طفولة ..

أحاولُ أنْ أنظر إلى الجزء الملئان من كل كؤوسي و لكنَّ حقيقة امتلاء بعضها بمختلف أنواعِ خيبات الأمل يصدمني كحافلة نقلٍ داخلي!.

اعتدتُ ارجاع سبب فشل مساعيَّ نحو أحلامي إلى وجودي في سوريا، في بقعة جغرافية لا تناسبني!

و لنواجه الأمر بموضوعيةٍ أكثر لم أكن ضمن عائلةٍ_ أمي_تحديداً من النوع الداعم لأيٍ من أحلامي.
حسناً!من أين أبدأ؟..
حلمتُ منذ طفولتي بلبس الفساتين زاهية الألوان و تحديداً تلك التي تطيرُ كلما درت بها في أرجاء المنزل عدا أنّي لم أحلم بارتداءها في المنزل فقد أردتُ دائماً أن أتعلم رقص الباليه! و قد وعدتني أمي بذلك فعلاً إلى أن جاءت تلك العطلة الصيفية حيث أخذتني أمي من يدي إلى منزل صديقة طفولتها و قد أصبحت داعيةً اسلامية، و طلبت منها تحفيظي القرآن.

أعتقد أني هنا بالذات و في تلك السن الصغيرة جداً حيث كنت في الثامنة من عمري، تعلمتُ استبدال أحلامي بما تراه أمي مناسباً لي من أحلامٍ و أفكارٍ و صديقاتٍ و ثياب!.
ختمت القرآن الكريم كاملاً خلال خمس عطلاتٍ صيفية فقط و هو رقمٌ قياسي جداً تباهت به آنساتي ما جعل المشرفة على كل حلقات الذكر تشركني في الحفلة السنوية بأنشودةٍ من خمس مقاطع أديتُ منها مقطعاً واحداً و بدورٍ تمثيلي في مسرحيةٍ أيضاً.

في ذلك اليوم شعرتُ برغبةٍ في الهرب من نفسي، من أمي و من ذلك الحفل المحتفي بكل الأفكار التي سلبت مني طفولتي و شغلتني عن الفساتين و اللعب بالحذر من معاصٍ لا أعرف أصلا كيف أرتكبها خوفاً من جحيمٍ لا أعتقد اليوم أنّه ممكن يكون أسوأ من وجود طفلةٍ في ذلك المكان!.
مع كل هذا أنا يومها لم أهرب.. أنشدتُ مقطعي الذي يشدد على أهمية الالتزام بالحجاب رغم حرارة الصيف لأنَّ جهنمّ الحمرا أشد حرارة! و أديتُ دوري في المسرحية كما اعتدتُ أن أؤدي دوري في حياة أمي.. تماماً كما كُتب لي حيث لا فرصةً فيه للارتجال.
مع نهاية الدراسة الثانوية وجدتُ في مجموعي المتواضع و علامات القبول المرتفعة على خلاف السنة السابقة! إشارةً لأجرؤ على طرح خيار التسجيل في المعهد العالي للموسيقى ليأتي ردها حاسماً كالعادة و صادماً بشدة:"فيها فحص قبول، يعني في أساتذة! إنت بتغني بيناتنا بس مو معناتا تروحي تغني قدام لجنة"، سمحت لنفسي بالاصرار قليلاً وقلت لها:"جيلان أختا لجيانا رفيقتي بتعرفيها، صوتا بالحكي متل الزلمي وليكا قدمت من سنتين و انقبلت" فحسمت الجدل بالحجة التي لا يمكن مناقشتها:"بتكلف كتير".
أدركُ الآن أني نشأتُ على ذلك الاسلوب الدفاعي منذ صغري فأنا لم يكن يسمح لي أصلا باختيار معاركي، أنا فقط كنت أحاول أن لا أخسر أكثر فخيار الربح لم يكن متاحاً مع والدتي أبداً.
كنت خلال ذلك ما أزالُ عالقةً في حلقاتِ الذكر أتنقل من مستوىً لآخر من معلمةٍ لأخرى يتفنن في تحويلنا إلى نسخٍ مطابقةٍ لهنَّ في الشكل و المضمون بمنتهى العذوبة و الرقي! لم أكن في ذلك العمر أدرك ما معنى الديكتاتورية و تعطيل التفكير بحجةٍ أو بأخرى و لكن بعد كل تلك السنين أستطيع فهم أسلوبهن بشكل أوضح فهنّ نسخة مصغرة عن كل الانظمة الديكتاتورية الفاشية في العالم و أنا ألومهن على علاقتي السيئة بالله و الدين و كل طقوسه فقد ضاعت كل سنوات عمري و أنا أحاول البحث عن حقيقة الله الذي يتحدثن لي عنه و الذي كان رباً صعب الارضاء بشدة! كان يبدو و كأنه لن يرضى الا اذا اختنقنا و متنا و هلكنا قبل أن يرمينا في نهاية الأمر في جهنم ..

وصلت وحدي بعد سنواتٍ طويلة إلى نوع من الإيمان افهمه و أحبه،، لمست حقيقة الله الذي يتفهم ضعفنا أمام غرائزنا ويستوعب أننا نخطأ و نصيب و نبتعد ثمّ نعود! ربٌ أجده في انتظاري كلما عدت ..



و بالعودة إلى أحلامي فقد انطفأت و تكيفتُ مع حقيقة أني لن أعمل في المهنة التي أحب حتى بعد أن تمكنت من دراستها أخيراً! و لن أنشر كتاباتي و صوتي ليس جميلاً لأغني به أمام جمهور و بكل تأكيد فقد تجاوزت حلم رقص الباليه أو أي رقص آخر!.
من العدل أن أذكر أن نيراز حاول وضعي على طريق رغبتي الاولى عندما قرر أن يكون فيلمه الاول على الاطلاق من كتابتي أنا! فعلتها، و كنت سعيدة و لكن الأمر لم يطل أوانه حتى دخل طرفٌ ثالث ليبعدني نهائياً ليس فقط عن مشروعنا المشترك بل و عن حياة نيراز و يومياته،، أعترف أني كنت شخصاً يسهل اقصاؤه فأنا أنسحب بهدوء راضيةً لصالح من يتقنون اللعب بدهاءٍ أقرب إلى المكر أحياناً لأنني و لنواجه الأمر لا أملك ذلك النوع من الدهاء أبداً.
جلستُ بجانب والدتي أدرس الصحافة و لا أمارسها، أعيش حياةً عادية كتلك التي نعيشها جميعاً خلف الابواب المغلقة،، أعمل مساعدة لطبيب أسنان و آمل أن أجد طريقي يوماً خارج هذا المستنقع الكبير.
و ها قد خرجت! نجوتُ من البقعة الجغرافية الخطأ و من سلطة والدتي و توقعاتها و أوامرها و لكني مازلت أعمل ما لا أحب .
أنا في اسطنبول عاصمة الفن،الثقافة و السياحة في العالم، و كنتُ أعتقد أنّ دخول الاعلام خارج حدود سوريا لا يتضمن علاقاتٍ خاصة و أساليب ملتوية و لكن واقع الحال أنّهم خرجوا بكل عفن النظام و لا أخلاقيات المهنة و صنعوا منها أعلاماً ثورياً معارضاً لنظام الأسد!.
الآن .. هنا ، أعمل في مطعم تركي صغير بأجرةٍ يومية بائسة في حي هادئ زبائنه نجوا على ما يبدو من السفربلك! يتفنون في تصحيح طريقة لفظي للغتهم فقط ليذكروني دائماً بفداحة تعلمي اللغة من كردي!.
سألني الشيف سيفي في أول يوم عمل لي معهم ماذا كنت تعملين في سوريا!؟ فحدثته عن الترجمة و عن دراستي للإعلام فنظر إلي بفرح وقال :' أنت كاتبة إذاً'.
كانت تلك أول مرة يذكرني فيها أحدهم بأني أكتب! كنت أتخيل نفسي دائماً كاتبة ! بشعر قصير و نظارات باطار ابيض، مرتديةً قميصاً زاهي اللون قصير و تنورةٍ بيضاء جالسةً في مقهىً في لندن أشرب النسكافية فيما أكتب افتتاحية عدد الغد! و عندما يتجاذب غريب ما معي الحديث و يسألني ماذا أعمل سأقول :' أنا كاتبة' .
لم أصبح راقصة باليه و لن أصبح الآن حتماً فأنا أجد صعوبة في مغادرة السرير فكيف بالرقص!.. لم أصبح سيناريست رغم أني بدأت كتابة سيناريو بالفعل منذ سنوات، و لم أصبح كاتبة و أكره التسليم جدلاً بأني لن أصبح!.
لم أفقد الأمل بعد و مازلت لا أسمي نفسي فاشلة تماماً.

مازلت أنتظر فرصتي لأكون كاتبة! لأنشر روايتي و لأحصد عليها جائزةً ما و قد حضرتُ خطاب الشكر من الآن :
"شكرا أمي .. فقد خلقت مني شخصيتين تلك الطفلة التي ذهبت لتحفظ القرآن دون أن تفهمه أو تشعر به، الطفلة التي اعتادت النظر إلى الفتيات اللواتي يرتدين الفساتين الملونة و يركبن الدراجات الهوائية و تعود هي إلى البيت بوسامٍ جديد عن حفظ آية جديدة و لا تجادل! تعتذر حتى عندما لا تخطئ.. و نيروز اليوم التي تدرك و ممتنة لجعلك مني بنتاً نزيهة و شبعانة و لكنني عالقةٌ إلى الأبد في طفولةٍ حُرمتُ فيها الطفولة.. لم يكن الفقر سيئاً و لا أحزن بعد.كل ذلك الوقت على سنيناً عشناها في بيتٍ صغير ليس فيه ميكرويف مثلاً! و لكن وجودي في بيئة لم تقدس الأحلام و راتها جذور نباتاتٍ ضارة لا أزهارٍ زاهية الالوان رائعة هو ما سرق مني أجمل ما أملك،، مازلتُ هناك أحلم بفستانٍ لا ألبس تحته بنطالاً و بأغنية أغنيها دون أن يقال و لو مزاحاً أن صوتي نشاز!.. شكراً لكل السنوات التي مضت و أنا ضائعة تماماً بين الشخصيتين. أعترف أنّ ذلك الضياع هو الرواية . هو القصة التي خلقت مني كاتبة اليوم " .
أو شيء كهذا على كل حال!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى