صدر كتاب «المثل العامي الأندلسي في الدراسات العربية والاستعرابية – نموذج ‹ حدائق الأزاهر ‹ لأبي بكر بن عاصم الغرناطي»، لمؤلفه رشيد العطار، سنة 2015، ضمن منشورات جمعية البحث التاريخي والاجتماعي بالقصر الكبير، وذلك في ما مجموعه 447 من الصفحات ذات الحجم الكبير. والكتاب، في الأصل، أطروحة جامعية، تقدم بها صاحبها لنيل شهادة الدكتوراه في الآداب من كلية الآداب والعلوم الإنسانية التابعة لجامعة عبد المالك السعدي بتطوان سنة 2003. وقد نحا فيها نحو العودة لتفكيك خطاب الأمثال الشعبية الأندلسية، باعتبارها اختزالا لمجمل القيم والحكم والنظيمات الأخلاقية التي يبدعها المجتمع في سياق تطوراته التاريخية الطويلة المدى. وبتعبير آخر، فالأمثال تشكل استثمارا إنسانيا راقيا لتجارب الشعوب، بعيدا عن رقابة النخب العالمة وعن سطوتها المحددة لمعالم هيمنة القوى المجتمعية المتحكمة في إنتاج الرموز والأفكار والمرجعيات الفكرية.
ولقد حدد عبد الله بنور ملامح هذا الأفق العام الذي تفتحه دراسة الأمثال الشعبية، عندما قال في كلمته التقديمية : « تعتبر الأمثال ظاهرة فكرية فريدة ومتميزة في الآداب العالمية، نظرا لطبيعتها اللغوية والتركيبية، وإيجازها الشديد ودلالتها العميقة، بالإضافة إلى أنها خلاصة تجربة يعبر عنها بالرمز أو الإيحاء أو الإشارة المباشرة في شتى ميادين الحياة اليومية، ويعالج حالاتها من خلال الوقائع والعادات والتقاليد والممارسات. وهي بكل صيغها تظل معبرة عن حكمة الشعوب، وخاصة تجاربهم، ورؤيتهم للأشياء المحيطة بهم، وما بأنفسهم وخباياهم. والأمثال الشعبية تعد خزانا كبيرا لثقافة أمتنا لغة وتاريخا واجتماعا واقتصادا وثقافة وحضارة. هذا التاريخ العامي / الشعبي انتقل إلينا عن طريق التواتر بعيدا عن التاريخ الرسمي وتدخل الأهواء. إن المثل العامي عصارة فكر متزن لأمة من الأمم، وخزان حضارتها بلسان شعبها، ومرآة مجتمعها، يؤرخ بها الشعب تاريخه وحضارته بجوامع الكلم، يجد فيها الباحث المنصف، صورة كاملة بلسان عامي خال من التصنع والتكلف، ميال إلى السهولة والبساطة والعمق … « ( ص. 8 ).
وبموجب هذا التحديد العلمي الدقيق، تصبح الأمثال الشعبية سجلا للتاريخ غير المدون، يمكن أن يجد الباحث داخله الكثير من الذخائر التي توفر المادة الخام الضرورية لتفسير الظواهر التاريخية وإبدالات الحياة العامة وأشكال تطويع الإنسان للمجال ولمحيطه في سعيه المتواصل نحو الارتقاء بظروفه المعيشية ونحو رسم حدود العلاقات القائمة / أو المفترضة مع محيطه المكاني والبشري. وبهذه الصفة، تكتسي الأمثال قيمة كبرى في التأصيل لدراسة مكنونات التاريخ الرمزي ومعالم تطور الذهنيات الجماعية وإفرازاتها اللامادية والإبداعية والسلوكية المتداخلة في إطار الهوية الثقافية الجماعية. لذلك، فإن العودة المتجددة لتشريح مضامين متون هذه الأمثال، وتجاوز النظرة التبخيسية التي ظلت تربطها بإبداعات « العامة «، تظل من الأمور المحورية في كل جهود الاستغلال العلمي الراشد للتراث الشفاهي غير المادي الذي ظلت تتوارثه الأجيال على مدى الفترات الزمنية الطويلة، مضمنة إياه كل عناصر الحكمة التي ما هي – في نهاية المطاف – إلا عصارة تراث الشعب اليومية، بعيدا عن سطوة المركز وعن إقصاء النخب وعن رقابة الوصي. إنه إبداع من الشعب ومن أجل الشعب، يتجاوز سلطة « المكتوب « ويفتح الباب أمام أوجه الاستثمار الأكاديمي المجدد في مجالات علمية متداخلة، لعل أبرزها التاريخ والسوسيولوجيا والأنتروبولوجيا واللسانيات والشعر والسرد …
تتوزع مضامين كتاب « المثل العامي الأندلسي في الدراسات العربية والاستعرابية «، بين أربعة أبواب مركزية، تتفرع عنها فصول فرعية انساقت مع رؤية المؤلف في منهجيته العلمية لتجميع المظان وفي تحليل المتون وفي تفكيك الخطاب وفي الكشف عن السياقات التاريخية واللسانية للتركيبات البلاغية التي ينهض عليها نسق المثل الشعبي. في هذا الإطار، اهتم الباب الأول برصد معالم نشأة المثل العامي الأندلسي وتطوره، مركزا على إبراز التقاطعات القائمة بين الأمثال الشرقية والمثل العامي الأندلسي، سواء على مستوى الروافد أم على مستوى الحمولات البلاغية والفنية والنقدية، مركزا على التأريخ لظروف ميلاد المثل العامي الأندلسي وتطوره. وفي الباب الثاني، انتقل المؤلف لتشريح ذخائر العمل الهام الذي خلفه ابن عاصم الغرناطي في كتابه « حدائق الأزاهر «، باعتباره خلاصة لأمثال العامة بالأندلس. وقد ركز المؤلف في هذا النبش على رصد معالم الحياة العامة بالمجتمع الغرناطي من خلال المؤلف المذكور، وخاصة بالنسبة لتحولات العلاقات البشرية بين مكونات السكان، ولوضعية رجال السلطة في المجتمع الغرناطي، ولمظاهر إبدالات واقع الأسرة والمدرسة، ولمظاهر خصائص الاقتصاد الغرناطي، ثم لرصد بعض الآفات والأمراض الاجتماعية داخل المجتمع الغرناطي. وفي نفس الإطار، سعى المؤلف إلى رصد معالم الامتدادات العميقة للأمثال العامية خارج حدودها الجغرافية الحصرية الضيقة، وتحديدا بمنطقة شمال المغرب ثم داخل بنية الأمثال الإسبانية نفسها.
وفي الباب الثالث، توقف المؤلف لإنجاز دراسة تركيبية حول معالم حضور المثل العامي الأندلسي في الدراسات العربية والمغربية، من خلال النبش في رصيد منجز بعض أعلام هذا المجال، مثلما هو الحال مع أعمال عفيف عبد الرحمن وعبد العزيز الأهواني ومحمد بنشريفة. أما الباب الرابع من الكتاب، فقد خصصه المؤلف للتعريف بحصيلة عمل الاستعراب الإسباني في قضايا الأدب الأندلسي والأمثال الشعبية المحلية، مركزا – بشكل خاص – على نماذج أعمال كل من جنثالث بالنثيا وإيميليو غارثيا غومس ومارينا ماروغان غومس.
وبذلك، نجح رشيد العطار في تقديم عمل شيق، يفتح الباب لتطوير الكثير من جوانب الدراسات الأندلسية بامتداداتها الإنسانية والإبداعية والهوياتية المغربية الراهنة. وإذا كان العمل قد استند في مادته الخام إلى رصيد التراث الشفوي المتوارث، فإن ذلك ينسجم – تماما – مع التوجهات الراهنة لمناهج البحث التاريخي المعاصر، بخصوص الانفتاح على ذخائر « الأرصدة المحكية « وتمهيد المجال لتفكيك مضامينها ولربطها بسياقاتها، في أفق استثمار ذخائرها في الكتابات التاريخية النسقية المجددة. إنه رهان مدارس التاريخ الراهن الذي أضحى ينظر لهذا التراث الشفاهي باعتباره «وثيقة»، لها قيمتها الإنسانية والحضارية الأكيدة، مادامت تعبر عن إبداع «العامة» وعن عطاء «الهامش» وعن حكمة «المنبوذين».
أسامة الزكاري
بتاريخ : 08/08/2019
ولقد حدد عبد الله بنور ملامح هذا الأفق العام الذي تفتحه دراسة الأمثال الشعبية، عندما قال في كلمته التقديمية : « تعتبر الأمثال ظاهرة فكرية فريدة ومتميزة في الآداب العالمية، نظرا لطبيعتها اللغوية والتركيبية، وإيجازها الشديد ودلالتها العميقة، بالإضافة إلى أنها خلاصة تجربة يعبر عنها بالرمز أو الإيحاء أو الإشارة المباشرة في شتى ميادين الحياة اليومية، ويعالج حالاتها من خلال الوقائع والعادات والتقاليد والممارسات. وهي بكل صيغها تظل معبرة عن حكمة الشعوب، وخاصة تجاربهم، ورؤيتهم للأشياء المحيطة بهم، وما بأنفسهم وخباياهم. والأمثال الشعبية تعد خزانا كبيرا لثقافة أمتنا لغة وتاريخا واجتماعا واقتصادا وثقافة وحضارة. هذا التاريخ العامي / الشعبي انتقل إلينا عن طريق التواتر بعيدا عن التاريخ الرسمي وتدخل الأهواء. إن المثل العامي عصارة فكر متزن لأمة من الأمم، وخزان حضارتها بلسان شعبها، ومرآة مجتمعها، يؤرخ بها الشعب تاريخه وحضارته بجوامع الكلم، يجد فيها الباحث المنصف، صورة كاملة بلسان عامي خال من التصنع والتكلف، ميال إلى السهولة والبساطة والعمق … « ( ص. 8 ).
وبموجب هذا التحديد العلمي الدقيق، تصبح الأمثال الشعبية سجلا للتاريخ غير المدون، يمكن أن يجد الباحث داخله الكثير من الذخائر التي توفر المادة الخام الضرورية لتفسير الظواهر التاريخية وإبدالات الحياة العامة وأشكال تطويع الإنسان للمجال ولمحيطه في سعيه المتواصل نحو الارتقاء بظروفه المعيشية ونحو رسم حدود العلاقات القائمة / أو المفترضة مع محيطه المكاني والبشري. وبهذه الصفة، تكتسي الأمثال قيمة كبرى في التأصيل لدراسة مكنونات التاريخ الرمزي ومعالم تطور الذهنيات الجماعية وإفرازاتها اللامادية والإبداعية والسلوكية المتداخلة في إطار الهوية الثقافية الجماعية. لذلك، فإن العودة المتجددة لتشريح مضامين متون هذه الأمثال، وتجاوز النظرة التبخيسية التي ظلت تربطها بإبداعات « العامة «، تظل من الأمور المحورية في كل جهود الاستغلال العلمي الراشد للتراث الشفاهي غير المادي الذي ظلت تتوارثه الأجيال على مدى الفترات الزمنية الطويلة، مضمنة إياه كل عناصر الحكمة التي ما هي – في نهاية المطاف – إلا عصارة تراث الشعب اليومية، بعيدا عن سطوة المركز وعن إقصاء النخب وعن رقابة الوصي. إنه إبداع من الشعب ومن أجل الشعب، يتجاوز سلطة « المكتوب « ويفتح الباب أمام أوجه الاستثمار الأكاديمي المجدد في مجالات علمية متداخلة، لعل أبرزها التاريخ والسوسيولوجيا والأنتروبولوجيا واللسانيات والشعر والسرد …
تتوزع مضامين كتاب « المثل العامي الأندلسي في الدراسات العربية والاستعرابية «، بين أربعة أبواب مركزية، تتفرع عنها فصول فرعية انساقت مع رؤية المؤلف في منهجيته العلمية لتجميع المظان وفي تحليل المتون وفي تفكيك الخطاب وفي الكشف عن السياقات التاريخية واللسانية للتركيبات البلاغية التي ينهض عليها نسق المثل الشعبي. في هذا الإطار، اهتم الباب الأول برصد معالم نشأة المثل العامي الأندلسي وتطوره، مركزا على إبراز التقاطعات القائمة بين الأمثال الشرقية والمثل العامي الأندلسي، سواء على مستوى الروافد أم على مستوى الحمولات البلاغية والفنية والنقدية، مركزا على التأريخ لظروف ميلاد المثل العامي الأندلسي وتطوره. وفي الباب الثاني، انتقل المؤلف لتشريح ذخائر العمل الهام الذي خلفه ابن عاصم الغرناطي في كتابه « حدائق الأزاهر «، باعتباره خلاصة لأمثال العامة بالأندلس. وقد ركز المؤلف في هذا النبش على رصد معالم الحياة العامة بالمجتمع الغرناطي من خلال المؤلف المذكور، وخاصة بالنسبة لتحولات العلاقات البشرية بين مكونات السكان، ولوضعية رجال السلطة في المجتمع الغرناطي، ولمظاهر إبدالات واقع الأسرة والمدرسة، ولمظاهر خصائص الاقتصاد الغرناطي، ثم لرصد بعض الآفات والأمراض الاجتماعية داخل المجتمع الغرناطي. وفي نفس الإطار، سعى المؤلف إلى رصد معالم الامتدادات العميقة للأمثال العامية خارج حدودها الجغرافية الحصرية الضيقة، وتحديدا بمنطقة شمال المغرب ثم داخل بنية الأمثال الإسبانية نفسها.
وفي الباب الثالث، توقف المؤلف لإنجاز دراسة تركيبية حول معالم حضور المثل العامي الأندلسي في الدراسات العربية والمغربية، من خلال النبش في رصيد منجز بعض أعلام هذا المجال، مثلما هو الحال مع أعمال عفيف عبد الرحمن وعبد العزيز الأهواني ومحمد بنشريفة. أما الباب الرابع من الكتاب، فقد خصصه المؤلف للتعريف بحصيلة عمل الاستعراب الإسباني في قضايا الأدب الأندلسي والأمثال الشعبية المحلية، مركزا – بشكل خاص – على نماذج أعمال كل من جنثالث بالنثيا وإيميليو غارثيا غومس ومارينا ماروغان غومس.
وبذلك، نجح رشيد العطار في تقديم عمل شيق، يفتح الباب لتطوير الكثير من جوانب الدراسات الأندلسية بامتداداتها الإنسانية والإبداعية والهوياتية المغربية الراهنة. وإذا كان العمل قد استند في مادته الخام إلى رصيد التراث الشفوي المتوارث، فإن ذلك ينسجم – تماما – مع التوجهات الراهنة لمناهج البحث التاريخي المعاصر، بخصوص الانفتاح على ذخائر « الأرصدة المحكية « وتمهيد المجال لتفكيك مضامينها ولربطها بسياقاتها، في أفق استثمار ذخائرها في الكتابات التاريخية النسقية المجددة. إنه رهان مدارس التاريخ الراهن الذي أضحى ينظر لهذا التراث الشفاهي باعتباره «وثيقة»، لها قيمتها الإنسانية والحضارية الأكيدة، مادامت تعبر عن إبداع «العامة» وعن عطاء «الهامش» وعن حكمة «المنبوذين».
أسامة الزكاري
بتاريخ : 08/08/2019
المثل العامي الأندلسي في الدراسات العربية والاستعرابية - AL ITIHAD
صدر كتاب «المثل العامي الأندلسي في الدراسات العربية والاستعرابية – نموذج ‹ حدائق الأزاهر ‹ لأبي بكر بن عاصم الغرناطي»،
alittihad.info