ست ساعات بالتمام، هي عُمر المحادثة التاريخية التي دارتْ معها. خلال ذلك نقرتْ أصابعه آلاف الحروف على الكيبورد، إلى أن غامت الكلمات أمام عينيه. قام بعدها يكاد يقع منه رأسه. كل أعضاء جسده كانت في إرهاق وذهول من ذلك التسمّر الإجباري المُفاجئ. غير معقول كل ما حدث.
هو لم يكن يثق بذلك العالم الافتراضي في الفيس بوك وغيره. يرى رواده مذهولين في قلب “موقف سيارات”. كل واحد يبحث عن سيارة بلده في أصوات المُنادين المُربِكة. أخيرا يركب ويمضي فلا يتغير المشهد. لن يحس أحد بغيابه. من الممكن أن تأتي سيارة بعروس جميلة، ثم تليها أخرى تدهس إنسانا. تتعاقب “ألف مبروك” و”البقاء لله”. مع الوقت لا يصير بينهما فارق تقريبا. تتوحدان في نقرات آلية متتابعة. كان يضحك بأسى من تلك الحالة، يضحك حتى يدمع وهو يرى “الإنسان الأملس”! نعم أملس زجاجي، بلا أي خشونة. ربما تصبح نظرية كُبرى ذات يوم، بل وتقف في مواجهة “الإنسان السوبر مان”. ارتعبتْ نفسه، فحافظ على شعرة التواجد وعدمه. يكتب البوست على صفحته، ثم يغادر. في اليوم التالي يفتح صفحات أصدقاء محدودين. يقرأويُمعن في لوحات وصور. من الممكن أن تحدث قفلة مفاجئة في دماغه، فينسحب ويُغلق صفحته لأيام طويلة. يبقى مُنتظرا الشفاء الذي يأتي بطيئا، وربما فُجائيا. الشفاء من كل الأحاسيس الملساء. تعود روحه مشحونة بروائح متداخلة لبشر وأجساد وأصوات. في تلك المرَّة الموعودة وجد عشر رسائل في مُربع الصداع كما يسميه، دردشة الفراغ واللون الرمادي. بعضهم يسأل عنه ويطلب الاطمئنان، آخرون يطلبون رأيه في شيء لا يعنيه ولا يعرف عنه شيئا. توقفَ عند الرسالة التي بلا كلمات، فقط صورة كتاب مفتوح تنام على صفحاته نظارة رقيقة وقلم. هذا الوجود المُرتب الدقيق تشمله منضدة بيضاوية في لون العاج. لا يعرف صاحب الرسالة أو صاحبتها من ذلك الاسم المستعار على الصفحة. كان يفكر: كتاب ونظارة وقلم. مفردات جميلة وذات حضور خاص. لابد أن مَن أرسلها يعرفه. ليست معايدة أو تهنئة بالورود والملصقات. إنها صورة تحمل اكتمالها في تفاصيلها، وتشد العينين الغائمتين لدنيا هي الدنيا.. يا سلام لو كان الكتاب مكتوبا بلغة أخرى سيجيدها ذات يوم تأخّرَ كثيرا. يعرف أنه بلغته الوحيدة يرى العالم من ثقب واحد. انطلقَ يقرأ بطلاقة تلك الكلمات العجيبة. يلتوي لسانه بالحروف والأصوات في شوارع وميادين وباعة وبشر مبتهجين ممتلئين بالفرح. يمشي بكتابه تحت إبطه والنظارة الشفافة على أنفه. يجلس على مقهى في جو بارد. يمد الكتاب ويبدأ في القراءة بذهن عابر للقارات. بعد قليل ستأتي التي لا يعرفها. حضورها، بلا شك، سيملأ هذا الجو.. حَدْسُه يؤكد أن شيئا ما غير عادي ينتظر وراء الباب.
تجاهلَ كل الرسائل الأخرى وردَّ على الصورة. بأربع كلمات فقط فتح دنيا بأكملها: “أشكركم على ذوقكم الراقي”. لم يصدق أن يأتيه الرد من الدنيا الأخرى بهذه السرعة. تلوّنَ المستطيل الصغير بالأزرق. قرأ: “العفو. بعض ما عندكم”. ردّ وهو يمشي على الحافة. أحسّ في كلماتها نفس الشيء. زاد في الإيقاع. زادتْ. تداخلت المياه مع زوال البرزخ. تاهت ذرات العذب في المالح، والمالح في العذب. أمسكَ قلبه جيدا بعد الساعات الست للمحادثة. أطول مدة يمكن أن يقضيها في عالم وهمي كان يكرهه. رأسه غاب وداخ وتلاشى. في هذه الدنيا لا يوجد مستحيل، وإلا فما معنى أن تكون الدكتورة “أنسام” معه لست ساعات؟ لم يتخيل أبدا أنها تتابع صفحته الجرداء من توابل التعليقات واللايكات المئوية. كل ما في الأمر بضع لوحات وموسيقى، وبوستات يُفرغ فيها هلوسته التي لا تلفتْ أحدا. قالت له ما جعل عقله يكاد يختل. ذكرت كل شيء بالتواريخ والساعات، كل بوست ولوحة وأغنية شاركها. على صفحتها ما يوازي تقريبا كل ما فعله، نفس اللوحات والموضوعات. طوال المحادثة كان يمسك رأسه ويهزه بعنف. هي، هي فعلا. نفس طريقة الكلام حين رآها في العيادة أول مرة. قالوا له إن دكتورة الأسنان المعروفة في برج الأطباء، هي التي ستريحه من ضرس العقل الذي تآكل نصفه. يتذكر نومته تحت يدها على الكرسي الأبيض، وقولتها التي لم تُرعبه: “سنخلع، فات الأوان. كل الأسنان سليمة إلا هو، وسيؤثر على جاره”. ترك نفسه لها وانتهى كل شيء بسلاسة عجيبة، رغم أنها أول مرة يخلع سِنا في حياته. يتذكر اللاب توب فوق مكتبها مفتوحا على صورة وردة، وصوتها الذي يخرج بالهمس. يا ربنا! مع كل هذه المشاغل في الجامعة والعيادة والبيت، ومع كل هذا الألق والجمال؛ يأخذ هو ست ساعات! الأمر يتخطى الاستحالة. كانت رؤيتها مع الدكتور والأولاد في السيارة؛ تؤسس لكون قائم بذاته، كون مكتوب على بابه: “الحراسة مُشددة، محظور الاقتراب أو التصوير”. إنه يصحو ويجد الكون نفسه، بكل أسواره ومحاذيره، يطرق بابه ببساطة.. تطلب منه ألا يحزن على ضرس العَقل، لأن الحاجة إليه انعدمت هذه الأيام! فعلا والله، هذا ما يعتقده أيضا. بعدها قالت وقالت. منحته ما ظن أنه مخبوء في صندوق سري للغاية. في الساعة الأولى للمحادثة اشتركا في الحديث عن النظرية المعاصرة التي أبدعها: الإنسان الأملس. هي قالت إنه الإنسان الشبح، لكنها عادت وتنازلت له عن الاسم المُعبر جدا عمّا تُحسه. مسّها الاسم وجالَ بها: أملس، باهت، ضبابي. دنياها بكاملها لا تخرج عن هذه المعاني. في الساعة الثانية كانا قد طوحا بالألقاب التقليدية: حضرتك وحضرتي. نادته باسمه وهو تلكأ قليلا. يضع في باله فارق السن والسنوات الأربع الزائدة. تراجعَ كُليّا وفكّر أنهما معا تجمعهما الثلاثينيات: هو في منتصفها وهي في آخِرها. مرت الدقائق والسويعات والكلمات وعلمَ المفاجأة: إنها عذراء! كل شيء تراه من وراء حجاب، في الشارع والجامعة والعيادة وحتى البيت. تقول إن أحدا اختطفها من الكُليّة، وعبر بها الزمن ما يقرب من عشرين عاما، لتجد نفسها عائشة في وضعها. كلمات تبدو عادية، ويمكن أن يقولها الآلاف والملايين في بلد لا يختار أهله مصائرهم. سمع مثل هذا الكلام من آخرين ورماه في أقرب صندوق قمامة. يشمئز من كلام المُرفّهين، ذوي الوجوه المتوردة، عن الاكتئاب والوحدة. يؤمن أنه لا يملك رفاهية الكلام عن هذه الأمور. سيعبره القطار، لن يهتم أحد بعزلته أو اكتئابه. اكتفى بأن تبقى تلك الأشياء داخله دون إفصاح، مع تلمسها واستشفافها عند الذين هم مثله: الكاتمون، المنطوون على الكثير منها بلا سعي لتصديرها المجاني. شبه يقين داخلي يُخبره أنها من فصيلته رغم كل شيء..
في الساعة الثالثة أرسلت له لوحة لفتاة عشرينية تضع وردتين في شعرها. في يدها كتاب صغير، وعن يسارها سلة مجدولة تطل منها قطة بيضاء رقيقة. المكان على شاطئ بحر، وفي الخلفية شجرة وأزهار. قالت إنها أسمت اللوحة “فتاة في الجنة”. تطوعت بإعطائها ذلك الاسم، لأنها لا تعرف الاسم الحقيقي ولا الرسّام الذي أبدعها.
صورته هو وصلت على مشارف الساعة الرابعة. فتح عينيه بذهول. إنه في العيادة. كيف؟ تخبره أنها التقطتها له دون أن يُحس. حلفت بالله أنها لا تدرك فعلها الصبياني هذا، ولا كيف احتفظت بالصورة كل تلك الفترة. بعد ذلك، جاءت صورها في الجامعة، في المناسبات، في البيت بكامل بهائها واحتشامها الراقي. خاف وتألمَ في وقت واحد: لن أحتمل كل ذلك، في المقابل لو أسلمت نفسي للأسئلة فسوف أُجن. إنها تطلب أن أزورها في العيادة بمفردي! آه.. في العيادة يا شجرة الكلام الوارفة، جذورك في الأرض وفروعك ستكون في أبعد سماء.
الساعات الست تسربت. أمسك رأسه وشدّ شعره. غابت السكرة وجاءت الفكرة. ينام مُتقلبا على الحصى: سأذهب للعيادة بصحبة أشيائي الحميمة.. كتاب وقلم أنيق ونظارة رقيقة للقراءة. سأُخرج الكتاب وأضع النظارة على طرف أنفي وأقرأ سطورا لها. سيكون القلم الجميل في يدي، أخُط به خطوطا تحت كلمات وجُمل، بل فقرات كاملة أتمهل عندها في قراءتي وتلوين صوتي.
لم ينم. فات الأوان مع تفجر النهار. رأسه فائر متكهرب. أحضرَ الأشياء التي في متناوله. كان يعرف الكتاب الذي ستحبه. التقطه من مكتبته بلا حيرة. القلم والنظارة موجودان. فرشَ كل ذلك أمامه. ستكون سعيدة بأن ترجمَ لها مفردات صورة تحبها. هي لها لو أرادت بمجرد لمعة من عينيها.
سيظل يومين كاملين مشدودا بنداء غامض يسحبه للشارع والعيادة. كل عقارب الساعات تآمرت وتباطأت على سبيل العناد لا أكثر. مسح في خياله المتقلقل كل البيوت واللفتات والمحلات. أحصاهم وعدَّهم. يعلم ما يتوقف بعينيه أمامه، وما لا يستحق. محل العصير يلمع ويتألق نظيفا باهرا في النور، مع دفق السيل الطازج في الأكواب البللورية. قاعة “باراديس” المحندقة غائبة كعادتها في الخفوت اللوني. فنان هو مَن أبدع ذلك العالم في لوحات الحوائط، وخيوط النور بحباتها المتلألئة. يمكن الإلمام بكل ذلك من الشارع بنظرة خاطفةس: رؤوس متقاربة متهامسة على الموائد المصفوفة. وجوه فتيان الورد يُشكلها الضوء واللون، فتبدو جواهر ممسوسة بشرايين النور. لو دخلَ وجلس، لخرجَ فورا. سيضغط عليه إحساس مُلح بأن هذا الجمال لا يخصه، ولن يتسرب لداخله مهما فعل. ربما يجلس موليا ظهره لكل شيء، مؤمنا أنه مجرد شاهد على لوحة وليس جزءا من تفاصيلها. تمنى، من أعمق نقطة فيه، أن يتمدد على الكرسي العجيب في العيادة، وتكون “أنسام” جالسة بجواره دون أي فعل. في عينيها قدرة معجزة على كنس كل القمامة التي بالصدر، بل رشّ الماء وغرس بذور فريدة لم تعرفها هذه الأرض الحامية. مجرد الطلة في وجهها تجعل عسلا أبيض يتهادى على لسانه، طامسا جراثيم المرارة. تلك الجراثيم سرطانية النمو، والتي تتوالد كل ثانية مع رؤية وجوه الموظفين –المخطوفة المُجعّدة- في المواصلات، أو مطالعة بطن منتفخ بشموخ لامرأة حامل تنتظر أن تهب طفلا لبلد استكفى تماما، بل ويطلب إبادة الكثيرين من الموجودين. هنا توقف على خاطر مرعب: هل هو من الزائدين؟ ربما.. إبادته لن تستدر العطف من أحد، وهو المقطوع. آخر العنقود في عائلة مات كبيرها منذ زمن طويل، وإخوة تفرقوا في البلاد والدنيا التلاهي. مَن سيفتقده في وظيفة يتغيب عنها لأيام، وحين يعود كأن شيئا لم يكن؟ هل هي أنانية أن يحكم على وجوده بالبتر، حين يُصر، وبلا أي فرصة للجدل، على عدم الزواج؟ وما وضعها هي؟ بالطبع لديها أيضا ما يكفيها من الجراثيم. استغرب جدا من نفسه: كيف نزل بها من السماء؟ لا، إنها الحقيقة تتكشف: الجراثيم للأسف طالت الكل. رأى أنه بهذه الروح العادية، التي لا تطلب الخوارق، سيكون مستعدا لدخول كونها الحصين، بلا تطير أو تعليق آمال الدنيا كلها في يديها. ليست نبيّة على كل حال. إنها مُختطَفَة كما تقول. هل تنتظر منه أن يُحررها؟ ضحك لهذا الخاطر: فلننتظر قوة كبرى تُحررنا معا! هذه القوة لابد أنها هناك على الكرسي الأبيض الكبير، الذي يتمدد فوقه الجميع، تاركين لها مهمة التطمين وكلمات المواساة الباردة، حتى تنتهي من الخلع والتنظيف والحشو. هل جربتْ أن تنام وتترك لغيرها هذه المهمة؟ تخيلَ الجسد المشرف على الأربعين، بكل بياضه وطراوته، ينام تحت عينيه. تتمدد على الكرسي وتُغمض عينيها في لحظة اعتراف متطهرة. مع كل ثانية تتصاعد فقاعة جرثومية خبيثة تمكنتْ واستقرت منذ زمن في الدم، فقاعات ملساء تبدأ حريرية مراوغة ثم تتجلط وتستجمع شجاعتها وتفرض سطوتها. الإنسان الأملس حقيقة لا يمكن نكرانها. هو يعترف بذلك ولابد أنها ستعترف في لحظة لا يُجدي معها أي اختباء خلف أسوار الألقاب والملصقات الاجتماعية. التهبَ بسخونة نبضات راعشة حين آمنَ أن صورة كتاب وقلم ونظارة هي مجرد بداية لمحو الجراثيم، تمهيد لاستلقاء غائب على كرسي كبير، لالتحام محموم يغلي معه الدم ويطرد كل الفقاعات الجبانة.. عبور من عالم الجاتوه والجبنة الرومي؛ إلى شراسة الملوحة الحارّة في الجبنة القديمة، إلى نار لن تكتفي بإذابة ثلوج القطبين في وقت واحد، بل تمتد للأرض المُكتَشَفة، وتحرث تُرابها الوليد بِكُرات اللهب الذهبي.
بلع ريقه.
أطفأ ناره تحت ماء الدُّش المنهمر.
رسمَ علامات وأسهما ونجوما على البخار المتكثف فوق مرآة الحمام. بسط كفه على صدره المغسول. لا يزال نابضا ساخنا. أخرجَ شُحنة أنفاس مرة واحدة: أخيرا جاء الموعد.
في الطريق إلى العيادة بقيت يده مُقفلة كعادتها، وحين فتحها وجد لمعة العرق المحبوس. دار بها ماسحا قطرة ممتدة تسيح أسفل أذنه. في اليد الأخرى يغفو الكتاب، والقلم والنظارة في جيب القميص. رغم العاشرة ليلا، ما زال الحرُّ خانقا لأي نسمة جريئة. هذا المناخ ملائم، فليبق هكذا! النار بالنار ولا فرق. يشم رائحة الكاكاو الساخن في الكوب، يُهرول به رجُل المقهى لزبون. يشرب مع الشارب أول رشفة بين شفتين منقبضتين في تلذذ. توشك العمارات في امتداد الشارع الطويل على الالتحام. المداخل الرطبة الخافتة واعدة بالاقتحام والتلصص. السلالم درجات وغبار وجسد حلزوني حار. الحروف الحمراء لاسمها في أعلى الباب المفتوح. في الصالة بلاطات متوازية بالأبيض والأسود..
كل شيء في العيادة وحيد وقائم بذاته: ثلاثة كراسٍ جلدية سوداء، والباقي إطار دائر حول الجدران من الكراسي البلاستيك البُنية. باب حجرتها موارب. هدوء غريب. كأنها المرة الأولى له في هذا المكان. لا أطفال تصطخب بالبكاء، ولا أفواه منتفخة بالقُطن الممتص للنزيف. رأى التكييف يطن في مكانه العالي، والمكتب الصغير الخالي للبنت السمراء المسئولة عن النقود وإدخال الأسماء بالدور. أحسَّ بداخله يسترخي مع النسمات الباردة. فاجأته الحالة الشبيهة بوضع ماء مغلي في الفريزر مرة واحدة. قام على أطراف أصابعه. في الخطوات القصيرة ذَكّرَ نفسه بأنها أخلتْ الجو من أجله. أخذَ جرعة من جديد، ودقّ بهدوء. جاءه الصوت الهامس ببحة خفيفة أعقبتها نحنحة. سلّم على المخمل الممدود، وشكّ يده خاتم ذهبي كبير. وضع الكتاب أمامها على المكتب. قالت إن موعده مضبوط. تساءلت: خلع أم حشو؟! ابتسم. ابتسمت. وزّعتْ نظراتها بينه وبين اللاب توب الساطع في الجوار. ها هو الكرسي الأبيض الكبير يبدو مثل آلة عنكبوتية. يُلاحظ أن عينيها لا تستقران بمكان، تتفرق النظرات من تحت النظارة الرهيفة. مدت يدها بعلبة “راني” مُثلجة. شكرها. لاحظَ القطرات المتكثفة الباردة. يأتي الكلام ويروح في اتجاهات مبعثرة، ثم يغلب الصمت مع أصابعها السارحة على لوحة المفاتيح. الخاطر الذي يحوم بإلحاح، هو أن الكلام المكتوب لست ساعات في المحادثة التاريخية؛ استهلك كل ما في اللغة ولم يترك شيئا. الشفاه انطبقت، وما زالت في انتظار أمر من صوت داخلي هادر. هذا الصوت من السهل جدا أن يتدفق عبر الأصابع في نقرات أو لمسات على الأزرار. ابتسم من وراء شفتيه، لأن نجمة خاطفة وَمضتْ: إنه على أعتاب تدشين نظرية جديدة، سيكون الإنسان الأملس مسبوقا بإنسان الكيبورد! صح، إنسان الكيبورد أولا.
فكّرَ من جديد: إنها طفلة خائبة، لا تعرف إجابة أسئلة كثيرة في الامتحان.
صوتها الهامس يُخبره أنها بعثت رسالة إليه على الخاص. تطلب منه بثقة ألا يراها، أن يصبر حتى يصل للبيت. لم تستجب لطلبه بأن تقول مضمونها. لوتْ رأسها بدلال غريب عليها. عند هذا الحد، تركَ وجهه لا إراديا وفقدَ السيطرة عليه. تدلت شفتاه. ربما تكلّمَ واحد غيره وطمأنها أنه بالتأكيد سيرى الرسالة ويرد عليها. مشت يده مُتحسسة الكتاب على المكتب. سحبه على ركبتيه، ثم نهض فجأة ومد يده. شَكّه الخاتم هذه المرة في ضرسه المخلوع.
على السلم، وبخطوات متثاقلة النزول، امتَنَّ لمخترع الفيس الذي جعل الشامي يلتم على المَغربي، وفي نفس الوقت منح كلا منهما الحق في فض اللّمة. لم ينتظر وأنارَ شاشة الموبايل. دخل على الماسينجر ليرى رسالتها: صورة لبستان وقطة وكوخ على بُحيرة. لو رجع الآن لقال لها إنهما سيسكُنان في الكوخ بمجرد أن يعودا طفلين جديريْن بملكوت السماوات. وإلى أن يحدث ذلك فإنه مضطر أن يبقى كما هو: يأكل ويشرب ويلتهب ويمشي في الأسواق.
بخفة فعلها. استعملَ الحق الثاني القاسي: الحظر.. البلوك. وضع الموبايل في جيبه، واستسلم لخطواته الهاربة.
هو لم يكن يثق بذلك العالم الافتراضي في الفيس بوك وغيره. يرى رواده مذهولين في قلب “موقف سيارات”. كل واحد يبحث عن سيارة بلده في أصوات المُنادين المُربِكة. أخيرا يركب ويمضي فلا يتغير المشهد. لن يحس أحد بغيابه. من الممكن أن تأتي سيارة بعروس جميلة، ثم تليها أخرى تدهس إنسانا. تتعاقب “ألف مبروك” و”البقاء لله”. مع الوقت لا يصير بينهما فارق تقريبا. تتوحدان في نقرات آلية متتابعة. كان يضحك بأسى من تلك الحالة، يضحك حتى يدمع وهو يرى “الإنسان الأملس”! نعم أملس زجاجي، بلا أي خشونة. ربما تصبح نظرية كُبرى ذات يوم، بل وتقف في مواجهة “الإنسان السوبر مان”. ارتعبتْ نفسه، فحافظ على شعرة التواجد وعدمه. يكتب البوست على صفحته، ثم يغادر. في اليوم التالي يفتح صفحات أصدقاء محدودين. يقرأويُمعن في لوحات وصور. من الممكن أن تحدث قفلة مفاجئة في دماغه، فينسحب ويُغلق صفحته لأيام طويلة. يبقى مُنتظرا الشفاء الذي يأتي بطيئا، وربما فُجائيا. الشفاء من كل الأحاسيس الملساء. تعود روحه مشحونة بروائح متداخلة لبشر وأجساد وأصوات. في تلك المرَّة الموعودة وجد عشر رسائل في مُربع الصداع كما يسميه، دردشة الفراغ واللون الرمادي. بعضهم يسأل عنه ويطلب الاطمئنان، آخرون يطلبون رأيه في شيء لا يعنيه ولا يعرف عنه شيئا. توقفَ عند الرسالة التي بلا كلمات، فقط صورة كتاب مفتوح تنام على صفحاته نظارة رقيقة وقلم. هذا الوجود المُرتب الدقيق تشمله منضدة بيضاوية في لون العاج. لا يعرف صاحب الرسالة أو صاحبتها من ذلك الاسم المستعار على الصفحة. كان يفكر: كتاب ونظارة وقلم. مفردات جميلة وذات حضور خاص. لابد أن مَن أرسلها يعرفه. ليست معايدة أو تهنئة بالورود والملصقات. إنها صورة تحمل اكتمالها في تفاصيلها، وتشد العينين الغائمتين لدنيا هي الدنيا.. يا سلام لو كان الكتاب مكتوبا بلغة أخرى سيجيدها ذات يوم تأخّرَ كثيرا. يعرف أنه بلغته الوحيدة يرى العالم من ثقب واحد. انطلقَ يقرأ بطلاقة تلك الكلمات العجيبة. يلتوي لسانه بالحروف والأصوات في شوارع وميادين وباعة وبشر مبتهجين ممتلئين بالفرح. يمشي بكتابه تحت إبطه والنظارة الشفافة على أنفه. يجلس على مقهى في جو بارد. يمد الكتاب ويبدأ في القراءة بذهن عابر للقارات. بعد قليل ستأتي التي لا يعرفها. حضورها، بلا شك، سيملأ هذا الجو.. حَدْسُه يؤكد أن شيئا ما غير عادي ينتظر وراء الباب.
تجاهلَ كل الرسائل الأخرى وردَّ على الصورة. بأربع كلمات فقط فتح دنيا بأكملها: “أشكركم على ذوقكم الراقي”. لم يصدق أن يأتيه الرد من الدنيا الأخرى بهذه السرعة. تلوّنَ المستطيل الصغير بالأزرق. قرأ: “العفو. بعض ما عندكم”. ردّ وهو يمشي على الحافة. أحسّ في كلماتها نفس الشيء. زاد في الإيقاع. زادتْ. تداخلت المياه مع زوال البرزخ. تاهت ذرات العذب في المالح، والمالح في العذب. أمسكَ قلبه جيدا بعد الساعات الست للمحادثة. أطول مدة يمكن أن يقضيها في عالم وهمي كان يكرهه. رأسه غاب وداخ وتلاشى. في هذه الدنيا لا يوجد مستحيل، وإلا فما معنى أن تكون الدكتورة “أنسام” معه لست ساعات؟ لم يتخيل أبدا أنها تتابع صفحته الجرداء من توابل التعليقات واللايكات المئوية. كل ما في الأمر بضع لوحات وموسيقى، وبوستات يُفرغ فيها هلوسته التي لا تلفتْ أحدا. قالت له ما جعل عقله يكاد يختل. ذكرت كل شيء بالتواريخ والساعات، كل بوست ولوحة وأغنية شاركها. على صفحتها ما يوازي تقريبا كل ما فعله، نفس اللوحات والموضوعات. طوال المحادثة كان يمسك رأسه ويهزه بعنف. هي، هي فعلا. نفس طريقة الكلام حين رآها في العيادة أول مرة. قالوا له إن دكتورة الأسنان المعروفة في برج الأطباء، هي التي ستريحه من ضرس العقل الذي تآكل نصفه. يتذكر نومته تحت يدها على الكرسي الأبيض، وقولتها التي لم تُرعبه: “سنخلع، فات الأوان. كل الأسنان سليمة إلا هو، وسيؤثر على جاره”. ترك نفسه لها وانتهى كل شيء بسلاسة عجيبة، رغم أنها أول مرة يخلع سِنا في حياته. يتذكر اللاب توب فوق مكتبها مفتوحا على صورة وردة، وصوتها الذي يخرج بالهمس. يا ربنا! مع كل هذه المشاغل في الجامعة والعيادة والبيت، ومع كل هذا الألق والجمال؛ يأخذ هو ست ساعات! الأمر يتخطى الاستحالة. كانت رؤيتها مع الدكتور والأولاد في السيارة؛ تؤسس لكون قائم بذاته، كون مكتوب على بابه: “الحراسة مُشددة، محظور الاقتراب أو التصوير”. إنه يصحو ويجد الكون نفسه، بكل أسواره ومحاذيره، يطرق بابه ببساطة.. تطلب منه ألا يحزن على ضرس العَقل، لأن الحاجة إليه انعدمت هذه الأيام! فعلا والله، هذا ما يعتقده أيضا. بعدها قالت وقالت. منحته ما ظن أنه مخبوء في صندوق سري للغاية. في الساعة الأولى للمحادثة اشتركا في الحديث عن النظرية المعاصرة التي أبدعها: الإنسان الأملس. هي قالت إنه الإنسان الشبح، لكنها عادت وتنازلت له عن الاسم المُعبر جدا عمّا تُحسه. مسّها الاسم وجالَ بها: أملس، باهت، ضبابي. دنياها بكاملها لا تخرج عن هذه المعاني. في الساعة الثانية كانا قد طوحا بالألقاب التقليدية: حضرتك وحضرتي. نادته باسمه وهو تلكأ قليلا. يضع في باله فارق السن والسنوات الأربع الزائدة. تراجعَ كُليّا وفكّر أنهما معا تجمعهما الثلاثينيات: هو في منتصفها وهي في آخِرها. مرت الدقائق والسويعات والكلمات وعلمَ المفاجأة: إنها عذراء! كل شيء تراه من وراء حجاب، في الشارع والجامعة والعيادة وحتى البيت. تقول إن أحدا اختطفها من الكُليّة، وعبر بها الزمن ما يقرب من عشرين عاما، لتجد نفسها عائشة في وضعها. كلمات تبدو عادية، ويمكن أن يقولها الآلاف والملايين في بلد لا يختار أهله مصائرهم. سمع مثل هذا الكلام من آخرين ورماه في أقرب صندوق قمامة. يشمئز من كلام المُرفّهين، ذوي الوجوه المتوردة، عن الاكتئاب والوحدة. يؤمن أنه لا يملك رفاهية الكلام عن هذه الأمور. سيعبره القطار، لن يهتم أحد بعزلته أو اكتئابه. اكتفى بأن تبقى تلك الأشياء داخله دون إفصاح، مع تلمسها واستشفافها عند الذين هم مثله: الكاتمون، المنطوون على الكثير منها بلا سعي لتصديرها المجاني. شبه يقين داخلي يُخبره أنها من فصيلته رغم كل شيء..
في الساعة الثالثة أرسلت له لوحة لفتاة عشرينية تضع وردتين في شعرها. في يدها كتاب صغير، وعن يسارها سلة مجدولة تطل منها قطة بيضاء رقيقة. المكان على شاطئ بحر، وفي الخلفية شجرة وأزهار. قالت إنها أسمت اللوحة “فتاة في الجنة”. تطوعت بإعطائها ذلك الاسم، لأنها لا تعرف الاسم الحقيقي ولا الرسّام الذي أبدعها.
صورته هو وصلت على مشارف الساعة الرابعة. فتح عينيه بذهول. إنه في العيادة. كيف؟ تخبره أنها التقطتها له دون أن يُحس. حلفت بالله أنها لا تدرك فعلها الصبياني هذا، ولا كيف احتفظت بالصورة كل تلك الفترة. بعد ذلك، جاءت صورها في الجامعة، في المناسبات، في البيت بكامل بهائها واحتشامها الراقي. خاف وتألمَ في وقت واحد: لن أحتمل كل ذلك، في المقابل لو أسلمت نفسي للأسئلة فسوف أُجن. إنها تطلب أن أزورها في العيادة بمفردي! آه.. في العيادة يا شجرة الكلام الوارفة، جذورك في الأرض وفروعك ستكون في أبعد سماء.
الساعات الست تسربت. أمسك رأسه وشدّ شعره. غابت السكرة وجاءت الفكرة. ينام مُتقلبا على الحصى: سأذهب للعيادة بصحبة أشيائي الحميمة.. كتاب وقلم أنيق ونظارة رقيقة للقراءة. سأُخرج الكتاب وأضع النظارة على طرف أنفي وأقرأ سطورا لها. سيكون القلم الجميل في يدي، أخُط به خطوطا تحت كلمات وجُمل، بل فقرات كاملة أتمهل عندها في قراءتي وتلوين صوتي.
لم ينم. فات الأوان مع تفجر النهار. رأسه فائر متكهرب. أحضرَ الأشياء التي في متناوله. كان يعرف الكتاب الذي ستحبه. التقطه من مكتبته بلا حيرة. القلم والنظارة موجودان. فرشَ كل ذلك أمامه. ستكون سعيدة بأن ترجمَ لها مفردات صورة تحبها. هي لها لو أرادت بمجرد لمعة من عينيها.
سيظل يومين كاملين مشدودا بنداء غامض يسحبه للشارع والعيادة. كل عقارب الساعات تآمرت وتباطأت على سبيل العناد لا أكثر. مسح في خياله المتقلقل كل البيوت واللفتات والمحلات. أحصاهم وعدَّهم. يعلم ما يتوقف بعينيه أمامه، وما لا يستحق. محل العصير يلمع ويتألق نظيفا باهرا في النور، مع دفق السيل الطازج في الأكواب البللورية. قاعة “باراديس” المحندقة غائبة كعادتها في الخفوت اللوني. فنان هو مَن أبدع ذلك العالم في لوحات الحوائط، وخيوط النور بحباتها المتلألئة. يمكن الإلمام بكل ذلك من الشارع بنظرة خاطفةس: رؤوس متقاربة متهامسة على الموائد المصفوفة. وجوه فتيان الورد يُشكلها الضوء واللون، فتبدو جواهر ممسوسة بشرايين النور. لو دخلَ وجلس، لخرجَ فورا. سيضغط عليه إحساس مُلح بأن هذا الجمال لا يخصه، ولن يتسرب لداخله مهما فعل. ربما يجلس موليا ظهره لكل شيء، مؤمنا أنه مجرد شاهد على لوحة وليس جزءا من تفاصيلها. تمنى، من أعمق نقطة فيه، أن يتمدد على الكرسي العجيب في العيادة، وتكون “أنسام” جالسة بجواره دون أي فعل. في عينيها قدرة معجزة على كنس كل القمامة التي بالصدر، بل رشّ الماء وغرس بذور فريدة لم تعرفها هذه الأرض الحامية. مجرد الطلة في وجهها تجعل عسلا أبيض يتهادى على لسانه، طامسا جراثيم المرارة. تلك الجراثيم سرطانية النمو، والتي تتوالد كل ثانية مع رؤية وجوه الموظفين –المخطوفة المُجعّدة- في المواصلات، أو مطالعة بطن منتفخ بشموخ لامرأة حامل تنتظر أن تهب طفلا لبلد استكفى تماما، بل ويطلب إبادة الكثيرين من الموجودين. هنا توقف على خاطر مرعب: هل هو من الزائدين؟ ربما.. إبادته لن تستدر العطف من أحد، وهو المقطوع. آخر العنقود في عائلة مات كبيرها منذ زمن طويل، وإخوة تفرقوا في البلاد والدنيا التلاهي. مَن سيفتقده في وظيفة يتغيب عنها لأيام، وحين يعود كأن شيئا لم يكن؟ هل هي أنانية أن يحكم على وجوده بالبتر، حين يُصر، وبلا أي فرصة للجدل، على عدم الزواج؟ وما وضعها هي؟ بالطبع لديها أيضا ما يكفيها من الجراثيم. استغرب جدا من نفسه: كيف نزل بها من السماء؟ لا، إنها الحقيقة تتكشف: الجراثيم للأسف طالت الكل. رأى أنه بهذه الروح العادية، التي لا تطلب الخوارق، سيكون مستعدا لدخول كونها الحصين، بلا تطير أو تعليق آمال الدنيا كلها في يديها. ليست نبيّة على كل حال. إنها مُختطَفَة كما تقول. هل تنتظر منه أن يُحررها؟ ضحك لهذا الخاطر: فلننتظر قوة كبرى تُحررنا معا! هذه القوة لابد أنها هناك على الكرسي الأبيض الكبير، الذي يتمدد فوقه الجميع، تاركين لها مهمة التطمين وكلمات المواساة الباردة، حتى تنتهي من الخلع والتنظيف والحشو. هل جربتْ أن تنام وتترك لغيرها هذه المهمة؟ تخيلَ الجسد المشرف على الأربعين، بكل بياضه وطراوته، ينام تحت عينيه. تتمدد على الكرسي وتُغمض عينيها في لحظة اعتراف متطهرة. مع كل ثانية تتصاعد فقاعة جرثومية خبيثة تمكنتْ واستقرت منذ زمن في الدم، فقاعات ملساء تبدأ حريرية مراوغة ثم تتجلط وتستجمع شجاعتها وتفرض سطوتها. الإنسان الأملس حقيقة لا يمكن نكرانها. هو يعترف بذلك ولابد أنها ستعترف في لحظة لا يُجدي معها أي اختباء خلف أسوار الألقاب والملصقات الاجتماعية. التهبَ بسخونة نبضات راعشة حين آمنَ أن صورة كتاب وقلم ونظارة هي مجرد بداية لمحو الجراثيم، تمهيد لاستلقاء غائب على كرسي كبير، لالتحام محموم يغلي معه الدم ويطرد كل الفقاعات الجبانة.. عبور من عالم الجاتوه والجبنة الرومي؛ إلى شراسة الملوحة الحارّة في الجبنة القديمة، إلى نار لن تكتفي بإذابة ثلوج القطبين في وقت واحد، بل تمتد للأرض المُكتَشَفة، وتحرث تُرابها الوليد بِكُرات اللهب الذهبي.
بلع ريقه.
أطفأ ناره تحت ماء الدُّش المنهمر.
رسمَ علامات وأسهما ونجوما على البخار المتكثف فوق مرآة الحمام. بسط كفه على صدره المغسول. لا يزال نابضا ساخنا. أخرجَ شُحنة أنفاس مرة واحدة: أخيرا جاء الموعد.
في الطريق إلى العيادة بقيت يده مُقفلة كعادتها، وحين فتحها وجد لمعة العرق المحبوس. دار بها ماسحا قطرة ممتدة تسيح أسفل أذنه. في اليد الأخرى يغفو الكتاب، والقلم والنظارة في جيب القميص. رغم العاشرة ليلا، ما زال الحرُّ خانقا لأي نسمة جريئة. هذا المناخ ملائم، فليبق هكذا! النار بالنار ولا فرق. يشم رائحة الكاكاو الساخن في الكوب، يُهرول به رجُل المقهى لزبون. يشرب مع الشارب أول رشفة بين شفتين منقبضتين في تلذذ. توشك العمارات في امتداد الشارع الطويل على الالتحام. المداخل الرطبة الخافتة واعدة بالاقتحام والتلصص. السلالم درجات وغبار وجسد حلزوني حار. الحروف الحمراء لاسمها في أعلى الباب المفتوح. في الصالة بلاطات متوازية بالأبيض والأسود..
كل شيء في العيادة وحيد وقائم بذاته: ثلاثة كراسٍ جلدية سوداء، والباقي إطار دائر حول الجدران من الكراسي البلاستيك البُنية. باب حجرتها موارب. هدوء غريب. كأنها المرة الأولى له في هذا المكان. لا أطفال تصطخب بالبكاء، ولا أفواه منتفخة بالقُطن الممتص للنزيف. رأى التكييف يطن في مكانه العالي، والمكتب الصغير الخالي للبنت السمراء المسئولة عن النقود وإدخال الأسماء بالدور. أحسَّ بداخله يسترخي مع النسمات الباردة. فاجأته الحالة الشبيهة بوضع ماء مغلي في الفريزر مرة واحدة. قام على أطراف أصابعه. في الخطوات القصيرة ذَكّرَ نفسه بأنها أخلتْ الجو من أجله. أخذَ جرعة من جديد، ودقّ بهدوء. جاءه الصوت الهامس ببحة خفيفة أعقبتها نحنحة. سلّم على المخمل الممدود، وشكّ يده خاتم ذهبي كبير. وضع الكتاب أمامها على المكتب. قالت إن موعده مضبوط. تساءلت: خلع أم حشو؟! ابتسم. ابتسمت. وزّعتْ نظراتها بينه وبين اللاب توب الساطع في الجوار. ها هو الكرسي الأبيض الكبير يبدو مثل آلة عنكبوتية. يُلاحظ أن عينيها لا تستقران بمكان، تتفرق النظرات من تحت النظارة الرهيفة. مدت يدها بعلبة “راني” مُثلجة. شكرها. لاحظَ القطرات المتكثفة الباردة. يأتي الكلام ويروح في اتجاهات مبعثرة، ثم يغلب الصمت مع أصابعها السارحة على لوحة المفاتيح. الخاطر الذي يحوم بإلحاح، هو أن الكلام المكتوب لست ساعات في المحادثة التاريخية؛ استهلك كل ما في اللغة ولم يترك شيئا. الشفاه انطبقت، وما زالت في انتظار أمر من صوت داخلي هادر. هذا الصوت من السهل جدا أن يتدفق عبر الأصابع في نقرات أو لمسات على الأزرار. ابتسم من وراء شفتيه، لأن نجمة خاطفة وَمضتْ: إنه على أعتاب تدشين نظرية جديدة، سيكون الإنسان الأملس مسبوقا بإنسان الكيبورد! صح، إنسان الكيبورد أولا.
فكّرَ من جديد: إنها طفلة خائبة، لا تعرف إجابة أسئلة كثيرة في الامتحان.
صوتها الهامس يُخبره أنها بعثت رسالة إليه على الخاص. تطلب منه بثقة ألا يراها، أن يصبر حتى يصل للبيت. لم تستجب لطلبه بأن تقول مضمونها. لوتْ رأسها بدلال غريب عليها. عند هذا الحد، تركَ وجهه لا إراديا وفقدَ السيطرة عليه. تدلت شفتاه. ربما تكلّمَ واحد غيره وطمأنها أنه بالتأكيد سيرى الرسالة ويرد عليها. مشت يده مُتحسسة الكتاب على المكتب. سحبه على ركبتيه، ثم نهض فجأة ومد يده. شَكّه الخاتم هذه المرة في ضرسه المخلوع.
على السلم، وبخطوات متثاقلة النزول، امتَنَّ لمخترع الفيس الذي جعل الشامي يلتم على المَغربي، وفي نفس الوقت منح كلا منهما الحق في فض اللّمة. لم ينتظر وأنارَ شاشة الموبايل. دخل على الماسينجر ليرى رسالتها: صورة لبستان وقطة وكوخ على بُحيرة. لو رجع الآن لقال لها إنهما سيسكُنان في الكوخ بمجرد أن يعودا طفلين جديريْن بملكوت السماوات. وإلى أن يحدث ذلك فإنه مضطر أن يبقى كما هو: يأكل ويشرب ويلتهب ويمشي في الأسواق.
بخفة فعلها. استعملَ الحق الثاني القاسي: الحظر.. البلوك. وضع الموبايل في جيبه، واستسلم لخطواته الهاربة.