كانت نكهة صباي مميزة ببساطتها وهدوئها ، وتلك الميزة اليتيمة تعود للقرية بطبيعتها الجغرافية وخضرتها بكل وديانها وينابيعها الخلابة وبحرارة شمسها وسواد لياليها قبل ان تتزين بإضاءات النجوم والشهب وقمر عروس دائم.
كنت الهو والعب مثل جميع الصغار ، ارتاد المدرسة وارعى الغنم حينا ، لقد كان الامر أشبه بسعادة ابدية ستدوم للابد ، لم اكن بحاجة لكثير من الطلبيات كما عند اطفال اليوم ، ولم يكن بحوزتي سوى لعبة وحيدة ، كنت اعشقها حد الجنون وهي لعبتي المفضلة (كرة شراب ) ، حلما ان امتلك كرة قدم حقيقية في يوما ما ،وتلك ايضا كانت مرهونة بالأيام والسنين ،اذ ان الامر يستغرق اعوام من ان يحصل طفل هدية مختلفة عن عادات وقدرات المجتمع القروي ، وببساطة الصعوبات التي كانت تلوح في جبين الوالدين (امي وأبي) ، كنت سعيدا بما املكه ، وطبيعة المنطقة الرائعة بضحكات الكبار في حوش العمدة وجلسات العجزة في وقت العصرية والمغربية يمسكن احفادهن ويرسمن الابتسامات في وجوه المارة قبل الحاضرين من النساء والفتيات والاطفال الذين يشاركنهن الجلسة ، عدت الايام بسرعة شديدة بين المدرسة والرعي وما بين اللعب والذهاب الى الوديان ، زدت عمرا مناسبا غير مبالي بما يحدث وما حدث فعلا ان الطفولة البريئة لم تكتفي بتلذذها حينما نزعتها الحروب والنزوح ، سرقت منها ابتسامة الوالدين وجلسات العجزة والكبار ، وشردت الطفولة مبكرا قبل اوانها وان لم يكن للتشرد اوان ، لكنها تؤذى الصغار وتغيرهم لأناس قساة القلوب والحب ، بفعل الضغوط ومأساة التشرد . والحرب لعينة تصيب كرهها وانتهاكاتها اكثر بسمات الاطفال الغلابة وهم يتذكرون ابسط ما يملكون وهي عناقريبهم (سرير) الرديئة ، يتشردون في رقة ما من الجغرافيا يحضنون اكوام القشوش والحجار ، يتوسدون نعالهم (احذية) يضمون صدور الامهات الباكيات بموت ذويهن ، معاناة الترحال المتواصل تاركين بيوت اسكنوها منذ الازل بل هم من اقاموها وانشئوها .
كنت صبيا دون العاشرة حينما اشعلت نار الحرب ولم اكن ادرك ماذا يعنون بالحرب ، كنت فقط افهم انه اخلاء اضراري بل قوة لبيتنا التي ولدت فيه ، والتي كنت العب جل وقتي بين حوشه الكبير ، وحدث ان فعلناه حين اخلينا بيوتنا وتركناها نحو المجهول والى تاريخ اخر . سألت امي ذات مرة وكانت ذلك في منتصف الليل بعد ان استيقظت بصوت امي المتردد الكاتم من البوح ، وهي تقول " يا ود قم تعال ؟ وما تنسى تشيل نعالك ، " نفذت اوامرها بدقة وفعلت كما قالت لي ، وجدت ساحة البيت ممتلئة بالجيران مليئة بالنساء وأطفال صغار بعضهم على ظهور امهاتهم واخرون يختفون خلف أمهاتهم ، والبرد قارص جدا ، سألت امي أين أبي؟ كانت تلك ابتدأت ، وحينها كانت والدتي تسرج الحمار ولم تبادر بقول شيء حيال سؤالي ، بل طلبت مني ان أركب الحمار ، ركبتها على مضض ، وسرنا نحو الجبال تاركين القرية وكأننا لصوص تتعقب أثر فريسة جديدة ، سرنا ليل كامل وفي تلك الليلة لم انم ابدا كنت افكر في والدي كثيرا ،لماذا لم يأتي معنا لأني كل كلما اعتدت عليه ان والدي يركب حماره وتتبعه من الخلف امي ، يذهبان الوادي والزرع ، كانت تلك عادة اعتدت ولم يسبق لي ان رأيت ما نحن عليه الان ، بل الأحرى ما انا عليه الان ،اركب مكان والدي ، تلك كانت تفاصيل بسيطة حنونة خطرت بالي واشغلت خاطري بالحب والحنان. وكانت الحالة عمومية لدى الأطفال الاخرين حيث اننا كنا فقط اطفال وامهاتنا وجداتنا ،لم يكن هناك رجل واحد قط ، وصلنا منطقة ما تقع وسط الجبال والسحول ، قطعنا مشوار طويل بتعب وبجهد الصعود والنزول من الجبال ، وبمجرد وصولنا اختارت كل امرأة شجرة ظليلة وشيدت الخيام لصغارها ولنفسها، في وسط من الألم والخوف والموت الذي يطرق الابواب ، والاشواق التي لا بد لها ان تصمد طويلا ، فالوقت ليس مناسبا .
شدت والدتي خيمة صغيرة والتي ستكون بيتنا لمدة سنة وكذا اشهر لا اتذكر بالدقة عددها ، طبخت لنا عصيدة بملاح تقليه وسط فاجعة من بحور دموع ،وكانت تلك المرة الوحيدة والاولي رؤية دموع والدتي ففي السابق كانت والدتي تطبخ وهي اما تغني بعض اغنيات البلدية بلغتها ، يا اما تقص لي بعض قصص المغامرات وذكرياتها القديمة ، لقد كنت طفلها المدلل وابنها الاول لذا كنت احظ باهتمامها الدائم ، كنت اقض اياما لا افكر كثيرا حين اريد ان اضحك وابتسم او ابدوا سعيدا سوى رؤية امي لأرتمي في حضنها الأمن وحنانها الأبدي، لكن تلك العيون البريئة الجميلة تملؤها الدموع ، وصوتها الامومي والملائكي ،ها هو اليوم يتحول الى ضجة وسط هستيرية من البكاء والعويل رغم انها لم تكن تبكي بصوت عالي الا انها كانت تبكي بصوت مرتفع جدا داخلها ، كنت حينها اركل لعبتي ، وبعد سماع انينها جئت وجلست قربها صامتا لا اعرف ماذا افعل ؟ وماذا سأفعل ليس لدي أدني فكرة ان تركنا للبيت والمجيء إلى هنا ، ناهيك عن الحرب كما كانت الجدات تقولن لنا ، وحينما رأتني امي وانا انظر اليها بعيون يافعة ،عيون هادئة ضمتني في حضنها ، وفي تلك اللحظة نزلت دموعي بحرقة شديدة ،لقد بكيت وكأني لم يبكي يوما ، ولن أبكي مستقبلا .
عام ٢٠٠٣م
مانويل دينق
كنت الهو والعب مثل جميع الصغار ، ارتاد المدرسة وارعى الغنم حينا ، لقد كان الامر أشبه بسعادة ابدية ستدوم للابد ، لم اكن بحاجة لكثير من الطلبيات كما عند اطفال اليوم ، ولم يكن بحوزتي سوى لعبة وحيدة ، كنت اعشقها حد الجنون وهي لعبتي المفضلة (كرة شراب ) ، حلما ان امتلك كرة قدم حقيقية في يوما ما ،وتلك ايضا كانت مرهونة بالأيام والسنين ،اذ ان الامر يستغرق اعوام من ان يحصل طفل هدية مختلفة عن عادات وقدرات المجتمع القروي ، وببساطة الصعوبات التي كانت تلوح في جبين الوالدين (امي وأبي) ، كنت سعيدا بما املكه ، وطبيعة المنطقة الرائعة بضحكات الكبار في حوش العمدة وجلسات العجزة في وقت العصرية والمغربية يمسكن احفادهن ويرسمن الابتسامات في وجوه المارة قبل الحاضرين من النساء والفتيات والاطفال الذين يشاركنهن الجلسة ، عدت الايام بسرعة شديدة بين المدرسة والرعي وما بين اللعب والذهاب الى الوديان ، زدت عمرا مناسبا غير مبالي بما يحدث وما حدث فعلا ان الطفولة البريئة لم تكتفي بتلذذها حينما نزعتها الحروب والنزوح ، سرقت منها ابتسامة الوالدين وجلسات العجزة والكبار ، وشردت الطفولة مبكرا قبل اوانها وان لم يكن للتشرد اوان ، لكنها تؤذى الصغار وتغيرهم لأناس قساة القلوب والحب ، بفعل الضغوط ومأساة التشرد . والحرب لعينة تصيب كرهها وانتهاكاتها اكثر بسمات الاطفال الغلابة وهم يتذكرون ابسط ما يملكون وهي عناقريبهم (سرير) الرديئة ، يتشردون في رقة ما من الجغرافيا يحضنون اكوام القشوش والحجار ، يتوسدون نعالهم (احذية) يضمون صدور الامهات الباكيات بموت ذويهن ، معاناة الترحال المتواصل تاركين بيوت اسكنوها منذ الازل بل هم من اقاموها وانشئوها .
كنت صبيا دون العاشرة حينما اشعلت نار الحرب ولم اكن ادرك ماذا يعنون بالحرب ، كنت فقط افهم انه اخلاء اضراري بل قوة لبيتنا التي ولدت فيه ، والتي كنت العب جل وقتي بين حوشه الكبير ، وحدث ان فعلناه حين اخلينا بيوتنا وتركناها نحو المجهول والى تاريخ اخر . سألت امي ذات مرة وكانت ذلك في منتصف الليل بعد ان استيقظت بصوت امي المتردد الكاتم من البوح ، وهي تقول " يا ود قم تعال ؟ وما تنسى تشيل نعالك ، " نفذت اوامرها بدقة وفعلت كما قالت لي ، وجدت ساحة البيت ممتلئة بالجيران مليئة بالنساء وأطفال صغار بعضهم على ظهور امهاتهم واخرون يختفون خلف أمهاتهم ، والبرد قارص جدا ، سألت امي أين أبي؟ كانت تلك ابتدأت ، وحينها كانت والدتي تسرج الحمار ولم تبادر بقول شيء حيال سؤالي ، بل طلبت مني ان أركب الحمار ، ركبتها على مضض ، وسرنا نحو الجبال تاركين القرية وكأننا لصوص تتعقب أثر فريسة جديدة ، سرنا ليل كامل وفي تلك الليلة لم انم ابدا كنت افكر في والدي كثيرا ،لماذا لم يأتي معنا لأني كل كلما اعتدت عليه ان والدي يركب حماره وتتبعه من الخلف امي ، يذهبان الوادي والزرع ، كانت تلك عادة اعتدت ولم يسبق لي ان رأيت ما نحن عليه الان ، بل الأحرى ما انا عليه الان ،اركب مكان والدي ، تلك كانت تفاصيل بسيطة حنونة خطرت بالي واشغلت خاطري بالحب والحنان. وكانت الحالة عمومية لدى الأطفال الاخرين حيث اننا كنا فقط اطفال وامهاتنا وجداتنا ،لم يكن هناك رجل واحد قط ، وصلنا منطقة ما تقع وسط الجبال والسحول ، قطعنا مشوار طويل بتعب وبجهد الصعود والنزول من الجبال ، وبمجرد وصولنا اختارت كل امرأة شجرة ظليلة وشيدت الخيام لصغارها ولنفسها، في وسط من الألم والخوف والموت الذي يطرق الابواب ، والاشواق التي لا بد لها ان تصمد طويلا ، فالوقت ليس مناسبا .
شدت والدتي خيمة صغيرة والتي ستكون بيتنا لمدة سنة وكذا اشهر لا اتذكر بالدقة عددها ، طبخت لنا عصيدة بملاح تقليه وسط فاجعة من بحور دموع ،وكانت تلك المرة الوحيدة والاولي رؤية دموع والدتي ففي السابق كانت والدتي تطبخ وهي اما تغني بعض اغنيات البلدية بلغتها ، يا اما تقص لي بعض قصص المغامرات وذكرياتها القديمة ، لقد كنت طفلها المدلل وابنها الاول لذا كنت احظ باهتمامها الدائم ، كنت اقض اياما لا افكر كثيرا حين اريد ان اضحك وابتسم او ابدوا سعيدا سوى رؤية امي لأرتمي في حضنها الأمن وحنانها الأبدي، لكن تلك العيون البريئة الجميلة تملؤها الدموع ، وصوتها الامومي والملائكي ،ها هو اليوم يتحول الى ضجة وسط هستيرية من البكاء والعويل رغم انها لم تكن تبكي بصوت عالي الا انها كانت تبكي بصوت مرتفع جدا داخلها ، كنت حينها اركل لعبتي ، وبعد سماع انينها جئت وجلست قربها صامتا لا اعرف ماذا افعل ؟ وماذا سأفعل ليس لدي أدني فكرة ان تركنا للبيت والمجيء إلى هنا ، ناهيك عن الحرب كما كانت الجدات تقولن لنا ، وحينما رأتني امي وانا انظر اليها بعيون يافعة ،عيون هادئة ضمتني في حضنها ، وفي تلك اللحظة نزلت دموعي بحرقة شديدة ،لقد بكيت وكأني لم يبكي يوما ، ولن أبكي مستقبلا .
عام ٢٠٠٣م
مانويل دينق