(١)
في الصف الرابع الابتدائي، شكوتُ مِن أنني لا أرى المكتوب على السبورة جيدًا، ودفعتُ ثمن غرامي بالجلوس قريبًا من شاشة التلفاز، وقراءةِ القصص والمجلات ليلا أثناء انقطاع الكهرباء، بأن فرَض الطبيبُ عليَّ، وأنا في تلك السن، أن أرتدي نظارة طبية، دفعتني وأنا طفلٌ فقير لكثير من مواقف السخرية مِن أقراني، فضلا عن رغبة الكثيرين في الاحتكاك بي والعنف معي، لا لشيء، إلا لأنني مختلف عنهم بتلك الآلة التي يجب تحطيمها!
لكنها – في ذلك الزمان البعيد، وفي تلك البيئة القروية النادر فيها أن يرتدي طفل نظارة طبية – منحتْ الطفلَ حضورًا مميزًا، خاصةً مع ما كان يتمتع به من وسامة وبراءة، وجِدٍ ونشاط في دراستِه وتعليمِه.
وكان أن عرَفتُ - مبكرًا جدًا – في المرحلة الإعدادية، طه حسين والمعري، ووقفتُ طويلا أمام آفتِهما التي أصيبا بها في سنٍ واحدة تقريبًا، وشغلتني فكرة العمى في شكليها، أن يفقد الإنسان بصرَه، أو أن يولد أعمى، وكنت مفتونًا – ولعلِّي ما أزال – بالتجربة التي يخوضها كل أعمى، وشغلني أكثر أي التجربتين أقسى من الأخرى؟ وكلما مِلت إلى واحدة معتبِرًا إياها الأقسى، بدا لي أن الأخرى أكثر قسوةً وألمًا! فلا شك أن المولود أعمى لم ير شيئًا على الإطلاق، حُرِم من كل ما يراه الآخرون، حُرِم من الحياة نفسها، كما أن الذي فقد بصرَه ذاق ورأى وعرَف، ومن ثم فإن ألمَه وعذابه شديدان، لأن ذاكرته ما تزال محتفظة بماضيها!
مرت السنون، وكان لي اهتمام خاص بالعميان في تاريخ الأدب العربي والعالمي، ومِن سوء الحظ أنني لم أترجم اهتمامي هذا إلى عمل أدبي أو ثقافي؛ إذ شغلتني الحياة، لكن لم أنشغل قَط بفكرة أنني مشروع أعمى، إنْ آجلا أو عاجلا!
والآن وأنا أتجاوز الخمسين من العمر، أحِس باقتراب لحظة تنفيذ المشروع، وخوضِ التجربة الكبرى التي وقفتُ أمامها مفتونًا في زمانٍ مضى، لا أعرف ما الذي سيحدث، ولا كيف سأستقبل التجربة وعوالمها، كل ما أعرفه هو أن كون المرء مستعينًا على حياته بغيره، استعانةً تكاد تكون كاملة، أمرٌ ثقيل جدًا، ستكون هناك فرصة طيبة لزوجاتي أن يأتين بإشارات وحركات لا أراها، ربما ينتقِمن مِن بعض ما أذقتُهن في زمان البصر! بالتأكيد لن تكون هناك فرصة لحبيبات جديدات، فالعينان العسليتان اللتان طالما كانتا شَرَكًا ستفقدان رونقهما، إن لم تكونا قد فقدتاه منذ سنين بعيدة!
ستكون هناك فرصة سانحة للشامتين الذين لن أقول لهم أفيقوا، شوف يا أخي ربنا عمل فيه إيه! صحيح يمهل ولا يهمل! ولن يجدوا سببًا لانتقام الله الذي أمهلني ولم يهملني، غير النساء!
ولقد أبتسِم الآن وأنا أتذكر أن لي نصًا أشير في مقطعٍ منه إلى تلك التجربة:
"لماذا كلَّما انفتحَ الستارُ
رأَيْتُنني الأعمَى وأنتِ بعيدةٌ؟
حَسنًا .. سمِعتُكِ جيدًا لمَّا التقَينَا
- هذهِ تُفاحةٌ ..
- شُكرًا .. سأعرِفُ لَو مَددتُ يدِي
أَنا أيضًا أحِبُّكِ"
تَشغلني أيضًا مشاركاتي في الأمسيات والندوات، مَن الذي سيتفضل باصطحابي إلى المنصة مثلا؟ يشغلني التعاطف الكبير – حقيقيًا كان أم مزيفًا - الذي سألقاه من الحضور، والذي سيتجلى بالتأكيد في التصفيق الحاد للشاعر الأعمى!
على كل حال، سنّي لا تسمح بإجراء عمليات، كما يقول بعض الأطباء، كما أنها عمليات مكلفة في ظل ما نحن فيه ... صحيح أنني تأخرتُ، صحيح أنني أهملتُ، لكن الصحيح أيضًا أن الله لا يكلف نفسًا فوق وسعها، يمكن القول إنني نادمٌ على تأخري وإهمالي، لكنني لستُ حزينًا على ما سيحدث؛ فقد عِشت ورأيت واستمتعت، لكن حزني الشديد على هؤلاء الذين سأكلفهم فوق طاقتهم، بعضِ أهلي .. وبعضِ صديقي.
-------
المنشور ليس غرضه التعاطف، ولا الشفقة، لكنه جوعُ الكتابة.
# فتنة_العمى
.../...
في الصف الرابع الابتدائي، شكوتُ مِن أنني لا أرى المكتوب على السبورة جيدًا، ودفعتُ ثمن غرامي بالجلوس قريبًا من شاشة التلفاز، وقراءةِ القصص والمجلات ليلا أثناء انقطاع الكهرباء، بأن فرَض الطبيبُ عليَّ، وأنا في تلك السن، أن أرتدي نظارة طبية، دفعتني وأنا طفلٌ فقير لكثير من مواقف السخرية مِن أقراني، فضلا عن رغبة الكثيرين في الاحتكاك بي والعنف معي، لا لشيء، إلا لأنني مختلف عنهم بتلك الآلة التي يجب تحطيمها!
لكنها – في ذلك الزمان البعيد، وفي تلك البيئة القروية النادر فيها أن يرتدي طفل نظارة طبية – منحتْ الطفلَ حضورًا مميزًا، خاصةً مع ما كان يتمتع به من وسامة وبراءة، وجِدٍ ونشاط في دراستِه وتعليمِه.
وكان أن عرَفتُ - مبكرًا جدًا – في المرحلة الإعدادية، طه حسين والمعري، ووقفتُ طويلا أمام آفتِهما التي أصيبا بها في سنٍ واحدة تقريبًا، وشغلتني فكرة العمى في شكليها، أن يفقد الإنسان بصرَه، أو أن يولد أعمى، وكنت مفتونًا – ولعلِّي ما أزال – بالتجربة التي يخوضها كل أعمى، وشغلني أكثر أي التجربتين أقسى من الأخرى؟ وكلما مِلت إلى واحدة معتبِرًا إياها الأقسى، بدا لي أن الأخرى أكثر قسوةً وألمًا! فلا شك أن المولود أعمى لم ير شيئًا على الإطلاق، حُرِم من كل ما يراه الآخرون، حُرِم من الحياة نفسها، كما أن الذي فقد بصرَه ذاق ورأى وعرَف، ومن ثم فإن ألمَه وعذابه شديدان، لأن ذاكرته ما تزال محتفظة بماضيها!
مرت السنون، وكان لي اهتمام خاص بالعميان في تاريخ الأدب العربي والعالمي، ومِن سوء الحظ أنني لم أترجم اهتمامي هذا إلى عمل أدبي أو ثقافي؛ إذ شغلتني الحياة، لكن لم أنشغل قَط بفكرة أنني مشروع أعمى، إنْ آجلا أو عاجلا!
والآن وأنا أتجاوز الخمسين من العمر، أحِس باقتراب لحظة تنفيذ المشروع، وخوضِ التجربة الكبرى التي وقفتُ أمامها مفتونًا في زمانٍ مضى، لا أعرف ما الذي سيحدث، ولا كيف سأستقبل التجربة وعوالمها، كل ما أعرفه هو أن كون المرء مستعينًا على حياته بغيره، استعانةً تكاد تكون كاملة، أمرٌ ثقيل جدًا، ستكون هناك فرصة طيبة لزوجاتي أن يأتين بإشارات وحركات لا أراها، ربما ينتقِمن مِن بعض ما أذقتُهن في زمان البصر! بالتأكيد لن تكون هناك فرصة لحبيبات جديدات، فالعينان العسليتان اللتان طالما كانتا شَرَكًا ستفقدان رونقهما، إن لم تكونا قد فقدتاه منذ سنين بعيدة!
ستكون هناك فرصة سانحة للشامتين الذين لن أقول لهم أفيقوا، شوف يا أخي ربنا عمل فيه إيه! صحيح يمهل ولا يهمل! ولن يجدوا سببًا لانتقام الله الذي أمهلني ولم يهملني، غير النساء!
ولقد أبتسِم الآن وأنا أتذكر أن لي نصًا أشير في مقطعٍ منه إلى تلك التجربة:
"لماذا كلَّما انفتحَ الستارُ
رأَيْتُنني الأعمَى وأنتِ بعيدةٌ؟
حَسنًا .. سمِعتُكِ جيدًا لمَّا التقَينَا
- هذهِ تُفاحةٌ ..
- شُكرًا .. سأعرِفُ لَو مَددتُ يدِي
أَنا أيضًا أحِبُّكِ"
تَشغلني أيضًا مشاركاتي في الأمسيات والندوات، مَن الذي سيتفضل باصطحابي إلى المنصة مثلا؟ يشغلني التعاطف الكبير – حقيقيًا كان أم مزيفًا - الذي سألقاه من الحضور، والذي سيتجلى بالتأكيد في التصفيق الحاد للشاعر الأعمى!
على كل حال، سنّي لا تسمح بإجراء عمليات، كما يقول بعض الأطباء، كما أنها عمليات مكلفة في ظل ما نحن فيه ... صحيح أنني تأخرتُ، صحيح أنني أهملتُ، لكن الصحيح أيضًا أن الله لا يكلف نفسًا فوق وسعها، يمكن القول إنني نادمٌ على تأخري وإهمالي، لكنني لستُ حزينًا على ما سيحدث؛ فقد عِشت ورأيت واستمتعت، لكن حزني الشديد على هؤلاء الذين سأكلفهم فوق طاقتهم، بعضِ أهلي .. وبعضِ صديقي.
-------
المنشور ليس غرضه التعاطف، ولا الشفقة، لكنه جوعُ الكتابة.
# فتنة_العمى
.../...
‎‫#â€Ùتنة_العمى‬‎ – Explore
www.facebook.com