ما شأنك أيها الغلام بالغرام؟، وعَدِّ النجوم بالليل والناس نيام؟ ما شأنك بما يُبْكيكَ ويُشقيكَ، ويُلْقي بك في أتون الهيام، وتنّور الضَّرام، والإعراض عن الشراب والطعام؟ أتريد الإفاقات التي لا تنتهي، والتسهد الذي لا ينقطع، والأرق والغرق في يَمّ الصبابة والإصابة، والدمع الهتون؟. فهل عَمَّكَ ـ أيها الفتى ـ الحبُّ وطَمَّ، وجلب لك الحزن والهمَّ؟
ما شأنك بالانخطاف والارتجاف، و» النار الحمراء» حارقة الحشا، كاوية القلب، شاوية العينين والجفنين؟. أتبحث عما يُجنِّنك ويسبي عقلك، ويبعثر صوابك، ويخلخل لبك وعقلك واستقامتك؟، أترغب في أن تضاف إلى قبيلة المجانين، العشاق المأفونين، وتصبح واحدا منهم، يهيم على وجهه، ويضرب في الصحارى كما تضرب الإبل؟. يبيتُ على الطَّوَى، ويفنى ـ رويدا.. رويدا ـ من سَغَب وعطش، وإهمال، وجوى؟
ما عرف الفتى، ولا وقف مليّاً على معاني الحب والغزل، وحرائق الغرام والهيام، وآلام الليالي الطويلة البيضاء. ولا أدرك وصف الشعراء العشاق المجانين لأحوالهم، وأوضاعهم، ونفسياتهم، وهُزَالهم، ونحولهم، وشقائهم، حتى ذاق الأمض من إرهاصات الحب الأولى، وَلَسَعَه زنبور الغرام، لا نحلة الغرام. فلسعة النحلة رفيقة رحيمة بالملسوع، بينما لسعة الزنبور موجعةً وأليمة فوق الوصف. ولنا في مناظرة النابغتين اللغويين: سيبويهْ والكسّائي وتعبيرهما الوصفي للَّسْعة ما يغنينا ويعفينا من الاستطراد والإفاضة.
فما لك تحب؟ من جرّك إلى الحب، وقادك مستسلما صاغراً إلى دربه، وكنتَ لاَهياً تقضي أيامك في اللعب مع أقرانك، ولياليك في القراءة والمطالعة، والاستمتاع بهما؟
أكان ما قرأته من روايات رومانسية، بالعربية وبالفرنسية، وما سمعته وحفظته عن ظهر غيب، ورددته في خلواتك وعزلاتك من أغانٍ عاطفية تبكي وتدمي القلب، عتبةً إلى الألم واللسع، و» شرارات « الغرام الأولى، أم كان ميلا غريزيا، وحقا طبيعيا اقتضَتْه بداية المراهقة، ونداء الجسد والقلب النَّزوع حيث تصبح الجميلاتُ الورقياتُ، والحسناوات الخيالية، جميلاتٍ في الحياة، حسناواتٍ في الواقع المرئي، أخّادات في المسموع والمُشَاهَد والمنظور. يصبحن نساءً من لحم ودم، وحقيقة. يصبحن نساء عينياتٍ يخرجن علينا بحسنهن، وسحرهن، ورقة أصواتهن، وعذوبة همساتهن، ولطيف أخبارهن، ورقص مشيهن، وفتك ألحاظهن ليقْتُلْنَنا، ويُذْهلِلَنا، ويندَسَسْن بين كتبنا، ودروسنا، ونومنا، ويقظتنا. يُسَهِّدْنَنا، ويضحكن علينا في الغد. يضحكن على تثاؤبنا المستمر في حضورهن من قلة النوم، وشحوبنا بفعل الحب الذي خطف لوننا، وأفقر خلايانا، وامتص بلازمات دِمانا؟
لم يكَذِبْ الفتى أوصاف العشاق القدامى والجدد الذين اعتبرهم شهداءَ. وصار يصدق ما لقوه من صدٍّ قبلي وعائلي، وما عانوه من عذاب، وكابدوه من سقم واضطهاد، وعاشوه من تَلَفٍ وهذيان، وجنون.
فالحب كِدَهْ. الحب رِضا، إعراضٌ وهَجْرٌ وغَضا. وما لم يكن كذلك، كان دافعا إلى الخَبَل والتمرد، وما لا يخطر على البال. وفي مرويات العشاق ما يُشْبِع الجوع الفضولي، ويُهَدّيء من بَلْبال النَّهَم المعرفي، والتَّوْق الطفيلي.
وإذاً، فإن القيسيْن: ( ابن الملوح، وابن ذريح )، وجميل بثينة، وكثَيّر عزَّةَ، وديك الجن، ووضّاح اليمن، والعُرْجي، وغيرهم مِمّنْ ملأوا سمع الأيام بكائياتٍ، ونياحاتٍ قطعت وتقطع نياط القلوب، مزقت الأستار، وكشفت عن المخفي والمحجوب، وأدارت الأفلاك في عليائها، والأبراج في منازلها، والأقمار في مداراتها، باحوا بقوة ورقة، وبأصالة ودقة عن بُرَحائِهم، وهواهم الحارق الجارف لمحبوباتهم وملهماتهم، وكتبوا، من ثَمَّ، أبدع الصفحات، وأجمل الورقات، ولو على حساب حياتهم، وتدهور أحوالهم، وانقضاء آجال جلهم وهم دون الخمسين.
فجميل وكُثَيّر والقيسان عاشوا شظف الحرمان. أما العرجي ووضّاح اليمن، وديك الجن، فنهاياتهم التراجيدية تجلو أفاعيل الحب في الإنسان التي تفضي إلى قتل الحبيبة في حالة ديك الجن، والموت في السجن بسبب الحب كما في حالة العرجي. والدفن حيّاً كما في حالة وضّاح اليمن. لأن الحب والهيام كما عاشوه ومارسوه تحدى السلطان والصولجان.
هو ذا الغرام ـ إذاً ـ أيها الغلام اللاَّهي. هي ذي بداياته وقد شرعت تحرقك، وتقضم بعضا من صحتك، وتريك النجوم في عز النهار، والشمس في منتصف الليل. أصبحت لياليك بيضاءَ، وعيناك سريعتيْ الدمع. جفناك متقرحان، وقلبك ينبض نبضا سريعا متلاحقا، وسطور دروسك تَغيمُ أمام عينيك العمْشاوين، وطلبات أمك لا تُسْمَع، وأوامر أبيك لاتنفذ إلا نادراً.
فَمَنْ لك في ما جرى لك، وأمَضَّكَ وأضناك؟ مَنْ لك غير قلمك، وشجاعتك التي باتت تخذلك أمامها. فإذا ذَهبتْ، ذهبَ رَوْعُك، وعاد إليك رشدك وصوابك. ولكن، ما يلبث أن يعاودك الحنين إلى رؤيتها، وتَنَشُّقِ عبيرها وحضورها. أهي ذي الأنثى؟ أهي ذي التي أطارت عقولا، وخلبت ألبابا، وَضيعت صوابا؟
سميتكِ « سامبا «، لأنك كنتِ ولا تزالين تمشين وكأنك ترقصين. تمشين، كما قال ابن حزم واصفا مشي امرأة:
كأنها حين تخطو في تأوُّدِها // قضيبُ نرْجسةٍ في الروض ميّاسُ
كأنما مَشْيَها مشي الحمامة لاَ // كدٌّ يُعاب ولا بطْءٌ بـــــه بـــــاسُ
أو كما قال أبو القاسم الشابي متشببا بحبيبته:
تمشين بخطو موقع كالنشيد، في قصيدة ( صلوات في هيكل الحب )، التي غنى مقاطع منها الفنان عبد الوهاب الدكالي تحت عنوان: ( أنتِ )، والتي أبدع في لحنها وموسيقاها المقتدر المرحوم عبد النبي الجراري.
وخلعتُ عليك أوصافا أخرى مشتقة، ومستمدة من قراءاتي للروايات، والقصص والشعر. فكنتِ: جوليا شارلْ حبيبة الشاعر لاَمارتينْ. وجانْ دوفالْ ملهمة بودليرْ. وكايْ شو ملهمة توفيق صايغ. وإليزابيث هاسْكلْ حبيبة جبران خليل جبران. وإلْزا تريولي ملهمة أراغون. ولميعة عباس عمارة ملهمة السياب. وكْلارا حبيبة ريلكهْ.. الخ. وغيرهن من ملهمات الموسيقيين والفلاسفة العظام، والشعراء الأفذاذ، والروائيين الكبار.
ولعلك تذكرين أن أول ما قاد المودة بيننا، وبذر بذرة العشق الأولى، وأضرم شرارة الغرام والضرام، وكان سفيري إليك، كان روايةً من روايات يوسف السباعي على الأرجح: ( إني راحلة )، قبل أن تظهر قصيدة ( راحلة ) للصديق الشاعر عبد الرفيع جواهري. فبين دفَّتيْها، بين أرواقها الصُّفْر الصقيلةِ اللاَّسعة التي يحميها غلافان رفيعان مُذَهَّبان، دَسَسْتُ كالمتلصص المختلس بيد مرتعشة، بَتْلَة وردةٍ حمراءَ، وقصاصةً ورقيةً ملونة وضعتُ فيها نَزْراً من ذوب مشاعري، وشرَراً من حرائقي، محترسا الاحتراس كله حتى لا يضبط الورقة متلبسةً، ويطّلع على محتواها المرتجف، وخطها الخافق المختنق، أخوك / صديقي الذي اختطفه الموت من بيننا وهو في عز عطائه البيداغوجي والإبداعي، وفي أوج شبابه ونضوجه، وذروة النشاط الحزبي، والحيوية السجالية السياسية.
وقلتُ في الأمر.. في أمر هَسيس ذاك الغرام الأول، ورَسيسِه، معدّلاً بيت سيد الغزل « العفيف « جميل بثينة الشهير:
وأولُ ما قاد المودةً بيننا // بوادي بغيضٍ يا بثينُ سِبابُ
من دون أن أكسر دلالته ووزنه الشعري في ظني:
وأوَّلُ ما قاد المودةَ بيننا // بحيّ جرادةْ يا عُوَيْشُ كتابُ
صَغَّرْتُكِ تحبيباً، ورخمتك تطريباً، ورققت اسمك. فالحب ترخيم وترقيق.
والحب، عند أول عهدنا به، والزمن غضٌّ وغِرٌّ وصِبا، شهد وصاب. عذاب ورُضاب. سَهَرٌ وضرَرٌ. ضحك وبُكا. مكابرة ومشتكى.
ثم رحلتُ إلى وجدةَ تلميذا متعلما بثانوية عبد المومن الساكنة سويداء القلب كما أنتِ. ولأن سنوات الصبا والمراهقة هي ـ بالتأكيد ـ سنوات اللهو واللعب والترحلات، والتنقلات من زهرة إلى زهرة كالنحلة التي لا تقنع بالزهرة الوحيدة، والنِّكْتار الواحد، والتحليق من فَنَنٍ إلى فنن كالطائر لا يستقر على غصن واحد، بل يبحث عن شجر مُورِقٍ، وثمرٍ حُلْوٍ، وبَللٍ خَضِلٍ يَثْوي بين الأوراق واللّحاء. ولأنها كذلك، فقد تاه عقلي في كل الدروب، وتوزعته الحروب والندوب، والطمع في هذه وفي تلك، وفي أخرياتٍ نِلْنَ إعجابي ورضايَ. وسعى ابن عرسٍ ـ بكل ما أوتي من مكر ودهاء، وحضور بالثانوية من حيث انتشار اسمه في وسط التلاميذ والتلميذات، كحفّاظ للدروس، وبارع في تحرير الإنشاء، ومشروع شاعر ـ إلى رمي شبكته للسمكات البُنيّات العائمات في البحر اللّجي، بحر الثانوية الغرْقى بأعداد التلاميذ، والحُبْلى بالعاشقين المُدْنَفين حقا، والعاشقين الجائلين السائحين كذبا وبهتانا.
هكذا، يكون قلبي قد توزعه الهوى، وصعقه الغرام بين السمراء والشقراء، ذوات الضفائر والغدائر، وذوات الشعر المقصوص والمعقوص. بين الحسن المجلوب بتطرية بتعبير أبينا المتنبي، وبين الحسن غير المجلوب بتطرية.
بلى. ظلتْ عُوَيْشُ سَكَناً، وملاذا وفيئاً يُنْسيني رَمْضائي ومغامرات عشقي المحموم والمجنون الناجحة قليلا، الفاشلة أكثر الأحيان، متى ما عدتُ في نهاية الأسبوع إلى جرادةَ، فأجدها غاضبة لاَئمةً ومنكسرة لعدم اتصالي بها ومكاتبتها. وكانت ـ والله أشهد ـ قاصة رومانسية بارعة، تُرَقّصُ اللغةَ كما تُرَقِّصُ مَشْيَها وهي قادمة من بعيد لتلقاني ولتبوح بما عانته في غيابي، وأبوح لها بمكنوناتي، وظروفي، وبعض « أكاذيبي»، وأعذاري الملفقة.
جُلْتُ، وتنقلت، وطرتُ، ولكنني عدتُ إلى عُوَيْشَ. وها هي ذي صامتةٌ ومشرقةٌ إلى جَنْبي، ترنو إليَّ بعين الحبِّ، وأرنو إليها بعين القلبِ. هو الغرامُ يَخيطُنا، ويباركُ عمرنا يا ربّي.
* إشـــــــــارة:
اِسمُه الغرامُ: هو عنوان رواية بديعة للكاتبة اللبنانية عَلَوية صُبْح. نشرتها در الآداب البيروتية في العام 2009. ومنها استلفتُ العنوان، فوجب التنويه.
محمد بودويك
ما شأنك بالانخطاف والارتجاف، و» النار الحمراء» حارقة الحشا، كاوية القلب، شاوية العينين والجفنين؟. أتبحث عما يُجنِّنك ويسبي عقلك، ويبعثر صوابك، ويخلخل لبك وعقلك واستقامتك؟، أترغب في أن تضاف إلى قبيلة المجانين، العشاق المأفونين، وتصبح واحدا منهم، يهيم على وجهه، ويضرب في الصحارى كما تضرب الإبل؟. يبيتُ على الطَّوَى، ويفنى ـ رويدا.. رويدا ـ من سَغَب وعطش، وإهمال، وجوى؟
ما عرف الفتى، ولا وقف مليّاً على معاني الحب والغزل، وحرائق الغرام والهيام، وآلام الليالي الطويلة البيضاء. ولا أدرك وصف الشعراء العشاق المجانين لأحوالهم، وأوضاعهم، ونفسياتهم، وهُزَالهم، ونحولهم، وشقائهم، حتى ذاق الأمض من إرهاصات الحب الأولى، وَلَسَعَه زنبور الغرام، لا نحلة الغرام. فلسعة النحلة رفيقة رحيمة بالملسوع، بينما لسعة الزنبور موجعةً وأليمة فوق الوصف. ولنا في مناظرة النابغتين اللغويين: سيبويهْ والكسّائي وتعبيرهما الوصفي للَّسْعة ما يغنينا ويعفينا من الاستطراد والإفاضة.
فما لك تحب؟ من جرّك إلى الحب، وقادك مستسلما صاغراً إلى دربه، وكنتَ لاَهياً تقضي أيامك في اللعب مع أقرانك، ولياليك في القراءة والمطالعة، والاستمتاع بهما؟
أكان ما قرأته من روايات رومانسية، بالعربية وبالفرنسية، وما سمعته وحفظته عن ظهر غيب، ورددته في خلواتك وعزلاتك من أغانٍ عاطفية تبكي وتدمي القلب، عتبةً إلى الألم واللسع، و» شرارات « الغرام الأولى، أم كان ميلا غريزيا، وحقا طبيعيا اقتضَتْه بداية المراهقة، ونداء الجسد والقلب النَّزوع حيث تصبح الجميلاتُ الورقياتُ، والحسناوات الخيالية، جميلاتٍ في الحياة، حسناواتٍ في الواقع المرئي، أخّادات في المسموع والمُشَاهَد والمنظور. يصبحن نساءً من لحم ودم، وحقيقة. يصبحن نساء عينياتٍ يخرجن علينا بحسنهن، وسحرهن، ورقة أصواتهن، وعذوبة همساتهن، ولطيف أخبارهن، ورقص مشيهن، وفتك ألحاظهن ليقْتُلْنَنا، ويُذْهلِلَنا، ويندَسَسْن بين كتبنا، ودروسنا، ونومنا، ويقظتنا. يُسَهِّدْنَنا، ويضحكن علينا في الغد. يضحكن على تثاؤبنا المستمر في حضورهن من قلة النوم، وشحوبنا بفعل الحب الذي خطف لوننا، وأفقر خلايانا، وامتص بلازمات دِمانا؟
لم يكَذِبْ الفتى أوصاف العشاق القدامى والجدد الذين اعتبرهم شهداءَ. وصار يصدق ما لقوه من صدٍّ قبلي وعائلي، وما عانوه من عذاب، وكابدوه من سقم واضطهاد، وعاشوه من تَلَفٍ وهذيان، وجنون.
فالحب كِدَهْ. الحب رِضا، إعراضٌ وهَجْرٌ وغَضا. وما لم يكن كذلك، كان دافعا إلى الخَبَل والتمرد، وما لا يخطر على البال. وفي مرويات العشاق ما يُشْبِع الجوع الفضولي، ويُهَدّيء من بَلْبال النَّهَم المعرفي، والتَّوْق الطفيلي.
وإذاً، فإن القيسيْن: ( ابن الملوح، وابن ذريح )، وجميل بثينة، وكثَيّر عزَّةَ، وديك الجن، ووضّاح اليمن، والعُرْجي، وغيرهم مِمّنْ ملأوا سمع الأيام بكائياتٍ، ونياحاتٍ قطعت وتقطع نياط القلوب، مزقت الأستار، وكشفت عن المخفي والمحجوب، وأدارت الأفلاك في عليائها، والأبراج في منازلها، والأقمار في مداراتها، باحوا بقوة ورقة، وبأصالة ودقة عن بُرَحائِهم، وهواهم الحارق الجارف لمحبوباتهم وملهماتهم، وكتبوا، من ثَمَّ، أبدع الصفحات، وأجمل الورقات، ولو على حساب حياتهم، وتدهور أحوالهم، وانقضاء آجال جلهم وهم دون الخمسين.
فجميل وكُثَيّر والقيسان عاشوا شظف الحرمان. أما العرجي ووضّاح اليمن، وديك الجن، فنهاياتهم التراجيدية تجلو أفاعيل الحب في الإنسان التي تفضي إلى قتل الحبيبة في حالة ديك الجن، والموت في السجن بسبب الحب كما في حالة العرجي. والدفن حيّاً كما في حالة وضّاح اليمن. لأن الحب والهيام كما عاشوه ومارسوه تحدى السلطان والصولجان.
هو ذا الغرام ـ إذاً ـ أيها الغلام اللاَّهي. هي ذي بداياته وقد شرعت تحرقك، وتقضم بعضا من صحتك، وتريك النجوم في عز النهار، والشمس في منتصف الليل. أصبحت لياليك بيضاءَ، وعيناك سريعتيْ الدمع. جفناك متقرحان، وقلبك ينبض نبضا سريعا متلاحقا، وسطور دروسك تَغيمُ أمام عينيك العمْشاوين، وطلبات أمك لا تُسْمَع، وأوامر أبيك لاتنفذ إلا نادراً.
فَمَنْ لك في ما جرى لك، وأمَضَّكَ وأضناك؟ مَنْ لك غير قلمك، وشجاعتك التي باتت تخذلك أمامها. فإذا ذَهبتْ، ذهبَ رَوْعُك، وعاد إليك رشدك وصوابك. ولكن، ما يلبث أن يعاودك الحنين إلى رؤيتها، وتَنَشُّقِ عبيرها وحضورها. أهي ذي الأنثى؟ أهي ذي التي أطارت عقولا، وخلبت ألبابا، وَضيعت صوابا؟
سميتكِ « سامبا «، لأنك كنتِ ولا تزالين تمشين وكأنك ترقصين. تمشين، كما قال ابن حزم واصفا مشي امرأة:
كأنها حين تخطو في تأوُّدِها // قضيبُ نرْجسةٍ في الروض ميّاسُ
كأنما مَشْيَها مشي الحمامة لاَ // كدٌّ يُعاب ولا بطْءٌ بـــــه بـــــاسُ
أو كما قال أبو القاسم الشابي متشببا بحبيبته:
تمشين بخطو موقع كالنشيد، في قصيدة ( صلوات في هيكل الحب )، التي غنى مقاطع منها الفنان عبد الوهاب الدكالي تحت عنوان: ( أنتِ )، والتي أبدع في لحنها وموسيقاها المقتدر المرحوم عبد النبي الجراري.
وخلعتُ عليك أوصافا أخرى مشتقة، ومستمدة من قراءاتي للروايات، والقصص والشعر. فكنتِ: جوليا شارلْ حبيبة الشاعر لاَمارتينْ. وجانْ دوفالْ ملهمة بودليرْ. وكايْ شو ملهمة توفيق صايغ. وإليزابيث هاسْكلْ حبيبة جبران خليل جبران. وإلْزا تريولي ملهمة أراغون. ولميعة عباس عمارة ملهمة السياب. وكْلارا حبيبة ريلكهْ.. الخ. وغيرهن من ملهمات الموسيقيين والفلاسفة العظام، والشعراء الأفذاذ، والروائيين الكبار.
ولعلك تذكرين أن أول ما قاد المودة بيننا، وبذر بذرة العشق الأولى، وأضرم شرارة الغرام والضرام، وكان سفيري إليك، كان روايةً من روايات يوسف السباعي على الأرجح: ( إني راحلة )، قبل أن تظهر قصيدة ( راحلة ) للصديق الشاعر عبد الرفيع جواهري. فبين دفَّتيْها، بين أرواقها الصُّفْر الصقيلةِ اللاَّسعة التي يحميها غلافان رفيعان مُذَهَّبان، دَسَسْتُ كالمتلصص المختلس بيد مرتعشة، بَتْلَة وردةٍ حمراءَ، وقصاصةً ورقيةً ملونة وضعتُ فيها نَزْراً من ذوب مشاعري، وشرَراً من حرائقي، محترسا الاحتراس كله حتى لا يضبط الورقة متلبسةً، ويطّلع على محتواها المرتجف، وخطها الخافق المختنق، أخوك / صديقي الذي اختطفه الموت من بيننا وهو في عز عطائه البيداغوجي والإبداعي، وفي أوج شبابه ونضوجه، وذروة النشاط الحزبي، والحيوية السجالية السياسية.
وقلتُ في الأمر.. في أمر هَسيس ذاك الغرام الأول، ورَسيسِه، معدّلاً بيت سيد الغزل « العفيف « جميل بثينة الشهير:
وأولُ ما قاد المودةً بيننا // بوادي بغيضٍ يا بثينُ سِبابُ
من دون أن أكسر دلالته ووزنه الشعري في ظني:
وأوَّلُ ما قاد المودةَ بيننا // بحيّ جرادةْ يا عُوَيْشُ كتابُ
صَغَّرْتُكِ تحبيباً، ورخمتك تطريباً، ورققت اسمك. فالحب ترخيم وترقيق.
والحب، عند أول عهدنا به، والزمن غضٌّ وغِرٌّ وصِبا، شهد وصاب. عذاب ورُضاب. سَهَرٌ وضرَرٌ. ضحك وبُكا. مكابرة ومشتكى.
ثم رحلتُ إلى وجدةَ تلميذا متعلما بثانوية عبد المومن الساكنة سويداء القلب كما أنتِ. ولأن سنوات الصبا والمراهقة هي ـ بالتأكيد ـ سنوات اللهو واللعب والترحلات، والتنقلات من زهرة إلى زهرة كالنحلة التي لا تقنع بالزهرة الوحيدة، والنِّكْتار الواحد، والتحليق من فَنَنٍ إلى فنن كالطائر لا يستقر على غصن واحد، بل يبحث عن شجر مُورِقٍ، وثمرٍ حُلْوٍ، وبَللٍ خَضِلٍ يَثْوي بين الأوراق واللّحاء. ولأنها كذلك، فقد تاه عقلي في كل الدروب، وتوزعته الحروب والندوب، والطمع في هذه وفي تلك، وفي أخرياتٍ نِلْنَ إعجابي ورضايَ. وسعى ابن عرسٍ ـ بكل ما أوتي من مكر ودهاء، وحضور بالثانوية من حيث انتشار اسمه في وسط التلاميذ والتلميذات، كحفّاظ للدروس، وبارع في تحرير الإنشاء، ومشروع شاعر ـ إلى رمي شبكته للسمكات البُنيّات العائمات في البحر اللّجي، بحر الثانوية الغرْقى بأعداد التلاميذ، والحُبْلى بالعاشقين المُدْنَفين حقا، والعاشقين الجائلين السائحين كذبا وبهتانا.
هكذا، يكون قلبي قد توزعه الهوى، وصعقه الغرام بين السمراء والشقراء، ذوات الضفائر والغدائر، وذوات الشعر المقصوص والمعقوص. بين الحسن المجلوب بتطرية بتعبير أبينا المتنبي، وبين الحسن غير المجلوب بتطرية.
بلى. ظلتْ عُوَيْشُ سَكَناً، وملاذا وفيئاً يُنْسيني رَمْضائي ومغامرات عشقي المحموم والمجنون الناجحة قليلا، الفاشلة أكثر الأحيان، متى ما عدتُ في نهاية الأسبوع إلى جرادةَ، فأجدها غاضبة لاَئمةً ومنكسرة لعدم اتصالي بها ومكاتبتها. وكانت ـ والله أشهد ـ قاصة رومانسية بارعة، تُرَقّصُ اللغةَ كما تُرَقِّصُ مَشْيَها وهي قادمة من بعيد لتلقاني ولتبوح بما عانته في غيابي، وأبوح لها بمكنوناتي، وظروفي، وبعض « أكاذيبي»، وأعذاري الملفقة.
جُلْتُ، وتنقلت، وطرتُ، ولكنني عدتُ إلى عُوَيْشَ. وها هي ذي صامتةٌ ومشرقةٌ إلى جَنْبي، ترنو إليَّ بعين الحبِّ، وأرنو إليها بعين القلبِ. هو الغرامُ يَخيطُنا، ويباركُ عمرنا يا ربّي.
* إشـــــــــارة:
اِسمُه الغرامُ: هو عنوان رواية بديعة للكاتبة اللبنانية عَلَوية صُبْح. نشرتها در الآداب البيروتية في العام 2009. ومنها استلفتُ العنوان، فوجب التنويه.
محمد بودويك
اِسْمُه الغرامُ - AL ITIHAD
ما شأنك أيها الغلام بالغرام؟، وعَدِّ النجوم بالليل والناس نيام؟ ما شأنك بما يُبْكيكَ ويُشقيكَ، ويُلْقي بك في أتون الهيام،
alittihad.info