رسائل الأدباء ثلاث رسائل بين حزامة حبايب الى فاروق وادي

(1)

العزيز فاروق..
(اسمح لي أن أجردك من لقب أستاذ، أو أي صفة تخلق مسافة ما، وتقلل من المحبة).. فبالأسماء وحدها نكون أقرب..
قرأتُ مقالتك النقدية في “الأيام” عن روايتي “قبل أن تنام الملكة”، وسعدتُ كثيراً، إذ شعرتُ أن الحكاية سحبتك بهذا العمق والشغف، الذي لمسته، إلى عوالمها المتشعبة..
لعلك الوحيد، ممن قرأ الرواية أوناقشني بها على الأقل، وضع يده على تلك العلاقة “الجميلة جداً” رغم كل شوائبها، بين الأب والابنة.. فما بينهما من حب وصداقة يجعل الأسى محتملاً، حتى وإن كان الأب قد “غشّ” في قرعة الاسمين: اسمه واسم جهاد.. فأسلمها - دون أن يقصد - لرحلة الصحراء المضنية. ولعل مقاربتك لهذا المشهد وعقد مقارنة بينه وبين رحلة رجال غسان كنفاني في الشمس، بصورة عكسية، إنما مقاربة مضيئة بحق..
هي قراءة نوعية، بلا شك، من جانبك للرواية، وكتابتك عنها تضيف لها وتغنيها، ذلك أنك في النهاية راوٍ، ولعلي أستطيع أن أغبط نفسي إذ لمستُ نبرة حب في كلماتك، كأنك جزء من هذا العالم المروي على اتساع.. كان لافتاً تناولك “أبواب” العمل وما وصفته بـ”البحث” الروائي.. ذلك أن الشخصيات إنما تنمو بطريقتها في كل مبحث، وبكل تأكيد توقفتُ أمام إشارتك إلى أن “معرفة الذات لا تتم بمعزل عن معرفة الآخر”..
آمل أن تكون قد وجدتَ شيئاً من ذاتك، في نساء الرواية قبل رجالها.. في الحزن الكثير وفي الفرح اليسير، في المضي في رحلة الحياة رغم كل شيء..
بعض الروايات والأعمال الأدبية عموماً، تشبه البشر الذين “يدخلون” حياتنا فجأة.. دون توقع ودون انتظار.. يقيمون في وجودنا لحظة، أو ما يماثلها، ثم يرحلون، تاركين في عمرنا أثرا بالغاً ..مستديماً.. يغادروننا لكنهم يظلون!
أمل أن تكون روايتي - بالنسبة لك - كهؤلاء البشر الجميلين.. على قلتهم.
محبتي
حزامة

(2)

العزيزة حزامة
تحياتي..
أشكرك ثلاث مرّات..
الأولى، على رسالتك الجميلة التي أشعرتني أن الكتابة، أحياناً، لا تذهب هباء، ولكنها تؤسس لحالة حوار افتقدناه في حياتنا وعلاقاتنا الثقافيّة، تتجاوز المديح ومديح المديح.
وثانياً، لأنك جردتني من لقب الأستاذيّة الذي لا أحبه، لأنه يحرمني من متعة أن أكون تلميذاً دائماً لا يكفّ عن طلب العلم والتعلُّم.
وثالثاً، وهو الأهم، لتلك المتعة الفائقة التي وفّرتها لنا “الرواية”، سناء وشهد وأنا. سناء زوجتي التي حرّضتني على الكتابة عنها، وأضاءت لي حواراتنا المشتركة حول جوانب عديدة منها (وخاصّة لجهة الأب الذي أحبته كثيراً وتركت لي مهمّة أن أحبّ جميع نسائك بلا استثناء). وكانت قد استعارتها من الصديق ابراهيم نصر الله بعد أن تركنا نسختنا لابنتنا شهد في البرتغال، حيث قرأتُها هناك دون إشارات وتعليقات بقلم الرصاص، كما جرت العادة، فشكّلت بذلك واحدة من متع الرحلة. وكنتُ أحسب أن موضوعها يدخل ضمن مشروع شهد للدكتوراة، لكنني فوجئت بها، وبعد وصول رسالتك اليوم، وهي تقول لأمها على “Skype” أنها شارفت على إنهاء قراءة العمل، وهي لا تشعر بأنها تقرأ رواية.. وإنما تعيش حياة!
لا أتواضع عندما أقول إنني لم أعط الرواية حقّها في القراءة، وأنني لم أكتب دراسة نقديّة بمعنى الكلمة (فأنا لست ناقداً مع أنني أكتب النقد)، ورغم أنني تجاوزت المساحة الممنوحة لي في “الأيّام” بأكثر من ضعف حجمها، إلاّ أنني شعرت في النهاية بأنني كنتُ أكتب رسالة حبّ.
مودتي وتقديري .. فاروق



(3)

عزيزي فاروق،
إذا كانت إضاءتك النقدية رسالة حب، فهي إذن أجمل رسالة حب.. ومع ذلك اسمح لي أن أقول لك إن شهد (ابنتك التي تعمدتُ ألا أنصب اسمها) زرعت في روحي شعوراً بالفرح العارم إذ لخصت عملية القراءة بأبلغ ما يمكن قوله، وهي أنها تعيش حياة! هذا أقصى ما أرومه وأسعى إليه، وهو أن تصوغ الكتابة حياة تُعاش، في كل مرأة نقرؤها.. (ولعلي لمست من نبرة “صوتك” الجلية في كلماتك شعورك بالفخر والاعتزاز بشهد، وقد لا أبالغ إذا قلت إنه يتهيأ لي أن شهد هي ملكتك! شهد من الناس الذين يجعلون خساراتنا وفقدنا في الحياة قابلة لأن تكون محتملة.. هم التعويض الأجمل لكل ما ضاع منا..
وقطعاً، أشعر أن سناء، زوجتك، أقرب ما تكون إلى صديقة لي.. أتطلع إلى لقائها ولقاء العائلة، ربما في أقرب زيارة لي إلى عمّان، (ولو أني بيني وبينك لا أحب عمان، آتيها لماماً)، وبعد أن فقدتُ الصديق صلاح حزين، اقترنت المدينة لدي بحزن مقيم، فحتى بيته ما إن أدخله حتى أشعر بصوته يهطل فوق كتفي، فأتلفت حولي مذعورة. أدين لصلاح أنه عرفني عليك، وكان قد أعطاني روايتك المدهشة “رائحة الصيف”، وأذكر أننا تناقشنا وإياه في فكرة “التماهي” التي طرقتها، وشخصياً اعتبرتها أول رواية تتحدث عن التماهي على نحو يبدو طبيعياً، ومرعباً، وفي النهاية يشكل هوية مضادة عصية على التواري).. لعل مبعث تقديري لما كتبته لم يتأت من ناقد، كما أشرت لك سابقاً، وإنما لأنك حكّاء بطريقتك..
لكن لماذا يأتي الحوار متأخراً؟
أتفق معك تماماً أننا نفتقد إلى الحوار في المشهد الثقافي المشحون بالمديح العبثي أو المجاني، أو الزعل العصابي من النقد والانتقاد، وأحياناً الكتابة التأبينية، لكتاب لا يزالون على قيد الحياة!!
شخصياً، لا أعتقد أني وجدتُ نفسي في “الوسط الثقافي” في الأردن، فظللت بعيدة باختياري، وربما بالهوية التي حرصت من البداية على أن أؤكد لها: أنني فلسطينية، في بيئة تشهد فرزاً مريعاً.. عشتُ في الأردن غريبة، وأصبحت آتيها غريبة أكثر، وفي كل مرة أبتعد تسقط صورتها من أيامي دونما كثير حسرة.. صداقاتي محدودة، لكنها تعمّر في قلبي، تفرق بيننا المسافات وأراضي اللجوء والوطن البعيد، لكن حين ألتقيهم بين عمر وآخر، نتواصل من حين انقطعنا كأننا لم ننقطع..
أراك في جهاد، وأراك في الأب الجميل جداً الذي هزمته الحياة، وأراك في لص الفاكهة ماهر بن ام ماهر، وأراك في بيلا الشقي.. تماماً كما أراك في كل النساء القويات الفاتنات، اللاتي أدرن بيوتهن باقتدار إذ انسحب الرجال من حياتهن.. تخيلهن يا فاروق في البيت، يتصايحن وينكتن، ويطبخن، ويصرخن ويبكين، وفي النهاية يعشن بألق ما بعده ألق.
ويوم يمتن، يفضلن أن يمتن جميلات، أنيقات. في النهاية ألم تحرص جهاد على أن تجعل جدتها رضية تموت بشعر أحمر غزير وجميل، حتى وإن كان مستعاراً، يغطي رأسها؟
جهاد لم تعش ملكة، لكنها تستحق بعد كل ما رأت وروت أن تكون الملكة بألف لام التعريف، دون أن تنتظر من أحد أن ينحني لآلامها. في النهاية، تستحق أن تنام مطمئنة.
محبتي لك
ولسناء
ومحبتي الأعظم لشهد
وهي رسالة لكم جميعاً.. إلى ان نلتقي
ومع ذلك، أحرص على ألا أفتن بالثناء، وأظل أقبل على كتابتي بنفَس الهاوية، أو اندفاع العاشقة التي تقع في الحب للمرة الأولى.. أحب ألا أفقد دهشتي..
قطعاً، نفتقد إلى الحوار في المشهد الثقافي، بعيداً عن المديح العبثي أو المجاني، أو الزعل العصابي من النقد أو الانتقاد..
حزامة

تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
رسائل الأدباء (ملف)
المشاهدات
783
آخر تحديث
أعلى