عبدالله عيسى - في ذكرى النكبة: مازلنا أحياء نروي ونذكر

في ذكرى نكبتنا الكبرى ، نحن الفلسطينيين الّذين خصٌنا الله منذ بدء الخليقة بأرض المحبة والسلام الإلهيّين ، حيث أقام العابرون ، الخارجون من أسفارهم القديمةِ بشهوة القتلِ المقدّس ، دولتَهم على أجساد قتلانا الّذين لاتزال صورهم تروي ما قالت المجازرُ في ذاكرتنا الجمعيّة ، وعلى صرخاتِ الملحِ ، ملحِ الأرضِ المكلومِ ، في دمِ جرحانا المطلّ على باحة الأبدِيّةَ ، وعلى أنّاتًِ مشردينا ، الّذين اصطلح العالم على تسميتهم باللاجئين ، وهي تقضٌ في مخيّمات اللجوء والشتٌات مضاجع العواصم الكبرى بحلم عودتنا.
نروي لنذكُرَ .
ولهذا كلّه : مازلنا أحياء.
لم نعتب ، منذ آلاف السنين ، نحن الّذين كنّا نربّي الماء في قاماتنا العالية ، على النهر الذي عبر بهم إلى أرضنا ، أرض اللبن والعسل ، ليسطوا على لهجةٍ من لغتنا الكنعانية الأولى يرطنون بها سِفر العهد القديم في الهواء الطازج الّذي ما يزال يشبه صلة الرحم بين مدننا ، من السيدة الأولى لمدن العالم - أريحا حتى روح مدن الأرض قاطبة منذ لفظة الخلق الأولى - القدس ، حتّى عاد أحفادهم ليرقصوا بأسلحة عمياء على جثث قتلانا في قُرانا ، من دير ياسين حتى كفر قاسم ، ويبتروا أصابع جرحانا وأسرانا خشية أن يكتبوا بماء الحياة نشيدنا الأبديٌ في مواجهة صرخة الجنديّ الإسرائيليّ المقنّع بوصايا ربّ جند العهد القديم : إحصدوهم.
نروي لنذكُرَ ، ولهذا مازلنا أحياء.
ولم نشكُ صحراءنا التي دلّت نجومها علينا ، بعد أن تاهوا فيها أربعين سنة ، إلينا .
نحن الّذين رفعنا " إيل" درجات على آلهة الخلائق ، ليصارع يعقوب باسمه أحد الملائكة ، فينتصر به عليها ، فيسمّى اسرائيل ، حتى ارتدّ أبناؤه : بنو اسرائيل الّذين ما إن دخلوا قرية في أرضنا حتى أفسدوها ، وأعلى
كتبتهم وفرّيسيٌوهم المراؤون ، ملكوت السموات علينا ، ليقتنص ، من تاريخنا الموصول بالأبدية من لفظة التكوين ، لهم الرواة ومؤوّلو الأخبار مملكة قاتلةً للأنبياء وراجمةً للمرسلين منقسمةً على ذاتها ، لم يقم حجرٌ على حجرٍ بها أكثر من سبع عقودٍ ، لم تجد حنكة علماء الآثار أثراً لهم فيها.
نروي لنذكُرَ ، ولهذا ما زلنا أحياء.
ولم نَلُمْ ،جدّنا الفينيقيّ ، القادم من صلب الكنعانيّ الأول ، الّذي علّم الأجناس ما لم تعلم من فنون صناعة السفن ، حتى أتتْ من شتاتِ الأرضِ كاملة بأحفادهم الخارجين من مراسيم الخِتان في الأسفار القديمة ، بعد سبيين وتدمير هيكلين ِ و مذبحتينِ ، ليحتلّوا المكان والزمان ، مكاننا وزماننا نحن شعب هذه الأرض وسكٌانها الأصليّون ، الفلسطينيَينِ بأجسادهم الثقيلة بأحمالٍ عسِرةَ الحمل من دماء قتلانا وأنّاتِ عذاباتنا ، وخرافتهم الزائفة القائمة على شعب بلا أرض لمحو سيرة جسدنا الأبدِيّةَ في روح الأرض المقدسّة التي لا تدّل على سوانا في روايتها ، الّتي تشبهنا ، المفتوحة على السلام والحبّ الإلهيّين.
نروي لنذكُرَ ، ولهذا ما زلنا أحياء تماماً.
جاؤوا من بحار الأرض جميعاً ، بألوان وألسنة وروائح مختلفة ، متّكئين على عين عطف بريطانيا العظمى ، بوعد رئيس وزرائها بلفور المشؤوم عام 1917 بناء وطن قومي لليهود على أرضنا ، بأن حمت قوافل هجراتهم غير الشرعيّة ، وقمعتْ انتفاضات أهل الأرض التاريخيّين بالدم والنار ، ورعت عصابات الهاغانا وشقيقاتها الصهيونيّات المدربّات على القتل ، ثم تركت لهم سلاح دولتها العظمى ، لتمتهن معهم قتلنا ، وهي الدولة المنتدبة التي تتحمل المسؤولية التاريخيّة والأخلاقيّة ، ومن والاها من الدول القريبة والبعيدة ، على تراجيديانا الطويلة ، منذ استخدامها الطائرات في المسجد الأقصى ، ثلاثينيات القرن العشرين ، لتصفية الثائرين على حلولها اللاشرعيّ على أرضنا وسماحها لمكوث اللاجئين اليهود بيننا ، حتى مأساة مخيم اليرموك المحاصر بالجوع والإرهاب والقتل ، وهو الحالم لايزال بالعودة.
نروي لنذكُرَ . ولهذا ما زلنا أحياء كما لا يشتهي أعداؤنا.
لم تفسح أسلحتهم الطويلة العمياء المؤيّدة ، مثلهم ، بمهنة القتل المقدّس ، الوقتَ لأحدٍ من سكّان أكثر من خمسمائة قرية دمّروها عن بكرة أبيها أن يشهد مجازرهم فينا .ولم يأذنوا لأحد ، من أكثر من سبعمائة وخمسين ألف تشرّد منّا في شتات الأرض تحت وطأة إرهابهم وتقتيلهم ، أن يودِع أسراره في بئر بيته القديم أو يودّع البيوت ذاتها ، وأشجار الزيتون أو التين الّتي تحرسها ما تزال بعد رحيله .
لكنّه ، اللاجئ في مخيمٍ أو المنفيّ في آخر الأرض ، المطارد أو المقتول بعملية اغتيال من الموساد لأنه حامل مشكاة ذاكرتنا الأبديّة ، أو مجزرة من جيش الاحتلال ، أو سواه بعد حروب على مخيّماته الّتي احتفظت بزيت الزيتونة حارسة حلمه الأبديّ ، ما زال يفرِك بأصابعه مفتاح حالماً معه بالعودة .
نذكُرُ ، أيها القاتل العدوّ، أسماءهم واحداً واحداً ، وقد حمل لواءهم العالي درجات على أقرانهم من شعوب الأرض : كمال ناصر ، كمال عدوان، غسان كنفاني ، ماجد أبو شرار ، عز الدين قلق ، ناجي العلي ، وآخرون يروون لنا لنذكُرَ .
ونعدّد عليك ، أيها الجنديّ العدوّ ، المجازر الكبرى : مخيم رفح ، خان يونس، مخيم الكرامة ، عين الحلوة ، صبرا وشاتيلا ، جنين ، وأخواتها.
ولهذا نحن أحياء بما يغيظ أعداءنا . نروي لنذكُرَ.
من بقي منّا هناك على أرضنا ، مثلنا ، أيضاً ينتظر العناق حين نعود .
شقا برتقالة نحن ، حزّتها سكّينك المثلومة الّتي جعلت خشب غصن اقتلعته ، أيها المحتلّ، من زيتونة تحرس بيتنا القديم مقبضاً لها .
بالدم الأعزل ، كسماء ظلّلت درب آلام السيد المسيح من باب الأسباط إلى كنيسة القيامة ، يتشبّثون بأرضهم المقدّسة ، ويحمون بالميجنا مقتنياتها من صيحتك المهاجرة في المزامير القديمة المتورّطة بمكيدةِ أنّك ، باسم ربٍ اصطفيتَ ليختاركَ علينا جميعاً ، وريث الأمم ومالك الأرض حيث وطأتها قدماك الثقيلتان.
قلنا لكَ ، مذ خرجتَ من التلمود بحُلّة ربّ الجندِ وسواطيره الّتي عمِيت بدماء ضحاياها ، : هذه الأرض كلّها بيضاء من غير سوء .
فلا تصدّق وعده بمدننا العظيمة الّتي لم تبنها ، وآبارنا الطيبة التي لم تحفرها ، وبزيتوننا وكرومنا الّتي لم تغرسها.
لكنكَ أردتَنا موتى كي ترطن أسماء شوارعنا كلّها بلكنتك العابرة مثلك ، وتنال ماء آبارنا كلّها كالأشباح التي سرقته ، مثلك ، بعد رحيلنا ، وتأكل وحدك زيتوننا وعنبنا بأسنانك الكبيرة التي تعضّ على دمنا ، ليس من ندمٍ.
وقلنا لك لا تقتلنا ، كي تعيش بسلام على أرضنا ، لكنّ غريزة القتل انتصرتْ على تقنعّكَ ، بحجة أمنكَ الشخصيّ ، بملامح ضحايا الهولوكست العصريّ.
ولهذا نحن أحياء كما نشتهي ، نروي لنذكُرَ.
ونعد عليكَ خطاياك في دمنا ، نحن الّذين نقوم من بين المجازر الّتي أعددتها مسبقاً لتُدقّ أسماء ضحاياها وأوصافهم أوسمةً على صدر بزّتكَ العسكريّة : مجازر القدس وحيفا ، والعباسيّة في يافا ، وعرب الخصاص والأرغون ، والرملة ومنصورة الخيط ، والطيرة وسعسع والقيساريّة ، ووادي عارة والحسينيّة وعين الزيتون في صفد ، واللجون في جنين ، وناصر الدين في طبريا ،وبيت دارس في غزة ، وأجزم وبئر السبع والمجدل وأسدود ، وصفصاف ومجد الكروم ودير الأسد ودير أيوب ، والدير والبعثة ، ومجد الكروم وأم الشوف ، وبيت لحم وبيت جالا ، و القوبية وقلقيليا ، والحرم الإبراهيمي والمسجد الأقصى .. ومجازر أخرى تذكرها لأنّ قتلاها أيضاً يزورنك في الليل ليفسدوا نومكَ.
ولهذا نحن أحياء كما يليق بنا ، لنروي ونذكر.
قد نسامح أيدينا أنّها مدّت سلاماً طيباً عليكََ ، أيها الجنديّ ، ووهبناك أطيب ما في أرضنا لنظلّ أجمل منك في المرايا ، لكنّنا لن نغفر لك أنّك رددتَ علينا سلامنا بقتلِ أجملنا : ياسر عرفات ، أحمد ياسين ، أبو علي مصطفى ، محمد الدرة ، إيمان حجو ، علي الدوابشة ، وكثيرون آخرون يشبهونهم. بنا ، ولم تسمح لأطفالنا أن يلعبوا ، أسوة بأطفالك ، في باحة أحلامنا.
قلنا لك : قد نحبّ أبناءك ، فلا تربّي أعمارهم على كراهية الماء في أصلابنا.
قلنا لك : نحن أشبه بالوعل في الغابة مذ جئتَ إلى أرضنا ، لكنّك لن تذهب إلى المستقبل وحدك دوننا . يقول التاريخ وتشهد الجغرافيا ، فيما ما تزال تقطن في وصايا العهد القديمة.
وقلنا لك : أنّنا مثل الطير يحبّ حريّته حتّى بين سهامك المسدّدة إلى صدره الّذي يعلو ويهبط كموجة في بحر غزّة بالهواء الطازج الّذي لم تفسده بعد بأنفاسكَ الثقيلة بآهاتَ قتلاكَ في الريح ،
فحرّر أسرانا من عتمة سجونكَ وفكرتكَ الغامضة في سفر الخروج ، لنصدٌق أنّك مثلنا تحب الشمس.
ولأننا أحياءَ ما استطعنا إلى ذلك سبيلا ، نروي لنذكُرَ.
كما نحن من قبل ، ومن بعدُ.
لم نكن نطفئ نارنا على الجبال ليأنس بها القادمون إلينا بحثاً عن تفاحة المعرفة ، وعابرو السبل المؤديّة إلى حجر الرؤيا ، وضيوف السير العابرة ، والشعوب التي أخذت عنّا حكمتنا في تعليم ممالك النحل الحراسةَ واللقاح ، ِو البداوى المجاورون لنا فنّ تربية المواشي . لكنّ ممتهني الحروب من الطغاة ِ ، و طرٌاق الليالي من العصاةِ ، وهواة التجوّل في غرف الموتى من الرواة ، لم يكتشفوا أنتا ، نحن الفلسطينيّين ، أشبه بالبحر الميت ، لا يمكن دفننا.
نروي لنذكُرَ ،
نروي لنذكّرَ،
لهذا ما زلنا أحياء.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى