* وقائع نهب مقبرة توت عنخ آمون (1)
- مراسل " ديلي ميل" يتهم كارتر بالسرقة.. و" جسم الجريمة" في صندوق نبيذ!
في نوفمبر 1922 اكتشف الإنجليزي هوارد كارتر مقبرة توت عنخ آمون. جذب الاكتشاف انتباه الملايين على مستوى العالم، وأصبحت أخباره محور اهتمام الصحافة الدولية. لكن بعد مرور أقل من عامين بدأت الحكومة المصرية تحاصر كارتر، وتضع اشتراطات أكثر صرامة لعمله. أعلن المكتشف وفريقه الإضراب عن العمل في بدايات 1924، وعلى الفور قررت الحكومة إلغاء الترخيص الذي يكفل له استكمال جهوده. وأعلن رئيس الوزراء البريطاني أمام برلمان بلاده أنه لن يتدخل في هذه الأزمة. رفع كارتر قضيتين أمام المحاكم المُختلطة، غير أن الحكومة المصرية لم تتراجع. وفجأة تفجّرت الأمور بسبب صندوق كُتب عليه عبارة:" نبيذ أحمر"!
غادر كارتر مصر في مارس 1924، عندما وجد الأبواب موصدة في وجهه، وبعدها بأيام طلب وزير الأشغال من رئيس مصلحة الآثار الفرنسي الذهاب للأقصر، وتفقُد المواقع التي عمل فيها المكتشف الإنجليزي أو استخدمها كمخازن، وفي المقبرة رقم 4 بوادي الملوك اكتشف مفاجأة من العيار الثقيل. كان كارتر قد وضع بها بعض مقتنيات الفرعون الذهبي، بعد تصنيفها تمهيدا لنقلها إلى المتحف المصري. ووسط الصناديق تم اكتشاف صندوق عليه ملصق يفيد بأن محتوياته مجرد" نبيذ أحمر"، بداخله جسم صلب ملفوف بالشاش والقطن. إنه تمثال بديع من الخشب المُلوّن لرأس طفل، تخرج من قاعدة زهرة لوتس زرقاء تتفتح. عمل فني بديع للطفل توت عنخ آتون، قبل أن يتحول جزء من اسمه فيما بعد إلى آمون، عقب الإطاحة بالعقيدة الآتونية.
أصيب الموجودون بالذهول. كانت القطعة بلا أية علامات ترقيم أو حصر أو تصنيف، ولم يُدرجها كارتر في قوائمه، رغم حرصه على تسجيل قطع أقل أهمية بكثير. تعامل رئيس المصلحة مع الأمر بحسن نية، وواجه ثورة زملائه المصريين وطالبهم بالهدوء، لكنهم لم يستجيبوا وسارعوا بإرسال برقية لرئيس الوزراء سعد زغلول، أخبروه فيها بالواقعة المريبة، وأعدوا لنقل" جسم الجريمة" إلى القاهرة، وهم متأكدون أن الرأس كانت مُجهّزة للتهريب إلى الخارج، لكن تجميد العمل بالمقبرة أنقذها.
حاول كارتر تبرير الأمر بحجج واهية، فنّدها أندرو كولينز وكريس أوجيلفي هيرالد، في كتابهما" توت عنخ آمون.. مؤامرة الخروج" الذي ترجمه قبل سنوات رفعت السيد علي. لم يكتف المؤلفان بذلك بل بدآ تعقب قطع أخرى تم تهريبها عقب اكتشاف المقبرة، وهو الأمر الذي كان قد خطّط له كارتر بعناية، عندما أعلن أن اللصوص القدماء نهبوا 60% من مقتنياتها! كي يمنح نفسه ستارا يتخفّى وراءه.
غالبا كان الخلاف بين الصحف الإنجليزية سببا في كشف عملية النهب، فقد تم منح جريدة" التايمز" حقوقا حصرية لمتابعة تطورات الكشف، وهو ما أثار بقية المراسلين الأجانب ومن بينهم الأثري البريطاني آرثر ويجال، الذي كان يراسل" ديلي ميل" من الأقصر، وعندما وجد نفسه منبوذا، كتب رسالة لكارتر في يناير 1923، وجّه له فيها اتهاما خطيرا أشبه بالتهديد:" لقد فتحت المقبرة دون أن تُبلغ ممثلي الحكومة المصرية، وكل الوطنيين المصريين يرددون أنك بذلك امتلكت الفرصة للاستيلاء على ما يساوي ملايين الجنيهات الذهبية".
جاء هذا الاتهام بعد نحو شهرين فقط من اكتشاف القرن، وتجاهله كارتر الذي بلغت ثقته بنفسه حدها الأقصى، بعد أن أصبح نجما عالميا في تلك الفترة. لكنه لم يكن يدري أن هناك من يرصده. في الحلقة القادمة نركّز على دخوله خلسة إلى المقبرة، مع مموله اللورد كارنافون!
***
* وقائع نهب مقبرة توت عنخ آمون"2"
- المُكتشف تسلّل للداخل دون علم الحكومة.. والبرديات أصبحت" ملابس داخلية"!!
في 16 فبراير 1923 حبس العالم أنفاسه. كان يُفترض أن يتم افتتاح مقبرة توت عنخ آمون رسميا، ليتعرف الجميع- بمن فيهم مُكتشفها هوارد كارتر- على غالبية محتوياتها لأول مرة، بعد أن ظلت مُغلقة لشهور عقب العثور عليها. لكن هل كانت المرة الأولى بالفعل التي تطأ فيها قدم إنسان حُجرة الدفن منذ عهد الفراعنة؟ الإجابة مهمة، لأن احتمالات الاستيلاء على مقتنياتها تُصبح مطروحة، إذا ثبت أن المكان استقبل زيارات دون علم الحكومة المصرية. وكان كارتر نفسه سببا في إثارة الشكوك، بعد واقعة غريبة اعترف بها لعدد قليل من المُقربين منه.
عندما تصاعد صراعه مع حكومة الوفد، لجأ إلى سفارة بلاده بالقاهرة طالبا العون. أكد نائب القنصل بهدوء أن السفارة لن تتدخل في الأزمة. هنا ثار كارتر واتهم الدبلوماسي الإنجليزي بالفشل، واحتفظ الأخير بهدوئه إلى أن هدده كارتر بإعلان مضمون بردية عثر عليها في المقبرة، تُقدم رؤية مختلفة لخروج بني إسرائيل من مصر. هنا ثار نائب القنصل وقذفه بمحبرة كانت على مكتبه! لم تظهر البردية إلى الوجود إطلاقا بعد ذلك، وصاغ البعض قصصا بوليسية، تحاول الإيحاء بأن اللورد كارنافون مُموّل الكشف مات مقتولا، لإخفاء كل ما يتعلق بالبردية، لكن إذا كان الأمر كذلك.. فلماذا نجا كارتر نفسه من مصير مشابه؟
لا يهمنا حقيقة البردية أو مضمونها في هذا السياق، لكن الحديث عنها فتح بابا آخر للتكهنات، ففي رسالة لأحد علماء الآثار أكد اللورد كارنافون العثور على مجموعة برديات، وسرعان ما تراجع، وقيل إن الإضاءة الخافتة جعلت الأمر يلتبس على المكتشف، واعتقد أن ما وجده برديات، رغم أنها مجرد ملابس داخلية من الكتان تخص الملك الشاب! هل اختفت البرديات مع مقتنيات أخرى، لأنها يمكن أن تدر عائدا ماديا ضخما في حالة بيعها؟ عموما بدأت بعض التفاصيل تتضح فيما بعد، حول الزيارة السرية!
كان الكيميائي البريطاني ألفريد لوكاس واحدا من فريق كارتر، وقام بترميم عدد كبير من محتويات المقبرة. في عام 1942 كتب مقالا تحدث فيه عن فتحة في باب غرفة الدفن، زعم كارتر أن اللصوص القدماء أحدثوها، وتشكّك لوكاس في ذلك، ورجّح أن كارتر واللورد كارنافون وابنته دخلوا الغرفة سرا. بعدها بخمس سنوات نشر مقالا ثانيا اتسم بوضوح أكبر، واتهم فيه كارتر بالتضليل، وأكد أن المكتشف اعترف له أنه من قام بإغلاق الفتحة وليس اللصوص. وهكذا تخيل مؤلفا كتاب" توت عنخ آمون.. مؤامرة الخروج" تفاصيل ما حدث:" كارتر وجماعته هم من فتحوا تلك الفتحة ليدخلوا منها إلى غرفة الدفن يوم 26 نوفمبر 1922، وزحف منها كارتر وكارنافون وليدي إيفيلين( ابنته) إلى الداخل، وجاسوا بين كنوزها، واستطلعوا ما بها ما حلا لهم من وقت، وانتقوا منها ما شاءوا"!!
وفي عام 1972 استعرض أحد الباحثين جانبا من يوميات ميرفن هربرت، الأخ غير الشقيق للورد كارنافون، وذكر هربرت أنه صباح يوم الافتتاح الرسمي، ركب السيارة مع أخيه وابنته، وذكرت له الأخيرة على مسمع من والدها، أنهم أحدثوا فتحة صغيرة، زحفوا عبرها إلى غرفة الدفن، ووصفت له بعض المقتنيات النفيسة التي سيراها، وأخبرته أن من يعرفون بهذا السر بخلافهم رؤساء العمال فقط، الذين تعهدوا بعدم إفشاء السر.
شهادات أخرى رصدتها كُتب عديدة، تؤكد أن المكتشفين ضلّلوا العالم، واقتنصوا ثروة لا يُستهان بها من مقتنيات الفرعون الذهبي، وسنستعرض نماذج منها في الحلقة القادمة.
***
* وقائع نهب مقبرة توت عنخ آمون "3"
- زيارة لمنزل كارتر تكشف السرقات.. وإعادة 5 خواتم خوفا من" لعنة الفراعنة"
مات هوارد كارتر، وفوجئت ابنة أخيه بخمسة خواتم ذهبية وخزفية ضمن ميراثها منه، تحمل خرطوش توت عنخ آمون. شعرتْ بالفزع تحت تأثير الحديث المتنامي عن لعنة الفراعنة، وأعادت القطع إلى مصر، وبالفعل تم ضمها إلى مجموعة الملك فاروق، التي أعيدت للمتحف المصري فيما بعد. هناك إذن مقتنيات تسللت من المقبرة، وبالتأكيد لم تكن هذه الخواتم هى الوحيدة. ففي 1992 صدر كتاب عن قصة حياة آرثر ميس، الذي عمل مساعدا لكارتر في المقبرة، تحدث الكتاب عن زيارة قامت بها زوجة ميس وابنته لبيت كارتر، وذكرتْ الابنة أن والدتها غادرت البيت غاضبة، وأعربت عن استيائها لأنه ليس من حق كارتر أن يستولى على تلك الأشياء، ورجّح المؤلف أن عبارة" تلك الأشياء" تُشير إلى ما استولى عليه المُكتشف الإنجليزي من مقبرة الملك توت.
عبر الحلقتين السابقتين تطرقنا لكتاب" توت عنخ آمون.. مؤامرة الخروج"، ورغم أنه يُركز على نقاط خلافية لا مجال للحديث عنها، فإن ما يهمنا منه حاليا محاولة رصده لبعض الكنوز الضائعة، حيث يشير إلى 17 قطعة احتجزها كارتر لأغراض علمية، واتجهت بعد ذلك إلى متحف متروبوليتان بنيويورك، فضلا عن قوائم أخرى ضمت أعدادا أكبر بكثير، رصدها عالم المصريات الأمريكي توماس هوفينج. منها أظافر ذهبية وزهرة برونزية وعقد من الخزف الثقيل، بالإضافة لتمثال برونزي بديع لكلب صغير تلتفت رأسه إلى الخلف، ورغم كثرة ما رصده هوفينج من مقتنيات منهوبة، إلا أنه اعتبر القطع التي خرجت بطرق غير مشروعة مجرد" حماقة"، في إشارة لقلة قيمتها الفنية، إذا قورنت بالمجموعة المحفوظة في المتحف المصري. ومن بين ما رصده صندوقان من العاج، يضمان أدوات تجميل، وآنية لحفظ العطور، وتمثال من العاج لكلب صيد يركض، وآخر برونزي بديع لنمر له عينان من الصخر البلوري. كان متحف متروبوليتان صاحب الحظ الأوفر في اقتناء بعض ما تم سلبه، لكن هناك قطعا تسللت لمتاحف مختلفة، منها متحفا نلسن آتكن بجامعة ميسوري الأمريكية، وبروكلين!
وتبدو مجموعة اللورد كارنارفون ممول الاكتشاف دليلا على التضليل المُتعمد، فبعد وفاته اشتراها متحف متروبوليتان أيضا، ومن بينها تمثال بني اللون لحصان يثب لأعلى، وآخر لغزال فائق الجمال، أكد الخبراء أن طريقة نحتهما تعود لعصر العمارنة، الذي ينتمي إليه توت عنخ آمون، لكن اللورد ذكر أنه اشتراهما من القاهرة ورجح العثور عليهما في سقارة، ويرى المتخصصون أن مزاعم كارنارفون مُضلّلة، لكى لا يكشف أنه نهب بعض مقتنيات المقبرة مع آخرين، من بينهم سكرتيره!
في عصر اكتشاف المقبرة ذاع صيت عراف إنجليزي، كان أول من حذر اللورد الإنجليزي من خطورة سلب محتوياتها. كان العراف يحمل لقب" كونت"، ويرتبط بعلاقة وثيقة بالسكرتير الخاص لكارنارفون، ذات لقاء اعترف والد السكرتير للعراف بقلقه، وقال:" لقد جلب ابني ريتشارد إلى بيته مقدسات قديمة كثيرة، وآثارا من مقبرة توت عنخ آمون". وسأله إذا ماكان يتوقع أن تجلب له الشر. وبعيدا عن الوفاة الغامضة للسكرتير، ثم انتحار والده بعدها، تأتي شهادة العراف نفسه لتكشف المزيد من كواليس الكنز المفقود، فقد زار السكرتير في منزله، وأكد أنه رأى على كل جدار بمنزله آثارا كثيرة من مقبرة الفرعون الذهبي.
ما سبق مجرد نماذج على النهب، فهناك بالتأكيد قطع أصبحت ملكيات خاصة لآخرين تعاملوا معها كأسرار حربية، لكن الأمر كله يظل إحدى حلقات مسلسل ممتد، تعرضت فيه آثارنا للنهب.
- مراسل " ديلي ميل" يتهم كارتر بالسرقة.. و" جسم الجريمة" في صندوق نبيذ!
في نوفمبر 1922 اكتشف الإنجليزي هوارد كارتر مقبرة توت عنخ آمون. جذب الاكتشاف انتباه الملايين على مستوى العالم، وأصبحت أخباره محور اهتمام الصحافة الدولية. لكن بعد مرور أقل من عامين بدأت الحكومة المصرية تحاصر كارتر، وتضع اشتراطات أكثر صرامة لعمله. أعلن المكتشف وفريقه الإضراب عن العمل في بدايات 1924، وعلى الفور قررت الحكومة إلغاء الترخيص الذي يكفل له استكمال جهوده. وأعلن رئيس الوزراء البريطاني أمام برلمان بلاده أنه لن يتدخل في هذه الأزمة. رفع كارتر قضيتين أمام المحاكم المُختلطة، غير أن الحكومة المصرية لم تتراجع. وفجأة تفجّرت الأمور بسبب صندوق كُتب عليه عبارة:" نبيذ أحمر"!
غادر كارتر مصر في مارس 1924، عندما وجد الأبواب موصدة في وجهه، وبعدها بأيام طلب وزير الأشغال من رئيس مصلحة الآثار الفرنسي الذهاب للأقصر، وتفقُد المواقع التي عمل فيها المكتشف الإنجليزي أو استخدمها كمخازن، وفي المقبرة رقم 4 بوادي الملوك اكتشف مفاجأة من العيار الثقيل. كان كارتر قد وضع بها بعض مقتنيات الفرعون الذهبي، بعد تصنيفها تمهيدا لنقلها إلى المتحف المصري. ووسط الصناديق تم اكتشاف صندوق عليه ملصق يفيد بأن محتوياته مجرد" نبيذ أحمر"، بداخله جسم صلب ملفوف بالشاش والقطن. إنه تمثال بديع من الخشب المُلوّن لرأس طفل، تخرج من قاعدة زهرة لوتس زرقاء تتفتح. عمل فني بديع للطفل توت عنخ آتون، قبل أن يتحول جزء من اسمه فيما بعد إلى آمون، عقب الإطاحة بالعقيدة الآتونية.
أصيب الموجودون بالذهول. كانت القطعة بلا أية علامات ترقيم أو حصر أو تصنيف، ولم يُدرجها كارتر في قوائمه، رغم حرصه على تسجيل قطع أقل أهمية بكثير. تعامل رئيس المصلحة مع الأمر بحسن نية، وواجه ثورة زملائه المصريين وطالبهم بالهدوء، لكنهم لم يستجيبوا وسارعوا بإرسال برقية لرئيس الوزراء سعد زغلول، أخبروه فيها بالواقعة المريبة، وأعدوا لنقل" جسم الجريمة" إلى القاهرة، وهم متأكدون أن الرأس كانت مُجهّزة للتهريب إلى الخارج، لكن تجميد العمل بالمقبرة أنقذها.
حاول كارتر تبرير الأمر بحجج واهية، فنّدها أندرو كولينز وكريس أوجيلفي هيرالد، في كتابهما" توت عنخ آمون.. مؤامرة الخروج" الذي ترجمه قبل سنوات رفعت السيد علي. لم يكتف المؤلفان بذلك بل بدآ تعقب قطع أخرى تم تهريبها عقب اكتشاف المقبرة، وهو الأمر الذي كان قد خطّط له كارتر بعناية، عندما أعلن أن اللصوص القدماء نهبوا 60% من مقتنياتها! كي يمنح نفسه ستارا يتخفّى وراءه.
غالبا كان الخلاف بين الصحف الإنجليزية سببا في كشف عملية النهب، فقد تم منح جريدة" التايمز" حقوقا حصرية لمتابعة تطورات الكشف، وهو ما أثار بقية المراسلين الأجانب ومن بينهم الأثري البريطاني آرثر ويجال، الذي كان يراسل" ديلي ميل" من الأقصر، وعندما وجد نفسه منبوذا، كتب رسالة لكارتر في يناير 1923، وجّه له فيها اتهاما خطيرا أشبه بالتهديد:" لقد فتحت المقبرة دون أن تُبلغ ممثلي الحكومة المصرية، وكل الوطنيين المصريين يرددون أنك بذلك امتلكت الفرصة للاستيلاء على ما يساوي ملايين الجنيهات الذهبية".
جاء هذا الاتهام بعد نحو شهرين فقط من اكتشاف القرن، وتجاهله كارتر الذي بلغت ثقته بنفسه حدها الأقصى، بعد أن أصبح نجما عالميا في تلك الفترة. لكنه لم يكن يدري أن هناك من يرصده. في الحلقة القادمة نركّز على دخوله خلسة إلى المقبرة، مع مموله اللورد كارنافون!
***
* وقائع نهب مقبرة توت عنخ آمون"2"
- المُكتشف تسلّل للداخل دون علم الحكومة.. والبرديات أصبحت" ملابس داخلية"!!
في 16 فبراير 1923 حبس العالم أنفاسه. كان يُفترض أن يتم افتتاح مقبرة توت عنخ آمون رسميا، ليتعرف الجميع- بمن فيهم مُكتشفها هوارد كارتر- على غالبية محتوياتها لأول مرة، بعد أن ظلت مُغلقة لشهور عقب العثور عليها. لكن هل كانت المرة الأولى بالفعل التي تطأ فيها قدم إنسان حُجرة الدفن منذ عهد الفراعنة؟ الإجابة مهمة، لأن احتمالات الاستيلاء على مقتنياتها تُصبح مطروحة، إذا ثبت أن المكان استقبل زيارات دون علم الحكومة المصرية. وكان كارتر نفسه سببا في إثارة الشكوك، بعد واقعة غريبة اعترف بها لعدد قليل من المُقربين منه.
عندما تصاعد صراعه مع حكومة الوفد، لجأ إلى سفارة بلاده بالقاهرة طالبا العون. أكد نائب القنصل بهدوء أن السفارة لن تتدخل في الأزمة. هنا ثار كارتر واتهم الدبلوماسي الإنجليزي بالفشل، واحتفظ الأخير بهدوئه إلى أن هدده كارتر بإعلان مضمون بردية عثر عليها في المقبرة، تُقدم رؤية مختلفة لخروج بني إسرائيل من مصر. هنا ثار نائب القنصل وقذفه بمحبرة كانت على مكتبه! لم تظهر البردية إلى الوجود إطلاقا بعد ذلك، وصاغ البعض قصصا بوليسية، تحاول الإيحاء بأن اللورد كارنافون مُموّل الكشف مات مقتولا، لإخفاء كل ما يتعلق بالبردية، لكن إذا كان الأمر كذلك.. فلماذا نجا كارتر نفسه من مصير مشابه؟
لا يهمنا حقيقة البردية أو مضمونها في هذا السياق، لكن الحديث عنها فتح بابا آخر للتكهنات، ففي رسالة لأحد علماء الآثار أكد اللورد كارنافون العثور على مجموعة برديات، وسرعان ما تراجع، وقيل إن الإضاءة الخافتة جعلت الأمر يلتبس على المكتشف، واعتقد أن ما وجده برديات، رغم أنها مجرد ملابس داخلية من الكتان تخص الملك الشاب! هل اختفت البرديات مع مقتنيات أخرى، لأنها يمكن أن تدر عائدا ماديا ضخما في حالة بيعها؟ عموما بدأت بعض التفاصيل تتضح فيما بعد، حول الزيارة السرية!
كان الكيميائي البريطاني ألفريد لوكاس واحدا من فريق كارتر، وقام بترميم عدد كبير من محتويات المقبرة. في عام 1942 كتب مقالا تحدث فيه عن فتحة في باب غرفة الدفن، زعم كارتر أن اللصوص القدماء أحدثوها، وتشكّك لوكاس في ذلك، ورجّح أن كارتر واللورد كارنافون وابنته دخلوا الغرفة سرا. بعدها بخمس سنوات نشر مقالا ثانيا اتسم بوضوح أكبر، واتهم فيه كارتر بالتضليل، وأكد أن المكتشف اعترف له أنه من قام بإغلاق الفتحة وليس اللصوص. وهكذا تخيل مؤلفا كتاب" توت عنخ آمون.. مؤامرة الخروج" تفاصيل ما حدث:" كارتر وجماعته هم من فتحوا تلك الفتحة ليدخلوا منها إلى غرفة الدفن يوم 26 نوفمبر 1922، وزحف منها كارتر وكارنافون وليدي إيفيلين( ابنته) إلى الداخل، وجاسوا بين كنوزها، واستطلعوا ما بها ما حلا لهم من وقت، وانتقوا منها ما شاءوا"!!
وفي عام 1972 استعرض أحد الباحثين جانبا من يوميات ميرفن هربرت، الأخ غير الشقيق للورد كارنافون، وذكر هربرت أنه صباح يوم الافتتاح الرسمي، ركب السيارة مع أخيه وابنته، وذكرت له الأخيرة على مسمع من والدها، أنهم أحدثوا فتحة صغيرة، زحفوا عبرها إلى غرفة الدفن، ووصفت له بعض المقتنيات النفيسة التي سيراها، وأخبرته أن من يعرفون بهذا السر بخلافهم رؤساء العمال فقط، الذين تعهدوا بعدم إفشاء السر.
شهادات أخرى رصدتها كُتب عديدة، تؤكد أن المكتشفين ضلّلوا العالم، واقتنصوا ثروة لا يُستهان بها من مقتنيات الفرعون الذهبي، وسنستعرض نماذج منها في الحلقة القادمة.
***
* وقائع نهب مقبرة توت عنخ آمون "3"
- زيارة لمنزل كارتر تكشف السرقات.. وإعادة 5 خواتم خوفا من" لعنة الفراعنة"
مات هوارد كارتر، وفوجئت ابنة أخيه بخمسة خواتم ذهبية وخزفية ضمن ميراثها منه، تحمل خرطوش توت عنخ آمون. شعرتْ بالفزع تحت تأثير الحديث المتنامي عن لعنة الفراعنة، وأعادت القطع إلى مصر، وبالفعل تم ضمها إلى مجموعة الملك فاروق، التي أعيدت للمتحف المصري فيما بعد. هناك إذن مقتنيات تسللت من المقبرة، وبالتأكيد لم تكن هذه الخواتم هى الوحيدة. ففي 1992 صدر كتاب عن قصة حياة آرثر ميس، الذي عمل مساعدا لكارتر في المقبرة، تحدث الكتاب عن زيارة قامت بها زوجة ميس وابنته لبيت كارتر، وذكرتْ الابنة أن والدتها غادرت البيت غاضبة، وأعربت عن استيائها لأنه ليس من حق كارتر أن يستولى على تلك الأشياء، ورجّح المؤلف أن عبارة" تلك الأشياء" تُشير إلى ما استولى عليه المُكتشف الإنجليزي من مقبرة الملك توت.
عبر الحلقتين السابقتين تطرقنا لكتاب" توت عنخ آمون.. مؤامرة الخروج"، ورغم أنه يُركز على نقاط خلافية لا مجال للحديث عنها، فإن ما يهمنا منه حاليا محاولة رصده لبعض الكنوز الضائعة، حيث يشير إلى 17 قطعة احتجزها كارتر لأغراض علمية، واتجهت بعد ذلك إلى متحف متروبوليتان بنيويورك، فضلا عن قوائم أخرى ضمت أعدادا أكبر بكثير، رصدها عالم المصريات الأمريكي توماس هوفينج. منها أظافر ذهبية وزهرة برونزية وعقد من الخزف الثقيل، بالإضافة لتمثال برونزي بديع لكلب صغير تلتفت رأسه إلى الخلف، ورغم كثرة ما رصده هوفينج من مقتنيات منهوبة، إلا أنه اعتبر القطع التي خرجت بطرق غير مشروعة مجرد" حماقة"، في إشارة لقلة قيمتها الفنية، إذا قورنت بالمجموعة المحفوظة في المتحف المصري. ومن بين ما رصده صندوقان من العاج، يضمان أدوات تجميل، وآنية لحفظ العطور، وتمثال من العاج لكلب صيد يركض، وآخر برونزي بديع لنمر له عينان من الصخر البلوري. كان متحف متروبوليتان صاحب الحظ الأوفر في اقتناء بعض ما تم سلبه، لكن هناك قطعا تسللت لمتاحف مختلفة، منها متحفا نلسن آتكن بجامعة ميسوري الأمريكية، وبروكلين!
وتبدو مجموعة اللورد كارنارفون ممول الاكتشاف دليلا على التضليل المُتعمد، فبعد وفاته اشتراها متحف متروبوليتان أيضا، ومن بينها تمثال بني اللون لحصان يثب لأعلى، وآخر لغزال فائق الجمال، أكد الخبراء أن طريقة نحتهما تعود لعصر العمارنة، الذي ينتمي إليه توت عنخ آمون، لكن اللورد ذكر أنه اشتراهما من القاهرة ورجح العثور عليهما في سقارة، ويرى المتخصصون أن مزاعم كارنارفون مُضلّلة، لكى لا يكشف أنه نهب بعض مقتنيات المقبرة مع آخرين، من بينهم سكرتيره!
في عصر اكتشاف المقبرة ذاع صيت عراف إنجليزي، كان أول من حذر اللورد الإنجليزي من خطورة سلب محتوياتها. كان العراف يحمل لقب" كونت"، ويرتبط بعلاقة وثيقة بالسكرتير الخاص لكارنارفون، ذات لقاء اعترف والد السكرتير للعراف بقلقه، وقال:" لقد جلب ابني ريتشارد إلى بيته مقدسات قديمة كثيرة، وآثارا من مقبرة توت عنخ آمون". وسأله إذا ماكان يتوقع أن تجلب له الشر. وبعيدا عن الوفاة الغامضة للسكرتير، ثم انتحار والده بعدها، تأتي شهادة العراف نفسه لتكشف المزيد من كواليس الكنز المفقود، فقد زار السكرتير في منزله، وأكد أنه رأى على كل جدار بمنزله آثارا كثيرة من مقبرة الفرعون الذهبي.
ما سبق مجرد نماذج على النهب، فهناك بالتأكيد قطع أصبحت ملكيات خاصة لآخرين تعاملوا معها كأسرار حربية، لكن الأمر كله يظل إحدى حلقات مسلسل ممتد، تعرضت فيه آثارنا للنهب.
Bei Facebook anmelden
Melde dich bei Facebook an, um dich mit deinen Freunden, deiner Familie und Personen, die du kennst, zu verbinden und Inhalte zu teilen.
www.facebook.com