محمد خضير - اللقاء خلسة بسعدي يوسف

(الأحلام ستظهر رغم أنفها ولن تفلت من اليقظة. سنلتقي بها خلسة) _ عبد الرحمن طهمازي_ تمرين على اليقين


مهما كانت المواعيد محتّمة في حياة اليقظة، فإنّ لقاءات الآخِرة أهمّ وأكثر حتماً وصراحة. لم ألتقِ بِمن أحسَبُهم معلّمي "الجزيرة المفقودة"، أولئك المنفيّين من أروقة المدارس والمعاهد والأكاديميات الحاضرة/ الحضرية، إلا هنيهات في كواليس المسرح الدوّار، أو مرفأ المغادرة إلى عرض البحر، بواسطة كُرة القُرعة المخشخِشة. وهؤلاء المعلّمون أكثرُ من الكثرة، لكنّ الكُرة الخادعة تجعلهم قلّةً قليلة، نادرة. إنّهم معروفون، لكنّ المعرفة الحقّة التي يوفّرها الحلم، تخفي نفسها في ضباب الجزيرة، وتبعثّر الوقتَ المحدّد في تذكرة اللقاء. وقد تُخبَط المياه العكِرة للجزيرة، كما تُخبَط الأرقام في كُرة القُرعة المخشخِشة، التي ينصبها الحلم في ميناء النزول. كنت أروم مراراً الحصول على الرقم الذي يعلن عن لقائي حيّ بن يقظان، على جزيرة ابن طفيل، فإذا الكرة تغشّ الحَلْمان، وتنقله الى حيّ مانهاتن فيقابلُ نورمان مايلر، وهو ينازع لحظتَه الأخيرة، راجياً البقاء مدة أطول من قرعة الرحيل المسجَّلة باسم صرصار. وهكذا حدثَ الغِشُّ في قرعة ميخائيل نعيمة، وجبران خليل جبران، وعبد الملك نوري، ونوري ثابت، وعمّو بابا، ولميعة عباس عمارة وعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري... ومئات من أصحاب الأرقام المغشوشة... الذين لا سبيل إلى لقائهم أبداً مهما اعتدل الحظّ، وارتفع "نشيد الأرض" الذي أنتظمُ شخصياً في صفوف مُنشديه... حتى حانت البرهة البيضاء، ولفظتْ كرةُ الجزيرة المخشخِشة رقماً صحيحاً لا غِشّ فيه ولا مداورة على اسمه، مع نداءٍ فصيح منغَّم المقاطع: "دونكَ شخصاً من معلّمي الجزيرة، فانتهز فرصتَك، وأشرِك حبكتَك بسطورِه".
وما زال الصوت المخشخِش يكرّر الاسمَ، حتى ظننتُ أنّي سأفقد الحبكةَ المضفورة بحبكة الشاعر المرتقَب، وأُمنَع من دخول جزيرة الأحلام خُلسة. لكنّني ظفرتُ أخيراً بما اعتقدتُه حلمَ اللقاء بسعدي يوسف، في برهة نقيّة من خشخشة الكُرة وغِشّها، وضباب الجزيرة وعكرة مياهها.
وما أن هدأ دوران كُرة الحظّ على الجزيرة، حتى أسرعتُ في تضمين حلم اللقاء ب"الشيوعي الأخير" كتاب أحلامي، المشتقّ من كتُب "الجزيرة الضائعة" ونسبْتُه إلى ممتلكات "بصرياثا".
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
(كنا مجموعة أدباء، لا أتذكّر وجه واحد منهم، نجلس في غرفة، وكان سعدي يوسف يجلس وراء طاولة في صدر الغرفة، يُمسك بريشة يغمسُها في دواة حبرٍ صينيّ ويخطّ على رقعةٍ بين يديه أسماءَ أدباء عراقيين بالخطّ الديواني (لا أعرف إنْ كان سعدي يجيد هذا الخطّ فعلاً). هل كان سعدي في الحلم زائراً، محرّرَ صحيفة، أو موظفاً في مقبرة؟
انتقالُ سعدي يوسف في الأحلام كانتقاله في البلدان، ولا تكشف الأحلام عن المواقع الأصلية التي تحدث فيها، لذا افترضتُ أنّ الوظيفة الأخيرة مناسبة جداً لتفسير انهماكه في الخطّ على رُقعة الأسماء الراحلة، فقد جرى الحوارُ التالي بيني وبينه، عندما كان يخطّ اسم أديبٍ مشهور فارقَ الحياة قبل مدة قصيرة. وكان هذا الاسم يحتلّ ورقةً في نبتة مغروسةٍ في أصيص فخاريّ متعددة الأوراق، موضوعة بجانبه.
قلتُ لسعدي: "كان هذا الأديب ألدّ الخصوم لك ولمجموعة كبيرة من أصدقائه الذين انقلبَ عليهم، أتراهُ يستحقّ أن يشغل الورقةَ الأولى في نبتِتك؟".
ابتسم سعدي ولم يُجب، وأفترضُ أنّها من الابتسامات النادرة التي رفّت على وجه الشاعر المتجهّم، الذي ينطبع في الصحف صخرياً نائياً لا يُمسَك أو يُستحضَر على حقيقته الآدمية السَّمحة. أعدتُ السؤال بعد أن ذكّرته بالأصول الغنائية المشتركة بينه وبين الشاعر المستحضَر في خطوط النبتة. تذكرتُ أني أخاطبُ شخصاً أستحضِرُه لنفسي، لا لكي أقارنَه بالآخرين. وإنّي وحدي مَن يدير الأسئلة والأجوبة، ولا أتوقّع حواراً تشاركيّاً من الأشخاص الذين يحضرون مجلسَنا أو يغيبون عنه. قطعَ حلمُنا كلّ الصّلات بما حولنا، وبدا الشاعر في جلسته وهو يخطّ الأسماء على ورقات النبتة، مثل كاتب عراقي قديم من دلتا أوروك، بوجهه الغرانيتيّ الأخضر، وحيداً كتمثال يرفع يده اليمنى بالقلم القصبيّ.
فجأة تحرّك الشاعر، وقال: "يزعمون أنّني لا أكترث بالمقابر الجماعية. يا لهُ من اتهام سخيف. لكنّني فعلاً تركتُ المقابرَ وراء ظهري، ولا أفكّر في زيارتها بعد اليوم".
شجّعني قولُه على السؤال: "هل كتبتَ قصيدةً عن مقبرة كمقبرة أم البروم في قصيدة السياب؟ إنّي أحسّك قريباً من دلتا المقابر عندنا". حدّدتُ هذا الموقع لأحثَّهُ على التذكّر واللحاق بحلمي التائه بين القبور.
عادت الابتسامةُ الغامضة إلى وجهه الذي لم يرفعه عن الرُّقعة. قال: "المقابر! لا أريد العودة إلى المقابر. لا أحبّ بعثَ الطواطم التي خلفتُها ورائي. الطواطم الأيديولوجية المتحجّرة". ثم واصلَ خطّ الأسماء بضغط أكبر، واستمتاعٍ عنيف أرجفَ أصابَعه الخُضر الحجريّة. إنّ حركة إصبع تمثال في حلم، كافية لتحطيم معبد، أما حركة الشاعر وهي تخطّ أسماء الأصدقاء الغابرين، فهي كافية لبعثرة قبورهم.
تقدّمتُ أكثر من هدفي وقلت: "أتتذكّر مقبرةَ القرية؟ حدَبات القبور المتفرّقة، والسُّور الطينيّ الذي يتقافزُه الأطفال وقت الظهيرة ليقتلعوا نوعاً من الحشائش يدعى (شيخ اسم الله) ينمو بين القبور؟ إنّه منظر لا تشاهد مثله في أية مقبرة أوربية هادئة بهندستها واخضرارها الدائم.. لا أظنّك بعيداً عن ذلك المكان، وإخالك الآن جالساً في غرفة الدفّان في مقبرة ريفية.. أرجو المعذرة لأنّي أتخيلّك زائراً دوريّاً في الأحلام ما دامت بلادُك أصبحت مقبرة، أو هذا ما تتخيّله أنت مراراً".
لاحظتُ اهتمامه بإفادتي، لكنّه عاد إلى جموده ولم يصرّح بشيء. كان يدير الفكرة في رأسه، كما افترضتُ، ولا يريد أن أشاركه سرحانَه بين مقابر الشعراء، فأكتفي بمراقبته يواصل خطّ أسماء الموتى باهتمام وانفعال. انقطعَ اللقاء وغابَت الوجوه كما تغيب عند انقطاع التيار الكهربائي، أو عند سفور فجرِ الدّلتا العراقية بضبابه الكثيف حول المقابر، وذهبتُ إلى تفسير اللقاء مذاهب شتّى ونقلتُه مع نفسي إلى أمكنة أخرى.
ظننتُ قِصَر الحلم منسوباً إلى قِصَر الحوارات الحقيقية التي تعمُر عالمَ الأحلام، فالأحلام صُوَريّةٌ لا كلامية، موميائيةٌ بلا حياة. أما مِهنةُ الشاعر سعدي يوسف التي تجلّى بها في حلمي، فقد فسـّرها الحوارُ حول المقابر بأنّها مهنة كاهنٍ أكثر منها مِهنة حفّار قبور. هل كان الشاعر يعدّ قائمة بالأسماء التي يُزمع إرسالها قبلَه إلى العالم الآخر، أم أنّها الأسماء التي يودّ مصالحتَها على سفح البرزخ عندما تحين رحلته؟
لا تفسير لحلمٍ أفضل من طريقة تحريره بحذافيره، ولا لقاء أمتع من تجاهل حدود واقعه. نسخَ هذا اللقاء أيَّ لقاءٍ حقيقيّ سابق، أو لاحق قد يحدث في مكان واقعيّ مع الشاعر. ربما عبّر حلمي عن رغبة دفينة بتحقيق لقاءٍ صعب مع شيوعي أخير يلعن الطواطم؛ وقد لا يكون لهذا اللقاء أيّ تعبيرٍ أو مغزى).

محمد خضير



أعلى