جيلالي عمراني - تكريم معطف غوغول

بمجرد إعلان الأكاديمية السويدية لجائزة نوبل للآداب في (2013) بفوز الكاتبة و القاصة الهادئة أليس مونرو للجائزة العالمية الرفيعة، تنفس كتاب القصّة في أصقاع الدنيا الصّعداء بهذا التكريم الرفيع جدا، الذي خصّهم جميعا، بدءا من نيغولاي غوغول إلى أنطون تشيخوف و بورخيس، بل إلى آخر كاتب حالم عاشق للقصة القصيرة، فكل الذين كابدوا و نشروا قصصا متواضعة أو بديعة، وكلّ الأوفياء للقصة القصيرة قراءة و كتابة و نقدا شملهم ذاك البذخ السويدي ذاك الخريف الجميل، و شعروا بالفخر و الاعتزاز و كيف لا و معشوقتهم الجميلة نالت الوسام العالمي الرفيع جدّا، و لسانهم يقول: لن تنسحب من المشهد الأدبي بالسهولة التي أريد لها بذلك الاحتضار المعلن عنه في أكثر من مناسبة. لكن السؤال الحقيقي الملّح: هل فعلا أنقذت جائزة نوبل القصة من حلقوم الرواية؟ ماذا تغيّر بعد أكتوبر 2013 إلى غاية هذه اللحظة الحرجة من تاريخ هذا الفن السّاحر؟ لماذا لم تسترجع القصة هيبتها و رونقها و حضورها الباهر في المحافل كما تفعلها الرواية؟
"كان يا مكان.." هي العتبة الضرورية للولوج إلى عوالم خيالية من خلال أساطير و حكايات الأولين، العجيبة و الخرافية في آن واحد، فيأخذك الحكاء/ة إلى أزمنة سحيقة و أماكن مدهشة مليئة بالتّفاصيل و الشّخصيات و الأسئلة، فالحكاية دوما هي سيدة المكان تؤثث للمجالس العامة و الخاصة والعائلية فضاءات ساحرة لولوج إلى تلك العوالم الجديدة، المثيرة. فإلى وقت غير بعيد كانت للحكواتي مكانة مرموقة، في كل الثقافات، لما يقدمه للمتلقي من متعة منقطعة النّظير، فلا قيمة للحياة البشرية دون تلك الحكايات و القصص التي تؤسر المتلقي، المنبهر بالسّرد الجميل، الشّغوف بالنهايات السّعيدة، الشغوف أيضا بغابات السّرد حسب تعبير "إيكو". هكذا هم البشر منذ بدء الخليقة، أبناء السرد تستهويهم الحكايات، بل تسكنهم إلى حدّ النخاع، فهي بمثابة الهواء و الماء و الضوء و الحب في يومياتهم، فكان لزاما على البشرية أن تبدع أشكالا فنية جديدة و تطورها في ظل افتنانهم بالسّرد الذي لا ينتهي عن الحياة، المحمّل بمضامين الحب و الكراهية والحرب و السلم، المحتفي بالتفاصيل الصّغيرة عن الفرح و الحزن والموت، والأوجاع الإنسانية. آلاف بل مئات الآلاف من الحكايات الشّعبية و القصص التي غذّت الذاكرة و الوجدان البشري و طورّت وعيه بذاته و بالعالم. إذ كانت بلا منازع ديوانا حقيقيا مشتركا بين البشرية يتداولونه بمحبة. فالحياة الصّاخبة السريعة نحو المستقبل بدون هده السّرود، هي بمثابة سجن و موت أكيدين، "من أقسى العقوبات التي يتعرض لها الإنسان السّوي هي السجن الانفرادي، لأنه يحرمه ممن يسرد له"
منذ قصة"خاركليا" اليونانية (بالتأكيد لم تكن هي القصة السبق إلى قصص المجموعة القصصية"عزيزتي الحياة"3 للكاتبة الكندية (انييس مونرو) لم تتوقف الحكاية يوما عن انتشارها بين الناس من أقصى الأرض إلى أقصاها بكل اللغات، يتداولونها كفن لا غنى عنه، فعرفت تطورا كبيرا، شكلا و مضمونا فلم تبق الحكاية كما كانت في السابق ولم يبق للحكّاء أي دور. فالحكاية لم تختف بل تسللت إلى فن مدهش هو فن القصة القصيرة، فكان لغوغول و معطفه الأثر الكبير في تطور القصة القصيرة في بدايات القرن التاسع عشر، ثم كتاب آخرون كبار كتشيخوف و ادجار ألان بو و موبسان، هرمان هسة البيرتو مورافيا، نجيب محفوظ، يوسف إدريس زكريا تامر، الطاهر وطار، أحمد بوزفور، القائمة طويلة لكتاب عالميين و عرب لامسوا الجرح الإنساني في قصصهم القصيرة التي حفظها القارئ عن ظهر قلب، تلك الروائع التي صنعت الدهشة و المتعة طيلة قرنين من الزمن تقريبا، بالتأكيد هي الفن الأول بامتياز، تتصدر المشهد الأدبي بفضل الصحافة و المجلاّت الشهرية و الفصلية..وعرفت تحولات كبيرة و ارث كبير لفن صعب و مدهش، أو فن "القلة" كما يسميه النقاد الذي صنع الاستثناء في المشهد الأدبي العالمي، بدليل تسابق كبريات الصحف و المجلات لاستقطاب القامات الكبيرة لنشر قصصهم القصيرة، في فترة عزّها تحوّل كتاب الرواية إلى كتابة القصة، في التسعينيات من القرن الماضي شهدنا العكس، إذ هاجر كتاب القصّة إلى الرواية في هجرة جماعية مؤلمة. فجأة بدأت تنسحب باستحياء في العشرين سنة الأخيرة لأسباب كثيرة بعضها يتعلق بتسيّد الرواية للمشهد الأدبي، و بعضها يتعلق بعزوف الناشرين عن نشر المجاميع القصصية بدواعي ضعف المقروئية في العالم عكس الرواية التي تشهد أزهى فتراتها الذهبية نشرا و توزيعا و رعاية و تمويلا. هل لأن القصة القصيرة لم تعد قادرة على استيعاب الكوارث التي حلّت بالعالم من حروب و أزمات إنسانية كبيرة؟
بدأ السؤال المهم يطرح في كذا قطر عربي وفي مؤتمرات كبيرة عن حقيقة هذا التراجع و انسحاب القصة القصيرة. ربما كان للروائي الجزائري الطاهر و طار السّبق في طرح هذا السؤال و ذلك في ندوة عربية كبيرة في الكويت(تسعينيات القرن الماضي) عن انسحاب القصة القصيرة من المشهد الأدبي. و بعد هذا التاريخ حاول الكتاب العرب إعطاء النفس الجديد للقصة القصيرة من خلال النقاشات الأدبية و الملتقيات الخاصة بالقصة القصيرة في عدّة مناسبات، وبعناوين مختلفة، فعلى سبيل الذكر ملتقى القصة القصيرة في الأردن سنة 2008 و ملتقى القاهرة الدولي الأول للقصة العربية، ناهيك عن الملتقيات المحلية المحدودة حضورا و تمويلا إلى جانب هذه المحاولات المحتشمة حاول البعض في استحداث جوائز محلية نكاية في هؤلاء المتشائمين المبشرين بموتها قريبا. فأزمة القصة القصيرة و انسحابها أو تغييبها عنوة لم تقتصر فقط على العالم العربي بل أيضا امتدت إلى الغرب برمته، فلم يعد الناشرون و النقاد و الصحافيون يحتفون بصدور المجاميع القصصية أو يروّجون لها. فهي تشبه اليتيم تماما، أو يصعب توصيف الحالة التي مرّت بها و أعتقد أنها لا تزال هذه المبررات وهذه العوائق بالرغم من جائزة نوبل لأليس مونرو فهي تتراوح مكانها المتواضع، ولم لم تحقق الوثبة المرجوة، بالرغم من أن عالمنا اليوم، السريع و المثير هو عالم القصّة بامتياز.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى