محمد علي عزب - الاٍلهام الشعرى.. بين التفسيرات الماورائية وحساسية الشاعر تجاه العالم

الاٍلهام والوحى مصطلحان متردافان ارتبطا بالشعر والآداب والفنون منذ القدم, والاٍلهام هو : المُحفِّز والمُحرّض على الكتابة الاٍبداعية وليس لمجيئه وقت محدد اٍذ أنه يأتى بشكل مفاجئ, ويمكن أن نعتبر أن الاٍلهام هو سِرّ الموهبة الشعرية, وقد تنوعت الآراء بين القدماء والمحدثين حول منابع الاٍلهام الشعرى وماهيته, فالأساطير الدينية لدى الاٍغريق كانت تُقرّ بأن هناك اٍلها للشعر والفنون والموسيقى هو الاٍله "أبولو", الذى يسكن فى جبل الأوليمب ويعزف بقيثارته الذهبية ويلهم الشعراء ما يقولونه, وقد اعتقد الاٍغريق بوجود ربّات للشعر تسكن مع "أبوللو" فى جبل الأوليمب, وتختص كل ربة من تلك الربَّات بغرض أو نوع معين من أنواع الشعر, وتتأمر بأمر الاٍله "أبوللو" فى اٍلهام الشعراء, فهناك ربة للشعر الملحمى وأخرى للشعر الدرامى وأخرى لشعر الغزل وهكذا, وقد كان العرب فى العصر الجاهلى يعتقدون أن لكل شاعر جِنِّى أو شيطان يوحى له بالشعر, وأن شياطين الشعر تسكن فى واد يُسمى وادى "عبقر" نسبة اٍلى العبقرية والتفرد, وكان لكل شاعر شيطانه الخاص, فمثلا تجد أن العرب أطلقوا على شيطان الشاعر لُبيد بن أبى طرفة اسم "هُبيد" وقالوا : "لولا فضل هُبيد على لبيد", واٍلى جانب اعتقاد العرب فى الجاهلية أن لكل شاعر شيطانه الخاص, فقد اعتقدوا أن هناك شيطانين رئيسين للشعر هما ( الهُوير وهو شيطان الشعر الجيد, والهَوْجَل وهو شيطان الشعر الردئ )1, وهذه النظرة الماورائية للاٍلهام والاٍبداع الشعرى مرتبطة بالفكر المثالى الماورائى "الميتافزيقى" فى الحضارات القديمة, وهو فكر لا يهتم بدراسة طبيعة وظواهر الأشياء المادية بل يهتم بمعرفة ماوراء الطبيعة المادية, والجوانب النفسية والروحية والظواهر الغريبة مثل الجن والأشباح, ويفسر الاٍبداع الأدبى والفنى على أنه ظاهرة من ظواهر الطبيعة تتحكم فيها قوى خارجية خفية سواءا كانت هذه القوى الماورائية اٍله أو جِنّى, وقد تجاوزت والآداب والعلوم الاٍنسانية والفكر الحديث هذه النظرة الماورائية, وتعاملت مع الاٍلهام على أنها نوع من حساسية المبدع تجاه العالم والذات والآخر, وطاقة انفعالية محفزة على الاٍبداع الأدبى والفنى, تساهم فى تكوينها عدة عوامل نفسية واجتماعية وثقافية, وفى الشعرية الحديثة والمعاصر هناك رأيان بخصوص منبع الاٍلهام وماهيته, وهذان الرأيان مرتبطان ارتباط وثيقا بحساسية الذات تجاه العالم, والرأى الأول منهما يقر بأن الاٍلهام عملية واعية تنبثق من وعى الشاعر, والرأى الثانى يقر بأن ( الاٍلهام ينبثق من اللاوعى, وهو نتيجة مكبوتات انفعالية تظهر على السطح عبر قناة اٍبداعية )2 .
وسواءا كان الاٍلهام منبعه هو الوعى أو اللاوعى الذاتى للمبدع الذى يتأثر وينفعل بالعالم وظواهره وأشيائه, فاٍن الاٍلهام وحده لا يكفى لكتابة نصّ شعرى, اٍذ أن الشاعر لا بد أن يمتلك أدوات فنية وخبرة جمالية قارة فى الوعى والوجدان, تمكنه من صياغة النصّ الشعرى واٍعطائه مشروعية وجوده, فاٍن كانت الكتابة تعتمد على معرفة أدوات صياغة الشعر بدون وجود موهبة أو اٍلهام تعتبر نوعا من التنصنّع يفتقد للحساسية الشعرية, فاٍن الاعتماد على الاٍلهام وحده دون امتلاك أدوات فنية وخبرة جمالية يُفقد النص صفة الاٍبداع ويصبح مجرد ارتجال أو فضفضة عشوائية, فالاٍلهام وامتلاك أدوات صياغة الشعر متلازمان ولا تتحقق شعرية الشعر اٍلاّ بوجودهما معا .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ شفيق معلوف ـ مقدمة عبقر ـ منشورات العصبة الأندلسية ـ ص 1949م ـ نقلا عن المعجم المفصل فى اللغة والأدب ـ د. اٍميل بديع ود. ميشيل عاصى ـ دار العلم للملايين ـ بيروت 1987م المجلد الأول ص 216
2ـ معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة ـ عرض وتقديم وترجمة د . سعيد علوش ـ دار الكتاب اللبنانى ـ بيروت 1985م ص39
* مقتطف من كتابى النقدى "مقاربة مفهومية فى المصطلح الشعرى المعاصر" ـ قيد الكتابة والمراجعة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى