فاروق وادي - عن ذلك الشرطي الّناحل، المشاكس.. والدي!

ها أنت تعود إلى رام الله (بعد قيام السُّلطة)، في زمن شرع فيه الفدائي بالتحوُّل إلى شرطي، وكنت قد ولدت فيها إثر نكبة قاسية حلّت بالبشر بعد سنوات من ثورات، وإضرابات، وكفاح تسلّح بما تيسّر.. ووالد تحوّل من صانع ألغام بحفنات قليلة من بارود وبوتاس وسُكّر، وزارع للألغام نفسها في المجموعة الفدائية التي قادها "الشيخ حسن سلامة"، إلى شرطي بات المطلوب منه بعد ذلك حراسة المركز، والمخفر، وإرسال الإذاعة، ومراقبة الشيوعيين والبعثيين المعششين في رام الله، وتنظيم السير في المدينة.

.. وإنك لتتساءل الآن: أحقاً إن التاريخ يعيد نفسه، مرة بصورة مأساة ومرة بصورة ملهاة؟ ومن السؤال يتناسل سؤال آخر: أين حدود المأساة، وأين حدود الملهاة؟
مهما يكن، فإن ذاكرة الشوارع في رام الله والبيرة، ما زالت تحتفظ في بعض زواياها بصورة شرطيّ ناحل، قصير القامة، حلّ عليها بانحناءة ظهره الخفيفة وروحه الأكثر خفّة. كان يحرّض الناس على التظاهر، ويقضي ليلته ساهراً يلعب الورق في بيوت الشيوعيين المكلّف بمراقبتهم عن بُعد. تعرّض مرة للمساءلة لأنه حرّض المتظاهرين في القدس على إحراق القنصليّة البريطانية إحتجاجاً على العدوان الثلاثي، وتعرّض للمحاكمةُ لأنه ضُبط أثناء حراسته للإرسال في ليلة ندف ثلجي، وهو يشير بقدمه لإحدى السيّارات كي تمر، وشاء سوء طالعه أن تكون سيارة قائد المقاطعة، الذي فتح نافذتها بعصبيّة وصاح به: "هل أنت أعمى يا شرطي؟". فأجابه ببرود الثلج المتساقط: " نعم.. وأطرش أيضاً يا سيدي!".
شرطي ناحل، لكنه عندما كان يقف على الدوار الصغير في البيرة (والذي أزيل الآن)، قريباً من الطاحونة التي كانت تُصدر صوتاً قوياً بإيقاع رتيب وغباراً من نعمة الله (والتي ضاعت معالمها الآن إذ انتصبت مكانها عمارة حديثة). عندما كان يقف هناك، مشيراً للسيارات المارّة، وللسابلة بالتحيّة، كانت الطرقات كلها تتفرّع من جسده.. ومن ذلك الدوّار الصغير الذي يبدو وكأنه كان قد فُصِّل على حجم ذلك الجسد..
أولى هذه الطرق تهبط نحو حيّ "الشرفة".. ومنها إلى القدس، وثانيها يحملها شارع النهضة نخو ميدان المنارة، بينما امتدادها من الجانب الآخر يقود إلى منطقة "البالوع" على الطريق المؤدي إلى نابلس. أما الطريق الرابع الذي يبدو وكأنه يشكِّل امتداداً لطريق القدس، فإنه يفضي إلى مكان وسمه النص بـ "حارة الفردوس".
ذلك الشرطي الناحل كان والدي، الذي سلخ من عمره ستة عشر عاماً قضاها مشاكساً فذاً في جهاز الشرطة الأردنيّة، لم يكن خلالها على وفاق مع أي شكل من أشكال الإنضباط، فلم يحظ لذلك بشريطة واحدة غلى ذراعه، إذ كان يعتبرها متاع لبغرور.. وشرائط زائلة لا ترد غائلة الجوع. أما الوالدة، فقد حفظت سؤالاً كانت تطرحه عليه آخر كلّ شهر:" كم ديناراً كان حسم الراتب لهذا الشهر؟"!
المرة الوحيدة التي رأيته فيها منضبطاً كما ينبغي لشرطي أن يكون، كانت عندما أنهى ابنه البكر "سليمان" إجراءات النحاقه بسلك الضبّاط في الزرقاء وعاد إلى رام الله بزيّه العسكري.. وعندما دخل البيت بهيئة الضابط وهيبته، نهض الشرطي الناحل من مكانه.. ضرب الأرض بقوة اهتزت لها الجدران، ورفع كفّه قرب جبينه مؤدياً التحية العسكرية للضابط الجديد.
غير أنه، صبيحة اليوم التالي، أفسد كل ما بدر منه من انضباط عسكري ليلي يمحوه النهار المشاكس، وذلك عندما كان يقف في الطابور معزّزاً ومعتزاً بخلفه.. الضابط المنحدر من صلبه، وكان يصغي إلى صوت شاويش (تافه في رتبته) وهو يصدر أوامره:
ـ طابو.. و.. و.. و... ر.. تقهقر!
فصاح به السرطي الوالد بغيظ:
ـ إلى متى ستظلون تتفهقرون. ألن تتقدّموا يوماً؟
أدرك الشاويش أن الشرطي فد دخل إلى المنطقة الحرام، فصاح به زاجراً:
ـ شرطي تهّذّب.. وإلا قدمناك للمحاكمة..
هنا، كان سيل الشرطي الناحل قد بلغ زباه، فصاح بحدّة:
ـ كفّ عن تهديدي يا شاويش.. ألا تعلم أن هذا الذي بين ساقيّ يجلب الضباط لحكومتك (قالها بوضوح لا يحفل كثيراً بالتهذيب الذي تقتضيه الكتابة الآنّ).
ولو لم يضحك الطابور، ويضحك الشاويش المتجهِّم، لكان الوالد الشرطي قد عاد إلى الوالدة في نهاية ذلك الشهر بحسم كامل الراتب، قدمه ثمناَ لرعونة مقصودة.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـ مقاطع من "منازل القلب ـ كتاب رام الله" (1997). والصورة الأولى للوالد في بيروت 1980 التقطتها سناء وهو مستغرق بالقراءة، في أوقات انقطاع الكهرباء. والثانية للوالد أثناء الخدمة، وقد أشار خلفها إلى أنه تم التقاطها على "منارة البيرة"(!) بتارخ 2/ 2/ 1955.




1622039905353.png 1622040061766.png




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى