وأنا على محطة قطارات قنا، متجه إلى القاهرة، مساء الرابع والعشرين مِن مايو، كنت متعبًا وحزينًا، هذه أول مرةٍ أسافر لأمر يبدو جللا دون أن أخبِر أحدًا من أهلي أو صديقي
جلستُ على المقعد الحجري أحاول ألا أتذكر الحبيبة التي تركتني وحدي أواجه مخاوف العمى المنتظَر، تذكرت قصصًا وحكاياتٍ كثيرة عن العميان، وابتسمت وأنا أتذكر "الشيخ بكّار"، كان - رحِمه الله - إمامَ وخطيب مسجد اللبيدي ببرديس، وكنت أتردد عليه في غير أوقات الصلاة، وأنا طالب بالجامعة، نتدارس النحو والشعر والفقه، كان يحِب لغتي وثقافتي العربية، وبينما نحن جالسان يومًا ما في غرفته بالمسجد أقرأ له شيئًا، انطفأ النور فجأة، فتعجبت مِن أنه التفت إلى ذلك، فطلب مني أن يمسك بيدي لنتحرك معًا إلى قريب من منبر المسجد ليحضر لي شمعة أكمِل على ضوئها القراءة، كان الوقت ليلا وأنا لا أكاد أبصِر شيئًا، بينما الرجل يقودني مِن الغرفة إلى باحةٍ أمامها، ثم يدخل بي باب المسجد، ويطلب مني أن أتحاشي عمودًا هنا وآخر هناك!
وبينما نحن كذلك، تذكرت بيت بشار بن برد، ولم أكد أردده بيني وبين نفسي، حتى بادَرَني "الشيخ بكّار" منشدًا البيت:
أعمى يقودُ بصيرًا لا أبا لكمُ
قد ضلّ مَن كانت العميانُ تهديه!
فكدتُ أصعَق مِن هول توارد خاطريْنا إلى هذه الدرجة!
جاء القطار، وعلى غير عادتي، نِمتُ مِن كثرة ما أعاني، قضيتُ يومًا بالقاهرة، واتجهتُ صباح السبت إلى مدينة "دمنهور" التي رَشّح لي فيها الصديق الأستاذ عمرو الشيخ، الطبيبَ "أشرف بركات"؛ لينظر عينيّ وأمرَهما، كان الطبيب إنسانًا جميلا بالفعل، وبدا لي أنه لو اكتفى بعد فحص عينيّ، بهز رأسِه أسفًا على الحالة التي وصلتُ إليها، سأكون متفهمًا، وسأعود مِن حيث أتيت مستسلمًا وراضيًا بما كنت أتوقعه.
لكنه بدلا من ذلك أعلَن حالة الطوارئ في المستشفى التي يديرها، وقام باتصالات بأخصائيين وفنيين لإجراء مزيد من الفحوصات على قاع العين، ثم أشار إلى ضرورة إجراء أشعة مقطعية وأشعة صبغة، هنا علمتُ أنني دخلتُ تلك المرحلة التي كنت أتعجب كثيرًا أنني لم أدخلها من قبل!
كَشفت الأشعتان والفحوصات الأخرى عن وجود نزيف في شريانٍ ما بإحدى العينين، سَبَبه اعتمادي على نظارة القراءة، وإهمال نظارة المشي، بينما الأخرى تعاني من ضعف مركز الإبصار، وكان القرار بضرورة أن أخضع فورًا لعمليات حقن العين مرة كل شهر، وضرورةِ تخصيص نظارتين جديدتين للقراءة وللمشي ... كنت أظن أن الحَقن سيتم وأنا جالس على مقعد أمام الطبيب، لكنني فوجئت بلباس العمليات، وبنج موضعي، وغرفة عمليات، بل تقييد يديّ وأنا مستلقٍ على سرير العمليات!
لم يستغرق الأمر طويلا، كانت دقائق قليلة كافية لإنهاء الأمر بعد ابتسامات الطبيب والممرضات على مريضهم هذا الذي يحدّثهم بالفصحى وكأنه كائن فضائي! لم يفُتنِي أن خطاب الممرضات في المستشفي وفي مركز الأشعة كان "يا عمو"! .. عمو عمو ... المهم أن ننتهي.
كانت التجربة فرصة طيبة للصديق الأستاذ "عمرو الشيخ" الذي لم يفارقني لحظة واحدة، في أن يستثمر ظرفي المرَضي وأحزاني الخاصة، لصالحه، خاصةً وأن الممرضاتِ كن يخاطبنه بالأستاذ وحضرتك!
لم يحدث في حياتي أن ربطتُ عيني، لكنني فعلتها، وقضيت ساعاتٍ بعين واحدة، بالنسبة لي كانت تجربة قاسية وعنيفة، كنت متوترًا للغاية في غرفتي بالفندق، غير مصدّق أن يحدث هذا لي ومعي! كان كل ما يشغلني – حتى الآن – هل يمكن أن يسفِر كل هذا عن شيء؟ وكيف سأتحمل التجربة نفسها كل شهر حتى ينتهي هذا النزيف؟ وماذا إن لم ينتهِ؟!
انشغلت أيضًا بمحاولاتي إكمال المقطع السابع من قصيدة "بنفسجة الخمسين"، المهداة لصديقي أحمد الجعفري، حاولت مرارًا وتكرارًا، لكنني فشلت بسبب عدم وجود جهاز كمبيوتر أكتب عليه، ظللتُ أفكر في اعتكاف العشر الأواخر والمقالات التي أعلنتُ عن نيتي في كتابتها، هل سألحق بموعدي أم لا؟! فكرت أيضًا كثيرًا في نفقات هذه العمليات وتكاليفها، وتذكرت أنني عضو في اتحاد كتّاب مصر، فابتسمتُ!
قبل المغرب، جاءني الصديق "سعيد عبد المقصود"، وقام بنزع ضمادة العين، ووضع لي أول قطرة من القطرات الثلاث التي وَصفها الطبيب، واصطحبني بعدَها لتناول الإفطار على المقهى الذي شهِد تلك الفضيحة المدوّية التي نالت مِن تاريخ "سعيد عبد المقصود"، والتي يمنعني شرفي وموقفي الثقافي مِن كتمانها أو التستر عليها ... وهو ما سأنشره غدًا إن كان في العمر بقية.
ــــــــــــــــــــــــ
#فتنة_العمى
جلستُ على المقعد الحجري أحاول ألا أتذكر الحبيبة التي تركتني وحدي أواجه مخاوف العمى المنتظَر، تذكرت قصصًا وحكاياتٍ كثيرة عن العميان، وابتسمت وأنا أتذكر "الشيخ بكّار"، كان - رحِمه الله - إمامَ وخطيب مسجد اللبيدي ببرديس، وكنت أتردد عليه في غير أوقات الصلاة، وأنا طالب بالجامعة، نتدارس النحو والشعر والفقه، كان يحِب لغتي وثقافتي العربية، وبينما نحن جالسان يومًا ما في غرفته بالمسجد أقرأ له شيئًا، انطفأ النور فجأة، فتعجبت مِن أنه التفت إلى ذلك، فطلب مني أن يمسك بيدي لنتحرك معًا إلى قريب من منبر المسجد ليحضر لي شمعة أكمِل على ضوئها القراءة، كان الوقت ليلا وأنا لا أكاد أبصِر شيئًا، بينما الرجل يقودني مِن الغرفة إلى باحةٍ أمامها، ثم يدخل بي باب المسجد، ويطلب مني أن أتحاشي عمودًا هنا وآخر هناك!
وبينما نحن كذلك، تذكرت بيت بشار بن برد، ولم أكد أردده بيني وبين نفسي، حتى بادَرَني "الشيخ بكّار" منشدًا البيت:
أعمى يقودُ بصيرًا لا أبا لكمُ
قد ضلّ مَن كانت العميانُ تهديه!
فكدتُ أصعَق مِن هول توارد خاطريْنا إلى هذه الدرجة!
جاء القطار، وعلى غير عادتي، نِمتُ مِن كثرة ما أعاني، قضيتُ يومًا بالقاهرة، واتجهتُ صباح السبت إلى مدينة "دمنهور" التي رَشّح لي فيها الصديق الأستاذ عمرو الشيخ، الطبيبَ "أشرف بركات"؛ لينظر عينيّ وأمرَهما، كان الطبيب إنسانًا جميلا بالفعل، وبدا لي أنه لو اكتفى بعد فحص عينيّ، بهز رأسِه أسفًا على الحالة التي وصلتُ إليها، سأكون متفهمًا، وسأعود مِن حيث أتيت مستسلمًا وراضيًا بما كنت أتوقعه.
لكنه بدلا من ذلك أعلَن حالة الطوارئ في المستشفى التي يديرها، وقام باتصالات بأخصائيين وفنيين لإجراء مزيد من الفحوصات على قاع العين، ثم أشار إلى ضرورة إجراء أشعة مقطعية وأشعة صبغة، هنا علمتُ أنني دخلتُ تلك المرحلة التي كنت أتعجب كثيرًا أنني لم أدخلها من قبل!
كَشفت الأشعتان والفحوصات الأخرى عن وجود نزيف في شريانٍ ما بإحدى العينين، سَبَبه اعتمادي على نظارة القراءة، وإهمال نظارة المشي، بينما الأخرى تعاني من ضعف مركز الإبصار، وكان القرار بضرورة أن أخضع فورًا لعمليات حقن العين مرة كل شهر، وضرورةِ تخصيص نظارتين جديدتين للقراءة وللمشي ... كنت أظن أن الحَقن سيتم وأنا جالس على مقعد أمام الطبيب، لكنني فوجئت بلباس العمليات، وبنج موضعي، وغرفة عمليات، بل تقييد يديّ وأنا مستلقٍ على سرير العمليات!
لم يستغرق الأمر طويلا، كانت دقائق قليلة كافية لإنهاء الأمر بعد ابتسامات الطبيب والممرضات على مريضهم هذا الذي يحدّثهم بالفصحى وكأنه كائن فضائي! لم يفُتنِي أن خطاب الممرضات في المستشفي وفي مركز الأشعة كان "يا عمو"! .. عمو عمو ... المهم أن ننتهي.
كانت التجربة فرصة طيبة للصديق الأستاذ "عمرو الشيخ" الذي لم يفارقني لحظة واحدة، في أن يستثمر ظرفي المرَضي وأحزاني الخاصة، لصالحه، خاصةً وأن الممرضاتِ كن يخاطبنه بالأستاذ وحضرتك!
لم يحدث في حياتي أن ربطتُ عيني، لكنني فعلتها، وقضيت ساعاتٍ بعين واحدة، بالنسبة لي كانت تجربة قاسية وعنيفة، كنت متوترًا للغاية في غرفتي بالفندق، غير مصدّق أن يحدث هذا لي ومعي! كان كل ما يشغلني – حتى الآن – هل يمكن أن يسفِر كل هذا عن شيء؟ وكيف سأتحمل التجربة نفسها كل شهر حتى ينتهي هذا النزيف؟ وماذا إن لم ينتهِ؟!
انشغلت أيضًا بمحاولاتي إكمال المقطع السابع من قصيدة "بنفسجة الخمسين"، المهداة لصديقي أحمد الجعفري، حاولت مرارًا وتكرارًا، لكنني فشلت بسبب عدم وجود جهاز كمبيوتر أكتب عليه، ظللتُ أفكر في اعتكاف العشر الأواخر والمقالات التي أعلنتُ عن نيتي في كتابتها، هل سألحق بموعدي أم لا؟! فكرت أيضًا كثيرًا في نفقات هذه العمليات وتكاليفها، وتذكرت أنني عضو في اتحاد كتّاب مصر، فابتسمتُ!
قبل المغرب، جاءني الصديق "سعيد عبد المقصود"، وقام بنزع ضمادة العين، ووضع لي أول قطرة من القطرات الثلاث التي وَصفها الطبيب، واصطحبني بعدَها لتناول الإفطار على المقهى الذي شهِد تلك الفضيحة المدوّية التي نالت مِن تاريخ "سعيد عبد المقصود"، والتي يمنعني شرفي وموقفي الثقافي مِن كتمانها أو التستر عليها ... وهو ما سأنشره غدًا إن كان في العمر بقية.
ــــــــــــــــــــــــ
#فتنة_العمى
‎‫#â€Ùتنة_العمى‬‎ – Explore
www.facebook.com