خديجة ناصري - الإنسان الحداثي وسؤال الكونية

يعد مفهوم الحداثة من أكثر المفاهيم الشائعة في ثقافتنا المعاصرة، وأكثرها عصيا على التعريف، إذ ليس من السهل الإمساك بمصطلح الحداثة أو الوقوف على تعريف شامل لها، وبهذا تعددت المقاربات الفلسفية، وتباينت التعريفات بشأنها، وعلى اختلاف هذه التعريفات فإنّها تتفق على أنّ الحداثة تحمل في طياتها قيم القطيعة والتحول والتغير داخل المجتمع، "فهي في جوهرها عملية انتقالية تشتمل على التحول من نمط معرفي إلى نمط معرفي آخر يختلف عنه جذريا، وهي انقطاع عن الطرق التقليدية لفهـــــــــــــــــم الواقع وإحلال أنماط معرفية فكرية جديدة"[1] بحيث تتجاوز جميع أشكال التقليد، بوصفه يشمل مجموعة من التصورات التي تنبني على الماضي، وتتجسد في الحاضر، فمهمة التقليد هي الحفاظ على الأوضاع القائمة التي تقدس الماضي، في معركة دائمة مع كل ما هو جديد ومختلف. فالحداثة هي موجة حضارية معاكسة ومناهضة لكل ثقافة تقليدية، والتي تعتمد في وجودها على الموروثات والمسلمات التاريخية من الأفكار والتصورات، سواء كانت سماوية أو من إنتاج العقل البشري.
وعليه تكون الحداثة هي تلك الرؤية الفلسفية والثقافية الجديدة للعالم، التي أعادت بناء وصوغ الإدراك الإنساني للكون والطبيعة والاجتماع البشري على نحو نوعي مختلف، أنتج منظومة معرفية وثقافية واجتماعية جديدة. بما هي حركة فكرية حديثة وشاملة تتحدد كرؤية جديدة للعالم، أذنت بميلاد نظام معرفي جديد في أوروبا، والذي يجعل من العقل السلطة المرجعية المعرفية الوحيدة في إدراك العالم، وتكريس الإنسان كهدف للتحرر والتقدم، وهذا ما دفع بكثير من المشتغلين في حقول المعرفة أن يجعلوا الحداثة مرادفة لفكر الغرب وتعبيرا عن قيمه وتصوراته وعن موقفه من الكون والإنسان. ولكن هل صحيح أنّ الحداثة، كسؤال فكري وكمشروع حضاري، تلازم التحرك التاريخي للغرب منذ تشكله الحديث إلى الآن ولم تمس الثقافات الأخرى؟[2].
وجواب هذا السؤال نلمسه في قول "آلان تورين":" قارب الحداثة يحملنا جميعا، يبقى فقط أن نعرف هل نحن ملاحون أم مسافرون يحملون أمتعة"[3]، صحيح أنّ الحداثة حركة ولدت ونمت داخل التراث الأوروبي، وارتبط ظهورها بوضع تاريخي معين يعد بمثابة الأصل فهي مشروع أوروبي في موطنه ونشأته، لكنه عالمي في أبعاده وامتداداته. من حيث هي ثورة ضد كل قديم، تتجه صوب الجديد بقطع الصلة بكل ما هو ماضي واستثمار معطيات الحاضر من أجل بناء المستقبل.
ان الحداثة كمشروع فكري عملي كما يقدمه لنا المشتغلين في السياق المعرفي على اختلاف تخصصاتهم وتوجهاتهم، يروم لتغيير التركيبة الذهنية المجتمعية ونمط العيش البشري وذلك بالسعي نحو بناء مركب حضاري جديد وفق رؤية تجاوزية لكل ما هو تقليدي في محاولة لعصرنة جل مظاهر الحياة المادية منها والمعنوية والعمل على استحداث أنماط التفكير والسلوك أي الاشتغال على بناء انسان أكثر تحضر وثقافة وأكثر قدرة لتعاطي مع مستجدات الحياة الدائمة التغير، واذا ما سلمنا جدلا بهذه المقاربة المعرفية للحداثة فان ذلك يقودنا للتأكيد على ان الحداثة ليست مخصوصة بالعالم الغربي كما يصور لنا ذلك بعض المفكرين في إشارة الى ان باقي الشعوب ماتزال تعيش في عصورها البدائية بعقلية رجعية منغلقة ترفض كل ما هو جديد، والامر يبدو غير ذلك في واقع الحال، فاذا ما عدنا لمجتمعاتنا العربية فان جل مظاهر الحياة فيها تشير الى انها تعيش الحداثة اكثر من الغربيين انفسهم، بل لا تكاد تجد مظهر من مظاهر الحياة المعاصرة في حركاتها وسكناتها له صلة بالثقافة العربية الاصيلة، سواء تعلق الأمر بأسلوب العيش أو طريقة التفكير فصرنا اذ ذاك نعيش عصر الانسان ذو البعد الواحد كما أسس لذلك الفيلسوف "هربرت ماركوز"، وهذا ما يوضح في جلاء ان الحداثة لم ترمي بضلالاها على المجتمعات الغربية دون سواها.
ورب معترض على القول ممن يسوق لفكرة ان باقي الشعوب الغربية خاصة العربية منها أخذت من الحداثة الظاهر منها لا الباطن، مع أن المتأمل في السياق الحداثي الغربي يتبين له أنها في الأصل لم تكن بتلك الحضارة ذات المبادئ والقيم الإنسانية السامية، فاذا نظرنا لمخلفات المشروع الحداثي الغربي بما يحمله من شعارات الحرية والعدالة والمساواة وغيرها، فان المجتمع الغربي غارق في اوهامه اكثر من غيره من الشعوب، وما نشهده على الصعيد الحياتي للفرد الغربي من انتشار للجرائمة في ابشع صورها، وعلى الصعيد العلائقي من تشتت أسري وما تبعه من ضمور القيم الإنسانية والإحساس بالآخر، وعلى الصعيد الأخلاقي من تفسخ القيم السامية، وغير ذلك كثير.
كل هذا يحينا للقول ان الحياة داخل اطار الثقافة الغربية اسوء حال من غيرها من الشعوب خاصة العربية منها، واذا كان مما لا يخفى على عاقل ان مجتمعنا العربي يعاني من افات لا حصر لها، لكنها لا تصل لذات الحدة التي بلغتها المجتمعات الغربية، واحتكاك الفرد العربي بالثقافة الغربية وبمشروعها الحداثي ليس سلبي في مجمله كما يحلو للبعض تصويره، فقد ساهم ذلك في تهذيب سلوكه، والتخفيف من عدوانيته، وتنظيم أسلوب حياته، قد لا يرقى ذلك للمستوى المطلوب لدى البعض لكنه يمس شريحة مجتمعية واسعة، ممن أسسوا حياتهم على نمط عيش ذو قيمة نوعية.
وهذا من شانه ان يقود لتجاوز إخفاقات الحداثة في السياق الغربي، اذا ما تعامل الفرد العربي بذهنية انتقائية، وبرؤية نقدية فاحصة، وذلك ليس ببعيد اذا ما احتكمنا لقيمنا الإسلامية السامية، دون المبالغة في تقمص أدوار الغير، سواء تعلق الامر بالآخر المتمثل في الغرب الحامل لقيم الحداثة، او الانا-الاخر المتمثل في السلف السابقين ممن نستمد منهم قيمنا.

المصادر والمراجع
1-هشام شرابي، النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي، ترجمة ماهر شريح، دار نلسن، الطبعة الرابعة، السويد 2000م، ص39.
2- ينظر: محمد سبيلا، الحداثة وما بعد الحداثة، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى، المغرب 2000م.
3-آلان تورين، نقد الحداثة، ترجمة أنور مغيث، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، مصر، 1997م، ص270.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى