د. محمد الشرقاوي - تجربة الذات برؤية خلدونية!

بين الذات والآخرين تقاطعاتٌ وصِلاتٌ وتفاعلاتٌ قد تكون بنّاءة وملهمة مع البعض، وهدّامة ومزعجة مع البعض الآخر، فيما يكون الحياد خيارَ الفئة الثالثة. ولن تجد فئةً رابعةً خارج هذا التصنيف الثلاثي لكينونتك المجتمعية.
قد يعتقد المرء أنه يفهم طبيعة ما يربطه مع أقاربه وأصدقائه وأبناء حيّه ومدينته وبقية مواطني بلده باتجاه العلاقة من الذات إلى الآخر. لكنه لا يستطيع أن يستوعب كيف هي نظرة الآخرين إليه سلبًا أو إيجابًا، وما يضمر البعض في نفوسهم ونواياهم غير المعلنة، أو النظرة إلى الذات من الخارج. وكلما مرّ المرء بتجارب متلاحقة، يكتشف أن ما توصل إليه عبد الرحمان ابن خلدون قبل ستة قرون حول الثابت والمتحول في تركيب العمران البشري، ودورة الحضارة، وتقلبات وضع الدول بين القوة والضعف ينطبق أيضا على الفرد بين مراحل النشأة والطموح وتحقيق الذات ومواجهة التحديات ومعادلة الفشل والنجاح من خلال جدلية التأثر بالآخرين والتأثير فيهم.
عبر رحلة تحقيق الذات، يعيش المرء في أربع عواصم في قارّات متباعدة بين جغرافيات وخطوط طول وعرض ثقافية مختلفة، وليست زمنية فحسب. ويجرّب الفرق بين ما يمكن أن يوصف بالسلبية المجتمعية societal negativism عندما يحاول البعض الطعنَ في أفكارك دون حجةٍ أو سجالٍ ونسفَ مصداقيتك من ناحية، والإيجابية المجتمعية societal positivism عندما تجد في محيطك مواقفَ تقدير وتشجيع ولمسة يد على كتفك تعبيرا عن شد العضد ورفع المعنويات من ناحية أخرى.
عندما تنحو باتجاه السؤال المستقل، أو تختار سبيل التفكير النقدي، أو تقترح معادلة الشك من أجل التوصل إلى اليقين من قبيل أن دونالد ترمب لم يكن نبيا سياسيا صادقا في وعوده، وأن جاريد كوشنير لم يكن عازما على صرف شيك ترمب للمغرب، وإنما شيك نتنياهو من أجل التطبيع خلال زيارته الرباط في الحادي والعشرين من ديسمبر، ومغبة المقايضة بين تطبيع مسافر واعتراف عالق، والحبل على الجرار... تصبح بمثابة المارق المعربد في "عراسية" الاحتفاء بهدية ترمب. فينبري من حولك القوم من حملة الأحكام الجاهزة على الرف بعبارات الاستنكار والشيطنة وحتى التشهير. لكن لحسن الحظ، لا يضيع صوتك عند ذوي الألباب الذين يؤيدون اجتهاداتك واستشرافاتك في صمت!
ما بين السلبية المجتمعية والإيجابية المجتمعية معادلةٌ غيرُ عقلانية، بل هي نفسيةٌ وثقافيةٌ حسب طبيعة كل مجتمع وعلاقته بالعقلانية والقدرية بفعل الفروق بين من يرون نصف الكوب الممتلىء ويستبشرون خيرا أنك ستكمل ملأه على طريق النجاح، ومن يركزون على نصف الكوب الفارغ، أو يُسقطون عليك مغالطات وانتقاصات، ويدفعون بأحكامهم نحو الأمل بنضوب ما في نصف الكوب، أو تآكل ما لديك من طرح فكري وجرأة نقدية. وعندما لا تنفع معك لغة الشيطنة وكيل الشتائم، يطلبون منك التزام الصمت.
لم يكن السؤال النقدي يرعب يوما الدولَ التي تريد أن يكون لها شأن في تكريس قيم العصر وبناء الحداثة والديمقراطية. ولا يثني السؤال النقدي المجتمعات الطموحة عن مواجهة أسئلة المستقبل باستشرافات استراتيجية بدلا من الاحتماء بروايات الماضي وعنتريات الزمن الذي ولّى، أو التعلق بأحلام وتمنيات غير واقعية.
لا عجب أن يكتشف المرء أنه خلدوني العقيدة في فهم التطور الاجتماعي والفكري، وأن مقولة الثابت والمتحول هي في الحقيقة مقولة المتحول المتحول بشكل مستمرّ. ولا يتوقف الوعي والإدراك عند حدود بيئة معينة مادامت الذات منفتحة على آفاق الفكر الحر والعالم اللامحدود. ومقابل أي بيئة لا تقبل السؤال النقدي أو زعزعة المحنطات الوثنية أو تفترض أن الشراع سيتحرك حسب هوى الرياح المنتظرة، ثمة بيئة وبيئات أخرى تُقدّر الطرح الجدلي والرؤية البرغماتية ومساءلة شتى المسلمات والفرضيات التقليدية.
ثمة منحدراتٌ تدفعنا خلف الشمس وتجمّد فينا نزعة التفكير المستقل، ومرتفعاتٌ ترحّب بنا تحت الأضواء، فمرحى بمؤانسة ابن خلدون ومقولة المتحول المتحول!

د. محمد الشرقاوي


1624136135940.png




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى