عانى المجتمع المصري منذ قديم الأزل من الأمراض والأوبئة التي قضت على حياة الملايين منه على مر العصور، وما زالت ذاكرة أجدادنا تحفظ الكثير من هذه المآسي خاصة وباء «الكوليرا» الذي ضرب مصر عام 1947 ومن قبله الملاريا ما بين عامي 1942: 1945، فقد حكت لي جدتي _رحمها الله_ عن وباء الكوليرا الذي ضرب قريتنا «الحميدات شرق» التابعة لمركز إسنا جنوب محافظة الأقصر، فخلف العديد من الضحايا الذين ملأت جثثهم شوارع القرية ولم تجد من يواريها الثرى، إلا امرأة شجاعة تحدت الموت «الشوطة»، وكانت تجر النعوش وحدها بواسطة جمل لها، وتدفنهم في جبانة القرية. وحكى لي صديق خمسيني من «المنصورة» أن والدته قد عاينت هذا البلاء وفقدت اثنين من إخوتها فيه.
وقد كان للصحافة المصرية دور كبير في توثيق الحالات اليومية والأحداث التي تبعت هذه الأوبئة بصورة مغايرة لما أرخه المقريزي مثلا وابن تغرى بردي حول الطاعون الذي قضى على أعداد بالغة من الشعب المصري، فما يميز الصحافة كمصدر تأريخ أنها تعد مرآة حقيقة لعصرها بما يدور فيه من أحداث كما أن تعددها يسمح بالمقارنة واستخراج صورة أوضح عما دار في هذه الأزمنة.
لم تكن الصحافة المصرية بعيدة عن رصد ما انتشر في مصر من الأوبئة في فترات من تاريخها، ونقل زاوية مهمة في كيفية تعامل الدولة والأهالي معها، تلك الأوبئة التي تعددت على القطر المصري من «الطاعون» الذي كان يضرب مصر بشكل شبه دوري، إلى الكوليرا التي غزت القطر المصري نحو 9 مرات في القرن التاسع عشر، ومرتين في القرن العشرين، وقد كان للصحافة دور بارز في مد المؤرخين بأحوال وأخبار الناس وتعاملهم مع الأوبئة وكذلك تعامل الأنظمة والحكومات المختلفة مع تلك الأوبئة.
بدأت الصحافة في مصر مع «الوقائع المصرية» التي نشأت في عهد محمد علي عام 1828، ثم في النصف الثاني من القرن التاسع عشر كثرت الصحف التي كانت تصدر آنذاك حتى وصلت إلى أكثر من مائتي صحيفة، وفي هذه السطور نرصد أهم ما نقلته الصحافة حول وباء الكوليرا بداية من عام 1883، مرورًا بعام 1902، وحتى 1947، آخر وباء عانى منه الشعب المصري، قبل تصنيف منظمة الصحة العالمية في مارس الحالي أن «فيروس كورونا- كوفيد19» كوباء عالمي.
يلاحظ أنه في أعداد جريدة الأهرام اليومية أهم الصحف المصرية التي وثقت لانتشار وباء الكوليرا عام 1883 أن الأخبار لم تكن في بداية ظهور الكوليرا تنشر في الصفحة الأولى، ومع انتشار الوباء خصصت الجريدة أبوابا ثابتة تحصر فيها عدد الوفيات والإصابات ومدى توغل المرض في القطر المصري، كما أنها اهتمت بنشر مقالات لأطباء يكشفون فيه أسباب انتشار هذا الوباء وطرق الوقاية منه في الصفحة الأولى من الجريدة، واقتصرت تغطية انتشار الكوليرا عام 1883 على جريدتين فقط هما الموجودتان بدار الوثائق المصرية وهما الأهرام والمقتطف، فيما أن جريدة الوقائع المصرية في هذا العام 1883 كانت ساقطة وغير موجودة.
وفي عام 1902 حين عادت الكوليرا مرة أخرى سلطت الأهرام أخبارها على أسباب انتشار المرض وطرق الوقاية منه، وأرجعت أسباب انتشاره إلى بيع الخضروات والفاكهة غير الناضجة وقيام الجزارين والصباغين في القاهرة بغسل الجلود والملابس المتسخة والأقمشة المصبوغة في مصادر مياه الشرب وقدمت أيضًا إحصاء للوفيات والمصابين بالوباء في أرجاء القطر المصري بشكل يومي كما فعلت في وباء 1883. فتغطيتها لوباء1883 تكاد تكون متشابهة مع وباء 1902.
تغطية صحيفة اﻷهرام لوقائع وباء الكوليرا عام 1902
نذير موت
وأشار الأهرام في صفحاته إلى أن سوء تعامل السلطات الحكومية مع المرضى وأهاليهم كان من أسباب انتشار الأوبئة في مصر، وهو أمر اعتادت عليه السلطات منذ أيام محمد علي الكبير فحين انتشر الطاعون عام 1834 كانت الشرطة تطلق النار على أهالي الضحايا الذين لم يقوموا بإبلاغ السلطات عمن أُصيبوا بهذا الوباء كما أن السلطات الصحية كانت تقوم بفحص أجساد الضحايا بشكل وحشي أمام أهاليهم ما كان يدفع الأهالي إلى الكتمان، وهو الأمر نفسه الذي تنقله الأهرام في عدد 27 أغسطس 1902، حيث كان الأهالي يعتبرون السلطات الصحية نذير شؤم، ومن الأمثلة لقسوة تعامل هذه السلطات أنه حين توفي رجل واشتبه في وفاته بالكوليرا، قامت «الصحة» بتشريح جثة الرجل في المنزل على مرأى ومسمع من أهله، وحرقت أمتعته مع أنه لم يكن قد مضى على حفل زفافه أشهر، وبعد فحص الأمعاء بالمعمل الكيماوي تبين أن وفاته لم تكن بالكوليرا.. كما أن السلطات الصحية بصحبة الشرطة كانت تعامل المرضى بشكل وحشي وكانت تجرهم كما تجر الشاة وتلقي بهم في مستشفيات غير مجهزة عبارة أن أكواخ قذرة، فوجود الصحة بالنسبة للأهالي كان نذير موت. وفي وباء الكوليرا لعام 1947 غطت الأهرام جهود مكافحة الوباء بالصور، وأشارت إلى الأمصال التي أرسلتها الدول العربية لمصر لمكافحة هذا الوباء، وعقدت المقارنات ما بين تعامل الحكومة في هذه المرة مع الكوليرا وما بين عامي 1883 و1902 وكيف نجحت الإجراءات في الحد من عدد الوفيات.
فيما أرجعت جريدة المقطم أسباب انتشار وباء الكوليرا لعام 1947 إلى عدم تعاون الأهالي مع الحكومة وإخفائهم الإصابات والوفيات، واعتمادهم على الوصفات الشعبية ومنها قيام بعض أهالي الريف بالخروج في الشوارع حاملين مقصات خشبية لطرد الأرواح الخبيثة التي تتسبب في انتشار الموت.
الوباء الأصفر
تعددت أسماؤه ما بين الهيضة والوباء الأصفر والكريرة، والشوطة، والفعل واحد. ففي عدد 26 يوليو 1883 تنقل جريدة الأهرام تحت عنوان «الهواء الأصفر، أو الهيضة الوبائية» تأكد خبر انتشار مرض الكوليرا في «دمياط» ناشرة مقالا للدكتور إبراهيم تقلا يقول فيه «لا يخفى ما حل بمدينة دمياط في هذين اليومين إذ تأكد انتشار الهيضة الوبائية أجار الله الجميع منها، فرأيت أن أعلق نبذة مختصرة في هذا الموضوع رعاية للاحتياط…».
والمؤكد أنه مهما تغير الزمن وتقدم الطب ستظل المشاعر الإنسانية واحدة اتجاه أي وباء، حالة من الرعب والقلق ربما هي نفسها التي يعيشها العالم أجمع الآن مع وباء «الكورونا». فينقل مراسل بورسعيد في جريدة الأهرام عن تلك الحالة «أقلقت الأفكار وبلبلت البال الأخبار الشائعة عما حصل في دمياط وقد ورد إلينا تلغرافات عديدة بهذا الخصوص من مجلس الصحة سيوصي بها سعادة محافظنا بأخذ الاحتياطات اللازمة لمنع سريان هذا الوباء، فأمر سعادته في الحال بوضع العساكر والخفراء وفي محل الاقتضاء لأجل منع من يأتي من دمياط ووضعهم تحت الكورنيتنة ثم قرر سعادته لحضرات الحكمباشية بالحضور لأجل عمل لجنة.. والأمور النافعة والمانعة لامتداد هذا الداء والمأمول من سعادته السهر على مداركة هذه المسألة لما يتوقف عليها من المحافظة على الأرواح».
وسبب هذا الهلع والخوف من الكوليرا هروب الكثيرين من أماكنهم نحو الإسكندرية فتنفل الجريدة يوم 2 يوليو 1883 خبرًا نصه «أصبحت الإسكندرية ملجأ للخارجين ومحطا للنازحين عن القطر خوفًا من الوباء فقلقت أفكار ساكنيها، واشتعلت خواطرهم لما يعلمون من سرعة انتشار العدوى في هذا الداء، وأصبحوا يسألون عن الطرق المانعة لنقل العدوى».
وفي يوم 6 يوليو 1883 والذي وافق الأول من شهر رمضان نشرت جريدة الأهرام خبرًا حول تعامل الحكومة مع الهاربين من مدنهم الموبوءة خشية الكوليرا «من أخبار طنطا أنه قد وصلها بعض الفارين من دمياط فأخذت الحكومة خبرهم وفي الحال شرعت في التفتيش عليهم إلى أن وقفت على محل وجودهم فبادرت بالحجر عليهم في المنزل الذي وجدوا فيها وسدوا عليهم أبوابه ونوافذه وأقامت حوله الخفراء والعساكر، أما المأكل والمشرب ولوازم المعيشة فتعطى لهم من نافذة ضيقة فنعم الاحتياط».
غياب الشفافية وعدم الثقة
وكما هو حادث الآن حالة من الشك والقلق في أداء الحكومة وشفافيتها في الإعلان عن عدد الإصابات الحقيقية ومدى توغل وباء الكورونا ما يسمح لشائعات بأن تتنشر فما بين إحصائيات رسمية تصدرها وزارة الصحة المصرية لا يتعدى المصابون فيها العشرات تأتي تقارير أجنبية ترفع العدد إلى آلاف من المصابين في مصر، الأمر نفسه نشهده على صفحات الجرائد في عام 1883 حين انتشر وباء الكوليرا حيث نعاين حالة من القلق وعدم الثقة فيما تذيعه الحكومة من أخبار فتنقل جريدة الأهرام خبرا «داهم القلق العالم ولم يعد يشغلهم إلا الاستفهام وتوقع الأخبار التي لم تكن لترد غليلهم المستفهم بسبب تباينها والكل يفكر مجلس الصحة البحرية…. وانتظار وإعلانه الحقائق»
وتنقل الجريدة أيضًا في العام نفسه ما يؤكد عدم الثقة في أداء الحكومة وتكاسلها في حماية شعبها من خطر الكوليرا «من الأمور الغربية التي نلقيها إلى حضرة الجمهور، أن جرنال إيطالي نشر في أوائل ها الشهر (يعني أول شهر يونيو وقد أعلن عن الوباء في مصر في 22 من هذا الشهر) ما يشير إلى وجود حوادث كوليرا في دمياط… وعندنا ثقة إنه كان في دمياط قبل إعلان وجوده بعشرة أيام… وقال سعادة المحافظ أكثر من مرة أنني أرى في الثغر موتًا أكثر من العادة بداء غير معلوم فالأولى أن تكتبوا إلى الصحة، فأجابه الحكمباشي أنه لا يعلم شيئا من ذلك. فمن تراه يطالع هذا ولا يعجب. من ذلك أن الكردون العسكري لم يذهب إلى إحاطة دمياط إلا يوم أمس ولا شك أن عدم المنع.. أوجب حدوث ما حدث في المنصورة.. بل أين أوامر المجلس الصحي بمراعاة النظافة وأين الاحتياطات المأخوذة على حين نرى مجلس الكورتينات مهتمًا بذلك أكثر منه… فيا نظراء الإنسانية بالله عليكم أما تركتم الإهمال وطرحتم الكسل فالروح ثمينة والحياة عزيزة» كما يشير صاحب المقال نفسه إلى التضارب في أعداد الضحايا الواردة إلى الجريدة عبر التلغرافات.
صوت باك
ولنسمع معًا إلى هذا الصوت القادم إلينا منذ أكثر من 137 عامًا هو يفيض عبرة وشكوى من تلك النازلة ويشكك في الأرقام المعلنة، ويصف كيف عم البلاء في المدينة التي يعمرها وهو لمراسل الأهرام في مدينة المنصورة، مشككًا في الأرقام التي تنشرها الحكومة حول تفشي الوباء وذلك في عدد الأهرام 4 يوليو 1883 «أصبحنا في نقطة ضعيفة، لا نستطيع الخروج منها، ولا نقوى على البقاء فيها، ولا صبر لنا على تحمل أخطارها .. أما الداء فقط انتشر في كل أنحاء البلدة، فأصاب الكبير والصغير وهو يزداد انتشارًا يومًا بعد يوم وإن كان في سير بطيء، أما الإصابات والوفيات فهي أكثر مما تذكرونه في جريدتكم يوميًا … لا أقول هذا جزعًا فإني قد آليت على نفسي ألا أبارح المدينة إلا بعد زوال الباس.. ولكن أنيني هو إشفاق على العيال والأطفال الذين مستهم الخطوب.. فأصبحوا لا يدرون أي مصيبة يدرؤون فلا حول ولا قوة إلا بالله»…
رائحة عنصرية
ونجد مقالًا غريبًا يحمل رائحة العنصرية في افتتاحية الأهرام ليوم 16 أغسطس 1883 يحقد فيه على القرى الفقيرة التي نجت ولم تطلها الكوليرا بينما حصدت في القاهرة والإسكندرية الكثير من الأواح «أصبحنا نجد أحقر القرى في داخلية القطر على حالها الصحية بعد إذا كانت مدينتا مطمحًا لأعين الحاسدين يذكرونها متأوهين، ويتأملونها متلهفين للوصول إليها طمعا في الاستيامان من غدرات الزمان ونكبات البلاد التي فاجأها في هذا العام….. إلا أن الدهر الخؤون أبي إلا أن ينغص عيشنا فجاءنا بالهواء الأصفر فبدل سرورنا بالكدر….» يلقي كاتب الافتتاحية نفسه اللوم على الفقراء في نشر هذا الداء كاتبًا «لو أذعن البسطاء لنصائح اللجان الصحية وأوامر الحكومة لم تمكن «الوباء» منهم واتصل بالعدوى إلى غيرهم».
وبشكل عام فإن من ينقب بين صفحات الكتب الجرائد والمجلات يجد صورة واضحة لما حدث بشأن وباء الكوليرا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين،… وقد نقلت هذه الجرائد الكثير من المعلومات اليومية القيمة التي تكشف عن كيفية تعامل المصريين مع الأوبئة والأزمات وتتيح سبل المقارنة بين الماضي والحاضر فهل قفزنا في ركب التقدم بقوة أم ما زلنا نقف مكاننا القديم لم نبرحه؟.
وقد كان للصحافة المصرية دور كبير في توثيق الحالات اليومية والأحداث التي تبعت هذه الأوبئة بصورة مغايرة لما أرخه المقريزي مثلا وابن تغرى بردي حول الطاعون الذي قضى على أعداد بالغة من الشعب المصري، فما يميز الصحافة كمصدر تأريخ أنها تعد مرآة حقيقة لعصرها بما يدور فيه من أحداث كما أن تعددها يسمح بالمقارنة واستخراج صورة أوضح عما دار في هذه الأزمنة.
لم تكن الصحافة المصرية بعيدة عن رصد ما انتشر في مصر من الأوبئة في فترات من تاريخها، ونقل زاوية مهمة في كيفية تعامل الدولة والأهالي معها، تلك الأوبئة التي تعددت على القطر المصري من «الطاعون» الذي كان يضرب مصر بشكل شبه دوري، إلى الكوليرا التي غزت القطر المصري نحو 9 مرات في القرن التاسع عشر، ومرتين في القرن العشرين، وقد كان للصحافة دور بارز في مد المؤرخين بأحوال وأخبار الناس وتعاملهم مع الأوبئة وكذلك تعامل الأنظمة والحكومات المختلفة مع تلك الأوبئة.
بدأت الصحافة في مصر مع «الوقائع المصرية» التي نشأت في عهد محمد علي عام 1828، ثم في النصف الثاني من القرن التاسع عشر كثرت الصحف التي كانت تصدر آنذاك حتى وصلت إلى أكثر من مائتي صحيفة، وفي هذه السطور نرصد أهم ما نقلته الصحافة حول وباء الكوليرا بداية من عام 1883، مرورًا بعام 1902، وحتى 1947، آخر وباء عانى منه الشعب المصري، قبل تصنيف منظمة الصحة العالمية في مارس الحالي أن «فيروس كورونا- كوفيد19» كوباء عالمي.
يلاحظ أنه في أعداد جريدة الأهرام اليومية أهم الصحف المصرية التي وثقت لانتشار وباء الكوليرا عام 1883 أن الأخبار لم تكن في بداية ظهور الكوليرا تنشر في الصفحة الأولى، ومع انتشار الوباء خصصت الجريدة أبوابا ثابتة تحصر فيها عدد الوفيات والإصابات ومدى توغل المرض في القطر المصري، كما أنها اهتمت بنشر مقالات لأطباء يكشفون فيه أسباب انتشار هذا الوباء وطرق الوقاية منه في الصفحة الأولى من الجريدة، واقتصرت تغطية انتشار الكوليرا عام 1883 على جريدتين فقط هما الموجودتان بدار الوثائق المصرية وهما الأهرام والمقتطف، فيما أن جريدة الوقائع المصرية في هذا العام 1883 كانت ساقطة وغير موجودة.
وفي عام 1902 حين عادت الكوليرا مرة أخرى سلطت الأهرام أخبارها على أسباب انتشار المرض وطرق الوقاية منه، وأرجعت أسباب انتشاره إلى بيع الخضروات والفاكهة غير الناضجة وقيام الجزارين والصباغين في القاهرة بغسل الجلود والملابس المتسخة والأقمشة المصبوغة في مصادر مياه الشرب وقدمت أيضًا إحصاء للوفيات والمصابين بالوباء في أرجاء القطر المصري بشكل يومي كما فعلت في وباء 1883. فتغطيتها لوباء1883 تكاد تكون متشابهة مع وباء 1902.
تغطية صحيفة اﻷهرام لوقائع وباء الكوليرا عام 1902
نذير موت
وأشار الأهرام في صفحاته إلى أن سوء تعامل السلطات الحكومية مع المرضى وأهاليهم كان من أسباب انتشار الأوبئة في مصر، وهو أمر اعتادت عليه السلطات منذ أيام محمد علي الكبير فحين انتشر الطاعون عام 1834 كانت الشرطة تطلق النار على أهالي الضحايا الذين لم يقوموا بإبلاغ السلطات عمن أُصيبوا بهذا الوباء كما أن السلطات الصحية كانت تقوم بفحص أجساد الضحايا بشكل وحشي أمام أهاليهم ما كان يدفع الأهالي إلى الكتمان، وهو الأمر نفسه الذي تنقله الأهرام في عدد 27 أغسطس 1902، حيث كان الأهالي يعتبرون السلطات الصحية نذير شؤم، ومن الأمثلة لقسوة تعامل هذه السلطات أنه حين توفي رجل واشتبه في وفاته بالكوليرا، قامت «الصحة» بتشريح جثة الرجل في المنزل على مرأى ومسمع من أهله، وحرقت أمتعته مع أنه لم يكن قد مضى على حفل زفافه أشهر، وبعد فحص الأمعاء بالمعمل الكيماوي تبين أن وفاته لم تكن بالكوليرا.. كما أن السلطات الصحية بصحبة الشرطة كانت تعامل المرضى بشكل وحشي وكانت تجرهم كما تجر الشاة وتلقي بهم في مستشفيات غير مجهزة عبارة أن أكواخ قذرة، فوجود الصحة بالنسبة للأهالي كان نذير موت. وفي وباء الكوليرا لعام 1947 غطت الأهرام جهود مكافحة الوباء بالصور، وأشارت إلى الأمصال التي أرسلتها الدول العربية لمصر لمكافحة هذا الوباء، وعقدت المقارنات ما بين تعامل الحكومة في هذه المرة مع الكوليرا وما بين عامي 1883 و1902 وكيف نجحت الإجراءات في الحد من عدد الوفيات.
فيما أرجعت جريدة المقطم أسباب انتشار وباء الكوليرا لعام 1947 إلى عدم تعاون الأهالي مع الحكومة وإخفائهم الإصابات والوفيات، واعتمادهم على الوصفات الشعبية ومنها قيام بعض أهالي الريف بالخروج في الشوارع حاملين مقصات خشبية لطرد الأرواح الخبيثة التي تتسبب في انتشار الموت.
الوباء الأصفر
تعددت أسماؤه ما بين الهيضة والوباء الأصفر والكريرة، والشوطة، والفعل واحد. ففي عدد 26 يوليو 1883 تنقل جريدة الأهرام تحت عنوان «الهواء الأصفر، أو الهيضة الوبائية» تأكد خبر انتشار مرض الكوليرا في «دمياط» ناشرة مقالا للدكتور إبراهيم تقلا يقول فيه «لا يخفى ما حل بمدينة دمياط في هذين اليومين إذ تأكد انتشار الهيضة الوبائية أجار الله الجميع منها، فرأيت أن أعلق نبذة مختصرة في هذا الموضوع رعاية للاحتياط…».
والمؤكد أنه مهما تغير الزمن وتقدم الطب ستظل المشاعر الإنسانية واحدة اتجاه أي وباء، حالة من الرعب والقلق ربما هي نفسها التي يعيشها العالم أجمع الآن مع وباء «الكورونا». فينقل مراسل بورسعيد في جريدة الأهرام عن تلك الحالة «أقلقت الأفكار وبلبلت البال الأخبار الشائعة عما حصل في دمياط وقد ورد إلينا تلغرافات عديدة بهذا الخصوص من مجلس الصحة سيوصي بها سعادة محافظنا بأخذ الاحتياطات اللازمة لمنع سريان هذا الوباء، فأمر سعادته في الحال بوضع العساكر والخفراء وفي محل الاقتضاء لأجل منع من يأتي من دمياط ووضعهم تحت الكورنيتنة ثم قرر سعادته لحضرات الحكمباشية بالحضور لأجل عمل لجنة.. والأمور النافعة والمانعة لامتداد هذا الداء والمأمول من سعادته السهر على مداركة هذه المسألة لما يتوقف عليها من المحافظة على الأرواح».
وسبب هذا الهلع والخوف من الكوليرا هروب الكثيرين من أماكنهم نحو الإسكندرية فتنفل الجريدة يوم 2 يوليو 1883 خبرًا نصه «أصبحت الإسكندرية ملجأ للخارجين ومحطا للنازحين عن القطر خوفًا من الوباء فقلقت أفكار ساكنيها، واشتعلت خواطرهم لما يعلمون من سرعة انتشار العدوى في هذا الداء، وأصبحوا يسألون عن الطرق المانعة لنقل العدوى».
وفي يوم 6 يوليو 1883 والذي وافق الأول من شهر رمضان نشرت جريدة الأهرام خبرًا حول تعامل الحكومة مع الهاربين من مدنهم الموبوءة خشية الكوليرا «من أخبار طنطا أنه قد وصلها بعض الفارين من دمياط فأخذت الحكومة خبرهم وفي الحال شرعت في التفتيش عليهم إلى أن وقفت على محل وجودهم فبادرت بالحجر عليهم في المنزل الذي وجدوا فيها وسدوا عليهم أبوابه ونوافذه وأقامت حوله الخفراء والعساكر، أما المأكل والمشرب ولوازم المعيشة فتعطى لهم من نافذة ضيقة فنعم الاحتياط».
غياب الشفافية وعدم الثقة
وكما هو حادث الآن حالة من الشك والقلق في أداء الحكومة وشفافيتها في الإعلان عن عدد الإصابات الحقيقية ومدى توغل وباء الكورونا ما يسمح لشائعات بأن تتنشر فما بين إحصائيات رسمية تصدرها وزارة الصحة المصرية لا يتعدى المصابون فيها العشرات تأتي تقارير أجنبية ترفع العدد إلى آلاف من المصابين في مصر، الأمر نفسه نشهده على صفحات الجرائد في عام 1883 حين انتشر وباء الكوليرا حيث نعاين حالة من القلق وعدم الثقة فيما تذيعه الحكومة من أخبار فتنقل جريدة الأهرام خبرا «داهم القلق العالم ولم يعد يشغلهم إلا الاستفهام وتوقع الأخبار التي لم تكن لترد غليلهم المستفهم بسبب تباينها والكل يفكر مجلس الصحة البحرية…. وانتظار وإعلانه الحقائق»
وتنقل الجريدة أيضًا في العام نفسه ما يؤكد عدم الثقة في أداء الحكومة وتكاسلها في حماية شعبها من خطر الكوليرا «من الأمور الغربية التي نلقيها إلى حضرة الجمهور، أن جرنال إيطالي نشر في أوائل ها الشهر (يعني أول شهر يونيو وقد أعلن عن الوباء في مصر في 22 من هذا الشهر) ما يشير إلى وجود حوادث كوليرا في دمياط… وعندنا ثقة إنه كان في دمياط قبل إعلان وجوده بعشرة أيام… وقال سعادة المحافظ أكثر من مرة أنني أرى في الثغر موتًا أكثر من العادة بداء غير معلوم فالأولى أن تكتبوا إلى الصحة، فأجابه الحكمباشي أنه لا يعلم شيئا من ذلك. فمن تراه يطالع هذا ولا يعجب. من ذلك أن الكردون العسكري لم يذهب إلى إحاطة دمياط إلا يوم أمس ولا شك أن عدم المنع.. أوجب حدوث ما حدث في المنصورة.. بل أين أوامر المجلس الصحي بمراعاة النظافة وأين الاحتياطات المأخوذة على حين نرى مجلس الكورتينات مهتمًا بذلك أكثر منه… فيا نظراء الإنسانية بالله عليكم أما تركتم الإهمال وطرحتم الكسل فالروح ثمينة والحياة عزيزة» كما يشير صاحب المقال نفسه إلى التضارب في أعداد الضحايا الواردة إلى الجريدة عبر التلغرافات.
صوت باك
ولنسمع معًا إلى هذا الصوت القادم إلينا منذ أكثر من 137 عامًا هو يفيض عبرة وشكوى من تلك النازلة ويشكك في الأرقام المعلنة، ويصف كيف عم البلاء في المدينة التي يعمرها وهو لمراسل الأهرام في مدينة المنصورة، مشككًا في الأرقام التي تنشرها الحكومة حول تفشي الوباء وذلك في عدد الأهرام 4 يوليو 1883 «أصبحنا في نقطة ضعيفة، لا نستطيع الخروج منها، ولا نقوى على البقاء فيها، ولا صبر لنا على تحمل أخطارها .. أما الداء فقط انتشر في كل أنحاء البلدة، فأصاب الكبير والصغير وهو يزداد انتشارًا يومًا بعد يوم وإن كان في سير بطيء، أما الإصابات والوفيات فهي أكثر مما تذكرونه في جريدتكم يوميًا … لا أقول هذا جزعًا فإني قد آليت على نفسي ألا أبارح المدينة إلا بعد زوال الباس.. ولكن أنيني هو إشفاق على العيال والأطفال الذين مستهم الخطوب.. فأصبحوا لا يدرون أي مصيبة يدرؤون فلا حول ولا قوة إلا بالله»…
رائحة عنصرية
ونجد مقالًا غريبًا يحمل رائحة العنصرية في افتتاحية الأهرام ليوم 16 أغسطس 1883 يحقد فيه على القرى الفقيرة التي نجت ولم تطلها الكوليرا بينما حصدت في القاهرة والإسكندرية الكثير من الأواح «أصبحنا نجد أحقر القرى في داخلية القطر على حالها الصحية بعد إذا كانت مدينتا مطمحًا لأعين الحاسدين يذكرونها متأوهين، ويتأملونها متلهفين للوصول إليها طمعا في الاستيامان من غدرات الزمان ونكبات البلاد التي فاجأها في هذا العام….. إلا أن الدهر الخؤون أبي إلا أن ينغص عيشنا فجاءنا بالهواء الأصفر فبدل سرورنا بالكدر….» يلقي كاتب الافتتاحية نفسه اللوم على الفقراء في نشر هذا الداء كاتبًا «لو أذعن البسطاء لنصائح اللجان الصحية وأوامر الحكومة لم تمكن «الوباء» منهم واتصل بالعدوى إلى غيرهم».
وبشكل عام فإن من ينقب بين صفحات الكتب الجرائد والمجلات يجد صورة واضحة لما حدث بشأن وباء الكوليرا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين،… وقد نقلت هذه الجرائد الكثير من المعلومات اليومية القيمة التي تكشف عن كيفية تعامل المصريين مع الأوبئة والأزمات وتتيح سبل المقارنة بين الماضي والحاضر فهل قفزنا في ركب التقدم بقوة أم ما زلنا نقف مكاننا القديم لم نبرحه؟.