رغم حرية تصرفاته وسلوكياته في رواية " قنديل الثنايا" لمؤلفها علي الخميلي ـ وهي أول عمل سردي يبوح به للقراء بعد نشر عدد من الكتب في مواضيع أخرى ـ فإن النوّي بطل النص كان مخطَّطا لسيرته من طرف الكاتب الذي حدّد له مجالات الحضور في جميع أحداث الرواية التي امتدت من الصفحة 15 إلى الصفحة 227 في مسار واحد لا يتوزع على فصول ليجد القارئ نفسه أمام سيرة عامل منجمي متقاعد أراد علي الخميلي أن لا يفسح المجال لصاحبها لعرض كل المواقف والحالات التي كان لها تأثير بارز في حياته ، ومنها ظروف العمل بأنفاق منجمَيْ المتلوي والرديف التي لو تحدث عنها لقال فيها كلاما كثيرا لِما اتسمت به من مخاطر ناجمة عن انهيارات الكهوف على العمال متسببة في وفاة البعض وإحداث كسور وإعاقات للبعض الآخر.
فما يُحسب للكاتب هو أنه تجنب إعادة سرد ما رواه جميع الذين كتبوا عن المناجم منذ ظهور رواية " جارمينال Germinal " لإميل زولا الفرنسي سنة 1885 إلى العشريات أو السنوات الأخيرة التي تتالى فيها انتشار الروايات المشتغلة على ثيمة المنجم في تونس والمغرب والجزائر بالخصوص والتي لا تخلو واحدة منها من الإسهاب في التطرّق إلى ما يحدث داخل الأنفاق الفسفاطية أو آبار الفحم الحجري من مخاطر كبيرة يذهب بعضها بحياة العمال وتنتج عن بعضها أضرار بدنية مؤلمة ومزمنة أحيانا.
فكاتبنا أخرج بطل روايته سليما مُعافى من أنفاق منجمَيْ المتلوي والرديف ـ رغم تطرّقه إلى المعاناة المهنية الكارثية التي كادت تذهب بحياته في بعض الأحيان .
يبرز اختلاف " قنديل الثنايا " على غيره من الروايات التي أوْحت بها أجواء الحياة المنجمية في أنها فسحت المجال لبطل الرواية ليتحرّك وفق ظروفه دون توجيه من أحد منذ شبابه المبكر الذي انخرط فيه للعمل إلى نهاية حياته التي خُتمت بوفاته في البقاع المقدسة أثناء قيامه بأداء فريضة الحج. فهو في حد ذاته شخص مختلف عن بقية العمال الذين زاملوه في منجمَيْ المتلوي والرديف ومنهم من وفاه الأجل المحتوم وهو يؤدي واجبه المهني أو إثر مرض ألمّ به ليموت على فراشه بين أهله وذويه ، ومنهم من ما زالت له في الحياة أنفاس ، غير أن النوّي لا يقابل منهم في تقاطعات الأيام إلا عددا لا يزيد عن أصابع اليد رُغم أن شوارع وفضاءات وساحات وأسواق البلدتين المنجميتين لا تخلو من العشرات منهم يوميا.
فلماذا جعل علي الخميلي حجابا بين النوي وزملائه الذين عانوا ممّا عاناه طيلة مسيراتهم المهنية المضنية ؟
للإجابة عن هذا السؤال أشير إلى أن للنوّي تفكيرا وتطلعات تختلف عن تفكير وتطلعات زملائه الذين لا يحلمون إلا بالقليل خارج الأوضاع التي حُشروا أو وجدوا أنفسهم فيها أملا في تحسن ظروف عملهم والزيادة في أجورهم وتوفير أسباب العيش المريحة بينما لم يكن النوي يقتنع بما يساورهم لأنه ظل واعيا بأنّ مدن الحوض المنجمي لا تُحَلّ مشاكلها بحل المشاكل المهنية الخاصة بالمنجميين فحسب بقدرها هي في حاجة مؤكدة إلى الالتفات إليها بتطوير بُناها الاقتصادية والاجتماعية والعمرانية والتنموية التي لا تتحقق إلا بتخصيص نسبة من مردود مبيعات الفسفاط لتنفيذ مخططاتها . وهو إذ يختلف مع غيره من زملائه في تطلعاتهم التي يراها محدودة المطامح يظل محِبّا لهم عاطفا عليهم مدافعا عن حقوقهم عندما تتوفر له الفرص لذلك .
وهذا الإحساس يجعله يتساءل عن علاقة اسمه بتصرفاته ، فهو يُدعى النوّي ؟ أحيانا يعتقد أن النوي مشتق من النّيّة لآن الأعمال بالنيات ولكنه يتخلى عن هذه المقاربة لأنه ـ ربما ـ متيقّن من أنّ أعماله كلما قد تحققت بالممارسات لا بالنوايا رغم يقينه بأن نواياه لم تكن طيبة مع مسئولي المنجم سواء أكانوا فرنسيين في عهد الحماية أم تونسيين تسلموا منهم مشاعل التسيير، لأنهم ساروا على نهجهم فحرصوا على تحقيق مصالح الشركة ولم يفكروا في توفير الضرورات الدنيا للعمال ومحيطاتهم .
ويظن كذلك أن النوّي مشتق من النوء وهو المطر الذي يحيي الأرض بعد موتها ، أو هو النوء الذي يعني غروب النجم ،إلى جانب اشتقاقات وتأويلات أخرى تأكد من أنها لا تضيف إلى أفعاله ولا تنقص منها ولا تتفق معها.
فمن هو النوّي في هذه الرواية ؟
ملخص سيرته يقول إن أباه تنقل للعمل بين مناجم المتلوي وأم العرائس والرديف وتوفّي في سنّ الثلاثين من عمره تاركا أربعة أولاد وأربع بناة وكان النوي في سن الرابعة عشرة فاضطرّ إلى العمل بالمنجم بعد الإدعاء بأن عمره ست عشرة سنة وهو السن الذي لا يُقبل للعمل قبل بلوغه بالشركة الفسفاطية في عهده. وفي الرديف تعرّف على زميل كهل يحمل اسمه فأحاطه هذا الأخير بعطفه بعدما تبيّن أنه من معارف أبيه الذي زامله في الداموس ،ويذكر هذا الرجل أن والد العامل الشاب كان مثالا يحتذى به في الكرم واللطف وحسن المعاشرة . لذلك أحاط بنجله وعلمه الكثير من فنون المهنة كي يتجنب ما حصل لوالده .
يقول النوي بطل الرواية :أعتقد أيضا أن اسمي قد اقتبسه والدي من اسم هذا الرجل الطيب موَدّة وإكراما.
وبفضل توجيهات النوي الكبير أصبح النوي الصغير يعرف متى يتحرّك غول الجبل ويهتزّ مُرْتجا معلنا عن اقتراب سقوطه على الرجال العاملين بأغواره ، كما يذكر أن صديق والده قد ساعده على تخطّي رتبة العامل البسيط ليصبح " بوازور Boiseur " خشّابا يركّب الرّكائز الخشبية Pilliersالتي يتم تسقيفها بمثلها للحيلولة دون انهيار ضغط الكهوف على من تحتها .
وعند بلوغ الشيخ النوي ـ ابن الرديف ـ سن التقاعد وفّر للنوي الشاب السكن في منزله وزوّجه ابنته التي أحسنت معاشرته وأنجبت منه أبناء وبنات حرص عل حسن تربيتهم وتعليمهم . كما كان يزور أمّه في المتلوي ويقدم لها بعض المساعدات المالية والمشتريات التي يقتنيها من المتجر المنجمي الكبير الذي يسمى المقتصديةEconomat وهو الذي فتحته الشركة اثر انتصابها لاستغلال الفسفاط ليتزوّد منه إطاراتها وأعوانها وعمالها بالمواد الغذائية ومستلزمات الكساء والتنظيف وغيرها سواء بدفع أثمانها بعد تسلمها أو بتسجيل مبالغ شرائها في كنشات لخصمها من أجورهم النصف شهرية أو الشهرية .. وكانت أمه تقوم بتربية الدجاج لبيع بيضه أو فراخه إلى جانب الأرانب التي تضع الكثير من صغارها شهريا مع استغلال أرضا بيضاء مجاورة لمنزلها كانت تصلها المياه الضائعة من الحنفية العمومية بالحي حيث قامت بحرثها وزرعت فيها بعض الخضر التي تبيعها للجيران . ولا تكتفي بفعل ذلك لأنها كانت تحوك البرانيس والمفروشات وبذلك تقدر على توفير مصروف ضروري لمعيشة الأسرة المتكوّنة من أشقائه الثلاثة وشقيقاته الأربع اللواتي كنن يساعدنهما على ما تقوم به لضمان لقمة العيش.أما النوي فقد اعتنى برعاية أبنائه وبناته وأنفق على أخيه أحمد لينهي دراسته في مجال الطب ويصبح مشهورا في مجاله خصوصا بعد استقراره للعمل في الولايات المتحدة الأمريكية التي يتوفّر فيها على مداخيل ماليه خيالية ساعدته على شراء قصر بالمرسى في الضاحية الشمالية لتونس العاصمة ويضعه على ذمة أخيه اعترافا برعايته له التي أوصلته إلى ما هو فيه فيتحوّل النوى من المتلوي إلى المدينة المذكورة للسكن في القصر صحبة زوجته خديجة بمعية ابنته جميلة وزوجها المقاول فتحي وصغيرتهما هناء بعد أن أقنع صهره بتأجير مسكنهم والإقامة في القصر لمؤانسته وزوجته . وتختم سيرة الرجل بتوجهه إلى البقاع المقدسة لأداء فريضة الحج ووفاته ودفنه هناك .
هذه سيرة مخملية لعامل منجمي ضحك له الحظ فلم يُنه حياته في ظروف صعبة كأغلب عمال المناجم الذين يحالون على التقاعد لمحدودية الجرايات ، وإنْ كان البعض منهم يختم مشواره المعيشي في شبه راحة وهدوء نفسي،ربما لأن أبناءه قد استطاعوا إن يحققوا النجاحات في دراساتهم ليحصلوا على وظائف راقية تساعدهم على إمتاع آبائهم وأمهاتهم بما لم يتحقق لهم في رحلة الجهاد المنجمي الصعب .
وفي مدارات حياته بعد التقاعد يربط النوي علاقات مع أناس من ذوي المستويات التعليمية والثقافية المحترمة ولم نقرأ في الرواية ما يبرر أية علاقة أو حوار مع الناس العاديين إذا استثنينا حواره أثناء السفر إلى المرسى على متن سيارة جاره منصور المتعصب لأطروحات حزب يسيطر على مفاصل الدولة بتوجهات الإسلام السياسي إذ يقول" .. لا بدّ من تصحيح الاعوجاج الذي ساد البلاد لفترة غير قصيرة ، والحمد لله وحده الذي جعل حركتنا التونسية وكل من فيها وينتمى إليها يبقى تونسيا وليس أجنبيا ، وهي التي تصحح ذلك الاعوجاج ، أو جاره إبراهيم الذي أعلمه هاتفيا من المتلوي بوجود اسمه في قائمة المقبولين لأداء فريضة الحج .أما جلساؤه في المقاهي ـ التي لم يجالس أحدا من أصدقائه ومريديه خارجها ـ فهما عبد القادر المتخرج بأستاذية من التعليم العالي ويعاني من البطالة ومحسن وهما اللذان يتبادلان معه الأحاديث عن أحوال البلاد بعد الثورة التي لم تتحقق وعودها وعن سياسيين لا يعرفون الشعب وعن نظام مخترق من طرف الفاسدين وعن ظلاميين جاؤوا بعد غروب السلطة الحاكمة السابقة فتسلطوا على الحلم .أما الشاب عبد الرزاق فإنه مخالف لهما في مجالسهما في ما يصرحان به لأنه متعصب حتى النخاع لأفكار الإسلاميين السياسيين ويكره العلمانيين ويكفّرهم .. وهؤلاء من الشباب ، وكذلك هشام الذي يلتقيه في مقهى الصفصاف بالمرسي وهو من أعيان المدينة وأخ المالك الأول للقصر الذي اشتراه أحمد وقد أخبره بأنه يفكر في مغادرة البلاد إلى فرنسا لأنّ وضعها لا يطمئن ، والمهندس الذي اشتغل بالمناجم وغادرها بعد التقاعد وقد أصبح سواد شعره بياضا واشترى شقة في حمام الأنف للإقامة فيها .
هؤلاء جميعا مستاءون من أحوال البلاد لكنهم متيقنون من أنّ الشباب هو القنديل الذي سيضيء دروب الحياة .
ويذكر النوي ابنه نبيل المقيم في أمريكا للدراسة بإحاطة من عمه أحمد ولا يفكر في نسيان الوطن والأهل عكس أخيه صالح الذي استغل فرصة إرساله في تربص مهني بفرنسا من طرف شركة الفسفاط فأقام هناك وانخرط في العمل بإحدى المؤسسات بسانت دينيس وتزوّج من فرنسية وقطع الصلة مع الأهل والزملاء والأقارب والأصدقاء إلى درجة أنه لم يحظر جنازتيْ والديه عند وفاتهما
لا وجود لتعقيدات في مراحل حياة النوّي ولا لتشنجات مفروضة من مجريات العمل المنجمي الذي يتسم القسوة والمخاطر وهضم حقوق المنتمين إليه وترويع الكثير من العائلات التي تفقد بعض عناصرها في حوادث شغل مفاجئة ، فهذا الرجل استطاع أن يخطط لوجوده كما يريد أن يكون، لذلك فإننا عند قراءة رواية " قنديل الثنايا " نتصوّر أنّ الرجل يتحرّك في مساحات خرافية جميلة لا يستطيع أن يقترب من فضاءاتها غيره من عمال المناجم الذين أخبرتنا الروايات التي تطرقت إلى أوضاعهم أنهم يشْقون ولا يلقون .
ولئن استطاع النوي أن تكون علاقاته مع من واظب على مجالساتهم ومحاوراتهم متسمة بالودّ والحكمة والتأثير عليهم بسداد رأيه وتحريضهم على تجنب الأحكام المرتجلة والانسياق وراء الزائف والمظلل فإنه لم يتمكن من تطبيق تلك الوصايا على نفسه عندما أوقعت به فتاة لعوب وفاتنة تعمل في المقهى الذي يجلس فيه بالمرسى وأسقطته في فخّها الناعم بمختلف طرق الإغراء حيث كانت تجلس أمامه وتتعرى من مواقع حسّاسة مستدرجة إياه للارتباط بها في زواج متعة ومؤثرة عليه بكلامها السحري للتحوّل معها إلى شقتها في إحدى العمارات ، وقد أطاعها في ذلك. فأوشك على السقوط في الجبّ ولولا إيقافها ومن وجدوهم معها في شقتها وأغلبهم من الكهول بتهمة تعاطي البغاء السري .
وقد ظلّ النوّي يعاني من حالات رُعب لم يعش مثلها سابقا خوفا أن يرِد اسمه على لسانها في التحقيق فتنتشر الفضيحة بين أسرته أهله وأصدقائه وأبناء مسقط رأسه وهو الرجل الذي عُرف لديهم باستقامته رجاحة تفكيره والمتهيئ لأداء فريضة الحج .
وهذه الحالة ناتجة دون شك عن اصطدام الرجل بسلوكيات مغايرة لما ألفه في مسقط رأسه الهادئ والمتأصل في الحفاظ على الأخلاق الفاضلة والتعامل النظيف بين أفراده . فهو رجل لم تمرّ على إقامته في مدينة المرسى المُغرِية بكل ما فيها أكثر من ستة أشهر.. وهو الذي لم يجالس فيها إنسانا كان من الممكن أن يحذره من الوقوع في فخاخ الإغراءات والزلات التي تحدث كثيرا في ذلك المكان .. لذلك فإنّ ما حدث له يعتبر صدمة من صدمات التمدّن المفاجئ وتغيير مناخات العيش دون الاهتداء بخارطة طريق تكون له دليلا عند تغيير وجهة حياته .
ما يمكن الوقوف أمامه بعد قراءة الرواية هو :
أولا :أن صاحبها قد اختار لها عنوان " قنديل الثنايا " ليؤكد لقرّائه على أن للحياة مسالك بعضها مجهول ولا يمكن عبورها دون ضياع إلاّ بنشر الأضواء فيها لاتضاح مساراتها . وإن النوّي بطل الرواية قد تمرّد على الواقع المنجمي المتردي وشقّ طريقه المضاءة بتخطيط محكم ساعده على وضعه أخوه الطبيب بالولايات المتحدة الأمريكية .
هذا جيّد .. أما ما هو مثير للتفكير فهو انشغال المؤلف بما يجب أن يفعله عمال المناجم لتحسين ظروف حياتهم لا ليصبحوا كزميلهم النوّي ـ لأن ذلك لن يحصل ربما إلا للقليل منهم الذي قد لا يتجاوز أصابع اليد ـ بل لتحلوَ لهم الحياة في ربوع عملهم وسكناهم التي يجب أن تأخذ حظها من التنمية والتطوير والتجميل لتتحوّل إلى أماكن يطيب العيش فيها.
ثانيا :من المؤكد هو أنّ أيّة رواية تتّكئ عند نسج أحداثها على أماكن متعددة يتحرّك فيها البطل ومن تفاعلوا معه فيها ، بينما يكتشف القارئ في " قنديل الثنايا " أنّ الأماكن المستذكرة التي احتضنت تحركات النوّي في طفولته وشبابه هي محيط بيت أسرته وبيت صهره ومنجمَيْ المتلوي والرديف لا غير ، أمّا الأماكن المُعاشة أثناء السرد فهي المقهى الذي التقى فيه الشبان عبد القادر ومحسن وعبد الرزاق في المتلوي وسيارة منصور التي نقلته وزوجته إلى المرسى والقصر التي وضعه أخوه الطبيب أحمد على ذمته في تلك المدينة والمقهى الذي أصبح محبذا له الجلوس فيه وشقة القناة اللعوب التي كادت تجرفه نحو الرذيلة وبيته في المتلوي أثناء التحضيرات للتوجّه إلى البقاع المقدسة لأداء فريضة الحج .وهذه أماكن قليلة ومغلقة .
وإذا لم يكن النوي قد أطلّ علينا ، بعد إحالته على المعاش ، من أماكن أخرى شاهدة على أفعال قام بها فيها فلأنه كان مقتنعا بأنّ المنجَمي المتقاعد لا تتوفـّر له فضاءات كثيرة لقضاء أوقاته وإبداء آرائه وعرض خبراته ، ولعل حاله قد كان أفضل من أحوال المتقاعدين من المناجم الذين تمتلئ بأغلبهم المقاهي لممارسة ألعاب الورق والديمينو والجلوس المجاني أو لا يجدون ملاذات في غير المساجد أو يلوذون بالحانات أو يقبعون في مساكنهم الساعات الطويلة التي قد تضايق ذويهم بتدخلهم في ما لا يعنيهم .
أ
محمد عمار شعابنية
المتلوي / تونس
فما يُحسب للكاتب هو أنه تجنب إعادة سرد ما رواه جميع الذين كتبوا عن المناجم منذ ظهور رواية " جارمينال Germinal " لإميل زولا الفرنسي سنة 1885 إلى العشريات أو السنوات الأخيرة التي تتالى فيها انتشار الروايات المشتغلة على ثيمة المنجم في تونس والمغرب والجزائر بالخصوص والتي لا تخلو واحدة منها من الإسهاب في التطرّق إلى ما يحدث داخل الأنفاق الفسفاطية أو آبار الفحم الحجري من مخاطر كبيرة يذهب بعضها بحياة العمال وتنتج عن بعضها أضرار بدنية مؤلمة ومزمنة أحيانا.
فكاتبنا أخرج بطل روايته سليما مُعافى من أنفاق منجمَيْ المتلوي والرديف ـ رغم تطرّقه إلى المعاناة المهنية الكارثية التي كادت تذهب بحياته في بعض الأحيان .
يبرز اختلاف " قنديل الثنايا " على غيره من الروايات التي أوْحت بها أجواء الحياة المنجمية في أنها فسحت المجال لبطل الرواية ليتحرّك وفق ظروفه دون توجيه من أحد منذ شبابه المبكر الذي انخرط فيه للعمل إلى نهاية حياته التي خُتمت بوفاته في البقاع المقدسة أثناء قيامه بأداء فريضة الحج. فهو في حد ذاته شخص مختلف عن بقية العمال الذين زاملوه في منجمَيْ المتلوي والرديف ومنهم من وفاه الأجل المحتوم وهو يؤدي واجبه المهني أو إثر مرض ألمّ به ليموت على فراشه بين أهله وذويه ، ومنهم من ما زالت له في الحياة أنفاس ، غير أن النوّي لا يقابل منهم في تقاطعات الأيام إلا عددا لا يزيد عن أصابع اليد رُغم أن شوارع وفضاءات وساحات وأسواق البلدتين المنجميتين لا تخلو من العشرات منهم يوميا.
فلماذا جعل علي الخميلي حجابا بين النوي وزملائه الذين عانوا ممّا عاناه طيلة مسيراتهم المهنية المضنية ؟
للإجابة عن هذا السؤال أشير إلى أن للنوّي تفكيرا وتطلعات تختلف عن تفكير وتطلعات زملائه الذين لا يحلمون إلا بالقليل خارج الأوضاع التي حُشروا أو وجدوا أنفسهم فيها أملا في تحسن ظروف عملهم والزيادة في أجورهم وتوفير أسباب العيش المريحة بينما لم يكن النوي يقتنع بما يساورهم لأنه ظل واعيا بأنّ مدن الحوض المنجمي لا تُحَلّ مشاكلها بحل المشاكل المهنية الخاصة بالمنجميين فحسب بقدرها هي في حاجة مؤكدة إلى الالتفات إليها بتطوير بُناها الاقتصادية والاجتماعية والعمرانية والتنموية التي لا تتحقق إلا بتخصيص نسبة من مردود مبيعات الفسفاط لتنفيذ مخططاتها . وهو إذ يختلف مع غيره من زملائه في تطلعاتهم التي يراها محدودة المطامح يظل محِبّا لهم عاطفا عليهم مدافعا عن حقوقهم عندما تتوفر له الفرص لذلك .
وهذا الإحساس يجعله يتساءل عن علاقة اسمه بتصرفاته ، فهو يُدعى النوّي ؟ أحيانا يعتقد أن النوي مشتق من النّيّة لآن الأعمال بالنيات ولكنه يتخلى عن هذه المقاربة لأنه ـ ربما ـ متيقّن من أنّ أعماله كلما قد تحققت بالممارسات لا بالنوايا رغم يقينه بأن نواياه لم تكن طيبة مع مسئولي المنجم سواء أكانوا فرنسيين في عهد الحماية أم تونسيين تسلموا منهم مشاعل التسيير، لأنهم ساروا على نهجهم فحرصوا على تحقيق مصالح الشركة ولم يفكروا في توفير الضرورات الدنيا للعمال ومحيطاتهم .
ويظن كذلك أن النوّي مشتق من النوء وهو المطر الذي يحيي الأرض بعد موتها ، أو هو النوء الذي يعني غروب النجم ،إلى جانب اشتقاقات وتأويلات أخرى تأكد من أنها لا تضيف إلى أفعاله ولا تنقص منها ولا تتفق معها.
فمن هو النوّي في هذه الرواية ؟
ملخص سيرته يقول إن أباه تنقل للعمل بين مناجم المتلوي وأم العرائس والرديف وتوفّي في سنّ الثلاثين من عمره تاركا أربعة أولاد وأربع بناة وكان النوي في سن الرابعة عشرة فاضطرّ إلى العمل بالمنجم بعد الإدعاء بأن عمره ست عشرة سنة وهو السن الذي لا يُقبل للعمل قبل بلوغه بالشركة الفسفاطية في عهده. وفي الرديف تعرّف على زميل كهل يحمل اسمه فأحاطه هذا الأخير بعطفه بعدما تبيّن أنه من معارف أبيه الذي زامله في الداموس ،ويذكر هذا الرجل أن والد العامل الشاب كان مثالا يحتذى به في الكرم واللطف وحسن المعاشرة . لذلك أحاط بنجله وعلمه الكثير من فنون المهنة كي يتجنب ما حصل لوالده .
يقول النوي بطل الرواية :أعتقد أيضا أن اسمي قد اقتبسه والدي من اسم هذا الرجل الطيب موَدّة وإكراما.
وبفضل توجيهات النوي الكبير أصبح النوي الصغير يعرف متى يتحرّك غول الجبل ويهتزّ مُرْتجا معلنا عن اقتراب سقوطه على الرجال العاملين بأغواره ، كما يذكر أن صديق والده قد ساعده على تخطّي رتبة العامل البسيط ليصبح " بوازور Boiseur " خشّابا يركّب الرّكائز الخشبية Pilliersالتي يتم تسقيفها بمثلها للحيلولة دون انهيار ضغط الكهوف على من تحتها .
وعند بلوغ الشيخ النوي ـ ابن الرديف ـ سن التقاعد وفّر للنوي الشاب السكن في منزله وزوّجه ابنته التي أحسنت معاشرته وأنجبت منه أبناء وبنات حرص عل حسن تربيتهم وتعليمهم . كما كان يزور أمّه في المتلوي ويقدم لها بعض المساعدات المالية والمشتريات التي يقتنيها من المتجر المنجمي الكبير الذي يسمى المقتصديةEconomat وهو الذي فتحته الشركة اثر انتصابها لاستغلال الفسفاط ليتزوّد منه إطاراتها وأعوانها وعمالها بالمواد الغذائية ومستلزمات الكساء والتنظيف وغيرها سواء بدفع أثمانها بعد تسلمها أو بتسجيل مبالغ شرائها في كنشات لخصمها من أجورهم النصف شهرية أو الشهرية .. وكانت أمه تقوم بتربية الدجاج لبيع بيضه أو فراخه إلى جانب الأرانب التي تضع الكثير من صغارها شهريا مع استغلال أرضا بيضاء مجاورة لمنزلها كانت تصلها المياه الضائعة من الحنفية العمومية بالحي حيث قامت بحرثها وزرعت فيها بعض الخضر التي تبيعها للجيران . ولا تكتفي بفعل ذلك لأنها كانت تحوك البرانيس والمفروشات وبذلك تقدر على توفير مصروف ضروري لمعيشة الأسرة المتكوّنة من أشقائه الثلاثة وشقيقاته الأربع اللواتي كنن يساعدنهما على ما تقوم به لضمان لقمة العيش.أما النوي فقد اعتنى برعاية أبنائه وبناته وأنفق على أخيه أحمد لينهي دراسته في مجال الطب ويصبح مشهورا في مجاله خصوصا بعد استقراره للعمل في الولايات المتحدة الأمريكية التي يتوفّر فيها على مداخيل ماليه خيالية ساعدته على شراء قصر بالمرسى في الضاحية الشمالية لتونس العاصمة ويضعه على ذمة أخيه اعترافا برعايته له التي أوصلته إلى ما هو فيه فيتحوّل النوى من المتلوي إلى المدينة المذكورة للسكن في القصر صحبة زوجته خديجة بمعية ابنته جميلة وزوجها المقاول فتحي وصغيرتهما هناء بعد أن أقنع صهره بتأجير مسكنهم والإقامة في القصر لمؤانسته وزوجته . وتختم سيرة الرجل بتوجهه إلى البقاع المقدسة لأداء فريضة الحج ووفاته ودفنه هناك .
هذه سيرة مخملية لعامل منجمي ضحك له الحظ فلم يُنه حياته في ظروف صعبة كأغلب عمال المناجم الذين يحالون على التقاعد لمحدودية الجرايات ، وإنْ كان البعض منهم يختم مشواره المعيشي في شبه راحة وهدوء نفسي،ربما لأن أبناءه قد استطاعوا إن يحققوا النجاحات في دراساتهم ليحصلوا على وظائف راقية تساعدهم على إمتاع آبائهم وأمهاتهم بما لم يتحقق لهم في رحلة الجهاد المنجمي الصعب .
وفي مدارات حياته بعد التقاعد يربط النوي علاقات مع أناس من ذوي المستويات التعليمية والثقافية المحترمة ولم نقرأ في الرواية ما يبرر أية علاقة أو حوار مع الناس العاديين إذا استثنينا حواره أثناء السفر إلى المرسى على متن سيارة جاره منصور المتعصب لأطروحات حزب يسيطر على مفاصل الدولة بتوجهات الإسلام السياسي إذ يقول" .. لا بدّ من تصحيح الاعوجاج الذي ساد البلاد لفترة غير قصيرة ، والحمد لله وحده الذي جعل حركتنا التونسية وكل من فيها وينتمى إليها يبقى تونسيا وليس أجنبيا ، وهي التي تصحح ذلك الاعوجاج ، أو جاره إبراهيم الذي أعلمه هاتفيا من المتلوي بوجود اسمه في قائمة المقبولين لأداء فريضة الحج .أما جلساؤه في المقاهي ـ التي لم يجالس أحدا من أصدقائه ومريديه خارجها ـ فهما عبد القادر المتخرج بأستاذية من التعليم العالي ويعاني من البطالة ومحسن وهما اللذان يتبادلان معه الأحاديث عن أحوال البلاد بعد الثورة التي لم تتحقق وعودها وعن سياسيين لا يعرفون الشعب وعن نظام مخترق من طرف الفاسدين وعن ظلاميين جاؤوا بعد غروب السلطة الحاكمة السابقة فتسلطوا على الحلم .أما الشاب عبد الرزاق فإنه مخالف لهما في مجالسهما في ما يصرحان به لأنه متعصب حتى النخاع لأفكار الإسلاميين السياسيين ويكره العلمانيين ويكفّرهم .. وهؤلاء من الشباب ، وكذلك هشام الذي يلتقيه في مقهى الصفصاف بالمرسي وهو من أعيان المدينة وأخ المالك الأول للقصر الذي اشتراه أحمد وقد أخبره بأنه يفكر في مغادرة البلاد إلى فرنسا لأنّ وضعها لا يطمئن ، والمهندس الذي اشتغل بالمناجم وغادرها بعد التقاعد وقد أصبح سواد شعره بياضا واشترى شقة في حمام الأنف للإقامة فيها .
هؤلاء جميعا مستاءون من أحوال البلاد لكنهم متيقنون من أنّ الشباب هو القنديل الذي سيضيء دروب الحياة .
ويذكر النوي ابنه نبيل المقيم في أمريكا للدراسة بإحاطة من عمه أحمد ولا يفكر في نسيان الوطن والأهل عكس أخيه صالح الذي استغل فرصة إرساله في تربص مهني بفرنسا من طرف شركة الفسفاط فأقام هناك وانخرط في العمل بإحدى المؤسسات بسانت دينيس وتزوّج من فرنسية وقطع الصلة مع الأهل والزملاء والأقارب والأصدقاء إلى درجة أنه لم يحظر جنازتيْ والديه عند وفاتهما
لا وجود لتعقيدات في مراحل حياة النوّي ولا لتشنجات مفروضة من مجريات العمل المنجمي الذي يتسم القسوة والمخاطر وهضم حقوق المنتمين إليه وترويع الكثير من العائلات التي تفقد بعض عناصرها في حوادث شغل مفاجئة ، فهذا الرجل استطاع أن يخطط لوجوده كما يريد أن يكون، لذلك فإننا عند قراءة رواية " قنديل الثنايا " نتصوّر أنّ الرجل يتحرّك في مساحات خرافية جميلة لا يستطيع أن يقترب من فضاءاتها غيره من عمال المناجم الذين أخبرتنا الروايات التي تطرقت إلى أوضاعهم أنهم يشْقون ولا يلقون .
ولئن استطاع النوي أن تكون علاقاته مع من واظب على مجالساتهم ومحاوراتهم متسمة بالودّ والحكمة والتأثير عليهم بسداد رأيه وتحريضهم على تجنب الأحكام المرتجلة والانسياق وراء الزائف والمظلل فإنه لم يتمكن من تطبيق تلك الوصايا على نفسه عندما أوقعت به فتاة لعوب وفاتنة تعمل في المقهى الذي يجلس فيه بالمرسى وأسقطته في فخّها الناعم بمختلف طرق الإغراء حيث كانت تجلس أمامه وتتعرى من مواقع حسّاسة مستدرجة إياه للارتباط بها في زواج متعة ومؤثرة عليه بكلامها السحري للتحوّل معها إلى شقتها في إحدى العمارات ، وقد أطاعها في ذلك. فأوشك على السقوط في الجبّ ولولا إيقافها ومن وجدوهم معها في شقتها وأغلبهم من الكهول بتهمة تعاطي البغاء السري .
وقد ظلّ النوّي يعاني من حالات رُعب لم يعش مثلها سابقا خوفا أن يرِد اسمه على لسانها في التحقيق فتنتشر الفضيحة بين أسرته أهله وأصدقائه وأبناء مسقط رأسه وهو الرجل الذي عُرف لديهم باستقامته رجاحة تفكيره والمتهيئ لأداء فريضة الحج .
وهذه الحالة ناتجة دون شك عن اصطدام الرجل بسلوكيات مغايرة لما ألفه في مسقط رأسه الهادئ والمتأصل في الحفاظ على الأخلاق الفاضلة والتعامل النظيف بين أفراده . فهو رجل لم تمرّ على إقامته في مدينة المرسى المُغرِية بكل ما فيها أكثر من ستة أشهر.. وهو الذي لم يجالس فيها إنسانا كان من الممكن أن يحذره من الوقوع في فخاخ الإغراءات والزلات التي تحدث كثيرا في ذلك المكان .. لذلك فإنّ ما حدث له يعتبر صدمة من صدمات التمدّن المفاجئ وتغيير مناخات العيش دون الاهتداء بخارطة طريق تكون له دليلا عند تغيير وجهة حياته .
ما يمكن الوقوف أمامه بعد قراءة الرواية هو :
أولا :أن صاحبها قد اختار لها عنوان " قنديل الثنايا " ليؤكد لقرّائه على أن للحياة مسالك بعضها مجهول ولا يمكن عبورها دون ضياع إلاّ بنشر الأضواء فيها لاتضاح مساراتها . وإن النوّي بطل الرواية قد تمرّد على الواقع المنجمي المتردي وشقّ طريقه المضاءة بتخطيط محكم ساعده على وضعه أخوه الطبيب بالولايات المتحدة الأمريكية .
هذا جيّد .. أما ما هو مثير للتفكير فهو انشغال المؤلف بما يجب أن يفعله عمال المناجم لتحسين ظروف حياتهم لا ليصبحوا كزميلهم النوّي ـ لأن ذلك لن يحصل ربما إلا للقليل منهم الذي قد لا يتجاوز أصابع اليد ـ بل لتحلوَ لهم الحياة في ربوع عملهم وسكناهم التي يجب أن تأخذ حظها من التنمية والتطوير والتجميل لتتحوّل إلى أماكن يطيب العيش فيها.
ثانيا :من المؤكد هو أنّ أيّة رواية تتّكئ عند نسج أحداثها على أماكن متعددة يتحرّك فيها البطل ومن تفاعلوا معه فيها ، بينما يكتشف القارئ في " قنديل الثنايا " أنّ الأماكن المستذكرة التي احتضنت تحركات النوّي في طفولته وشبابه هي محيط بيت أسرته وبيت صهره ومنجمَيْ المتلوي والرديف لا غير ، أمّا الأماكن المُعاشة أثناء السرد فهي المقهى الذي التقى فيه الشبان عبد القادر ومحسن وعبد الرزاق في المتلوي وسيارة منصور التي نقلته وزوجته إلى المرسى والقصر التي وضعه أخوه الطبيب أحمد على ذمته في تلك المدينة والمقهى الذي أصبح محبذا له الجلوس فيه وشقة القناة اللعوب التي كادت تجرفه نحو الرذيلة وبيته في المتلوي أثناء التحضيرات للتوجّه إلى البقاع المقدسة لأداء فريضة الحج .وهذه أماكن قليلة ومغلقة .
وإذا لم يكن النوي قد أطلّ علينا ، بعد إحالته على المعاش ، من أماكن أخرى شاهدة على أفعال قام بها فيها فلأنه كان مقتنعا بأنّ المنجَمي المتقاعد لا تتوفـّر له فضاءات كثيرة لقضاء أوقاته وإبداء آرائه وعرض خبراته ، ولعل حاله قد كان أفضل من أحوال المتقاعدين من المناجم الذين تمتلئ بأغلبهم المقاهي لممارسة ألعاب الورق والديمينو والجلوس المجاني أو لا يجدون ملاذات في غير المساجد أو يلوذون بالحانات أو يقبعون في مساكنهم الساعات الطويلة التي قد تضايق ذويهم بتدخلهم في ما لا يعنيهم .
أ
محمد عمار شعابنية
المتلوي / تونس