«إخوان الصفا وخلان الوفا».. جمعية سرية تأسست وفق أرجح الأقوال في النصف الأول من القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) في مدينة البصرة، الحاضرة الإسلامية الثقافية المزدهرة في ذلك الوقت، ونشطت بشكل خاص في عصر الدولة البويهية في بغداد، على خلفية التأثير المتراكم لحركة الترجمة الواسعة من اليونانية إلى العربية التي بدأت بواكيرها منذ العهد الأموي وازدادت كثافة العصر العباسي، في إطار محاولات التوفيق المتعددة التي جرت بين العقائد الإسلامية والفلسفة اليونانية في تلك الحقبة، الأثر الباقي اليوم من تلك الجمعية هو رسائلهم المعروفة «رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا».
تهدف تلك الرسائل التي لم يذكر مؤلفوها أسماءهم، إلى التأسيس لمذهب إسلامي ذي طابع كوني، يستغرق المذاهب الدينية والفلسفية كلها ويوحد بينها، عبر 52 رسالة موسوعية الطابع تبحث في شتى معارف عصرهم، كالإلهيات والمنطق والفلسفة والرياضيات والموسيقى والعلوم الكونية كالفلك والفيزياء.
كانت نسبة إخوان الصفا إلى التصوف الهرمسي في إطار ما أسماه الفيلسوف المغربي محمد عابد الجابري بـ «العقل المستقيل في الإسلام»، هي الدافع الأول لبدء رحلة الكاتب والمفكر جورج طرابيشي لنقد مشروع «نقد العقل العربي» التي استمرت لمدة خمسة وعشرين سنة عبر مشروع مضاد أطلق عليه طرابيشي «نقد نقد العقل العربي»، أخرجه الأخير في سلسلة مطولة من الكتب هي: «نظرية العقل العربي»، «إشكاليات العقل العربي»، «وحدة العقل العربي الإسلامي»، «العقل المستقيل في الإسلام»، «المعجزة أو سبات العقل في الإسلام»، «من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث: النشأة المستأنفة»، «مصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام».
أحد أفضل من يستطيع أن يفصل في هذا الخلاف حول إخوان الصفا هو الفيلسوف الإيراني البارز البروفسور سيد حسين نصر، أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة جورج واشنطن في الولايات المتحدة الأمريكية، الذي أعد عن تلك الأخوية ورقة بحثية هامة تم نشرها في العام 1990.
في البداية علينا أن نتعرف أولاً على طبيعة الخصومة الفكرية بين كل من الجابري وطرابيشي في هذه القضية، قبل أن نعرض في الأخير لـ «إخوان الصفا» من وجهة نظر سيد حسين نصر الأكاديمية والفلسفية، لنرى أي كفة منهما سترجح الأخرى بنهاية المطاف من خلال المنظور الرصين والمتخصص الذي سيمدنا به نصر.
المحطة الخامسة من حياة جورج طرابيشي
في نصه الأخير شبه الوداعي الذي كتبه طرابيشي قبل رحيله تحت عنوان «ست محطات في حياتي»، يحكي طرابيشي علاقته بمحمد عابد الجابري التي كرّس لها ربع قرن من حياته، منذ البداية وحتى نقطة التحول في موقفه من المفكر المغربي الراحل.
في سرده للمحطة الخامسة من حياته التي تدور جميع تفاصيلها حول محمد عابد الجابري، يروي طرابيشي كيف بدأت معرفته بالجابري من خلال رئاسة طرابيشي لتحرير مجلة «دراسات عربية» الصادرة عن دار الطليعة في لبنان، حيث أعجب طرابيشي بكتابة الجابري أيما إعجاب لدرجة أن طرابيشي عندما أراد الهجرة من بيروت لباريس بسبب ظروف الحرب الأهلية في لبنان، لم يأخذ معه خلال السفر من مؤلفات مكتبته التي كانت تضم نحو خمسة آلاف كتاب سوى كتابين هما: معجم «المنهل» لسهيل إدريس، وكتاب «تكوين العقل العربي» للجابري [1].
في شقته شبه الفارغة في باريس حتى هذه اللحظة، أعاد طرابيشي قراءة كتاب الجابري مسحورًا بما كان يقرأه بحسب تعبيره، إلا أن نقطة تفصيلية صغيرة توقف عندها طرابيشي، أثارت لديه بعض الشكوك، وهي موقف الجابري من إخوان الصفا، حيث نظر إليهم الأخير كمجموعة تنتمي إلى التشيع الإسماعيلي والتصوف الهرمسي اللذين يصنفهما الجابري في إطار المواقف المعادية للعقل في التاريخ العربي [2].
بعد حصوله بصعوبة على كتاب «رسائل إخوان الصفا» بسبب إقامته في المهجر كما يقول، بحث طرابيشي في الكتاب في الجزء الرابع من الرسائل عن النصوص التي أشار إليها الهامش في كتاب الجابري، فلم يجدها، فأخذ يقرأ الرسائل من البداية ويبحث بين دفتي الكتاب، فلم يجد سوى ما يؤكد شكوكه التي تعود في أصلها لخلفيته الدراسية الأكاديمية عن إخوان الصفا أثناء دراسته للفلسفة في جامعة دمشق، وهي الدراسة التي كانت تصنفهم كأحد المدارس الفكرية القائمة على المنطق الأرسطي، حيث يقول:
اندهش طرابيشي وتساءل بينه وبين نفسه بحسب ما يروي، كيف اعتبر الجابري أن إخوان الصفا أعداء للعقل والمنطق، بينما حالهم الذي تنبئ به الرسائل يشير إلى عكس ذلك كما يبين تفصيلاً في مقاله المشار إليه، وشعر في النهاية بطعنة في كبريائه كمثقف بحسب ما يقول، حيث كان قد كتب في وصف كتاب «تكوين العقل العربي» للجابري أن «من يقرأ هذا الكتاب لا يعود بعد أن يقرأه كما كان قبلها»[4].
بعد طعنه في مصداقية الجابري، بناء على تفاصيل أعتاها قد يكون مرده إلى أخطاء مطبعية أو اختلاف في النسخ بين الطبعات المختلفة لتلك الرسائل، لا سيما في ضوء الظروف الغريبة التي حصل خلالها على تلك النسخة التي ابتاعها من قبو سري داخل مكتبة في بلد خليجي تحظر سلطاته تداول رسائل إخوان الصفا، يعود طرابيشي بنهاية المطاف في مقاله الوداعي، ليقول في الأخير إنه يقر ويعترف بأن يدين للجابري بالكثير، حيث أفاد من قراءة الجابري إفادة كبيرة أعادت تشكيل ثقــافته التراثية.[5]
كيف قرأ محمد عابد الجابري «رسائل إخوان الصفا»؟
يقول الجابري في كتابه «تكوين العقل العربي» إن رسائل إخوان الصفا برغم استخدامها بعض جوانب المنطق الأرسطي، وبالرغم من اتخاذها الإسلام لباسًا شفافًا، إلا أنها تشكل في الحقيقة مدونة هرمسية بالكامل. والهرمسية هي نسق عقائدي صوفي وباطني، منسوب إلى شخصية غامضة شبه أسطورية تدعى «هرمس» مثلث العظمة أو الحكمة، يعود في نشأته إلى تلاقح الفكر الفلسفي والديني المصري واليوناني في الإسكندرية خلال الحقبة الهيلنستية؛ وهو نسق يعدّ الجابري تأثيره على فكر «إخوان الصفا» مظهرًا لتطور حضور الهرمسية وعقلها المستقيل في الثقافة العربية والإسلامية [6].
لا تخفي الرسائل بالفعل نزعتها الهرمسية، حيث تحيل مرارًا وتكرارًا إلى هرمس مثلث الحكمة، إضافة لعنايتها الفائقة ودفاعها المستميت عن العلوم السرية الهرمسية، وعرضها المسهب لما تتضمنه من علوم التنجيم والخيمياء والسحر والطلسمات والعزائم وغير من منتجات «العقل المستقيل» بحسب الجابري [7].
دفاع الرسائل عن ما يسميه عابد الجابري بـ «العقل المستقيل» المنتمي إلى الفضاء العقائدي نفسه الذي ينتمي إليه المتصوفة الأوائل والصابئة الحرانية وأتباع الكيميائي العراقي الشهير جابر بن حيان في الكوفة. يحلله الأخير باعتباره تعبيرًا عن فلسفة المذهب الشيعي الإسماعيلي المتأثر بشكل كبير بالميتافيزيقا الهرمسية، ويستشهد على ذلك من خلال عقد المقارنات بين بعض ما جاء في نص الرسائل وبين ما جاء في كتاب «راحة العقل» للداعي الإسماعيلي المشهور أحمد حميد الدين الكرماني المتوفى سنة 411هـ [8].
يقدم الجابري تحليلا ألمعيًا عن الأسباب وراء تحرير «رسائل إخوان الصفا» التي لا يعرف أحد هوية مؤلفيها السريين على وجه الدقة حتى يومنا هذا، ألا وهو الرغبة في توظيفها في الصراع السياسي والثقافي مع الدولة العباسية في عهد المأمون الذي تبنى مشروع المعتزلة الفكري العقلاني بحسب الجابري، بينما أراد دعاة المذهب الإسماعيلي السريين تكريس النزعة الباطنية والغنوصية بهدف إحكام السيطرة المطلقة على مزيد من الأتباع أنفسًا وأبدانًا، في إطار مشروعهم السياسي والمذهبي المضاد [9].
وكما نلاحظ فقد ذهب الجابري في نقدهم في هذا الإطار حدًا بعيدًا، في مقابل دفاع جورج طرابيشي الشديد عنهم وعن مشروعهم الأرسطي العقلاني كما يعتقد.
هوية ومحتوى رسائل إخوان الصفا من منظور سيد حسين نصر
وهكذا بدأت بقراءة كتاب «رسائل إخوان الصفا» بأجزائه الأربعة فإذا بي أصل إلـــــى الرسائل 10-11-12-13-14، فكانت دهشتي عظيمة. ففي هذه الرسائل الخمس، وبعدما قدّموا وعرّفوا بأنفسهم، يقولون ما خلاصته: «يـــا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، اعلم، بعدما شرحنا لك أهدافنا، أنه لا مدخل لك إلينا إلا بواسطة المنطـــق لأنه هو المعبر الذي يجعل الخطاب بيننا ممكنًا، فتعالَ نشرح لك المنطق وكتبه». ثم يخصصون الرسائل 10 إلى 14 لشرح كتب المنطق الأرسطي مثل العبارة والمقولات والقياس والبرهان، ويستعملون العبارات بلفظها اليوناني مثل أنالوطيقا وقاطيغورياس، إلخ.[3]
يقول سيد حسين نصر، الأكاديمي الإيراني ذائع الصيت، إن الطقوس والشعائر التي كانت تمارسها جماعة إخوان الصفا تبدو مرتبطة بالحرَّانيين بشكل كبير، والحرّانيون هم الورثة الرئيسيون في الشرق الأوسط لما أسماه نصر: «الفيثاغورية الشرقية»، واعتبر نصر أن إخوان الصفا هم حماة الهرمسية ودعاتها في العالم الإسلامي [10].
بحسب نصر، كانت طقوس إخوان الصفا الفلسفية تقام في ثلاث أمسيات في الشهر. كان طقس الليلة الأولى يتضمن خطبة شخصية؛ والليلة الثانية قراءة نصٍّ كوني تحت قبة السماء المليئة بالنجوم، على أن يكون القارئ متوجهًا نحو نجم القطب؛ وفي الليلة الثانية ترنيمة فلسفية (تتضمن موضوعًا من موضوعات ما بعد الطبيعة أو ما بعد الكون)، وهي إما «صلاة أفلاطون» أو «ابتهال إدريس» أو «ترنيمة أرسطو السرية»[11].
هذا بالإضافة إلى وجود أعياد فلسفية ثلاثة كبرى في كل عام، عند دخول الشمس برج الحمل وبرج السرطان وبرج الميزان. وقد ربط إخوان الصفاء بينها وبين الأعياد الإسلامية الثلاثة: الفطر في نهاية رمضان، والأضحى في العاشر من ذي الحجة، والغدير في الثامن عشر من الشهر ذاته الذي يعد أحد أيام احتفالات الشيعة الكبرى [12].
بحسب سيد حسين نصر، يؤدي الربط بين الفلسفة والطقوس الدينية والحكمة إلى وضع الإخوان في خط هو أقرب ما يكون إلى ورثة الهرمسية، وهو ما يتفق تمامًا مع تناول الجابري لرسائل تلك الجمعية السرية [13].
يقول نصر إنه يمكن التأكد باطمئنان إلى أنه إذا ما رجَّحنا الجانب الكوني والرمزي على الجانب العقلاني عند إخوان الصفاء، وجب علينا استبعادُهم من مدرسة المعتزلة ومدرسة المشَّائين من أتباع أرسطو. وللأسباب ذاتها، يمكن ربط الإخوان بالعقائد الفيثاغورية–الهرمسية التي اشتهر معظمها في الإسلام باسم مجموعة جابر بن حيان. يضاف إلى ذلك أنه إذا أخذنا استعمال الإسماعيلية الواسع للـرسائل في القرون التالية، ووجود بعض الأفكار الرئيسية، كالتأويل، عند الطرفين بعين الاعتبار، ربما أمكننا ربط الإخوان، وإنْ ربطًا هشًّا، بالإسماعيلية [14].
كما يشير نصر إلى التشابه الكبير بين مضمون معظم الرسائل وبين التصوف، وخاصة فيما يتعلق بعلم الكونيات، الذي منه استقى الغزالي وابن عربي كلاهما، كثيرًا من صياغاتهما، حيث لم يقرن إخوان الصفا أنفسهم روحيًّا بالتصوف فقط، بل إن حديثهم عن جمعيتهم بحسب نصر يطابق من ناحية ظاهرية واجتماعية الطرق الصوفية، من حيث تقسيم المراتب والدرجات وما شاكل [15].
اللافت هنا في الأخير، أننا عندما ننظر إلى هذا الحجم من الاتساق والتقاطع الذي لا يخفى بين موقف سيد حسين نصر وبين موقف محمد عابد الجابري، لا نملك سوى أن نندهش في المقابل من موقف طرابيشي الذي اصطنع خصومة استمرت لمدة خمسة وعشرين عامًا، يبدو من الصعب كثيرًا ألا يكون اطلع خلالها الراحل على كل أو بعض تلك الدلائل القوية التي تدعم فرضية الجابري بالغة الدقة والرصانة على المستويين المعرفي والتاريخي.
تهدف تلك الرسائل التي لم يذكر مؤلفوها أسماءهم، إلى التأسيس لمذهب إسلامي ذي طابع كوني، يستغرق المذاهب الدينية والفلسفية كلها ويوحد بينها، عبر 52 رسالة موسوعية الطابع تبحث في شتى معارف عصرهم، كالإلهيات والمنطق والفلسفة والرياضيات والموسيقى والعلوم الكونية كالفلك والفيزياء.
كانت نسبة إخوان الصفا إلى التصوف الهرمسي في إطار ما أسماه الفيلسوف المغربي محمد عابد الجابري بـ «العقل المستقيل في الإسلام»، هي الدافع الأول لبدء رحلة الكاتب والمفكر جورج طرابيشي لنقد مشروع «نقد العقل العربي» التي استمرت لمدة خمسة وعشرين سنة عبر مشروع مضاد أطلق عليه طرابيشي «نقد نقد العقل العربي»، أخرجه الأخير في سلسلة مطولة من الكتب هي: «نظرية العقل العربي»، «إشكاليات العقل العربي»، «وحدة العقل العربي الإسلامي»، «العقل المستقيل في الإسلام»، «المعجزة أو سبات العقل في الإسلام»، «من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث: النشأة المستأنفة»، «مصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام».
أحد أفضل من يستطيع أن يفصل في هذا الخلاف حول إخوان الصفا هو الفيلسوف الإيراني البارز البروفسور سيد حسين نصر، أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة جورج واشنطن في الولايات المتحدة الأمريكية، الذي أعد عن تلك الأخوية ورقة بحثية هامة تم نشرها في العام 1990.
في البداية علينا أن نتعرف أولاً على طبيعة الخصومة الفكرية بين كل من الجابري وطرابيشي في هذه القضية، قبل أن نعرض في الأخير لـ «إخوان الصفا» من وجهة نظر سيد حسين نصر الأكاديمية والفلسفية، لنرى أي كفة منهما سترجح الأخرى بنهاية المطاف من خلال المنظور الرصين والمتخصص الذي سيمدنا به نصر.
المحطة الخامسة من حياة جورج طرابيشي
في نصه الأخير شبه الوداعي الذي كتبه طرابيشي قبل رحيله تحت عنوان «ست محطات في حياتي»، يحكي طرابيشي علاقته بمحمد عابد الجابري التي كرّس لها ربع قرن من حياته، منذ البداية وحتى نقطة التحول في موقفه من المفكر المغربي الراحل.
في سرده للمحطة الخامسة من حياته التي تدور جميع تفاصيلها حول محمد عابد الجابري، يروي طرابيشي كيف بدأت معرفته بالجابري من خلال رئاسة طرابيشي لتحرير مجلة «دراسات عربية» الصادرة عن دار الطليعة في لبنان، حيث أعجب طرابيشي بكتابة الجابري أيما إعجاب لدرجة أن طرابيشي عندما أراد الهجرة من بيروت لباريس بسبب ظروف الحرب الأهلية في لبنان، لم يأخذ معه خلال السفر من مؤلفات مكتبته التي كانت تضم نحو خمسة آلاف كتاب سوى كتابين هما: معجم «المنهل» لسهيل إدريس، وكتاب «تكوين العقل العربي» للجابري [1].
في شقته شبه الفارغة في باريس حتى هذه اللحظة، أعاد طرابيشي قراءة كتاب الجابري مسحورًا بما كان يقرأه بحسب تعبيره، إلا أن نقطة تفصيلية صغيرة توقف عندها طرابيشي، أثارت لديه بعض الشكوك، وهي موقف الجابري من إخوان الصفا، حيث نظر إليهم الأخير كمجموعة تنتمي إلى التشيع الإسماعيلي والتصوف الهرمسي اللذين يصنفهما الجابري في إطار المواقف المعادية للعقل في التاريخ العربي [2].
بعد حصوله بصعوبة على كتاب «رسائل إخوان الصفا» بسبب إقامته في المهجر كما يقول، بحث طرابيشي في الكتاب في الجزء الرابع من الرسائل عن النصوص التي أشار إليها الهامش في كتاب الجابري، فلم يجدها، فأخذ يقرأ الرسائل من البداية ويبحث بين دفتي الكتاب، فلم يجد سوى ما يؤكد شكوكه التي تعود في أصلها لخلفيته الدراسية الأكاديمية عن إخوان الصفا أثناء دراسته للفلسفة في جامعة دمشق، وهي الدراسة التي كانت تصنفهم كأحد المدارس الفكرية القائمة على المنطق الأرسطي، حيث يقول:
اندهش طرابيشي وتساءل بينه وبين نفسه بحسب ما يروي، كيف اعتبر الجابري أن إخوان الصفا أعداء للعقل والمنطق، بينما حالهم الذي تنبئ به الرسائل يشير إلى عكس ذلك كما يبين تفصيلاً في مقاله المشار إليه، وشعر في النهاية بطعنة في كبريائه كمثقف بحسب ما يقول، حيث كان قد كتب في وصف كتاب «تكوين العقل العربي» للجابري أن «من يقرأ هذا الكتاب لا يعود بعد أن يقرأه كما كان قبلها»[4].
بعد طعنه في مصداقية الجابري، بناء على تفاصيل أعتاها قد يكون مرده إلى أخطاء مطبعية أو اختلاف في النسخ بين الطبعات المختلفة لتلك الرسائل، لا سيما في ضوء الظروف الغريبة التي حصل خلالها على تلك النسخة التي ابتاعها من قبو سري داخل مكتبة في بلد خليجي تحظر سلطاته تداول رسائل إخوان الصفا، يعود طرابيشي بنهاية المطاف في مقاله الوداعي، ليقول في الأخير إنه يقر ويعترف بأن يدين للجابري بالكثير، حيث أفاد من قراءة الجابري إفادة كبيرة أعادت تشكيل ثقــافته التراثية.[5]
كيف قرأ محمد عابد الجابري «رسائل إخوان الصفا»؟
يقول الجابري في كتابه «تكوين العقل العربي» إن رسائل إخوان الصفا برغم استخدامها بعض جوانب المنطق الأرسطي، وبالرغم من اتخاذها الإسلام لباسًا شفافًا، إلا أنها تشكل في الحقيقة مدونة هرمسية بالكامل. والهرمسية هي نسق عقائدي صوفي وباطني، منسوب إلى شخصية غامضة شبه أسطورية تدعى «هرمس» مثلث العظمة أو الحكمة، يعود في نشأته إلى تلاقح الفكر الفلسفي والديني المصري واليوناني في الإسكندرية خلال الحقبة الهيلنستية؛ وهو نسق يعدّ الجابري تأثيره على فكر «إخوان الصفا» مظهرًا لتطور حضور الهرمسية وعقلها المستقيل في الثقافة العربية والإسلامية [6].
لا تخفي الرسائل بالفعل نزعتها الهرمسية، حيث تحيل مرارًا وتكرارًا إلى هرمس مثلث الحكمة، إضافة لعنايتها الفائقة ودفاعها المستميت عن العلوم السرية الهرمسية، وعرضها المسهب لما تتضمنه من علوم التنجيم والخيمياء والسحر والطلسمات والعزائم وغير من منتجات «العقل المستقيل» بحسب الجابري [7].
دفاع الرسائل عن ما يسميه عابد الجابري بـ «العقل المستقيل» المنتمي إلى الفضاء العقائدي نفسه الذي ينتمي إليه المتصوفة الأوائل والصابئة الحرانية وأتباع الكيميائي العراقي الشهير جابر بن حيان في الكوفة. يحلله الأخير باعتباره تعبيرًا عن فلسفة المذهب الشيعي الإسماعيلي المتأثر بشكل كبير بالميتافيزيقا الهرمسية، ويستشهد على ذلك من خلال عقد المقارنات بين بعض ما جاء في نص الرسائل وبين ما جاء في كتاب «راحة العقل» للداعي الإسماعيلي المشهور أحمد حميد الدين الكرماني المتوفى سنة 411هـ [8].
يقدم الجابري تحليلا ألمعيًا عن الأسباب وراء تحرير «رسائل إخوان الصفا» التي لا يعرف أحد هوية مؤلفيها السريين على وجه الدقة حتى يومنا هذا، ألا وهو الرغبة في توظيفها في الصراع السياسي والثقافي مع الدولة العباسية في عهد المأمون الذي تبنى مشروع المعتزلة الفكري العقلاني بحسب الجابري، بينما أراد دعاة المذهب الإسماعيلي السريين تكريس النزعة الباطنية والغنوصية بهدف إحكام السيطرة المطلقة على مزيد من الأتباع أنفسًا وأبدانًا، في إطار مشروعهم السياسي والمذهبي المضاد [9].
وكما نلاحظ فقد ذهب الجابري في نقدهم في هذا الإطار حدًا بعيدًا، في مقابل دفاع جورج طرابيشي الشديد عنهم وعن مشروعهم الأرسطي العقلاني كما يعتقد.
هوية ومحتوى رسائل إخوان الصفا من منظور سيد حسين نصر
وهكذا بدأت بقراءة كتاب «رسائل إخوان الصفا» بأجزائه الأربعة فإذا بي أصل إلـــــى الرسائل 10-11-12-13-14، فكانت دهشتي عظيمة. ففي هذه الرسائل الخمس، وبعدما قدّموا وعرّفوا بأنفسهم، يقولون ما خلاصته: «يـــا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، اعلم، بعدما شرحنا لك أهدافنا، أنه لا مدخل لك إلينا إلا بواسطة المنطـــق لأنه هو المعبر الذي يجعل الخطاب بيننا ممكنًا، فتعالَ نشرح لك المنطق وكتبه». ثم يخصصون الرسائل 10 إلى 14 لشرح كتب المنطق الأرسطي مثل العبارة والمقولات والقياس والبرهان، ويستعملون العبارات بلفظها اليوناني مثل أنالوطيقا وقاطيغورياس، إلخ.[3]
يقول سيد حسين نصر، الأكاديمي الإيراني ذائع الصيت، إن الطقوس والشعائر التي كانت تمارسها جماعة إخوان الصفا تبدو مرتبطة بالحرَّانيين بشكل كبير، والحرّانيون هم الورثة الرئيسيون في الشرق الأوسط لما أسماه نصر: «الفيثاغورية الشرقية»، واعتبر نصر أن إخوان الصفا هم حماة الهرمسية ودعاتها في العالم الإسلامي [10].
بحسب نصر، كانت طقوس إخوان الصفا الفلسفية تقام في ثلاث أمسيات في الشهر. كان طقس الليلة الأولى يتضمن خطبة شخصية؛ والليلة الثانية قراءة نصٍّ كوني تحت قبة السماء المليئة بالنجوم، على أن يكون القارئ متوجهًا نحو نجم القطب؛ وفي الليلة الثانية ترنيمة فلسفية (تتضمن موضوعًا من موضوعات ما بعد الطبيعة أو ما بعد الكون)، وهي إما «صلاة أفلاطون» أو «ابتهال إدريس» أو «ترنيمة أرسطو السرية»[11].
هذا بالإضافة إلى وجود أعياد فلسفية ثلاثة كبرى في كل عام، عند دخول الشمس برج الحمل وبرج السرطان وبرج الميزان. وقد ربط إخوان الصفاء بينها وبين الأعياد الإسلامية الثلاثة: الفطر في نهاية رمضان، والأضحى في العاشر من ذي الحجة، والغدير في الثامن عشر من الشهر ذاته الذي يعد أحد أيام احتفالات الشيعة الكبرى [12].
بحسب سيد حسين نصر، يؤدي الربط بين الفلسفة والطقوس الدينية والحكمة إلى وضع الإخوان في خط هو أقرب ما يكون إلى ورثة الهرمسية، وهو ما يتفق تمامًا مع تناول الجابري لرسائل تلك الجمعية السرية [13].
يقول نصر إنه يمكن التأكد باطمئنان إلى أنه إذا ما رجَّحنا الجانب الكوني والرمزي على الجانب العقلاني عند إخوان الصفاء، وجب علينا استبعادُهم من مدرسة المعتزلة ومدرسة المشَّائين من أتباع أرسطو. وللأسباب ذاتها، يمكن ربط الإخوان بالعقائد الفيثاغورية–الهرمسية التي اشتهر معظمها في الإسلام باسم مجموعة جابر بن حيان. يضاف إلى ذلك أنه إذا أخذنا استعمال الإسماعيلية الواسع للـرسائل في القرون التالية، ووجود بعض الأفكار الرئيسية، كالتأويل، عند الطرفين بعين الاعتبار، ربما أمكننا ربط الإخوان، وإنْ ربطًا هشًّا، بالإسماعيلية [14].
كما يشير نصر إلى التشابه الكبير بين مضمون معظم الرسائل وبين التصوف، وخاصة فيما يتعلق بعلم الكونيات، الذي منه استقى الغزالي وابن عربي كلاهما، كثيرًا من صياغاتهما، حيث لم يقرن إخوان الصفا أنفسهم روحيًّا بالتصوف فقط، بل إن حديثهم عن جمعيتهم بحسب نصر يطابق من ناحية ظاهرية واجتماعية الطرق الصوفية، من حيث تقسيم المراتب والدرجات وما شاكل [15].
اللافت هنا في الأخير، أننا عندما ننظر إلى هذا الحجم من الاتساق والتقاطع الذي لا يخفى بين موقف سيد حسين نصر وبين موقف محمد عابد الجابري، لا نملك سوى أن نندهش في المقابل من موقف طرابيشي الذي اصطنع خصومة استمرت لمدة خمسة وعشرين عامًا، يبدو من الصعب كثيرًا ألا يكون اطلع خلالها الراحل على كل أو بعض تلك الدلائل القوية التي تدعم فرضية الجابري بالغة الدقة والرصانة على المستويين المعرفي والتاريخي.