أنس الرشيد - اللحظة العدميّة نبوّةٌ عارضة

قانون (الحسرة) بصفته عقلا كُليًّا يضبط الواقع المحسوس، تلك فلسفةُ حكيمٍ أُنيرتْ شموعُ منتدى الزَّهرة بورقته الفلسفية، حين جعل تطبيقات قانونه على (العشق والحرب) بصفتهما وجهان لعملةٍ واحدة، يقول هذا الحكيم في ورقته: " رُبَّ حربٍ جُنيت من لفظة، ورُبّ عشق غُرس من لحظة". ومن هُنا عَنْوَنَ الأصبهاني تلك الجلسة بعنوان ابتكره من وحي فلسفة ذلك الحكيم، حيث قال: " من كَثُرتْ لحظاتُه، دامتْ حسراته". أي أنَّ العشق/الحرب، عبارة عن لحظاتِ/ ألفاظ، شهوة متوالية، علامتها دوام الحسرات بصفتها واقعا، فيكون العقلي/الحسرة، واقعيًا/الشهوة المتوالية، ومادامت الشهوة المتوالية واقعية فإن الواقعي كذلك عقلي؛ لأن العقلي/ الحسرة كامن في جسد العالم، وليس خارجه.

ومن دقة الربط الفلسفي في تلك الورقة على شموع تلك الليلة، هو حين أُوْرِدَتْ قصةُ الفتاة التي كأن وجهها سيف صقيل، ومسافرةٌ في قافلة، فقالوا لها: إنّا سَفْرٌ، وفينا أجرٌ، فأمتعينا بوجهكِ. يقول أحدهم: فانصاعت وأنا أرى الضحك في عينيها.

السيف الصقيل/ الحرب، مُشَبّه به، ووجه الفتاة الجميل/ العشق، مُشَبَّه. وذلك في لحظة تلازم أبدي. العاشق محارب، والمحارب عاشق، والإمتاع والمؤانسة هنا هي اللحظات/الشهوة المتوالية، وأراد الحكيمُ في ورقته أن يُبيّن أن إمتاع الفتاة للذكور هي واقع محسوس، يقف خلفه عقل كلي يفسره هو الحسرة، ومن ثم فإن هذا الفيلسوف يزدري المرأة، ومثله الأصبهاني إذ اتفقت فلسفتاهما؛ إذ نلحظ هنا أن الأنثى/تمَتِّع، والذكر/يُمَتَّع، ولكن التمتع هذا يقف خلفه حسرة، فكما أن المحارب يتمتع بلحظات متوالية لانتصارات متعددة، لكنه سيصحو على صباح الموت، حين يرى أن جيشه فقد العشرات من أفراده، فإن العاشق/ وهو هنا الذكر فحسب، يتمتع بلحظات رؤيته لوجه هذه الفتاة، ورقصها، لكن سيعقب هذا حسرات من خلال فقده لها، أي فقد تلك الألفة/ الحب/ التعلق، بتلك الفتاة.

وهذا التشبيه الدقيق، بين الحرب والعشق، هو ما يجعل العشق عند الذكور ذكوريا، أي أن مظاهره ذكورية، فالتذلل للحبيب لا على سبيل الإعلاء التام للأنثى بكونها أنثى بل على سبيل التذلل المجازي/ الوهمي الذي يُشبه تنفيذ الأمير شؤونَ رعيته، ونزوله لرغباتهم، إذ لا يظهر هذا الأمر إلا بصورة أن هذا الأمير ازداد رفعة وعلو وعزة، حين نزل لرعيته!

أما التخلي عن الفعل الذكوري، فلوازم ذلك أن يُفَكَّ الارتباط بين العشق والحرب، ودون هذا الانفكاك حروب الذكوريين للظفر بانتصارات، ومنها الأنثى التي تبهجه بوجهها وتقضي له شهوته. والظفر بالأنثى يأخذ عدة صور تتضح في بعضها وتخفى في بعضٍ آخر، فالأصوليات في الأديان تتضح فيها، لكن الأيديولوجيات المناقضة لها في الغايات والوسائل والمتفقة معها في جذرية الحلول وقطعيتها فإنها لا تظهر بوضوح؛ ومِنْ أخفاها تلك الدعوة بتحويل الأنثى إلى ذكورية بشكلٍ من الأشكال من خلال هذه الثنائية الحرب/ العشق، وهي مع هذا لا تسلم من تحويلها إلى لحظة إمتاع فحسب في لحظات النوم مع الذكوري شريكها في الثورة مثلا، أو الحرب، أو نحو ذلك؛ إذ إن مفهوم العشق لم يتغلغل في مفاصل الحياة كاملة لديهم، أي ما زالت الحرب/ العنف/ الثورة/ الديكتاتورية المؤقتة أو الدائمة، ...الخ هي الحل في كل مفاصل الحياة، ومستقبل التاريخ.

ومِنْ هُنَا جاءَ مفهومُ الغيرة الذكورية، وهي مرتبطة بمفهوم السيادة الحربية، أي أنَّ كُلَّ بلدٍ له سيادة لا يمكن لأي دولة التعدي عليها. لهذا فالعشق لا يكون أنثويا إلا بالتخلي عن المفهوم الحربي للحياة، سواء في النظر لواقعه أو لمستقبله، أي سواء جعل الحرب وسيلة لانتصار أيديولوجيةٍ ما، أو أن الحرب/ الثورة/ العنف...إلخ، هي الوسيلة الكبرى لتحقيق الغايات.

ومِن هُنا تأتي مقولات اعتراضية لما يُراد أن يقرر في المنتدى، ومنها أن الذكوريّة – بسبب ما فعلته الطبيعةُ-تُحيل العشقَ على الأحاسيس، بل ترى يقينية الأحاسيس هنا، وأن ليس وراءها شيء آخر، وهذه الذكورية ذكوريّات أعلاها ما يحيل هذه اليقينيّة على أساس أنَّ القيم العشقيّة هنا معلولة للجسد/ إرادة الحياة/ إرادة القوة، وهذا الجسد هو بدوره معلول للثقافة، وكل ذلك يُفسر لصالح الذكر/ جسد الذكر/ إرادة القوة الذكرية/ إرادة الحياة الذكرية، وإن لم تُنطق تلك الألفاظ؛ فمثلا نجد عند نيتشه وهو يتأمل جينيالوجيا المرأة يقول: " أغلبهنّ مثقفات على الضعف، متلهفات على شفقاتهن الصارخة، وعلى التخنث الإرادي الذي يلوّح بنشر بوذية جديدة في أوروبا" فهذا القول النيتشوي، حين يفسّر على أساس أن تلك الصفات السلبية للمرأة حمل وزها الذكر، هي مقولة ذكورية بحد ذاتها، أي جعل المرأة ذكرا، أي سلبها خاصية مجهولة من قِبل الذكر نفسه، من قبل فلسفة الذكر= الحرب/ العشق، ومن ثم جاءت إرادة الحياة على أساس أنها إرادة الحياة الذكرية. لا يريد أن يتخلى عن الفعل الذكوري إلى فعل أنثوي، بحيث نجعل الأنثى –في المساواة-هي المشبه به لا المـشبه، أي أن يكون الذكر أنثويا، لا الأنثى ذكرا. ومن ثم فأي طرح لمفهوم إرادة الحياة الأنثوية لا يجد قبولا فلسفيا من قبلهم؛ لأنهم قبلوا بالتفسير والتاريخ الذكوري للماضي والحاضر والمستقبل، ومن ثمّ أُغلقت التساؤلات على إشكاليات كبرى، أو عن إعادة التساؤلات الأصيلة، التي قد تكون مفاتيح لإعادة قراءة الحياة تشكل الإرادة الأنثوية صُلبها. وإن كان هذا أعلاها، فقد يكون أدناها ما يحيل هذه اليقينية إلى الحسرة الدنيوية المرتبطة بالحسرة الأخرويّة، وهي ما ينتمي لها فيلسوف المنتدى، مع أنه يُفلسفها كحسرةٍ دنيويّة كما أوضحتُ في الأعلى، لكن الربط الأخروي يشرحه احتقاره للمرأة وتحجير وظيفتها أي أنه وهو يُفلسف الحسرة لا يعد الأنثى عاشقة بل معشوقة بالضرورة. لهذا أطرحُ مفهوم العشق الأنثوي، هل يكسر يقينيّة الذكوريّة؟ بمعنى هل سيدخلنا لمرحلة تنقض مفاهيم الحرب/ العشق الذكوري، وتشكك في مصادر المعرفة لتلك المفاهيم وتطبيقات الحياة، وتفسيرات الوجود، وتغييرات الواقع.

إن ذلك المفهوم يحتاج إلى الغوص في تاريخ المرأة وصراعاتها الواعية في تحيزات الذكورية، من جهة، وفي إبداعها اللاواعي الذي ينقض الإرث الذكوري، حين خرج بلا قيودٍ ذكورية، إذ المرأة في داخلها رقيب ذكوري، ولهذا حين يغيب هذا الرقيب فإنها تخرج لنا إبداعا عدميا، أي إبداعا يلغي فلسفات الذكورية التي احتلت الوجود وتفسيراته، وتغييرات واقعه.

وهنا أعرض قول امرأة اسمها (أم الضحاك المحاربية) لأبرزَ تطبيقًا على اللحظة العدمية الأنثوية التي تخرج مكنونا يمسح آثار الأنساق الطويلة. تقول:

أرى الحُبَّ لا يفنى ولم يفنه الألى/ أُحينوا، وقد كانوا على سالف الدهر

وكلهم قد خاله في فؤاده/ بأجْمعه، يحكون ذلك في الشعر

وما الحب إلا سمعُ أذنٍ ونظرة/ ووجبة قلب عن حديث وعن ذكر

ولو كان شيء غيره فني الهوى/ وأبلاه من يهوى ولو كان من صخر

إنَّ المرأةَ هنا وهي (أم الضحاك المحاربية) تقول إنَّ الحبَّ لا يفنى، بدلا من مقولة: (المادة لا تفنى ولا تستحدث من عدم) لهذا فالحبُّ أيضا لا يستحدث من العدم؛ وهذا معنى البيت الثاني. فالحب هنا في لفظ هذه المرأة كمثلِ حجرٍ جيريٍ إذا أُدخِلَ المختبر وأذيب بحامض كربونيك فإنَّ المادة لن تفنى، ولكنَّ الحجر سيتحول إلى شيء آخر. أي أن المرأة هنا أشارت إلى معنى للحب مغاير عن السياق الذكوري، مع أنها متشبعة المفهومَ الذكوري بأمارة قصائد أخرى لها كمثل قولها: (شفاءُ الحبّ تقبيلٌ وضمّ/ وَجرٌّ بالبطون على البطونِ) أي أنها في قولها هذا تجردت من السياق الذكوري في لحظة عدمية، فأنتجت معانٍ مغايرة عن سياقها الواعي؛ ومن هنا أشارت في البيت الأول إلى: (ولم يفنه الألى أُحينوا، وقد كانوا على سالف الدهر) وذلك لتبيّن صراع الذكورية مع مفهوم كون الحب لا يفنى، كمثل من حارب مقولة: المادة لا تفنى ولا تستحدث من العدم. إذن الحب في مفهوم أم الضحاك، هو شيء لا يفنى، بل يتحول من صورة إلى صورة، وكأنها بهذا تحيل إلى قراءة الوجود قراءة جديدة، وهذا ما يجعل هذه اللحظة لديها لحظة عدمية، فهي تشير إلى أنَّ الوجود الذي نعيه مغلق؛ ومكونه هو الحب؛ لهذا فهو لا يفنى ولا يستحدث من العدم. وعلاقة الجسد به هي علاقة الحاضن الذي يتعاطى مع الحب على مستويات عدة، أي أنَّ الجسد هو مصدر الحب، وفي الآن نفسه الحب يغير الجسد إلى جسدٍ آخر. والجسد سيأخذ جميع الأنظمة المرصودة في بيت المرأة الثالث: (وما الحب إلا سمعُ أذنٍ ونظرة/ ووجبة قلب عن حديث وعن ذكر) فثمة نظام سيكولوجي ينظرُ للجسدِ باعتباره صيرورة من الانفعالات والدوافع والغرائز = (إلا سمع أذن ونظرة). وثمة نظام لاشعوري نعرفه من خلال تفكيك شفرات الثقافة والنص والخطاب = (ووجبة قلب عن حديث وعن ذكر) وأما قولها في البيت الرابع: (ولو كان شيء غيره فني الهوى/ وأبلاه من يهوى ولو كان من صخر) فإنَّ ذلك إشارة إلى دور العقل في إدارة التحكم في الواقع المعاش؛ إذ إن الذي يحوّل الأجساد/الواقع، هي الدوافع والغرائز والانفعالات = الحب. والأداة المستخدمة في هذا الأمر هي العقل. ومن ثمَّ وجب أن يوظف لصالح الجسد/ الحب، إذ إن توظيفه ضد الجسد/ الحب = التأويل بغير هذا (ولو كان شيء غيره) يُفني الهوى/ الحياة.
عن الكاتب
أنس الرشيد
كاتب مستقل عن ذاته

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى