د. حسين سرمك حسن - علي الوردي : (2) دور وعّاظ السلاطين في ازدواجية الشخصية العراقية

(بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ ، فطوبى للغرباء من أمة محمد ))
النبي محمد ( ص )

(( إن النفس البشرية تهوى الإيمان بدين ، فإذا فقدت دينا جاءها من السماء التمست لها دينا يأتيها من الأرض ))
( علي الوردي )


(( يقول علي بن الحسين : ( إياك وظلم من لا يجد عليك ناصرا إلا الله ). وقد دل التاريخ أن الطغاة الذين يظلمون المساكين ، آمنين من انتقامهم ، لابد أن يأتيهم من يظلمهم ولو بعد زمن طويل . فالمظلوم الذي لا يملك سلاحا ماديا ينتقم به ممن ظلمه قد يملك سلاحا أمضى من السلاح المادي – هو سلاح النفس المكوّن من الدعاء الملتهب والصرخة الملهوفة التي تصعد إلى السماء كالشرارة . إن المتعلمين حين يحتقرون من هم دونهم في العلم ، والأغنياء الذين يحتقرون الفقراء ، والجلاوزة حين يحتقرون البؤساء من أبناء الشعب ، إنما يكشفون بذلك عن ذلة أنفسهم وما في أغوار عقولهم الباطنة من شعور بالنقص دفين . وهذا النقص لابد أن يقضي عليهم عاجلا أم آجلا ، ولاريب، لأن القوى النفسية ، أو صرخات المظلومين ، إذا اتجهت على ظالم أحرقته حرقا ))

( علي الوردي )

( كتاب خوارق اللاشعور – 1952 )

من مرتكزات الدور الفكري الريادي والتنويري للوردي هو إعادة القراءة الثورية لوقائع التاريخ العربي الإسلامي من ناحية ، والمراجعة الثورية للتراث العربي الإسلامي من ناحية أخرى مكمّلة . وهاتان المهمتان مترابطتان وقام بهما الوردي في كثير من الأحوال بصورة متظافرة وخلاقة . وقد بدأت بوادر هذه المراجعة لدى الوردي بصورة مبكرة حيث أشار الدكتور ( عبد الأمير الورد ) في مقدمته لكتاب ( سلام الشماع ) : ( من وحي الثمانين ) إلى " كلمة ألقاها الوردي في الحفل الكبير الذي كان يقيمه عزاء الشباب ويرعاه السيد "هبة الدين الشهرستاني" وتنقله الإذاعة العراقية في صبيحة اليوم العاشر من المحرم في الصحن الكاظمي ، عنوانها : " لماذا نمجد ذكرى الحسين ؟ " . وأتذكر مقالة اجتماعية نشرت له عنوانها : ( بين اليزيدية والعلي اللاهية ) في مجلة عالم الغد البغدادية ))(1) . ثم ظهرت ميول المراجعة النقدية هذه بصورة أولية في محاضرته الأولى : شخصية الفرد العراقي ، ففيها قدم الخيوط الأولية والأساسية التي نسج منها حزمة الأفكار التي تطوّرت واتسعت وتشابكت في مؤلفاته اللاحقة . وفي مجال المراجعة النقدية للفكر والتاريخ الإسلاميين أشار في هذه المحاضرة إلى فشل رجال الدين في دراسة شخصية الإنسان دراسة واقعية رغم إدراكهم أن النفس الإنسانية هي ميدان لنزاع مرير بين هدى الله ونزغات الشيطان . وكان فشلهم راجعا إلى أن دأبهم كان الموعظة والإرشاد ، وأن ينصحوا الإنسان بأن يكون عاقلا أو خيّرا من غير أن يقفوا لحظة يبحثون فيها عن السبب الذي جعل كثيرا من الناس منجرفين مع تيار العاطفة متنكبين عن طريق العقل ، أو بعبارة أخرى : متبعين لأوامر الشيطان تاركين أوامر الرحمن ))(2) .

وقد تحدث عن التنويم المغناطيسي وضرب مثلا تحرّشيا موضوعه رجال الدين قال فيه : ( يُقال أن أحد رجال الدين المتزمتين نُوِّم ذات مرّة [= تنويما مغناطيسيا] وأوحي إليه أثناء النوم أنه إذا سمع دق الساعة بعد استيقاظه فإنه يجب أن يلقي عند ذاك خطبة رنانة في مدح الكفر والزندقة . فلما استيقظ هذا الرجل المتزمت جلس كعادته يتحدث ولكنه لم يكد يسمع دقة الساعة حتى قام ناهضا وأخذ يلقي خطابا حماسيا في مدح الكفر كما أوحي إليه أثناء النوم . وبعد انتهائه من القاء كلمته سأله أحد الحاضرين عن علة ما شوهد فيه من تناقض . فأخذ صاحبنا المسكين يأتي بالحجج والبراهين القاطعة أنه لم يناقض نفسه ، وأن ما عمل هو الصواب ، وأنه لم يقصد إلا الخير . وربما أيّد قوله كعادته بنتف من الحديث وما تيسر من آي القرآن الكريم ))(3) .

ويمكننا أن نعد هذه الحالة من الحالات الإستثنائية التي يقوم فيها محاضر في مناسبة عامة بطرح مثال ساخر عن رجل دين ، يوضع في اختبار محرج يجعله هدفا لسلوك صارخ التناقض مع الصورة المرجعية التقليدية الراسخة في نفوس الحاضرين الذين يدعوهم الوردي إلى أن لا يسخروا منه فهو " مسكين " :

( لا تسخروا من صاحبنا هذا ايها السيدات والسادة ، فكلنا مثله ... نفعل بناء على ما يوحي به إلينا المنوّم الأكبر، أي المجتمع ، ثم نأخذ بعدئذ كذلك المتديّن المسكين ، نبحث عن المعاذير ) )(4) .

وحين ينتقل من دراسة الشخصية البشرية بشكل عام إلى الحديث عن شخصية الفرد العراقي ، ويشير إلى سمة الإزدواج في الشخصية العراقية ، يكون مدخله التطبيقي هو السلوك الديني الملتبس والمتناقض للمواطن العراقي ، والذي يثير الدهشة لدى المراقب الذي يتوقع تجانس تعبيرات هذا السلوك مع هوية المجتمع القيمية والدينية :

( زارنا من إحدى الأقطار العربية كاتب ، ذات يوم ، وكان الوقت رمضان ، فعجب من شدة تمسكنا بمظاهر الصوم من ناحية ، ومن كثرة المفطرين بيننا من ناحية أخرى . وربما لا نغالي إذا قلنا بأن المسلم العراقي من أشد الناس غضبا على من يفطر علنا وهو من أكثرهم إفطارا ! وكذلك يمكن القول بأن الفرد العراقي من أكثر الناس حبا للوطن وتحمسا لخدمة العلم ، بينما هو في الواقع مستعد للتملّص من خدمة العلم إذا آن الأوان . إنه أقل الناس تمسكا بالدين ، وأكثرهم انغماسا في النزاع بين المذاهب الدينية . فنراه ملحدا من ناحية ، وطائفيا من ناحية أخرى . وقد يلتهب العراقي حماسة إذا انتقد غيره في ما يخص المباديء السامية أو رعاية العدل والعفو والرحمة ، ولكننا نراه من أسرع الناس إلى الاعتداء على غيره ، ضربا ولكما ، حالما يرى الظروف مناسبة ))(5) .

وبعد أن يتحدث عن دور الموجات البدوية المهاجرة والغازية القادمة من الصحراء إلى العراق وهو الأرض الخصبة الممرعة ، وتنامي صراع قيم البداوة والحضارة فيه منذ أقدم العصور ، يؤكد أن هذا الازدواج قد بلغ الذروة في العصر العباسي ، ويرى أن لرجال الدين – الذين سيسميهم "وعاظ السلاطين" في كتابه المقبل الذي يحمل العنوان نفسه – والمثقفين دور في ذلك :

( أصبحنا نعيش في عالمين متناقضين : عالم الفكر المثالي من ناحية ، وعالم الفعل الواقعي من ناحية أخرى . فأصبح أحدنا يجادل على أساس المنطق الأرسطوطاليسي والمثالية الدينية بينما هو في الواقع من أبناء هذه الدنيا غضوبا حقودا . ومن العجيب حقا أن نرى بين مثقفينا ورجال الدين فينا من يكون ازدواج الشخصية فيه واضحا : فهو تارة يحدثك عن المثل العليا وينتقد من يخالفها ، وتارة يعتدي أو يهدّد بالاعتداء لأي سبب يحفزه إلى الغضب ؛ تافه أو جليل ، ضاربا عرض الحائط بتلك المُثُل التي تحمّس في سبيلها قبل ساعة )) (6).

ورغم أنه لم يتوسّع في شرح العوامل المرتبطة بالفكر الديني وبالتاريخ الإسلامي ، تلك التي عزّزت الازدواجية وذلك بسبب طبيعة المناسبة التي طرح فيها آراءه وهي محاضرة عامة محدودة الوقت ، إلا أنه كان يتحدث عن دور رجال الدين الصارخ في تعزيز هذه الازدواجية وفي تعزيز السلوك المتناقض ، بصورة واضحة لا لبس فيها ، بمعنى أننا إذا رأيناه يصف شريحة رجال الدين التي تعضد الطغاة وتمعن في إشاعة الرضوخ بين العامة ، بأنهم ( وعاظ السلاطين ) في كتابه المقبل فيستثني بذلك شريحة أخرى منهم تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر حتى لو تحملت جور الطغاة ، فإنه هنا ، وفي أول مناسبة عامة يواجه فيها الجمهور وقد تفرض عليه اعتباراتها شكلا مخففا من الطرح ( الدبلوماسي ) لأفكاره ، يتحدث عن دور رجال الدين بإطلاق ، كعامل أساس في شيوع الازدواجية في المجتمع العراقي ، والتعاون مع الفئات المتسلطة عليه . وهو ، كما تشير الفقرة التي سننقلها تاليا ، يجعل هذا الداء الازدواجي نتيجة متوقعة لسطوة التعاليم الدينية على حياة الأفراد ، والتي يحشو بها رجال الدين عقول الناس بصورة متكررة كواجب روتيني منفصل عمّا يترتب عليهم من مسؤولية اجتماعية . إنه يرى بأن تكرار هذه المواعظ والتعاليم والإرشادات لا يمكن أن يلغي حقيقة قوّة الجانب الغريزي في النفس البشرية الذي يحاول رجال الدين عبثا إلغاءه بل حتى تطويعه . إن هذا الجانب يمكن أن يستتر تحت وطأة الدين وتوجيهات رجال الدين المثالية ، لكنه يظل يعمل من وراء ستار أحيانا ومباشرة حينا مستثمرا حتى التعاليم الدينية كغطاء في بعض الحالات :

(.. ومن هذا قيل إن حماسة العراقيين كنار الحلفاء لا تكاد تلتهب حتى تخمد ؛ تلتهب مع المثال وتخمد مع الواقع . ولعلنا غير مخطئين إذا قلنا بأن هذه النزعة " الحلفائية " تنتشر في كل مجتمع ديني تسيطر فيه مباديء الدين وتبث منه تعاليمه . ومن الملاحظ أن كل مدينة يكثر فيها رجال الدين ينتشر فيها أيضا ازدواج الشخصية على درجة كبيرة . ذلك لأن الإنسان في هذا المجتمع مضطر أن يكون دينيا في ناحية من حياته ودنيويا في ناحية أخرى . ورجل الدين عادة يحترف بث التعاليم الدينية . فهو يبثها قولا ويقبض على ذلك أجرا ؛ ولكن هذا الأجر يدفعه في الغالب أناس بعيدون عن تعاليم الدين في أعماقهم . ورجل الدين مضطر إذن إلى أن يجاري هؤلاء فعلا ويناقضهم قولا . وكثيرا ما يقع في مآزق حرجة للغاية نتيجة هذا التناقض .. ولا حول ولا قوة إلا بالله )(7) .


25.11.2014
د. حسين سرمك حسن
أعلى