رسالة من أنطون سعاده إلى نصوح الخطيب

12/7/1938

عزيزي نصوح،
كنت في اليومين الأخيرين كثير التفكير بكم وبالأمور الجارية في الوطن. وقد كنت أول أمس مساءً أتحدث مع شخص أجنبيّ تعرفت إليه في الفندق الأول (نقلت إلى فندق جديد أحسن مناخاً وأجرة) وقد وثقت به لدرجة أني أطلعته على مركزي. وجرني الحديث إلى ذكر السجن وكيفية حدوث سجني الثالث، وبغتة تألق في فكري شهاب الحقيقة فارتفعت قبضتي ثم هوت على ساعد الكرسي وقلت لمحدثي: الآن اكتشفت الخائن!
والحقيقة أنّ مسألة إلقاء القبض عليّ المرّة الثالثة وأنا في طريقي إلى دمشق ومعي [جورج] عبد المسيح ووداد ناصيف ظلت لغزاً لي يجب حله، ولم يتح لي الوقت والظروف أن أتفرغ للتأمل في هذه المسألة كثيراً. وفي السجن حدّثت نعمة [ثابت] كثيراً في هذه القضية وقلبناها على وجوهها ولبعد شكوكنا عن الخائن قدّرنا أنّ المسألة غامضة وأنها على الأرجح متمركزة في سيارة السيدة ناصيف. لا أشك في أنّ تردد السيدة ناصيف على مكمني في بيروت كان الدافع الأول لإحراج مركزي. وأظن أنّ للخائن نفسه النصيب الأكبر في جعل التحري يتتبعون السيدة المذكورة. أما قضية القبض عليّ في طريقي إلى دمشق فقد ظهرت لي تفاصيلها بعد الحديث المذكور أول أمس، والنور الذي كشف معميات هذا اللغز هو نور المعلومات الواردة في تقرير المكتب المختص من رئيس الدائرة التنفيذية وإليك تحليل الأجزاء:
لو كان التحري تعقب سيارة السيدة وداد ناصيف لكان يجب أن يقبض علينا في عاليه لا في طريق دمشق.
عندما قررت الصعود إلى عاليه كلفت مأمون [أياس] بترتيب المسألة فرتبها بطريقة بديعة وفي الطريق أوصيته ألا يعطي أحداً مقري، حتى ولا للسيدة ناصيف التي كانت تساعد أعمالنا كثيراً في تلك الظروف الحرجة ولكنها كانت من جهة أخرى طائشة. وقد كان اندهاشي عظيماً عندما فوجئت في مساء اليوم التالي بزيارة السيد ناصيف ومعها أنيس فاخوري ومحمد الباشا المناصفي.
وتضايقت جداً من عدم تنفيذ تعليماتي ومن التدخل في خططي، وقد لاحظ عليّ ذلك عبد المسيح على ما أظن وأنا شعرت بأنه هو أيضاً تضايق وقلق. ومع ذلك فقد قابلتهم بلطف واستمعت إليهم. وبعد ذلك رأى عبد المسيح أنّ مقرنا اصبح حرجاً، بسبب السيدة ناصيف على الأرجح، فاقترح أن نغادر عاليه في تلك الليلة وهو اقتراح كان في محله تماماً ولكنه لم يكن متحفظاً فيه لعدم شكه بإخلاص أحد من الموجودين، فوافقت على الاقتراح.
وارتأى عبد المسيح أن نذهب إلى دمشق وهنا عرضت السيدة ناصيف سيارتها عليّ، على أن ترافقنا، لولعها بالمغامرات على الأرجح، إلى دمشق وتعود بعد بلوغنا هدفنا ولم أمانع في قبول هذا العرض لأن السيدة ناصيف أوهمتني أن عندها أخباراً تريد أن تسرّها إليّ في الطريق وأظهرت أنّ وجودها معي يكون أبعد للشبهة، خصوصاً وهي متنكرة بزي سيدة مسلمة. وأخيراً أجمع الرأي على أن يعود فاخوري والمناصفي إلى بيروت بسيارة من عاليه وأذهب أنا وعبد المسيح والسيدة ناصيف إلى دمشق بسيارة السيدة، فأمرت فاخوري والمناصفي بالانتظار ونسخت كتاباً كنت قد كتبته لجورج حداد وسلمت النسخة للمناصفي، على أن يوصل الكتاب إلى جورج حداد في الحال.
ثم أمرتهما بالعودة إلى بيروت فسارا من عاليه قبلنا. ثم سرنا نحن ووجهتنا دمشق وأنا بعد أفكر في العدول عن هذا الهدف والاتجاه نحو الشوف أو الرجوع إلى بيروت فصيدا. وكانت الطريق مفتوحة ولا دليل على مراقبة أو احتياط. وفجأة لاحظنا أول مراقبة في شتورة، على مفرق زحلة. فظننت أنا أنّ المراقبة تبتدئ من هناك وتتجه نحو الحدود وأنّ الحدود فقط هي المراقبة، فأمرت بالعودة. ولما عدنا وجدنا مخفر المديرج يوقفنا بربط الطريق وطلب هويتنا. وكان الأمر المعروف.
هذا هو القسم الواضح من الرواية أما القسم الخفي فهو كما أراه الآن بباصرتي:
حالما وصل المناصفي وفاخوري إلى بيروت، ذهب الأول إلى أقرب نقطة تلفون أو إلى رجل متفق معه وأبلغه وجهة سيري فجرت مخابرات تلفونية مستعجلة كان من ورائها التدابير التي أدت إلى اعتقالي واعتقال 300 أو ما يزيد من القوميين.
إنّ الحسابات الرياضية تثبت هذه الكيفية بما لا يقبل الجدل، فالوقت بين النزول من عاليه إلى بيروت ومسيرنا نحن في جهة دمشق والقبض علينا في المديرج يظهر لنا أنّ هذه الكيفية هي الوحيدة المعقولة.
إنّ سلسلة الحوادث التالية حتى الآن خصوصاً رواية محاولتي الفرار من جبل الدروز واتصال خبر أعمال التدريب القومي بالدوائر الاستخبارية للسلطة كلها مربوطة بمحمد الباشا المناصفي وأعتقد الآن اعتقاداً راسخاً أنّ هذا الشخص هو الخائن الكبير. ولو لم أرسله إلى الشوف على الرغم من اعتراضات رئيس مجلس العمد السابق لما تمكنت من تنفيذ خطتي التي قطعت على المتآمرين مجرى تدابيرهم للقضاء عليّ وعلى الحزب.
إنّ الأدلة أصبحت متوفرة منها دليل جديد اكتشفته الآن هو الكتاب الذي سلمته للمناصفي ليوصله إلى جورج حداد فقد اختفى هذا الكتاب اختفاءً تاماً سألت المناصفي عنه فقال إنه أودعه مع الأوراق عند السيدة ناصيف. ولكنه لم يكن بين هذه الأوراق، لا بين التي استولى عليها التحري ولا بين التي بقيت وأخفيت.
وأرجّح الآن أنه سلمه لجورج حداد. ويترجح عندي الآن أننا تجاه عصابة جاسوسية خطرة مؤلفة من جورج حدادـ صبحي فؤاد الرئيس ـ محمد الباشا المناصفي ـ يوسف شقير ـ جان جلخ ـ وغيرهم.
التدبير: إنّ هذه العصابة قد أصبحت خطراً عظيماً على حياة رجال النهضة القومية وعلى حركة الحزب السوري القومي ولذلك يجب معالجتها بدقة وسرعة على الوجه التالي:
1 ـ يعقد المجلس الأعلى وتُتلى عليه هذه الرسالة ويسمع الملاحظات عن وصول خبر عزمي على اجتياز الحدود عن طريق جبل الدروز إلى الدوائر الحكومية وأعداء الحزب. وهو لا يمكن أن يتسرب إلا عن طريق محمد الباشا المناصفي للأسباب التي ذكرتها في رسالة قديمة. ويتداول المجلس الأعلى في الأمر ويوصي بتنبيه أركان الحزب والقائمين على التدريب والأعمال الهامة إلى خيانة الباشا المناصفي (بتكتم شديد وكتمان).
2 ـ تبليغ «العدد المجهول» وجوب عقد جلسة للهيئة لدرس هذه المسألة واتخاذ التدابير اللازمة.
الخطة:
1 ـ إنّ أول ما يجب فعله هو عزل هذه العصابة عن جسم الحزب. ويكون ذلك بإبعاد جميع المشبوهين وغير المختبرين عن مراكز الحزب الرئيسية وبقطع صلة الوصل بين هذه العصابة والحزب وهذه الصلة هي محمد الباشا المناصفي. وكيفية قطعه مفصلة في 2.
2 ـ يكلف الأمين ثابت أن يعود إلى الاعتماد على المناصفي ظاهراً ويقربه إليه ويقول له إنّ خدماته أصبحت مقدّرة تقديراً كبيراً وأنه سيسعى لديّ ويستصدر مني مرسوماً بتعيين محمد الباشا المناصفي عضواً في المجلس الأعلى نظراً لخدمته الطويلة وثباته ومؤهلاته. وإذا كان أمر وجودي خارج الحدود لا يزال مجهولاً فليقل له إني أفكر باجتياز الحدود على يده بالطريقة التي اتفقنا عليها سابقاً وإني سأستدعيه قريباً لمرافقتي.
وإنه يجب أن يكتم هذا الأمر عن كل إنسان مهما كانت درجته. ويكلف وليم [سابا] بأن يعيد علاقاته الجيدة معه ويوهمه بأنه يفكر الآن بوجوب إعادة تنظيم لجنة المكتب الأعلى المنحلة وأنّ عنده بعض الأشخاص الذين يدرس مؤهلاتهم ويجب أن يشترك معه محمد الباشا في هذا الدرس وتدبير الأمر.
ويقال للمناصفي إنّ استدعاؤه من الشوف كان بناءً على أنه أحد الأركان الذين سيحتاج إليهم المركز إذا حدثت اضطهادات كما في السابق.
3 ـ يتم العزل بهذه الكيفية. ومن ثم يجب الابتداء بحركة تطويق فيكلف بعض الأعضاء المخلصين بمراقبة أفراد العصابة والاندماج مع بعضها.
فيما يختص بأعمال المكتب المختص، يحسن تكليف عبد [عبد الله محسن] بمهمات فهو ذكي وظاهره لا يدل [على] مقدرته في هذه الأمور فليتولّ رئيس الدائرة التنفيذية القيام بهذا الأمر.
وفي الختام أريد أن أحذركم جميعاً من هذه العصابة الشريرة وخصوصاً من هذا الخائن محمد الباشا المناصفي.
وأوصي المكتب المختص بوجوب الاجتماع ودوام الاتصال والسهر على المصلحة، فالوقت صيف ولكن القوميين يجب أن يعرفوا أنّ الواجب القومي يأتي قبل اعتبارات الراحة، خصوصاً الذين يحملون مسؤوليات خطيرة منهم كرجال المكتب المختص وخصوصاً في هذه الظروف.
ولي تدابير أخرى سأذكرها بالبريد القادم بالجو إذا كان المفتاح قد وردني.
ولتحيى سورية!

تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
رسائل الأدباء (ملف)
المشاهدات
681
آخر تحديث
أعلى