من يوسف نعمان معلوف
عن نيويورك في 14 يوليو/تموز 1926
عزيزي شفيق
… وددت لو يسمح لي الوقت بإبداء بعض ملاحظاتي مطولاً في ديوانك، ولكن ما أريده لا يتاح لي فنحن هنا عبيد أوقاتنا، غير أنّ ذلك لا يمنعني من إبداء رأيــي في أشياء جوهرية أريدك أن تعيرها جانب الاهتمام.
إعتن في مؤلفاتك المقبلة أن تكون مبتكراً فيما تنزع إليه، سواء كان بالفكر أو بالعمل، وأن تكون مقلَّداً (بفتح اللام المشددة) لا مقلِّداً (بالكسر) في سائر أعمالك، لأن على هذه القاعدة الأساسية تتوقف شهرة المرء في الحياة وقبل كل شيء أترك الخيال الذي لا روح فيه ولا حقيقة. واطرق أبداً المواضيع الحيوية والعمرانية وشهِّر تشهيراً لا تخشى معه لوم اللوام مواضع الضعف في الأمة، مشيراً إلى كل ضعف في أخلاقها وخلل في عاداتها ونقص في كيانها، على سبيل حب الإصلاح المجرّد ليس إلا، وأن لا تعود حياتك كلها في ما تكتب إلى البكاء والنواح على الطلول البالية والآثار الخربة، كما يفعل أكثر الكتبة الشرقيين ولا سيما الشعراء منهم، بل كن ذاك الرجل المفكر في الحياة وما تتطلبه الحياة من عوامل الرقي وأسباب العمران، ولا تكن شرقياً في خيالك وعملك، بل المس بيدك أبداً حقائق الوجود، واسع إلى العمل بها دائماً وفي كل حين، لأن فضاء الشرق ممتاز عن كل فضاء، كله خيال بخيال، يوحي إلى المرء ما لا يوحيه فضاء آخر في الوجود، فمنه أوحيت الأديان وظهر الأنبياء ونشأت خيالات الأرواح على تعداد منازعها وكثرة معتقداتها فكان شراً في الحياة على نفسه وعلى غيره ــــ فكن يا شفيق إذاً رجلاً يؤخذ بالحقيقة لا يضلّه الخيال…
عمك
*************
جواب صاحب الأحلام
من شفيق معلوف الى يوسف نعمان معلوف
عن زحلة في 15 سبتمبر/أيلول سنة 1926
سيدي العم الفاضل
… أما ما ذكرتموه عن الأحلام فقد أعرته كل اهتمامي منزلاً رأيكم من نفسي أجلّ منزلة، وأما أن أكون «مقلَّداً (بفتح اللام المشددة) لا مقلِّداً (بالكسر) في سائر أعمالي» فهذا ما طمحت إليه منذ ترعرعت ونشأت. فكنت راسخ العقيدة في وجوب تجديد الشعر العربي وبثّ روح حديثة فيه، ولئن طرقت باباً ولجه سواي فهل في كل ما تتناوله القرائح ما لم يطرق الناس بابه؟ وهل إذا اتفق لرسام إبراز صورة عالجها من قبله آخرون فاستحدث لها ألوناً وابتكر لها رموزاً وأشكالاً نقوم فننكر عليه فنه وابتكاره، لأن الصورة حملها قبل لوحه لوح وخطرت لسواه في مخيلة؟
أمّا أن أترك في شعري «الخيال الذي لا روح فيه ولا حقيقة، وأطرق المواضيع الحيوية والعمرانية» فلا أخفي عنك يا سيدي العم الكريم، مع احترامي لرأيك الأعلى، أنّ لي رأياً آخر في الشعر. فهو في عرفي ذلك الشعور النابض يصور للناس نفوس الناس، ولا تتعدى فائدته ــــ في أحايين كثيرة ــــ منفعة يصيبها المرء لدى سماع قطعة موسيقية جميلة، مطربة كانت أم مشجية. وقد أكون على خطأ من الوجه العالمي النافع، ولكنني على حق من وجهة الفن الخالد.
إنّ للوطن كتّابه وصحافييه وله أقلامهم المرهفة وقرائحهم المشحوذة. أما أن يسير الشاعر مع الحالات الطارئة فيبعث من حوله ضجيجاً يزول بزوال تلك الطوارىء، فهذا ما لا أسلّم به، إذ ليس الشاعر في عرفي من ضج له الجيل الواحد حتى إذا تبدلت الأوضاع واختلفت الأحوال تناسته من بعده الأجيال.
أنا عالم أنّ الشرق لا يحتاج إلى الفن حاجته إلى المواضيع الحيوية العمرانية، ولكن هذه المواضيع ترتبط بالزمان، يا سيدي العم الكريم، وأنا من هواة الشعر الخالد الذي لا يرتبط بالأزمنة…
المخلص
شفيق معلوف
عن نيويورك في 14 يوليو/تموز 1926
عزيزي شفيق
… وددت لو يسمح لي الوقت بإبداء بعض ملاحظاتي مطولاً في ديوانك، ولكن ما أريده لا يتاح لي فنحن هنا عبيد أوقاتنا، غير أنّ ذلك لا يمنعني من إبداء رأيــي في أشياء جوهرية أريدك أن تعيرها جانب الاهتمام.
إعتن في مؤلفاتك المقبلة أن تكون مبتكراً فيما تنزع إليه، سواء كان بالفكر أو بالعمل، وأن تكون مقلَّداً (بفتح اللام المشددة) لا مقلِّداً (بالكسر) في سائر أعمالك، لأن على هذه القاعدة الأساسية تتوقف شهرة المرء في الحياة وقبل كل شيء أترك الخيال الذي لا روح فيه ولا حقيقة. واطرق أبداً المواضيع الحيوية والعمرانية وشهِّر تشهيراً لا تخشى معه لوم اللوام مواضع الضعف في الأمة، مشيراً إلى كل ضعف في أخلاقها وخلل في عاداتها ونقص في كيانها، على سبيل حب الإصلاح المجرّد ليس إلا، وأن لا تعود حياتك كلها في ما تكتب إلى البكاء والنواح على الطلول البالية والآثار الخربة، كما يفعل أكثر الكتبة الشرقيين ولا سيما الشعراء منهم، بل كن ذاك الرجل المفكر في الحياة وما تتطلبه الحياة من عوامل الرقي وأسباب العمران، ولا تكن شرقياً في خيالك وعملك، بل المس بيدك أبداً حقائق الوجود، واسع إلى العمل بها دائماً وفي كل حين، لأن فضاء الشرق ممتاز عن كل فضاء، كله خيال بخيال، يوحي إلى المرء ما لا يوحيه فضاء آخر في الوجود، فمنه أوحيت الأديان وظهر الأنبياء ونشأت خيالات الأرواح على تعداد منازعها وكثرة معتقداتها فكان شراً في الحياة على نفسه وعلى غيره ــــ فكن يا شفيق إذاً رجلاً يؤخذ بالحقيقة لا يضلّه الخيال…
عمك
*************
جواب صاحب الأحلام
من شفيق معلوف الى يوسف نعمان معلوف
عن زحلة في 15 سبتمبر/أيلول سنة 1926
سيدي العم الفاضل
… أما ما ذكرتموه عن الأحلام فقد أعرته كل اهتمامي منزلاً رأيكم من نفسي أجلّ منزلة، وأما أن أكون «مقلَّداً (بفتح اللام المشددة) لا مقلِّداً (بالكسر) في سائر أعمالي» فهذا ما طمحت إليه منذ ترعرعت ونشأت. فكنت راسخ العقيدة في وجوب تجديد الشعر العربي وبثّ روح حديثة فيه، ولئن طرقت باباً ولجه سواي فهل في كل ما تتناوله القرائح ما لم يطرق الناس بابه؟ وهل إذا اتفق لرسام إبراز صورة عالجها من قبله آخرون فاستحدث لها ألوناً وابتكر لها رموزاً وأشكالاً نقوم فننكر عليه فنه وابتكاره، لأن الصورة حملها قبل لوحه لوح وخطرت لسواه في مخيلة؟
أمّا أن أترك في شعري «الخيال الذي لا روح فيه ولا حقيقة، وأطرق المواضيع الحيوية والعمرانية» فلا أخفي عنك يا سيدي العم الكريم، مع احترامي لرأيك الأعلى، أنّ لي رأياً آخر في الشعر. فهو في عرفي ذلك الشعور النابض يصور للناس نفوس الناس، ولا تتعدى فائدته ــــ في أحايين كثيرة ــــ منفعة يصيبها المرء لدى سماع قطعة موسيقية جميلة، مطربة كانت أم مشجية. وقد أكون على خطأ من الوجه العالمي النافع، ولكنني على حق من وجهة الفن الخالد.
إنّ للوطن كتّابه وصحافييه وله أقلامهم المرهفة وقرائحهم المشحوذة. أما أن يسير الشاعر مع الحالات الطارئة فيبعث من حوله ضجيجاً يزول بزوال تلك الطوارىء، فهذا ما لا أسلّم به، إذ ليس الشاعر في عرفي من ضج له الجيل الواحد حتى إذا تبدلت الأوضاع واختلفت الأحوال تناسته من بعده الأجيال.
أنا عالم أنّ الشرق لا يحتاج إلى الفن حاجته إلى المواضيع الحيوية العمرانية، ولكن هذه المواضيع ترتبط بالزمان، يا سيدي العم الكريم، وأنا من هواة الشعر الخالد الذي لا يرتبط بالأزمنة…
المخلص
شفيق معلوف