 1966 (2nd ed.).

-3-Roman Ingarden, Spar a istnienie iwiata, Warszawa, 1947, t. II .
(**)رومان فيتولد انجاردن Roman Witold Ingarden 1893- 1970 ) – فيلسوف بولندى مهتم بمجالات االفينومينولوجيا والانطولوجيا وعلم الجمال . ( المترجم )
4- Roman Ingarden, "Wartosci artystyczne i wartosci estetyczne",
in: Studia z estetyki, v. III, Warszawa, 1970.
5- Tomas Kulka, "The Artistic and the Aesthetic Value of Art",
The British Journal of Aesthetics, v. 21, no 4, 1981.
6- Monroe Beardsley, "In Defense of Aesthetic Value", Proceedings
and Addresses of the American Philosophical Association, 52, 1979,
and "The De-script-ivist Account of Aesthetic Attributions", Revue
Internationale de Philosophie, 1974.
7- Goran Hermeren, Aspects of Aesthetics, ch. Artistic and Aesthetic
Values, Lund, 1983.
8- Harold Osborne, "Aesthetic and Other Forms of Order", The
British Journal of Aesthetics, 1982, v. 22, no 1.
( 9) يبدو أن كل نوع من القيم الجمالية يستند الى مجموعة أخرى القناعات على اتصال مع طبيعة عالمنا : على سبيل المثال،يعني التراجيدى الاقتناع بأن العالم متفوق على الانسان، ومعاد له ، وأنه يريد تدمير إنسان - وبالتالي، نشعر بالخوف من المصير والشفقة تجاه الأبطال المشاركين في هذا النوع من المواقف.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى