قال صديقي..
ـ سأعد القهوة
وغاب جسده خلف الباب. حدقت حولي مستقصياً معالم الغرفة.. أشياؤها تغرق في ألق ساطع ، المناضد العالية والمائلة التي يستعملها صديقي لرسم خرائطه الهندسية المعمارية التي تنداح مستلقية بتثاقل فوق ركامات هائلة من الأوراق العريضة البيض الصقيلة، بعضها اكتمل تخطيطها فبدت من حيث أجلس ، على نسق فني مرهف بالغ الجمال ، فيما بدت إحداها وكأنها تلطيخات سود غير نظيمة للوحة لم تكتمل بعد ، وفوقها تكومت أقلام تحبير بأحجام مختلفة وعلى جانبها تماما وفي طرف منضدة ملاصقة بدت السيكارة الموضوعة على حافة المنفضة ، والتي تتقصف بفعل الاحتراق ، والدخان الأزرق المتصاعد على شكل تهويمات هندسية لا أسماء لها أشبه بمدخنة قصية في واد مقفر، همست لنفسي .
ـ ما أثقل الليل...
ولشد ما آلمني هذا الشعور المفاجئ الكئيب فحدقت عبر الباب أنتظر أوبة صديقي من المطبخ بيد أني وقفت والدهشة والحيرة يربكان لساني حين دخلت بقبعتها البيضاء التي تغطي شعرها الأشقر الممتد على كتفها البض الدقيق اللابد كصوص الدجاج تحت معطف فراء الثعلب الرمادي، ابتسمت برفق ورنمت ....
ـ مساء الخير
ثم تقدمت بخطى وئيدة وصافحتني ، استكانت كفها الناعمة في قبضة يدي كحمامة مستوفزة ، أبقت أناملها في كفي وهي تحدق فيَّ بلواحظها الزيتونية ثم قالت :
ـ هيّا نذهب
ولأول مرة سمعتُ صوتي الواجف .
ـ أين..؟
ـ إلى بيتنا .
ووقفت اتامل المكان ، انداحت التفاصيل أمامي عالماً أسطورياُ شفافاً مكللا بالبياض الناصع والثلج يتطامن نحو الأفق حتى يتلاشى في خط ابيض تمتد وراءه سماء مرصعة بغيوم ربابية فيمسي للأرض المتموجة والسماء اللامتناهية لون واحد هو لون الثلج الهاطل بتمهل وكثافة مغطياً معظم أجزاء كوخ كبير ينام بوداعة على بعد مرمى حجر منها وبدت الشجيرات العارية المنتشرة على جانبيه وعلى أبعاد متباينة في اتساق رهيف ونظيم، ومن سقفه كانت ثمة مدخنة آجرية تنث دخاناً رصاصياً فيجعل للمدى حركة حبلى بالحياة بالرغم من افتقاره إلى أي كائن ظاهر، و كان رغم الليل الأبيض . ثمة ضوء ساطع يتسلل من خصاص نافذته الخشبية مضيئاً المسافة على بعد ياردتين أو ثلاث كوخاً صغيراً يبدو من بابه المخلوع مربض كلب أو قن دجاج مهجور ، همست معجباً متسائلاً ...
ـ هيا .. ؟!
أومأت برأسها ، والومض البارق من أعمق نقطة من اللواحظ الزيتونية خيوط عنكبوت لزجة تمسك بخناقي وتجرني إلى قدري المحصور بين الحدقتين الزيتونيتين، قالت بحرارة ..
ـ وقتنا قصير ..
ثم بعد وهلة .
ـ لم نحتفل معاً بعيد الميلاد منذ سنتين .
وامسكتني من معصمي ، انقاد جسدي، مبهوراً ومسلوباً . خلف الثوب المتطاير الأبيض ، أحسست ببرد قاصف يهمي في عروقي فحشرت رقبتي داخل ياقة معطفي وأنا منتش من صوت تقصف وانسحاق الطبقة الثلجية تحت حذاءينا فيسري إلى رأسي خدر لذيذ . كان الليل الثلجي البض يشمل الامتداد الشاسع أمامنا ويضفي على المساء مسحة قدسية .. أقترب الكائن الأنثوي ، شعرت بأنفاسه الدافئة اللاهثة تهمي على خدي ، وكان ثمة في عينيه الزيتونيتين شمس أبدية وبحر لا نهاية له يدعوني في اصطفاقه المجنون لامتطاء عبابة ، سمعت صوتها المرتعش .
ـ أشعر ببرد .
وتلبية لهاجس أزلي أحطُّ خصرها بيدي وسحبتها تحت جنحي . استكانت كعصفور مبلل ينشد الدفء والطمأنينة . أركنت رأسها إلى صدري وهمست .
ـ ضمني إلى صدرك بقوة .
وبعد برهة بنبرة تخنقها حشرجة الأنثى الراغبة .
ـ اشعري بالأمان .
التصقت كقطة منزلية أليفة ، تسلقت أنفاسها الساخنة المعجونة برائحة الأنثى الزكية فانغمرت ذائباً في لهيب هذا الذات الناعس المخدر وانقادت مثل الشاة المساقة إلى مسلخها ، في هذا المدى الموحش تجرّني خطواتي الممغنطة بتسليم راضٍ ... حثثنا خطانا نرسم على الثلج المسفوح على امتداد الأرض آثار أقدامنا الوثابة، وفجأة تفجّرت في تلك النقطة البعيدة في حناياي ، تلك البقعة المثيرة الداكنة المجهولة في ثنايا هذا الصدر المتعب ، زوابع خانقة ودبقة تسللت منزلقة مثل سمكة صغيرة وانتشرت في تجاويف صدري المقهور ، شعرت على أثرها بنفس الشعور الذي يتلبسني عندما ينفجر البركان على حين غرّة وتتدفق النيران تلسع كل شيء ورويداً رويداً انغمرت في نفس البحر الذي دخلت دياجيره المعتمة حين وقفت أمام تلك الصورة الفوتغرافية الفذة لذلك المصور المجبول باقتناص الحياة . أتملى تفاصيلها مأخوذاً باللحظة الفريدة التي رتّب بها خالق الصورة تفاصيلها ، وكأني بتلك الجمجمة المنخورة عند الفك والملقاة بإهمال متعمد وسط الكومة من الأوراق النقدية والمعدنية تصرخ ثاقبة الفضاء المعتم الذي يكتنفها من الخلف .
ثمة ما يمسك على الدوام
ويعود بي إلى الوراء
إلى الزمن الذي كان كل شيء
يهيب بي أن أحيا ... (1)
وانفتحت كوة صغيرة في دياجير ذاتي الموصدة ، انساح خلالها صوت زاخر بالحيرة يصفد نفسي المعذبة .
ـ حتام تسير وما مآل هذه الرحلة .. ؟ ومن هذه الجنية المضمخة برائحة الزوال .. ؟ والى أين تقودك عبر هذا الأديم ؟
والآلاف الأخرى من الأسئلة التي تبقى تواجه عين الأجوبة البلهاء على وجهي المنقاد نحو هذه المغامرة المجهولة ... وقفت إزاء الباب ، كان من خشب البلوط ، ندفت انفي رائحة الخشب الرطب فأغمضت لحظي بانتشاء مستذكراً في ذهني وقفاتي الفجائية أثناء ذهابي وإيابي إلى الكلية أمام محل النجارة في فم الزقاق والرائحة الزكية للخشب المنشور تستاف منخري فأسافر مستلذا بعظمة اللذة هذه، وحين فتحت عيني رأيتها تقرّب وجهها من ثقب الباب تحاول عبثاً إدخال المفتاح الضخم ، وبعد لأي صرّ الباب ثم انفتح معلناً عن أحشاء الكوخ ... كل شيء في الحيز الغارق بالألق الناصع الناثِّ من مصباح كبير يتدلى من السقف بسلسلة فضية كان يفصح عن ذوقِ فنانٍ مرهف الحس بدءا بتنظيم الأرائك مروراً بالرفوف المتوزعة على الحيطان الخشبية وقد زيّنتها كتبٌ ذات أغلفة صقيلة لمّاعة، وانتهاءً باللوحات الكثيرة الكبيرة المنتشرة باتساق، كنت أرى فان كوخ ، انجلو، دالي ، كوكان... شدّتني لوحة تحتل ركناً قصياً بين رفين... كانت تمثل إنساناُ ضامر الساعدين والساقين ، أصلع الرأس، ناصل البدن... بالكاد يكسوه ثوبٌ لا يطول الركبتين ، معصوب العينين بلفافة قماش سوداء ويمشي على حبلٍ رفيعٍ جداً وفي الطرف القصي منه وإزاء وجهه الآدمي ثمة وهج اصفر . أو فضاء تعلوه غيمة صفراء تفضي إلى عالم غامض رصاصي وتحت قدميه الحافيتين الملتصقتين بإصرار مجنون بالحبل . أسنة برتقالية تهمي ملامسة قدميه فيثويه الم ممض .. تسمّرت في مكاني عند العتبة أتأملها مأخوذاً بتلك الحركة الحائرة بين السقوط إلى الهاوية المعمّدة بالنار أو بلوغ الفسحة الصفراء البعيدة القريبة السهلة العصية،، أيقظني صوتها .
ـ أعجبتك .. ؟
ـ هائلة ...
ثم غمغمتُ ..
ـ لِمَن هذه اللوحة .. ؟
قالت :
ـ تستطيع أن تخمِّن ؟
ـ فان كوخ ؟
هزّت رأسها الجميل نفياً
ـ دالي ..
أنسلت بسمة ساخرة من شفتيها وهزت رأسها نافية .
ـ أنجلو ..
وأنسابت ضحكة ناعمة ثم نبرت .
ـ يبدو انك تجهل كل شيءٍ عن الفن وعن المدارس الفنية .
شعرت بالحرج ، بيد أن صوتي وجد تبريره الذي قد يبدو مقنعاً ، بالنسبة لي على الأقل
ـ صحيح.. ولكني متذوقٌ للفن ، تستهويني التفاصيل الواضحة التي تقبل التنظير.
قالت في شبه اقتناع .
ـ لا بأس
همست وأنا لم أزل مأخوذاً بمضمون اللوحة
ـ ولكنها قاسية
تأملتها بإمعان ثم قالت :
ـ أنها الفارزة التي تقرر مصير الإنسان ، هي مسافة زمنية قصيرة محدودة بين رفع القدم ووضعها ثانية ، ولكن ينبغي أن تكون المحاولة دقيقة وحذرة لرسم خطوة جديدة ... ، أما إلى تحت ، أو على المبتغى .
ــ تعبير جميل ولكنه ناقص .
تقوس حاجباها الخيطيان وسألت
ـ كيف .. ؟
ـ نستطيع أن نقول ، أنها تجسيد فلسفي عن المطلق وعن ماهية الإنسان .
ـ افهم من كلامك أن الإنسان مسير .. ؟
ـ بالضبط
ـ والحجة .. ؟
ـ انه كما ترين بلا بصر ، تدفعه إلى مصيره خطى غير محسومة . غائرة في سحب الحظ .
قطعت استرسالي فجأة
ـ لم لا نجلس
غاص جسدي في حفرة رحبة هانئة أحدثتها عجيزتي في المقعد الوثير، شعرت بالانتعاش والدفء يتسرب إلى حجيرات جسدي ، وبحثت عن المصدر، وجدت أمامي وقبالة اللوحة تماما مدفئة غائرة في الحائط وثمة في جوفها عيدان غليظة من خشب متيبس يحدث هسيساً لذيذاً بفعل احتراقه ، قالت وقد صعد الدم إلى وجنتيها وبانت أكثر حيوية :
ـ استميحك العذر لوقت قصير .
ومشت تميس في خطاها ، ابتلعها باب جانبي ، انفرج للحظة وجيزة، رأيت خلالها جوف غرفة تعوم في أضواء وردية، أغمضت عيني مستشعراً حرارة دافئة تسللت إلى مساماتي ، ثم تناهى إلى سمعي عزف هادئ شدتني فيه تلك النغمة المبهمة التي تستشفها الأذن المدربة في لحظات وجيزة ... هي أشبه بصيحة مبتورة لامرأة مسكونة باليأس والوحدة والرغبة ، وقفت كالمسحور تقودني قدماي في خط مستقيم نحو الباب ، كانت كل خطوة أخطوها نحو الغرفة تفجر في مخيلتي صورة مكان سرمدي غارق في الثلج ، وكوخ ينبت بغتة في الرجاء الفسيحة في تلافيف الدماغ ، وامرأة فاتنة خرافية ... أمسكت أكرة الباب مسحوراً بتلك النغمة التي تترجم دعوة أنثوية حارقة مبتورة ، دفعت الباب ووقفت مثل التمثال أتملى تفصيلاتها ، كانت صديقتي ...
ـ لم تنظر إليّ هكذا .. ؟!
قالها صديقي بتعجب وحيرة، كانت الصينية التي ينام فوقها فنجانان ساخنان من القهوة المرة ترتجف بين أنامله حين هتف ثانية ..
ـ ما بك .. ؟!
هيثم بهنام بردى
(1) مقطع من قصيدة للشاعر اليوناني نابليون لاباثيوتيس (1893-1943).
من صفحة: شذى توما مرقوس
ـ سأعد القهوة
وغاب جسده خلف الباب. حدقت حولي مستقصياً معالم الغرفة.. أشياؤها تغرق في ألق ساطع ، المناضد العالية والمائلة التي يستعملها صديقي لرسم خرائطه الهندسية المعمارية التي تنداح مستلقية بتثاقل فوق ركامات هائلة من الأوراق العريضة البيض الصقيلة، بعضها اكتمل تخطيطها فبدت من حيث أجلس ، على نسق فني مرهف بالغ الجمال ، فيما بدت إحداها وكأنها تلطيخات سود غير نظيمة للوحة لم تكتمل بعد ، وفوقها تكومت أقلام تحبير بأحجام مختلفة وعلى جانبها تماما وفي طرف منضدة ملاصقة بدت السيكارة الموضوعة على حافة المنفضة ، والتي تتقصف بفعل الاحتراق ، والدخان الأزرق المتصاعد على شكل تهويمات هندسية لا أسماء لها أشبه بمدخنة قصية في واد مقفر، همست لنفسي .
ـ ما أثقل الليل...
ولشد ما آلمني هذا الشعور المفاجئ الكئيب فحدقت عبر الباب أنتظر أوبة صديقي من المطبخ بيد أني وقفت والدهشة والحيرة يربكان لساني حين دخلت بقبعتها البيضاء التي تغطي شعرها الأشقر الممتد على كتفها البض الدقيق اللابد كصوص الدجاج تحت معطف فراء الثعلب الرمادي، ابتسمت برفق ورنمت ....
ـ مساء الخير
ثم تقدمت بخطى وئيدة وصافحتني ، استكانت كفها الناعمة في قبضة يدي كحمامة مستوفزة ، أبقت أناملها في كفي وهي تحدق فيَّ بلواحظها الزيتونية ثم قالت :
ـ هيّا نذهب
ولأول مرة سمعتُ صوتي الواجف .
ـ أين..؟
ـ إلى بيتنا .
ووقفت اتامل المكان ، انداحت التفاصيل أمامي عالماً أسطورياُ شفافاً مكللا بالبياض الناصع والثلج يتطامن نحو الأفق حتى يتلاشى في خط ابيض تمتد وراءه سماء مرصعة بغيوم ربابية فيمسي للأرض المتموجة والسماء اللامتناهية لون واحد هو لون الثلج الهاطل بتمهل وكثافة مغطياً معظم أجزاء كوخ كبير ينام بوداعة على بعد مرمى حجر منها وبدت الشجيرات العارية المنتشرة على جانبيه وعلى أبعاد متباينة في اتساق رهيف ونظيم، ومن سقفه كانت ثمة مدخنة آجرية تنث دخاناً رصاصياً فيجعل للمدى حركة حبلى بالحياة بالرغم من افتقاره إلى أي كائن ظاهر، و كان رغم الليل الأبيض . ثمة ضوء ساطع يتسلل من خصاص نافذته الخشبية مضيئاً المسافة على بعد ياردتين أو ثلاث كوخاً صغيراً يبدو من بابه المخلوع مربض كلب أو قن دجاج مهجور ، همست معجباً متسائلاً ...
ـ هيا .. ؟!
أومأت برأسها ، والومض البارق من أعمق نقطة من اللواحظ الزيتونية خيوط عنكبوت لزجة تمسك بخناقي وتجرني إلى قدري المحصور بين الحدقتين الزيتونيتين، قالت بحرارة ..
ـ وقتنا قصير ..
ثم بعد وهلة .
ـ لم نحتفل معاً بعيد الميلاد منذ سنتين .
وامسكتني من معصمي ، انقاد جسدي، مبهوراً ومسلوباً . خلف الثوب المتطاير الأبيض ، أحسست ببرد قاصف يهمي في عروقي فحشرت رقبتي داخل ياقة معطفي وأنا منتش من صوت تقصف وانسحاق الطبقة الثلجية تحت حذاءينا فيسري إلى رأسي خدر لذيذ . كان الليل الثلجي البض يشمل الامتداد الشاسع أمامنا ويضفي على المساء مسحة قدسية .. أقترب الكائن الأنثوي ، شعرت بأنفاسه الدافئة اللاهثة تهمي على خدي ، وكان ثمة في عينيه الزيتونيتين شمس أبدية وبحر لا نهاية له يدعوني في اصطفاقه المجنون لامتطاء عبابة ، سمعت صوتها المرتعش .
ـ أشعر ببرد .
وتلبية لهاجس أزلي أحطُّ خصرها بيدي وسحبتها تحت جنحي . استكانت كعصفور مبلل ينشد الدفء والطمأنينة . أركنت رأسها إلى صدري وهمست .
ـ ضمني إلى صدرك بقوة .
وبعد برهة بنبرة تخنقها حشرجة الأنثى الراغبة .
ـ اشعري بالأمان .
التصقت كقطة منزلية أليفة ، تسلقت أنفاسها الساخنة المعجونة برائحة الأنثى الزكية فانغمرت ذائباً في لهيب هذا الذات الناعس المخدر وانقادت مثل الشاة المساقة إلى مسلخها ، في هذا المدى الموحش تجرّني خطواتي الممغنطة بتسليم راضٍ ... حثثنا خطانا نرسم على الثلج المسفوح على امتداد الأرض آثار أقدامنا الوثابة، وفجأة تفجّرت في تلك النقطة البعيدة في حناياي ، تلك البقعة المثيرة الداكنة المجهولة في ثنايا هذا الصدر المتعب ، زوابع خانقة ودبقة تسللت منزلقة مثل سمكة صغيرة وانتشرت في تجاويف صدري المقهور ، شعرت على أثرها بنفس الشعور الذي يتلبسني عندما ينفجر البركان على حين غرّة وتتدفق النيران تلسع كل شيء ورويداً رويداً انغمرت في نفس البحر الذي دخلت دياجيره المعتمة حين وقفت أمام تلك الصورة الفوتغرافية الفذة لذلك المصور المجبول باقتناص الحياة . أتملى تفاصيلها مأخوذاً باللحظة الفريدة التي رتّب بها خالق الصورة تفاصيلها ، وكأني بتلك الجمجمة المنخورة عند الفك والملقاة بإهمال متعمد وسط الكومة من الأوراق النقدية والمعدنية تصرخ ثاقبة الفضاء المعتم الذي يكتنفها من الخلف .
ثمة ما يمسك على الدوام
ويعود بي إلى الوراء
إلى الزمن الذي كان كل شيء
يهيب بي أن أحيا ... (1)
وانفتحت كوة صغيرة في دياجير ذاتي الموصدة ، انساح خلالها صوت زاخر بالحيرة يصفد نفسي المعذبة .
ـ حتام تسير وما مآل هذه الرحلة .. ؟ ومن هذه الجنية المضمخة برائحة الزوال .. ؟ والى أين تقودك عبر هذا الأديم ؟
والآلاف الأخرى من الأسئلة التي تبقى تواجه عين الأجوبة البلهاء على وجهي المنقاد نحو هذه المغامرة المجهولة ... وقفت إزاء الباب ، كان من خشب البلوط ، ندفت انفي رائحة الخشب الرطب فأغمضت لحظي بانتشاء مستذكراً في ذهني وقفاتي الفجائية أثناء ذهابي وإيابي إلى الكلية أمام محل النجارة في فم الزقاق والرائحة الزكية للخشب المنشور تستاف منخري فأسافر مستلذا بعظمة اللذة هذه، وحين فتحت عيني رأيتها تقرّب وجهها من ثقب الباب تحاول عبثاً إدخال المفتاح الضخم ، وبعد لأي صرّ الباب ثم انفتح معلناً عن أحشاء الكوخ ... كل شيء في الحيز الغارق بالألق الناصع الناثِّ من مصباح كبير يتدلى من السقف بسلسلة فضية كان يفصح عن ذوقِ فنانٍ مرهف الحس بدءا بتنظيم الأرائك مروراً بالرفوف المتوزعة على الحيطان الخشبية وقد زيّنتها كتبٌ ذات أغلفة صقيلة لمّاعة، وانتهاءً باللوحات الكثيرة الكبيرة المنتشرة باتساق، كنت أرى فان كوخ ، انجلو، دالي ، كوكان... شدّتني لوحة تحتل ركناً قصياً بين رفين... كانت تمثل إنساناُ ضامر الساعدين والساقين ، أصلع الرأس، ناصل البدن... بالكاد يكسوه ثوبٌ لا يطول الركبتين ، معصوب العينين بلفافة قماش سوداء ويمشي على حبلٍ رفيعٍ جداً وفي الطرف القصي منه وإزاء وجهه الآدمي ثمة وهج اصفر . أو فضاء تعلوه غيمة صفراء تفضي إلى عالم غامض رصاصي وتحت قدميه الحافيتين الملتصقتين بإصرار مجنون بالحبل . أسنة برتقالية تهمي ملامسة قدميه فيثويه الم ممض .. تسمّرت في مكاني عند العتبة أتأملها مأخوذاً بتلك الحركة الحائرة بين السقوط إلى الهاوية المعمّدة بالنار أو بلوغ الفسحة الصفراء البعيدة القريبة السهلة العصية،، أيقظني صوتها .
ـ أعجبتك .. ؟
ـ هائلة ...
ثم غمغمتُ ..
ـ لِمَن هذه اللوحة .. ؟
قالت :
ـ تستطيع أن تخمِّن ؟
ـ فان كوخ ؟
هزّت رأسها الجميل نفياً
ـ دالي ..
أنسلت بسمة ساخرة من شفتيها وهزت رأسها نافية .
ـ أنجلو ..
وأنسابت ضحكة ناعمة ثم نبرت .
ـ يبدو انك تجهل كل شيءٍ عن الفن وعن المدارس الفنية .
شعرت بالحرج ، بيد أن صوتي وجد تبريره الذي قد يبدو مقنعاً ، بالنسبة لي على الأقل
ـ صحيح.. ولكني متذوقٌ للفن ، تستهويني التفاصيل الواضحة التي تقبل التنظير.
قالت في شبه اقتناع .
ـ لا بأس
همست وأنا لم أزل مأخوذاً بمضمون اللوحة
ـ ولكنها قاسية
تأملتها بإمعان ثم قالت :
ـ أنها الفارزة التي تقرر مصير الإنسان ، هي مسافة زمنية قصيرة محدودة بين رفع القدم ووضعها ثانية ، ولكن ينبغي أن تكون المحاولة دقيقة وحذرة لرسم خطوة جديدة ... ، أما إلى تحت ، أو على المبتغى .
ــ تعبير جميل ولكنه ناقص .
تقوس حاجباها الخيطيان وسألت
ـ كيف .. ؟
ـ نستطيع أن نقول ، أنها تجسيد فلسفي عن المطلق وعن ماهية الإنسان .
ـ افهم من كلامك أن الإنسان مسير .. ؟
ـ بالضبط
ـ والحجة .. ؟
ـ انه كما ترين بلا بصر ، تدفعه إلى مصيره خطى غير محسومة . غائرة في سحب الحظ .
قطعت استرسالي فجأة
ـ لم لا نجلس
غاص جسدي في حفرة رحبة هانئة أحدثتها عجيزتي في المقعد الوثير، شعرت بالانتعاش والدفء يتسرب إلى حجيرات جسدي ، وبحثت عن المصدر، وجدت أمامي وقبالة اللوحة تماما مدفئة غائرة في الحائط وثمة في جوفها عيدان غليظة من خشب متيبس يحدث هسيساً لذيذاً بفعل احتراقه ، قالت وقد صعد الدم إلى وجنتيها وبانت أكثر حيوية :
ـ استميحك العذر لوقت قصير .
ومشت تميس في خطاها ، ابتلعها باب جانبي ، انفرج للحظة وجيزة، رأيت خلالها جوف غرفة تعوم في أضواء وردية، أغمضت عيني مستشعراً حرارة دافئة تسللت إلى مساماتي ، ثم تناهى إلى سمعي عزف هادئ شدتني فيه تلك النغمة المبهمة التي تستشفها الأذن المدربة في لحظات وجيزة ... هي أشبه بصيحة مبتورة لامرأة مسكونة باليأس والوحدة والرغبة ، وقفت كالمسحور تقودني قدماي في خط مستقيم نحو الباب ، كانت كل خطوة أخطوها نحو الغرفة تفجر في مخيلتي صورة مكان سرمدي غارق في الثلج ، وكوخ ينبت بغتة في الرجاء الفسيحة في تلافيف الدماغ ، وامرأة فاتنة خرافية ... أمسكت أكرة الباب مسحوراً بتلك النغمة التي تترجم دعوة أنثوية حارقة مبتورة ، دفعت الباب ووقفت مثل التمثال أتملى تفصيلاتها ، كانت صديقتي ...
ـ لم تنظر إليّ هكذا .. ؟!
قالها صديقي بتعجب وحيرة، كانت الصينية التي ينام فوقها فنجانان ساخنان من القهوة المرة ترتجف بين أنامله حين هتف ثانية ..
ـ ما بك .. ؟!
هيثم بهنام بردى
(1) مقطع من قصيدة للشاعر اليوناني نابليون لاباثيوتيس (1893-1943).
من صفحة: شذى توما مرقوس