"لو أظلمت الدنيا أمام عينيّ فجأة، فلن يكون شراء تيشيرت أحمر بجيب، مِن أحلامي ولا أمنياتي، وسأكتفي بالتيشيرت الأحمر اليتيم الذي أرتديه بلا جيب!"
هكذا كنت أحدّث نفسي، في غرفة الفندق، التي ألقاني فيها الصديق الأستاذ عمرو الشيخ، بعد ظهيرة الأحد، وحيدًا بضمادةٍ على عيني اليمنى، كان مرتبطًا بعمل وسفر سيعود منهما متأخرًا، وكان الاتفاق أن يمر بي الصديق الأستاذ "سعيد عبد المقصود" قبل المغرب؛ لينزع عن عيني الضمادة، وليصطحبني إلى مقهى البنا بدمنهور لنتناول الإفطار.
ولمّا كنت ممن لا ينامون في فترة الظهيرة، كان مأزقي حادًا وعنيفًا، ولولا الضمادة، واضطراب الرؤية، وتوتر المزاج، لكان يمكن أن تمر الساعات القليلة عادية وطبيعية ... كانت الأزمة ماذا أصنع؟ لا أجيد الكتابة في ظروف كهذه، والتليفونان يحتاجان للشحن، وفي القلب ما فيه من همٍ وحزَن، فانشغلت بالتدخين متابعًا بعين واحدة الدخانَ المتصاعد، متسائلا ما لونه تحديدًا؟ وظللتُ أفكر في علاقتي بالألوان، واكتشفت أنني لا أجيد اختيار الألوان المناسبة لملابسي، ولا أفهم كثيرًا في الفن التشكيلي وتناسق الألوان ودلالاتها، وهنا تذكرت بشّار بن برد، وعلاقته المدهشة بالألوان، واتكاءَه عليها في شِعره، وكأنه يقول لنا إنه يبصِر ما لا نراه!
ورأيت أن أنشغل ببشار لأستعيده مِن ذاكرتي، فقد مضى عهدٌ بعيد مذ آخر لقاءٍ بيني وبينه، فأخذت أذرع الغرفة جيئة وذهابًا متحدثًا بصوت عالٍ عنه، وكنت قد ذكرت من قبل أنني كنت مفتونًا بأبي العلاء المعري، وطه حسين في محنتهما، لكنني لم أقُل إن فتنتي الكبرى كانت ببشّار الذي عرَفته قبل أن أعرف صاحبيه في الآفة، ربما كانت فتنتي بالمعري وحسين بسبب ثقافتهما في وجود الآفة التي طرأت عليهما، لكن فتنتي ببشّار كانت بسبب شاعريته، وبسبب عبقريته في الوصف وغرامه بالألوان في شِعره، رغم أنه يختلف عن صاحبيه في أنه ولِد بآفتِه.
ظللت في الغرفة أنشِد بعض شِعره، وابتسمتُ وأنا أقف على مجونِه وزندقته كما قال مؤرخو الأدب، ولم أرَه كما زعموا، ووقفت أمام بيتِه الشهير:
"كأن مثار النقع فوق رؤوسِنا
وأسيافَنا ليلٌ تهاوَى كواكبُه"
وعجبت من وصفِه وتشبيهه الأسودَ بالأسود، والأبيضَ بالأبيض، متحدثًا عن معركة بتفاصيل غبارِها، وهو على ما هو عليه من عَمَى مولود به!
وبينما أحاول أن أضع طرف الشاحن في ثقب الموبايل، وجدتني أخطئ إدخال هذا في ذاك، ووجدتني أكسر عيني اليسرى في محاولة ضبطهما، فابتسمتُ وأنا أتذكر رد بشّار عندما سأله خال الخليفة المهدي عن صنعتِه، فأجابه: أثقب اللؤلؤ!
ألقيت الشاحن والموبايل جانبًا، وحمدتُ الله أن مضى الوقت سريعًا حتى جاءني الصديق "سعيد عبد المقصود"، وقام بدور الطبيب، فنزع الضمادة برفق، وأكرمني بوضع القطرات .. وخرجنا بعد أن بدأت أستشعِر شيئًا من هدوئي واتزاني.
في الحقيقة كان يمكن أن يمر المساء عاديًا وطبيعيًا، لولا أن القدَر والتاريخ أرادا معًا أن يقفا بالمرصاد لـ سعيد بن عبد المقصود، وليس الغرض من رواية ما حدث معه، التشهيرَ به، ولا فضحَه، فحسْبه ما هو ما فيه! لكنّ الغرض العِظةُ والاعتبار مِن حوادث الزمان، والغرض أن يتعلم الناس الدرس، وأن يستفيدوا من التجارب الكبيرة في الحياة؛ حتى لا يلقوا بأيديهم إلى التهلكة!
لعبة "الدومينو"، ليست لعبة حظ، ربما تقترب في بعض مستوياتها من لعبة "الشطرنج" عند عشاقها ومحترفيها، وكنت قد اعتزلتها منذ سنين بعيدة، ولم يكن اعتزالي إياها بسبب كبر السن، ولا ضيق الوقت، ولا حتى بسبب مكانتها الاجتماعية في التصور الشعبي بوصفها لعبة مَقاهٍ! لكنني اعتزلتها حزينًا مستاء بسبب ندرة العثور على منافس إن لم يستطع أن يغلبني فيها، فعلى الأقل يصمد أمامي قليلا!
وقد خضتُ منافساتٍ كثيرة في أزمنة مضت – أيامَ كانت عيناي مضيئتيْن - مع كثيرين ممن رأوا في أنفسهم كفاءة في مواجهتي، كان بعضهم لا بأس به في معرفة الفرق بين الشيش والبيش، واليك والدو، لكن أحدًا منهم لم يغلبني فيها قط، فضلا عن أن يرضي عندي غرور المنافسة .. أذكر منهم، رفعت حفني، طلعت عباس، الجميلي أحمد، مأمون الحجاجي، عبيد طربوش، شاذلي عبد العزيز، محمد رمضان الخيشي، عبد الرحيم الزيات، ضاحي الفياضي، وعشرات آخرين تركتهم منكسرين مفضوحين.
في صحبة ابن عبد المقصود إلى المقهى، حدثَ أن غضبت الآلهة – فيما يبدو – عليه، فورّطته في أن جرى حديث بيننا بعد الإفطار عن لعبة الدومينو، وهو يزعم لي أنه أسطورة المقهى الذي كنا جالسين عليه، وكانت دهشتي كبيرة ورفاقه ينادونه هناك بـ "يا معلمنا الكبير"، يقصدون معلمهم في اللعبة! ورغم أنني لم ألقِ بالا واكتفيت بابتسامة ساخرة، إلا أن المفاجأة كانت أكبر وهو يسألني ألَك فيها؟!
طلبتُ منه أن يبحث لنفسه عن غيري، فأبَى!
سألتُه ألا يحرج نفسه وسط تلاميذه ومريديه، فاستكبَر!
رجوته أن يعفيني ويعفي نفسه من الحرج، فوضع أصابعه في أذنيه!
فكانت النتيجة فضيحته المدوية، تسع عشرات كاملة في الدومينو البلدي، وعشرتين أمريكاني!
حدث هذا وأنا أكاد ألاعبه بعينٍ واحدة، بينما كان هو بين هزيمةٍ وأخرى يحاول أن يضع في العين بضع قطرات؛ ظنًا منه أنها يمكن أن تشوّش على رؤيتي، دون أن يدرِك المسكين أننا نرى بنور الله!
ـــــــــــ
#فتنة_العمى
هكذا كنت أحدّث نفسي، في غرفة الفندق، التي ألقاني فيها الصديق الأستاذ عمرو الشيخ، بعد ظهيرة الأحد، وحيدًا بضمادةٍ على عيني اليمنى، كان مرتبطًا بعمل وسفر سيعود منهما متأخرًا، وكان الاتفاق أن يمر بي الصديق الأستاذ "سعيد عبد المقصود" قبل المغرب؛ لينزع عن عيني الضمادة، وليصطحبني إلى مقهى البنا بدمنهور لنتناول الإفطار.
ولمّا كنت ممن لا ينامون في فترة الظهيرة، كان مأزقي حادًا وعنيفًا، ولولا الضمادة، واضطراب الرؤية، وتوتر المزاج، لكان يمكن أن تمر الساعات القليلة عادية وطبيعية ... كانت الأزمة ماذا أصنع؟ لا أجيد الكتابة في ظروف كهذه، والتليفونان يحتاجان للشحن، وفي القلب ما فيه من همٍ وحزَن، فانشغلت بالتدخين متابعًا بعين واحدة الدخانَ المتصاعد، متسائلا ما لونه تحديدًا؟ وظللتُ أفكر في علاقتي بالألوان، واكتشفت أنني لا أجيد اختيار الألوان المناسبة لملابسي، ولا أفهم كثيرًا في الفن التشكيلي وتناسق الألوان ودلالاتها، وهنا تذكرت بشّار بن برد، وعلاقته المدهشة بالألوان، واتكاءَه عليها في شِعره، وكأنه يقول لنا إنه يبصِر ما لا نراه!
ورأيت أن أنشغل ببشار لأستعيده مِن ذاكرتي، فقد مضى عهدٌ بعيد مذ آخر لقاءٍ بيني وبينه، فأخذت أذرع الغرفة جيئة وذهابًا متحدثًا بصوت عالٍ عنه، وكنت قد ذكرت من قبل أنني كنت مفتونًا بأبي العلاء المعري، وطه حسين في محنتهما، لكنني لم أقُل إن فتنتي الكبرى كانت ببشّار الذي عرَفته قبل أن أعرف صاحبيه في الآفة، ربما كانت فتنتي بالمعري وحسين بسبب ثقافتهما في وجود الآفة التي طرأت عليهما، لكن فتنتي ببشّار كانت بسبب شاعريته، وبسبب عبقريته في الوصف وغرامه بالألوان في شِعره، رغم أنه يختلف عن صاحبيه في أنه ولِد بآفتِه.
ظللت في الغرفة أنشِد بعض شِعره، وابتسمتُ وأنا أقف على مجونِه وزندقته كما قال مؤرخو الأدب، ولم أرَه كما زعموا، ووقفت أمام بيتِه الشهير:
"كأن مثار النقع فوق رؤوسِنا
وأسيافَنا ليلٌ تهاوَى كواكبُه"
وعجبت من وصفِه وتشبيهه الأسودَ بالأسود، والأبيضَ بالأبيض، متحدثًا عن معركة بتفاصيل غبارِها، وهو على ما هو عليه من عَمَى مولود به!
وبينما أحاول أن أضع طرف الشاحن في ثقب الموبايل، وجدتني أخطئ إدخال هذا في ذاك، ووجدتني أكسر عيني اليسرى في محاولة ضبطهما، فابتسمتُ وأنا أتذكر رد بشّار عندما سأله خال الخليفة المهدي عن صنعتِه، فأجابه: أثقب اللؤلؤ!
ألقيت الشاحن والموبايل جانبًا، وحمدتُ الله أن مضى الوقت سريعًا حتى جاءني الصديق "سعيد عبد المقصود"، وقام بدور الطبيب، فنزع الضمادة برفق، وأكرمني بوضع القطرات .. وخرجنا بعد أن بدأت أستشعِر شيئًا من هدوئي واتزاني.
في الحقيقة كان يمكن أن يمر المساء عاديًا وطبيعيًا، لولا أن القدَر والتاريخ أرادا معًا أن يقفا بالمرصاد لـ سعيد بن عبد المقصود، وليس الغرض من رواية ما حدث معه، التشهيرَ به، ولا فضحَه، فحسْبه ما هو ما فيه! لكنّ الغرض العِظةُ والاعتبار مِن حوادث الزمان، والغرض أن يتعلم الناس الدرس، وأن يستفيدوا من التجارب الكبيرة في الحياة؛ حتى لا يلقوا بأيديهم إلى التهلكة!
لعبة "الدومينو"، ليست لعبة حظ، ربما تقترب في بعض مستوياتها من لعبة "الشطرنج" عند عشاقها ومحترفيها، وكنت قد اعتزلتها منذ سنين بعيدة، ولم يكن اعتزالي إياها بسبب كبر السن، ولا ضيق الوقت، ولا حتى بسبب مكانتها الاجتماعية في التصور الشعبي بوصفها لعبة مَقاهٍ! لكنني اعتزلتها حزينًا مستاء بسبب ندرة العثور على منافس إن لم يستطع أن يغلبني فيها، فعلى الأقل يصمد أمامي قليلا!
وقد خضتُ منافساتٍ كثيرة في أزمنة مضت – أيامَ كانت عيناي مضيئتيْن - مع كثيرين ممن رأوا في أنفسهم كفاءة في مواجهتي، كان بعضهم لا بأس به في معرفة الفرق بين الشيش والبيش، واليك والدو، لكن أحدًا منهم لم يغلبني فيها قط، فضلا عن أن يرضي عندي غرور المنافسة .. أذكر منهم، رفعت حفني، طلعت عباس، الجميلي أحمد، مأمون الحجاجي، عبيد طربوش، شاذلي عبد العزيز، محمد رمضان الخيشي، عبد الرحيم الزيات، ضاحي الفياضي، وعشرات آخرين تركتهم منكسرين مفضوحين.
في صحبة ابن عبد المقصود إلى المقهى، حدثَ أن غضبت الآلهة – فيما يبدو – عليه، فورّطته في أن جرى حديث بيننا بعد الإفطار عن لعبة الدومينو، وهو يزعم لي أنه أسطورة المقهى الذي كنا جالسين عليه، وكانت دهشتي كبيرة ورفاقه ينادونه هناك بـ "يا معلمنا الكبير"، يقصدون معلمهم في اللعبة! ورغم أنني لم ألقِ بالا واكتفيت بابتسامة ساخرة، إلا أن المفاجأة كانت أكبر وهو يسألني ألَك فيها؟!
طلبتُ منه أن يبحث لنفسه عن غيري، فأبَى!
سألتُه ألا يحرج نفسه وسط تلاميذه ومريديه، فاستكبَر!
رجوته أن يعفيني ويعفي نفسه من الحرج، فوضع أصابعه في أذنيه!
فكانت النتيجة فضيحته المدوية، تسع عشرات كاملة في الدومينو البلدي، وعشرتين أمريكاني!
حدث هذا وأنا أكاد ألاعبه بعينٍ واحدة، بينما كان هو بين هزيمةٍ وأخرى يحاول أن يضع في العين بضع قطرات؛ ظنًا منه أنها يمكن أن تشوّش على رؤيتي، دون أن يدرِك المسكين أننا نرى بنور الله!
ـــــــــــ
#فتنة_العمى