جلس أمام المرآة يطالع بقلق شعراته الثلاث المضفورات بدقة متناهية أخذ العدسة المكبرة وراح يتجول في رأسه العارية باحثاً عن نتوء لإحدى شعيراته التي أنفق ثلاثة أشهر في محاولة إنباتها بشتى الطرق، لم يجد غير تلك الثلاثة الواهنة كخيوط عنكبوتية بالية. كانت الشعرات الثلاثة طويلة تسترسل على عرض رأسه الأملس. إذن لم تجدي محاولته الأخيرة في نفخ الحياة في فروة رأسه، أدخل العدسة المكبرة في جيب سترته ثم خرج.
الشمس تبدو غاضبة اليوم فهي الأخرى أنثى متعالية و إنفعالية جداً. لا يعرف معنى حرارة الشمس إلاّ أصلع مثله، فمخه ينضج الآن من فرط السخونة، لقد بدأ الجزء الأمامي من رأسه في الإنتفاخ كإستجابة للغليان تحت الفروة الشيء الذي مدد الموضع الذي يجمع الشعيرات الثلاثة فتفرقت تسبح في العرق الذي ينضح من فروة رأسه العارية واللامعة كوهج الليزر في عتمة حالكة.
ليست الشمس وحده ثائرة اليوم فبينما كان يمشي داسا صلعته تحت قبعة كبيرة من السعف؛ تراءى له إعصارا يهبط عموديا من السماء ضاربا في الأرض بقوة هائجة يكاد يخترقها عبر إندفاعه اللولبي، يقترب عمود الإعصار منه رويدا ررويدا أشاح بوجهه عنه وهو يردد (محمد معانا ما تغشانا) إلاّ أنه غشاه و طارت قبعته مع هبوب الريح.
تقول الأسطورة أن الإعصار في حقيقته شيطان؛ فإذا ما ولجت قلب الإعصار وتمكنت من طعنه فإن دما سينزف منه ويتوقف. لكنه لا يفكر في إيقاف الشيطان بقدر ما يفكر في قبعته التي لا يمكنه مواصلة مشواره بدونها فعاد إلى البيت غسل نفسه من تراب الإعصار ليفاجأ بسقوط شعرتين من رأسه، جلس مهبطا يحتضن جمجمته بكفيه شاردا بنظره نحو الأرض، أدخل العدسة المكبرة بإحباط إلى صندوق تراثه من الأمشاط وماكينة الحلاقة والمقصات.
بعد أسبوع قضاه حابسا نفسه بالبيت متحاشيا الشمس الغاضبة والريح الثائرة، وقف أمام المرآة يحدق بإهتمام إلى سبيبته الأخيرة. خاطب فروته العارية؛ هيا يا قمحاتي، هيا لا تخجلي، أخرجي أريني إياكِ أيتها العنيدات، أما كفتك كل هذه البرودة لتنبتي هيا هيا.
ما زال يفحص بالعدسة المكبرة كالباحث عن كنز عظيم لكنه لا يعلم أنه ما بقى من عمر شعرته الأخيرة إلاّ كظمءِ الحمار؛ فلقد إنتفخت البصيلة الدهنية تحتها وهاهي بارزة إلى الأعلى توشك على السقوط، تغير لونها من الأسود إلى البني وهي آخر مراحل التدهور مع أقل هبة ريح أخرى سيسقط آخر ما تشبث برأسه من جنس الشعر لقد كانت وفية كفاية، آزرته حتى الآن لكن شيئا لم يحدث، لم تنبت رفيقاتها مجدداً لقد انقطع نسلهن أو بالأحرى كانت الرأس عاقرا لم تجدي كل تلك المحاولات التي قام به مؤخرا لم تنفع المراهم الكثيرة وعمليات المناورة التي يقوم بها من لدن رامية الودع التي أرسلت ضحكة مجلجلة عندما سمعت طلبه الغريب، مرورا بالعطّار، شيخ المسجد و رتل من نصائح أصدقاءه ومعارفه إلى أخصائي الجلدية و إنتهاءً بزراعة الشعر التي فشلت هي الأخرى في بث الحياة على بور هامته، كانت عظام جمجمته الناتئة كصخورة حادة تلفظ كل ما يغمر به رأسه الجرداء القاحلة مثل صحراء مقفرة و خالية من الحياة.
كان حريصا على وضع القبعة و أحيانا يضع عليها العمامة البيضاء الكبيرة يستر بها عورته التي تعرت بشكل قبيح ومخجل. كان لوقت قريب يمنّي نفسه ويرى بخياله زغيباته الثلاثة يتكاثرن ويملأن هامته يصرن قويات لامعات، لكن الواقع الماثل أمامه الآن هو الحقيقة الوحيدة التي لا مفر منها.
أكثر ما يزعجه هي وعورة اللغة وسوقية العبارات التي يطلقها بعض الأطفال والجهلة عليه (حماد اب صلعة) كانت هذه العبارة تثير إشمئزازه وتخرجه عن طوره يحاول الرد لكنه يدرك كم واسع هو البون بينه وهؤلاء فهم لا يفقهون شيئا مما سيقوله، معنى أن تكون أصلعا معنى أن يتواضع مجرد (صوف) وينزل من فوق هامتك إكبارا لك، من سيدرك حقيقية كهذه وبأي لغة يوصلها لهم فيأكله الصمت ويتجاهلهم.
إنها ليست المرة الأولى التي يفقد فيها شعره حدث وقد فقد كل شعره حتى الشعيرات الدقيقة بداخل أنفه قد فقدها ذات مرة عندما كان جنديا انقطع به السبيل في الغابة كاد يهلك جوعا لولا تلك الشجرة التي تناول أوراقها ولكنها جردته من شعره تماما إلاّ أنه نما مجددا، وقتها تعاطف الناس معه وطمأنوه بأنه سيستعيد شعره مجددا؛ تساءل لماذا لا يشجعوني الآن هل لأني تركت الجندية وصرت رجلا عاديا لا أملك أية سطوة عليهم هل كانوا ينافقوني وقتها أم ماذا؟
بعد أسبوع نزل يتجول في أزقة الحي متحاشيا التجمعات الهازئة في طريقه. وقع على نظره صالون الحلاقة الذي كان يرتاده قبل زمان لا يذكر كم عفا عليه من زمن، أحس بإشتهاء عارم يجتاح رأسه حد التنمل، لقد وحشه صوت المقص وهو يعمل فوق رأسه وحشته ذبدبات ماكينة الحلاقة الكهربائية. غلبته رغبته فوجد نفسه جالسا على كرسي الحلاّق وهو يقول له خففه قليلاً لو سمحت. ضحك الرجل من ظرافته إلاّ أنه ألح متوهطا في الكرسي، قال جادا قلت لك خففه. أمسك الحلاّق بشعرته الوحيد وجذبها فإنسلت بيده قال له هل تقصد هذه؟!
لما رآها هامدة على راحة الحلاّق هاجت أمعاءه واصدرت صوتا مفرقعا، نهض بغضب أخذ الشعرة التي وضعها الحلاقة على راحته نفث هواءً ساخنا وقال له: لقد جعلتني أصلعا أيها الأرعن.
مساءً أخذ الشعرة الساقطة بيده كانت باهتة ومرهقة لقد أعياها الوقوف وحيدة هو لا يدرك ما تعانيه لا يدرك كم هو قاسي أن تجادل وحيدا. وضعها على دفتر مذكراته ثم أعترف لنفسه أمام المرآة التي أمامه أنت أصلع يا حماد.
نعم أقر بذلك أنا أصلع لكن ليس كل أصلع حماد.
قرر وقتها النزول غدا حاسر الرأس، معرّفا بشخصيته الجديدة. خاطب نفسه أمام المرآة هيا يا حماد أجعلها تستحق إذن هذه الصلعة.
ليس من السهل أن يكون المرء أصلعا أنه أمر لا يناله إلا محظوظ مثلك.
ثم جلس وقد قرر أن يدافع عن موقفه أمام هولاء الجهلاء والسطحيين و لكي يميّز نفسه عن الآخرين، كتب حكمته الأولى كأصلع.
"إنّ رأسا صلعاء دون أن تكون مدججة بالعلم والبراعة هي محض عورة".
الشمس تبدو غاضبة اليوم فهي الأخرى أنثى متعالية و إنفعالية جداً. لا يعرف معنى حرارة الشمس إلاّ أصلع مثله، فمخه ينضج الآن من فرط السخونة، لقد بدأ الجزء الأمامي من رأسه في الإنتفاخ كإستجابة للغليان تحت الفروة الشيء الذي مدد الموضع الذي يجمع الشعيرات الثلاثة فتفرقت تسبح في العرق الذي ينضح من فروة رأسه العارية واللامعة كوهج الليزر في عتمة حالكة.
ليست الشمس وحده ثائرة اليوم فبينما كان يمشي داسا صلعته تحت قبعة كبيرة من السعف؛ تراءى له إعصارا يهبط عموديا من السماء ضاربا في الأرض بقوة هائجة يكاد يخترقها عبر إندفاعه اللولبي، يقترب عمود الإعصار منه رويدا ررويدا أشاح بوجهه عنه وهو يردد (محمد معانا ما تغشانا) إلاّ أنه غشاه و طارت قبعته مع هبوب الريح.
تقول الأسطورة أن الإعصار في حقيقته شيطان؛ فإذا ما ولجت قلب الإعصار وتمكنت من طعنه فإن دما سينزف منه ويتوقف. لكنه لا يفكر في إيقاف الشيطان بقدر ما يفكر في قبعته التي لا يمكنه مواصلة مشواره بدونها فعاد إلى البيت غسل نفسه من تراب الإعصار ليفاجأ بسقوط شعرتين من رأسه، جلس مهبطا يحتضن جمجمته بكفيه شاردا بنظره نحو الأرض، أدخل العدسة المكبرة بإحباط إلى صندوق تراثه من الأمشاط وماكينة الحلاقة والمقصات.
بعد أسبوع قضاه حابسا نفسه بالبيت متحاشيا الشمس الغاضبة والريح الثائرة، وقف أمام المرآة يحدق بإهتمام إلى سبيبته الأخيرة. خاطب فروته العارية؛ هيا يا قمحاتي، هيا لا تخجلي، أخرجي أريني إياكِ أيتها العنيدات، أما كفتك كل هذه البرودة لتنبتي هيا هيا.
ما زال يفحص بالعدسة المكبرة كالباحث عن كنز عظيم لكنه لا يعلم أنه ما بقى من عمر شعرته الأخيرة إلاّ كظمءِ الحمار؛ فلقد إنتفخت البصيلة الدهنية تحتها وهاهي بارزة إلى الأعلى توشك على السقوط، تغير لونها من الأسود إلى البني وهي آخر مراحل التدهور مع أقل هبة ريح أخرى سيسقط آخر ما تشبث برأسه من جنس الشعر لقد كانت وفية كفاية، آزرته حتى الآن لكن شيئا لم يحدث، لم تنبت رفيقاتها مجدداً لقد انقطع نسلهن أو بالأحرى كانت الرأس عاقرا لم تجدي كل تلك المحاولات التي قام به مؤخرا لم تنفع المراهم الكثيرة وعمليات المناورة التي يقوم بها من لدن رامية الودع التي أرسلت ضحكة مجلجلة عندما سمعت طلبه الغريب، مرورا بالعطّار، شيخ المسجد و رتل من نصائح أصدقاءه ومعارفه إلى أخصائي الجلدية و إنتهاءً بزراعة الشعر التي فشلت هي الأخرى في بث الحياة على بور هامته، كانت عظام جمجمته الناتئة كصخورة حادة تلفظ كل ما يغمر به رأسه الجرداء القاحلة مثل صحراء مقفرة و خالية من الحياة.
كان حريصا على وضع القبعة و أحيانا يضع عليها العمامة البيضاء الكبيرة يستر بها عورته التي تعرت بشكل قبيح ومخجل. كان لوقت قريب يمنّي نفسه ويرى بخياله زغيباته الثلاثة يتكاثرن ويملأن هامته يصرن قويات لامعات، لكن الواقع الماثل أمامه الآن هو الحقيقة الوحيدة التي لا مفر منها.
أكثر ما يزعجه هي وعورة اللغة وسوقية العبارات التي يطلقها بعض الأطفال والجهلة عليه (حماد اب صلعة) كانت هذه العبارة تثير إشمئزازه وتخرجه عن طوره يحاول الرد لكنه يدرك كم واسع هو البون بينه وهؤلاء فهم لا يفقهون شيئا مما سيقوله، معنى أن تكون أصلعا معنى أن يتواضع مجرد (صوف) وينزل من فوق هامتك إكبارا لك، من سيدرك حقيقية كهذه وبأي لغة يوصلها لهم فيأكله الصمت ويتجاهلهم.
إنها ليست المرة الأولى التي يفقد فيها شعره حدث وقد فقد كل شعره حتى الشعيرات الدقيقة بداخل أنفه قد فقدها ذات مرة عندما كان جنديا انقطع به السبيل في الغابة كاد يهلك جوعا لولا تلك الشجرة التي تناول أوراقها ولكنها جردته من شعره تماما إلاّ أنه نما مجددا، وقتها تعاطف الناس معه وطمأنوه بأنه سيستعيد شعره مجددا؛ تساءل لماذا لا يشجعوني الآن هل لأني تركت الجندية وصرت رجلا عاديا لا أملك أية سطوة عليهم هل كانوا ينافقوني وقتها أم ماذا؟
بعد أسبوع نزل يتجول في أزقة الحي متحاشيا التجمعات الهازئة في طريقه. وقع على نظره صالون الحلاقة الذي كان يرتاده قبل زمان لا يذكر كم عفا عليه من زمن، أحس بإشتهاء عارم يجتاح رأسه حد التنمل، لقد وحشه صوت المقص وهو يعمل فوق رأسه وحشته ذبدبات ماكينة الحلاقة الكهربائية. غلبته رغبته فوجد نفسه جالسا على كرسي الحلاّق وهو يقول له خففه قليلاً لو سمحت. ضحك الرجل من ظرافته إلاّ أنه ألح متوهطا في الكرسي، قال جادا قلت لك خففه. أمسك الحلاّق بشعرته الوحيد وجذبها فإنسلت بيده قال له هل تقصد هذه؟!
لما رآها هامدة على راحة الحلاّق هاجت أمعاءه واصدرت صوتا مفرقعا، نهض بغضب أخذ الشعرة التي وضعها الحلاقة على راحته نفث هواءً ساخنا وقال له: لقد جعلتني أصلعا أيها الأرعن.
مساءً أخذ الشعرة الساقطة بيده كانت باهتة ومرهقة لقد أعياها الوقوف وحيدة هو لا يدرك ما تعانيه لا يدرك كم هو قاسي أن تجادل وحيدا. وضعها على دفتر مذكراته ثم أعترف لنفسه أمام المرآة التي أمامه أنت أصلع يا حماد.
نعم أقر بذلك أنا أصلع لكن ليس كل أصلع حماد.
قرر وقتها النزول غدا حاسر الرأس، معرّفا بشخصيته الجديدة. خاطب نفسه أمام المرآة هيا يا حماد أجعلها تستحق إذن هذه الصلعة.
ليس من السهل أن يكون المرء أصلعا أنه أمر لا يناله إلا محظوظ مثلك.
ثم جلس وقد قرر أن يدافع عن موقفه أمام هولاء الجهلاء والسطحيين و لكي يميّز نفسه عن الآخرين، كتب حكمته الأولى كأصلع.
"إنّ رأسا صلعاء دون أن تكون مدججة بالعلم والبراعة هي محض عورة".