سليم بطي - بِنْتُ الطحَّان.. قصة قصيرة

مضرجاً بدمائه ، ولم يكن انقاذه إلا بعد أن رمي الحصان بالرصاص ، ولما نقلناه إلى المستشفى اعلمنا الطبيب إن والدي إذا عاش فسيعيش رجلاً مقعداً لا يقوى على السير ، وإن وجهه سيتشوه ، علاوة على إنه فقد بصره أيضاً .
كان وقع هذا النبأ علينا عظيماً ، ومرت الأيام الأولى علينا إثر خروجه من المستشفى كالحلم البغيض وكنت كلما وقع بصري عليه ارتجف ألماً وتتقطع نياط قلبي شفقة .
لم يكن يمكننا البقاء دون عمل ، والطاحونة كانت مورد رزقنا الوحيد ، فلم يكن بد من أن نستقدم رجلاً يقوم مقام والدي ، وفكرت والدتي حرصاً على سير العمل ، باستقدام قريبها فرحان ، وعرضت عليه الأمر بعد استشارة والدي ورضاه ، فجاء مسرعاً .... شرب قدح الشاي ثم أشعل سيكارة أخذ ينفث دخانها في الهواء فيتلاشى حلقات حلقات في الفضاء ، ثم التفت إلى والدتي والابتسامة لا تفارق شفتيه وقال :
ــ أين هو زوجك ؟
فأجابت والدتي دون أن ترفع رأسها ، وقد شغلت نفسها بأقداح الشاي :
ــ إنه في السرداب يراقب العمل ، ولو إنه لا يرى شيئاً ولكنه يطلب ذلك .
والتفتت إليّ وناولتني قدحاً من الشاي قائلة :
ــ خذيه إلى والدك .
نهضتُ واتجهت نحو باب السرداب ، فصرخت والدتي فيّ :
ــ احترسي عندما تعبرين إليه .
نزلت الدرجات ، ولم أكد أصل إلى آخرها حتى شعرت بأقدام فرحان الثقيلة ورائي ، فأسرعت وعبرت إلى والدي الجالس قرب فتحة البئر الكبيرة ، الذي جعل منه مكانه المفضل مذ فقد بصره ورجليه ، هذه البئر عميقة واسعة ، نستعملها لسقي الخيل ونستقي الماء منها أحياناً لغسل الثياب ، فمها في فناء الدار ، ولها فتحة واسعة في السرداب ، ولكن هذهِ الفتحة لم تسوّر بل ظلت على ما هي منها ، وسألت والدي عن السبب في عدم بنائها أو تسويرها على الأقل ، فأجابني بأنه عهد بها كذلك مذ شب ودرج في البيت ولا يدري سبب ذلك ، على أنه لم يسأل جدي عنه .
وضعت قدح الشاي بيد والدي وجعلت انتظر ، ووقف فرحان ينظر إلينا ، وأخذت أراقبه بطرف من عيني ، فارعبتني علامات الاشمئزاز التي ارتسمت على وجهه ، مثل أي إنسان آخر يقع نظره على والدي المسكين .
كنتُ خجلة من والدتي أثناء الغداء ، فقد كانت تتحدث بانبساط إلى فرحان كثيراً ، وعاد تورد خديها لأول مرة بعد عشرة شهور ، ولم افقه في ذلك الوقت أسباب خجلي بخدمتها له على تلك الصورة ، إلا بعد أسبوع من قدومه ، عندما لحظته يحتضنها صباح أحد الأيام في فناء الدار .
استيقظتُ مبكرة فجر ذلك اليوم لأراجع دروسي قبل ذهابي إلى المدرسة استعداداً لامتحان نصف السنة ، وكانت الغرفة مظلمة ، فأخذت أبحث عن ثقاب لأشعل القنديل ، وإذ لم أجد خرجتُ إلى المطبخ لآخذه من والدتي التي خرجت لتجهيز الفطور ، ولما وصلت إلى الباب لمحت والدتي وفرحان عند باب المطبخ يتحدثان بصوتٍ خافت ، وهي تقول له :
ــ لا ... لا ... يا فرحان
ورأيته يأخذها بين أحضانهِ ويقبلها ، ووصل إليّ جوابه كوخز الإبر ....
ــ ولم لا ... إنك لا تقوين أن تعيشي هكذا
فأجابته والدتي :
ــ لا ، لا ، يا فرحان
ولكنه لم يتركها تفلتُ من بين ذراعيه ، فلم تقاومه هذهِ المرة .
وهذا ما آلمني كثيراً ، فرجعتُ أجر رجلي جراً إلى الفراش ، وتمددتُ غير مفكرة بالدرس أو الامتحان ... وانحدرت الدموع كالسيل على خدي ، ووضعت طرف اللحاف بين أسناني أغالب بها عبراتي ، حتى لا أجهشُ بالبكاء فيستفيقُ والدي من نومه .
ذهبتُ ذلك اليوم إلى المدرسة ، ولم استطع أن أجيب بحرف واحد عن الأسئلة ، ولم أرجع إلى البيت للغداء ، وتأخرتُ عصر ذلك اليوم إلى المساء ، ولما رجعت أدعيتُ المرض وذهبتُ إلى الفراش .
وكانت الحرارة ترتفع في جسمي ، وتفكيري لا ينقطعُ من ذلك المنظر المخزي ، وبقيتُ انتظرُ والدتي إلى أن جاءت لتنام وكنا ننام سوية في فراش واحد وقد اعتدنا أن نتحدث إذا ما عزّ علينا الكرى ، ولما شعرتُ بها تصنعت النوم ، وشعرتُ بيدها الباردة تجس معصمي وجبيني ، ثم تتمدد على الفراش .
استيقظتُ من نومي فزعة ، ومددتُ يدي لاتحسس والدتي ، فلم أجدها وحدست إنه مضى كثيرٌ من الليل ، عندها تذكرتُ إنها قد ذهبت إليه ، فكان هذا الخاطر كلطمة قوية على وجهي فرحتُ انتحب والدموع تسيل على خدي مدراراً ، ولا أذكرُ كم مضى من الوقت وأنا على هذهِ الحالة ، وكان الوقت يمر ولا أشعرُ بهِ ، وبعد مدة طويلة فُتِحَ الباب وانسلت والدتي في الظلام إلى الغرفة بتحوط ، فجمدتُ مكاني ولم أتحرك ، خشية أن تلحظ أنني مستيقظة ، رجعت إلى الفراش وتمددت ، وبقيت مدة طويلة هادئة لم تأت بحركة حتى خيل إليّ إنها أغفت ، ولكن هذا التخيل زال بصوتٍ ارتجف له فؤادي ، فقد كان هذا الصوت نحيباً صامتاً ، إنها لا شك نادمة على جريمتها .
أفقتُ صباح اليوم الثاني كعادتي ، وخرجتُ لأغسل وجهي ، ولم أكد أفتحُ الباب حتى سمعتُ حواراً فتعرفتُ من الصوت على الأشخاص المتحدثين ، فوقفتُ مكاني ويدي على الباب استرق السمع ، وتمكنتُ أن أرى فرحان ممسكاً بيد والدتي وهي واقفة بباب المطبخ ، ووصلت إلى أذني كلماتها واضحة ، قالت له :
ــ لا أقدر يا فرحان ... أقول لك لا أقدر أن اتمالك نفسي ، أنا اتمادى في هذا .
فأجابها ، وكان كلامه واضحاً ، وصوته الأجش بعث في جسمي قشعريرة باردة ، وأخذت والدتي تتوسل إليه أن يخفض من صوته ، ولكنه استرسل غير مبالٍ قائلاً :
ــ إذا كنتِ تريدين أن لا تعرف ابنتكِ فطاوعيني وإلا أخبرتها بنفسي ، إنني مجنون بحبك ... وسأخبر البلد كله قبل أن أترككم .
فأجابت والدتي بشدة :
ــ إنك لا تجسر ُ على ذلك ..
ــ لا أجسر ؟ أقول لكِ إنني أهواكِ إلى درجة أقدم معها على كل شيء ... وأنتِ لا حول لك ولا قوة على مقاومتي ... أقدم على كل شيء .
فأجابت :
ــ أنت مجنون !
فأخذها بين ذراعيه ، فلم تقاوم وقال :
ــ نعم مجنون بغرامكِ !
وقبلها قبلة طويلة ، وكانت مستسلمة إليه ، وقالت :
ــ أمجدٌ أنتَ في إخبار ابنتي ؟
ــ طبعاً لا ... إذا كنتِ تبادلينني حبي .
ــ آه ... كم كنتُ خائفة أن تستيقظَ تلك الليلة .
لم احتمل أن أسمع أكثر من هذا ، فرحتُ إلى فراشي ولبثتُ فيه ، ولم أخرج .
أخذَ الحزنُ يهد من جسمي ، وظهرت علائمه على وجهي ، وأهملتُ دروسي وواجباتي ، حتى إن مدرساتي لحظن عليّ ذلك وتعجبن له .
وبقيتُ منزوية أعيشُ وحدي بعيدة عن زميلاتي ، حتى أضحين في حيرة من أمري ، وعبثاً حاولن معرفة السبب واكتشافه .
وكان يسكنُ بجوارنا شابٌ ظريف ، مدرس في إحدى المدارس الابتدائية ، يميل إليّ كثيراً ، أكتشفتُ ذلك من نظراته وابتساماتهِ عندما كنا نلتقي في الطريق إلى المدرسة ومنها ، أو عندما كنتُ أستعينُ به أنا وشقيقته ، التي كانت من أعزّ صديقاتي وفي صفٍ واحد ، على بعض الحلول الرياضية ، ورغم أنه كان خجولاً جداً ، فإنه كان يحاول أن يُفهمني بأنه يميل إليّ ، ولكني كنتُ أتجاهلُ كل ذلك ولم أكنْ أفسح له مجالاً يشجعه على المضي في هذا السبيل ، وبمرور الأيام أخذتُ أشعرُ بميلٍ نحوه ، إلى أن أخبرتني شقيقته يوماً بحب شقيقها لي ، وإنه يرغبُ رغبةً صادقة في تزوجي ، وسيبعثُ والدته لتخطبني من والدي ، وبقيت تستدرجني لتعلم ما إذا كنتُ أوافقُ على ذلك ، ولكني سكت ، ولا أدري أخجلي أم سروري هو الذي منعني من الجواب .
أخبرتُ والدي قبل والدتي بالأمر ، لأنني كنتُ احترمه وأحبه جداً ، فابتسم وأخذ يعبثُ بشعر رأسي وأنا جالسة بجانبهِ ، وأجابَ :
ــ ليس لديّ مانع يا بُنيتي إذا رضيت والدتك ! فأنا أعرفُ الشاب شخصياً وهو يليقُ بكِ .
فقبلتُ يده وخرجتُ لأزف النبأ إلى والدتي ، ولما أخبرتها قبلتني في جبيني، وقالت ودموع الفرح تتدفق من مآقيها :
ــ من ذا يكون أكفأ لك منه يا فتاتي !
وسرى الخبر في المحلة سريان النار في الهشيم ، حتى أن المدرسات كن يداعبنني أثناء الدرس ، فتحمرُ وجنتاي خجلاً ، وألومُ شقيقته على ذلك ، فتحتضنني ضاحكة مسرورة .
مرت الأيام وكنتُ أشعرُ بأن فرحان يأمر وينهى في البيت كأنه هو السيد المطلق ، وبلغت به الجسارة أن أخذ يغازلني كلما اعترضتُ طريقه دون خوفٍ أو وجل ، وتمادى في غيه ، حتى أخذ يُسمعني القارص من الكلام أمام والدتي .
وبينما كنتُ جالسة أمام باب الشرفة في أحد الأيام ، خرج فرحان من السرداب وهو ملوث بذرات الطحين ، ولما وجدني وحدي تقدم وكلمني بصوتٍ مرتجف لم أعهدهُ فيه قائلاً :
ــ هل صحيح إن هذا المعلم سيخطبك ؟
فأجبته فوراً :
ــ نعم صحيح ... وماذا يهمك أنت من ذلك !
فنظر إليّ لحظة ولم يتفوه بكلمة واحدة ، وأخيراً قال :
ــ اصغي إليّ ... إنك لا تتزوجين غيري .. أفهمت ؟
فشعرتُ بقلبي يقف عن خفقانه ، ووضعتُ يدي أتحسسً مكانه ... وبعد لحظاتٍ أفقتُ إلى نفسي من هذهِ الصدمة وتمالكتُ رشدي وصرختُ في وجههِ :
ــ يا لك من وقح ... إنك كالخنزير في نظري ... أتحسبُ أنني أتزوجك حتى لو لم يبق في الدنيا سواك ... أتظنني ضعيفة لا أقدر أن أقاومك كوالدتي ؟
فأصفّرَ وجهه ووقف كالعمود لا يبدي حراكاً ، وضاقت عيناه وتقلصت شفتاه ، وقال بصوتٍ ضعيف :
ــ إذن فأنتِ تعلمين سر والدتك وعلاقتها بي .
فأجبتُ بصوتٍ مخنوق وبدون وعي :
ــ نعم أعلمُ كل شيء .
فرجع إليه هدوءه السابق ، فأدهشني هذا الهدوء ، ودبّ الخوف إلى قلبي ، وقال مبتسماً :
ــ حسناً ... هذا يجعلُ الأمر أهون الآن .
فازداد خوفي وقلقي ، فأجبتُ :
ــ ماذا تعني ؟
فقال ورنة الفوز في نبرات صوتهِ :
ــ اصغي إليّ ... غداً يوم الجمعة .. سأذهبُ كالمعتاد إلى الخمارة واحتسي بضع كؤوس مع بعض الأصدقاء ، وستُحلُ عقدة لساني ، وأروي حكايات كثيرة عنك وعن والدتك ... وفي اليوم الثاني ستكون على كل لسان .
فصرختُ في وجهه :
ــ إنك لا تجسر .
وتذكرتُ عبارة والدتي له لما هددها بإفشاء سرها إليّ ، فقال هازئاً :
ــ لا أجسر ؟ إن الناس سيصدقونني ، ولا سيما إن والدتك لا تزال جميلة في شرخ صباها .
كانت كلماته التي قذفها في وجهي جارحة فأخذتُ أفكر ، يجب أن لا يقع ذلك ابداً ، فنهضتُ وتقدمتُ منه ولمستُ ذراعه ، ولكن يدي سقطت باردة جامدة لما شعرتُ بحركتي المخذولة ... فضحك عالياً وابتعد عني وجلس على الدكة أمام الايوان ، وقال بنغمة الفائز المنتصر :
ــفكري جيداً ... وأعطيني جوابك بعد ثلاثة أيام ، واحذري أن يأتي أحد لخطبتك ، فاللوم لا يقع إلا عليك .
فلم أطق صبراً ، وضاق صدري ، وشعرتُ بأنني اختنق ، ولحسن حظي جاءت والدتي في تلك اللحظة فانقذتني من ورطتي وآلامي ، فشغلتُ نفسي بالقراءة ، ولكني لم أكنْ أرى شيئاً ، وأردت أن أنفجر باكية ، ولكن خشية والدتي ضبطتُ نفسي ، ومن العبث محاولة وصف حالتي ذلك اليوم ، إذ لا أقدرُ أن أصفها بالكلمات فقد كان وجهي يحترق كأن بي حمى ، وعند المساء تظاهرتُ بأن الصداع يأكل رأسي ، وذهبتُ إلى الفراش ، ولكن ادعائي انقلب حقيقة إذ كادت جمجمتي تنفجر من الألم ، وشعرتُ كأن أيدياً من الحديد تقبض على قلبي ، وكنتُ ارتجف ... ولما جاءت والدتي لتنام وجدت جسمي يلتهب واطرافي ترتجف ، فذُعِرت فرجوتها أن تهدأ فلم تبال .
كنتُ أفكرُ طول الليل في طريقة أخبر بها شقيقة خطيبي ، لتأخير يوم الخطبة ، فارعبتني هذهِ الأفكار .
ما العمل ؟ ما الحل ؟
كان والدي طوال تلك الليلة جالساً في فراشه ساكناً يدخن ، وقد ملأ الغرفة بدخان غليونه ، وكلما رفعتُ رأسي وجدته على وضعه لم يتغير ، جالساً جامداً يدخن .
وعند الفجر سمعتُ فرحان يسأل والدتي عني :
ــ أحقاً إنها مريضة ؟
فأجابته والدتي :
ــ نعم ... وسآخذها إلى الطبيب ، ولا أدري كيف استقبل ضيوفنا غداً ؟
فقال :
ــ لا لزوم للضيوف .
ــ ماذا تعني ؟
ــ أعني إنها لن تتزوجه !
فأجابت والدتي بدهشة :
ــ لا تتزوجه ! ولماذا ؟
ــ لأنها ستتزوجني أنا !
وضعتُ رأسي تحت اللحاف انتحب ، وبعد لحظات شعرتُ باللحاف يُرفع عني ، ففتحتُ عيني الدامعتين ، فوجدتُ والدي يتحسس يبحثُ عن وجهي ، فاستقرت يده على رأسي ، فازددتُ بكاء ، وشعرتُ بقشعريرة تسري في جسمي ، فقد شعرتُ بيد والدي كأنها تتكلم وتقص عليّ الحوادث التي رأيتها وسمعتها كلها ، وشعرتُ بأنه يبكي ، ولو أن دموعه لم تنهمر ، لأنه لا مآقي له ، تمتم قائلاً :
ــ لا تبكي يا بُنيتي ... أنا سأتدبرُ كل شيء .
فسألته وأنا اختنق بالعبرات ، مخفية وجهي في صدري :
ــ تتدبر كل شيء ؟ إذن فأنت تعرف كل شيء ؟
فلم يجبني بشيء ، ولكنه احتضنني وربت على رأسي وابتعد عني راجعاً إلى مكانه ، ونادى والدتي أن تأتي وتأخذه إلى السرداب ، فدخلت والدتي وجلست بجانبي ، وتكلمت بصوتٍ منخفض حزين :
ــ أحق ذلك يا بنتي ؟
فسألتها :
ــ ماذا ؟
ــ إنك ستتزوجين فرحان ؟
ــ نعم يا أمي .
ولما نظرتُ إليها بعد جوابي لها ، شعرتُ بأنه سيُغمى عليها ، فقد علا وجهها شحوب الموت وزاغت عيناها وتحركت شفتاها وتمتمت قائلة :
ــ آه يا إلهي .
ولما رجعت إلى رشدها فتحت عينيها ونظرت إليّ نظرات غريبة ... ثم نهضت وخرجت من الغرفة مغلقة وراءها الباب بعنف وسمعتها تنزل الدرجات بسرعة ، وجاء فرحان وأخذ والدي إلى السرداب ، ولما نزلتُ في الضحى لم تجسر أن ترفع بصرها وتنظر إليّ ، ولما تقدمت لمساعدتها لم تكلمني .
سمعتُ والدي يُنادي فرحان ، فظننتُ أن فرحان في السرداب ولكن تَكرُرَ النداء أكد لي أنه خارج الدار ، فنهضت إلى النافذة وأطليت منها على السرداب ، وقبل أن أجيبه بأن فرحان متغيب وجدتُ فرحان يعبر إليه ، فقد سمع نداءه ونزل إليه من الباب الخارجي .
تقدم فرحان من والدي ، فأشار إليه أن يجلس إلى جانبه ، فبقيتُ اتطلع ، ولكني لم أكنْ أسمع ما يدور بينهما من حديث لأنهما كانا يتكلمان همساً ، كما أن صوت الطاحونة لم يدعني أسمعُ شيئاً ، وبعد مدة قصيرة رأيتُ فرحان يرفعُ يده ويلطمُ والدي لطمة شديدة على رأسه ، فأمسك والدي بخناقه ، وانقلب ذلك العاجز المهشم إلى نمر كاسر ، عبثاً حاول فرحان التخلص من يدي والدي الحديديتين ، فصرختُ وهبت والدتي لصراخي ، ولما وقع نظرها على ما يجري في السرداب ركضت مولولة وأنا وراءها ، ولم نكد نصل إلى آخر الدرجات حتى دوت صرخة قوية من فرحان زلزلت أركان السرداب أعقبها صوتُ سقوط شيء في الماء ، وساد سكون عميق ، فقد سقط الاثنان في البئر ... وفي اليوم الثاني خرجت من دارنا جنازتان ، وأخبرنا الناس أن فرحان ذهب ضحية والدي عندما أراد انقاذه وهو يحاول الانتحار .


سليم بطي
بغداد
أعلى