فاضل نوري - عيناك والحزن في المساء.. قصة قصيرة

..... وجهك الغبي ، يفرش ملامحه أمامي غامضة كئيبة ، على طول الفسحة الترابية التي تحدها شجرة اليوكالبتوس ...... وقاسم يتيه بأحاديث ممزقة رتيبة ، تهوي في أذني مبتورة ، باردة ، دون أن أعير لها انتباهاً .... وعندما يلمح ذلك ينظر وسط عيني ، ويفجر ضحكة ، تصدح في رأسي التعب ، تصدح بأصدائها .

- أنت تفكر ، وتحلم ، كثيراً .
...... اليوم كغيره يقذفني حيث موقف الباصات ....وسأختار زاويتي القديمة في الظل تحت شجرة اليوكالبتوس تلك ، أرقب منها رأسك المهتز ، وأكوم أحلام ماضينا الغارقة ، وأضحك .... وتضحكين أنت أيضاً .... نضحك رغم أعماقنا الباكية .

لكنني اليوم سأحاول ( وليس للمرة الأولى ) ، أن أتطلع إلى وجهك من زوايا جديدة ، وأبحث فيه خلف تقاطيعك الرقيقة ، الجميلة ، والابتسامة الجافة التي تتصدر واجهته .... وسأفشل كالعادة .

أنني أعجز ، أعجز عن الغور إلى أعماقك ، عيناك تقفزان أمامي في كل لحظة وتهزمانني .... في ماضينا لم تزل جثث أحلامنا الغريقة تنبش قبورها وتحملني بهذيانها ، تحملني قسراً ....... فأعود إليك إنساناً ذليل الوجود وأنساب معك ، أنساب في عينيك أغرق فيهما عميقاً وأنسج من ظلمتهما أحلاماً شتى ، تسقط ، تسقط في أية لحظة .... تسقط متعبة ، يسحقها الواقع .

جاهدتُ بضراوة أن أدفن وجهك ، والماضي كله ، وركبت الأحلام قسراً ، ركبتها في غربة افتعلت قلاعها من النوم والأفلام والغرق في الشوارع المقفلة وتحف المخازن ، لكن عينيك كانت تسيلان أمامي كنهر وادع أخضر .... وتتكومان في المساء ، كل مساء ببريقهما الداكن ، على النافذة ..... وتهذيان في وحدتي ، تهذيان بأشياء كبيرة ، تحوم من حولي بضباب معتم ساحر ، اسوح فيه وأهوم كفراشة منهوكة .

- ماذا تريدين ؟
تضحكين .... تضحكين بنعومة ونهداك يهتزان بخفة ، تثير شهوتي .... ثم تركضين ..... واركض معك ، نركض معاً بفراغ في الاعالي ..... ونعود متعبين ، نستلقي على الخضرة بين الازاهير وزقزقة العصافير ...

- حبيبتي .... أنتِ تعذبينني .

من جديد اواجه عينيك ..... واهتف فيهما بمرارة ، لكنك تصمتين ، تصمتين .... واصمت أيضاً .
تعرفين انني أتعذب وأصلب كل يوم .... ولكنك معها تجهلين شعوري ، تجهلين ، تجهلين حتى اشراقة حبنا القديم ، والامال تزهو من حوله .

أنت غبية ..... حبيبتي لاقولها مرة أخرى ، إنك أغبى من احتواها رأسي ، لعلني أجد في هذا بعض السلوى .

لكنني سأقاوم ..... وسأتحرر من انفعالاتك التي توحيني بأشياء فظيعة وتافهة ..... وانعتق ..... انعتق وانفاسي ملك ذاتها بعيداً عن عالمك المقفل ..... عالم كم تقف للهرب منه .....

- انت تفكر كثيراً ...... وتتألم كثيراً .

هتف قاسم مبتسماً ..... وأضاف :
- أنت تصمت .... تصمت كثيراً .... وعندما تسلبك ماجدة زمام الامور تفقد كل شيء ، وتغرق في جنون أعماقك تقذف الكلمات أكواماً ..... كلمات جميلة وحزينة ويائسة .....

ضحكت بمرارة ..... وقلت بصعوبة :
- كالآخرين أحمل الماضي عبثاً .... واحلم ، وأتألم ....
- انت تهول الامور .... وتراوح ضمن اشياء تافهة ....

اضاف بعد لحظة صمت قصيرة .....
- تافهة كغيرها من مخلفات الماضي ، وعبث ماجدة .

ثم شرع يضحك بصخب .
..... وجهك الغبي من جديد يفرش ملامحه الجميلة أمامي غامضة ، ويهفو ببراءة طفولية لان اودع كل شيء بعيداً واضحك .... اضحك معك ونركض معاً في دروب أحلامنا القديمة ، نصارع ضبابها ، ونتألم .

إنني أكره الضحك ، الضحك ، وأكره وجهك كل الاشياء الجامدة لأنها تذكرني بك ، وتعيدني في عتمة الماضي ، أواجه فيها نفسي من جديد ... ومن جديد ، بين انفعالاتك ، أدور معها ، أدور في التيه ..... بفراغ كبير ......

اليوم سأبحث في وجهك وأنقب خلفه في الأعماق عن المبررات القديمة ، وانتزعها بعنف .... ولكنني سأغرق ، أغرق في عينيك .... وسأفشل كالعادة .

سنوات عديدة في عالمك المهجور ، والشوارع والأفلام والغرق في الفراش ..... سنوات الماضي كله ، كلمة واحدة ..... كلمة كهلى ، القيت في هاوية صدري حزينة ، جارحة ، تبكي وتئن بصياحات موتورة تجذب الالم والسخط وتثير غرابة الهمس على شفتي سعاد ، وضحكات الأصدقاء .

لقد كنت انساناً بارداً .... احالت الأيام عواطفه إلى صقيع تأريخي ... وكنت إنساناً بائساً فقد وجوده .... وفقد نفسه ....

كان علي أن أهرب من وجهك الكالح ومن تعابيره الطفولية الملساء وابتسامتك الجافة ..... كان عليّ أن أهرب منه منذ أن تعلمت تفاهة هذا العالم الذي يشد حواسك للتقززمن امنيات اعيشها غريقاً .... ويشدني أنا الآخر بعمق لأن أثور معربداً ، وأمزق كل التحف التي تزينه أرباً .

لكنني كنت ثملاً .... وجازفت بالانتحار في محرابك .... وجهك كان سحراً لم يقاوم ...... كان يقفز أمامي ويهزمني ..... يهزمني فاواجه عينيك .... واعدو في بحرهما ، أعدو خلف لهاثات انفاسنا القديمة ، أغرق فيها ، أغرق ثملاً ..... وأعود خائباً ، أحمل وسام الحب .... وأبكي .

وانت ..... انت ، ابداً كالجيل المريض .... مظاهر جامدة ، جامدة يبقرها الصمت وتحركها البلاهة .

- عدت تفكر .... وتصمت .

قال قاسم هذا وهو يختار زويتنا المعهودة عند موقف الباصات في الظل تحت شجرة اليوكالبتوس .....ثم أضاف باسماً ، وهو يتطلع اليك بين حشد الطالبات .

- انها صدفة ان يتكرر اللقاء .... ويتكرر معه الألم والصمت والجنون .... صدفة تأريخية ..
- كانت صدفة جهنمية .....

همست بملل دفين ..... وانسحبت اليك .

كان وجهك يهتز ، ويمارس طقوسه ، يبتسم ، يضحك ، ينفعل ..... واختلاجاته تثير صمتي وتبثني من جديد بذلك الملل القاسي الذي يطول ، ويطول مع الأيام .....

- هل لازلت تحبها ..... ؟

سألني قاسم بفراغ
- لا أعلم ... انها عالم صغير قاسي .... عالم فقدت فيه كل شيء .... ولا احسن بغير حيرة كبيرة تنمو .....

...... وابتسم بغموض ، ابتسامة تحملني لاتابع بغيبوبة .

- لكنها مع هذا ..... طفلة بليدة .... أحبها رغم كل احساس آخر .

ضحك ، ضحك بعنف .... ثم هنف :

- انها لا تستحق كل هذا الذي تعانيه ...

كلماته تمزقني ...... لكنني اتجاهلها عنوة ، واعود إليك ..... اسوح بتلذذ في معابدك الدافئة الجارحة ..... واحلق بخيالاتي .

........ حبنا اسطورة غريقة ، وملحمة طفولة .... ظلت رموزها لغزاً لا يحل .... والصمت في واجهاته يحمل غرابة تجعل كل الافواه تتحدث ..... تتحدث .

- ابعدها عن حياتك .... انها خرافة لا تصلح .

اتألم بمرارة ..... امورنا ليست بهذهِ السطحية التي يتصورها البعض .... ولكنني عندما اواجهها وابحث عن دفاع ، تسقط كل الأشياء ..... ولا أجد أمامي سوى كلمة اقذفها بملل وعجز كبير ..

- لا استطيع ...... لا استطيع .

- انها سخافة ..... ان الأمر لا يعدو ان يكون أكثر من ذلك ....

قال هذا بضجر .... واسند بظهره على ساق الشجرة ..... وغرق في اللا مبالاة .

إنني لستُ كما يتصورني قاسم ، اتشبث كالغريق باشياء تافهة وسطحية ..... هناك خلف ضحكتك ، كلماتك ، عينيك ، جنائن ترتادها أحلامي وضبابات ساحرة فقدت فيها كل احساس وتسكعت اترصد شفتيك وهي تهمس بجفاف كلمات حب بائدة .... ولكن معها .... لم يكن حبنا مجرد احلام مهوسة .

وجهك يهتز قربي ...... ويحفز جراحي ..... يهتز ويحيل كل شيء إلى ربيع أخضر تتموج فيه هتافات الماضي كلها ..... هتافات تحمل الأنين والهمس والحب والألم ...

لكنني اليوم سأقاوم .... وسأهرب .... سأهرب منك احمل أيامي المتعبة ، واغرب في وحدتي بعيداً عن عينيك وهذيان الليل والاحلام وحديث الناس ، وضحكة سعاد ......... وبعيداً عن ماضينا الموبوء بالصمت والارق وسأفشل .... سأفشل كالعادة ....

أنني أعجز .... عيناك تنسابان أمامي في المساء .... كل مساء وتتكومان ببريقهما الداكن على النافذة ..... وتهذيان ..... تهذيان ..

- ماذا تريدين ..... ؟

تضحكين .... تضحكين بفراغ .... ثم تهمسين بكلمات واهية لا حسن فيها ...

فأتألم .... واصيح بثورة ...
- انت تعذبينني .

تهتفين ببرود :
- وماذا تريدني أن أفعل ؟
- ان نحول حبنا إلى حقيقة .

تقولين ....... والفراغ في عينيك يصدمني .

- ولكننا نعيشه حقيقة .

ثم تضحكين .... تضحكين ..... وأنا أثور .... وأبكي ..... وأهرب ....... وأنام ....... وأموت ..... وأنت تضحكين ، تضحكين بصمت كبير يبيد كل شيء ويحيله إلى همس بارد قاتل .

حبيبتي ..... حبنا كان سينمو كبيراً ، تورق من حوله الاحلام وتزهر على عتباته البسمة والآمال ..... لكنك كنت إنسانة جامدة ، فقدت ببرودتك حبنا ..

... فقدتيه في حماس الوجود وحرارته .... وهدمت بقسوة .... هدمت كل شيء .

عالمنا الصغير كان لعبة ..... لعبة صغيرة ، جميلة .... خسرناها كلينا .... وخسرنا معها عواطفنا الباردة .... وعدنا وجهين بلا ملامح ، وهيكلين بائسين محطمين ، بعد ان هجرنا الزهو والابتسامة ، تلك الابتسامة التي كانت تشع الأمل والزهو من حولنا .... هجرناها بلا عودة .

- انت تلتهمها بصمت شره ..... ألا تشبع منها .... ؟

سألني قاسم بدهشة .... وأطلق ضحكة كانت تحمل رغبة فصح عنها بسرعة .

- ماجدة تعود اليفة ، أحياناً كقطة وديعة .... ولعل جسدها اليف دائماً ، اذا اجدت ترويضه ..... وربما تكون علاقتك معها في هذا الجانب تسير بخير .

- انت تهذر .... انني لا استطيع أن أدرك بأن لها جسداً ..... كم أتمنى لو أنك تفهم ، ماذا يعني حبي لها .... إنه يتجاوز كل المسائل التي تعرفها أنت .

قاطعني بحدة :

- الذي أفهمه ... إنه الصمت ... وللاشيء .... ولا ثالوث آخر ، وان كان هناك مايستوجب الوضوح فوضحه ، ودعنا نمسك ببعض خطوط هذهِ الألغاز .

..... تجاهلتُ قاسم واحاديثه .... تجاهلت كل شيء ، وعدت اليك ..... وجهك كان يهتز قربي بانفعال ، ويحتجب خلف الرؤوس الكثيرة التي ازدحمت حوله .... واحسك هذه المرة إنسانة باهتة ، مومياء محنطة ، لا شيء يحركها ، لا شيء ينفح فيها نسمة الحياة ..... وتتحول الأحلام .... أحلامنا القديمة إلى تحف مهمشة ، مشوهة الملامح ....

- عدت إلى الصمت ..... وماجدة هل لها نفس النظريات في الحب ؟
.... ارجوك .... اجبني ..

- لست أدري .

ثم اضفت بعد فترة سكوت قصيرة :
- انني عاجز عن أن أدرك أي شيء .... ماجدة ، مجرد اسم كبير جامد .... أنسج حوله مظاهر غريبة ، لا أعي منها سوى جنونها وجحودها .

قاطعني بتهكم :
- ومعها تتشبث بها .... وبهذا الجنون .
لا استطيع ..... لا استطيع غير هذا .... إنها تسري في كياني ودمائي .

- وتضيف هذا .... ايضاً .
قال هذا بدهشة .... وأخذ يضحك بصدى مؤلم ، ثم عاد يغرف نظراته في وسط عيني بكآبة وحيرة ....

- انت لا تستطيع أن تفهم .... الأمور أعقد مما تتصور .

همست له بألم ..... وعدت إليك .

...... وجهك يحمل اداة ماضي لا يمكن انتزاعها بسهولة عن لوحة حياتي الجافة .... ماضي يعبث بخطوط الحاضر ، ويهدم كل التراكيب .... فأحمل رأسي بين يدي وأحس بخيبة انهزام كبيرة تزيدها الشوارع المقفلة وواجهات الساحات حدة وألماً ، كلما خطوت موزعاً مشاعر الإنسان القائم في ذاتي .... إنسان دفع به الغدر إلى هاوية حمقى لا قرار لها ..

......واتساءل .... اتساءل .... كيف يبدو الإنسان بعد أن يفقد ذاته وكل المسميات .... ثم يعود يكوم الحطام ؟ .... حطام اغبر قديم مثقل بالألم والشكوى .

وجهك يهتز كالعادة .... وأنت تتطلعين نحوي .... تبتسمين .... تضحكين .... تضحكين ..... وعيناك تهتفان بهتافات قديمة تشدني إليك فأعود جريحاً ذليلاً وأغوص في عمقها الداكن .... أغوص .... لقد كانت عيناك ولم تزل جواز مرور اشهره .... وامضي في مجاهلك بصمت وحمق .

لكنني اليوم سأقاوم ... ولن أمضي ... انني لم أعدْ ، ولن أبقى تمثال حمق .... ولن يعيدني الزمن كذلك .... لقد نبذتك ، قلتها نبذتك ، ونبذت العودة إليك ، لن أعود لسخافات الطفولة ، وشهوتنا القديمة الغريقة بالعفوية ... بت لا اطيق همساتك المبتورة لسعاد ، وضحكتها الجذلة ...

لن أعود ..... لن أعود إليك ... اليوم سأقاوم .... سأقاوم ...

لكنني اتساءل .... هل استطيع ذلك حتى النهاية ؟
هل يمكنني أن اسلب وجهك انفعالاته وارادته هكذا ببساطة ؟ ...

ضحك قاسم وهو ينظر نحوي وفي عينيه كان الجواب يخاطبني بوضوح .... ثم قال ..

- تفكر فيها ، أليس كذلك ؟

تجاهلته .... ولكنه اضاف :
- أنت أسيرها ... أسير ماجدة .... وستبقى هكذا وأنت في القبر ..

حاولت أن أقول شيئاً لكنه تحرك باتجاه الباص الذي وقف لتوه يلهث .... ثم تحركت أنا والآخر .... وتحركت أنت أيضاً ...

وجلست في مواجهتي ترقبينني من خلال الحاجز الزجاجي الازرق الذي كان يعكس وجهك .... وأنت تضحكين ، تنفعلين ، تتحركين .... والحزن في عينيك ، ينساب في غورهما دافئاً ... ينساب بحفيفِ ألم ..... ويتشابك في العمق البعيد مع ماضينا الجريح المثقل ...

لا تبكي .... ولا تحاولي أن تستدري عطفي .... ولا تجشمي نفسك عناء ما لا يجدي ... انني سأقاوم .... سأقاوم .... وسأتجاهل وجهك .... وأبحر بسفينتي .... أبحر بعيداً لا أحمل معي سوى صفاء عينيك الخضراوين ، وضحكة سعاد ..... وثرثرة التلاميذ في الباص ..... وسأعود في ذلك البعد إنساناً لا يحمل عنك سوى ذكرى طفولة مريضة .... ولكن وجهك كان ينعكس فوق الحاجز الزجاجي بالحاح .... ويهتز ..... يهتز ...


1972
فاضل نوري

* صفحة 43 من مجموعته القصصية (عيناك والحزن في المساء)
أعلى