عبد الرحيم كلموني - جوليا كريستيفا: المُعْتَقَد لا ينحصر في الأديان

في حوار أجرته معها مجلة لوموند الأديان (العدد 89) ترى جوليا كريستيفا Julia Kristeva اللسانية الشهيرة والفيلسوفة والمحللة النفسية، صاحبة كتاب " هذه الحاجة الخارقة إلى الاعتقاد" Cet incroyable besoin de croire الصدر عن دار بايار سنة 2007، أن الاعتقاد حاجة عالمية أساسية يجب أخذها على محمل الجد. تدافع الكاتبة، في مواجهة الأصولية المستشرية في العالم، عن الإنصات الناقد للأديان.
فحوى هذه الحاجة الخارقة للاعتقاد أن هناك حاجة كونية إلى الاعتقاد تبرز منذ الأيام الأولى من بناء هوية الطفل. ما هي مراحل البناء النفسي المؤدية إلى الحاجة إلى الاعتقاد؟
تقول المحللة النفسية والكاتبة الذائعة الصيت، إنها من خلال إنصاتها كمحللة، ولكن أيضا من خلال مسيرتها كامرأة ، تمكنت من ملاحظة أن تطور الطفل يتكون من التغلب على الاعتماد على الأم. في حين أن تمزق الحبل السري يميز الطفل عن الأم على المستوى البدني، فإن الطفل لا يتصور على الفور حدودا بين "أنا"ه وجسدِ الأم. بالاتحاد مع أمه ، يبدي "الإحساس المائي" sentiment océanique ، وفقا لِفْرُويْدْ ، وهو شكل من الملاءمة الحسية واليقين المبتهج للانتماء الذي يشكل تجربة أولية في الإيمان. وإن وجود طرف ثالث في اتحاد الأم والطفل يدشن انفصالهما. من خلال التعرف على الأب المحب ، الذي يرى الطفل كائناً كامل الوجود ، يدرك الطفل أنه ليس أمَّهُ، وبالتالي يتمثلها كآخر. يتم الحفاظ على العلاقة مع هذا الآخر بالأصوات. هذه هي الكلمات الأولى ، وظهور الكلمة ، والتي جعلت من المسيحية معجزة. ومع ذلك ، فإن إنشاء الفونيمات يشبه استثمارا: بواسطة اللغة يتأكد الطفل بأن الام تطعمه من جوع، تومنه من خوف. ترى الكاتبة أن هذا الاستثمار هو فعل اعتقادي حقيقي. مثلما يتعلق الأمر بالنسبة للمستثمر المالي الذي يتطلب الاعتقاد في النظام البنكي. الاستثمار في العلاقة مع الام، بواسطة اللغة، يستدعي تمثل الأم بوصفها آخر. وهي الأخرى تتوقف على اعتقاد الأب المحب في وجود الطفل كذات مستقلة.
طوال سنوات العمر تبحث الذات المتكلمة عن الاتصال من جديد بالمكونات الأولية لهويته عن طريق تجديد تجارب الاعتقاد المرتبطة بالإحساس المائي والتماهي بالأب المحب. تحيل الكاتبة على مفهوم لاكَانْ «le parlêtre» (مصطلح لاكاني يدل على الكائن الإنساني بوصفه مخلوقا يتحقق وجوده بواسطة الكلام) الذي يبدي رغبة عارمة في الإيمان. ومن هذه الرغبة برزت الأديان في كل المجتمعات، وفي كل العصور. في أوروبا العلمانية ينظر إلى المعتقد بوصفه شيئا مهجورا لاعقلانيا فقد كل معنى. ويغذى هذه النظرة ما تتضمنه الأديان من عناصر مناوئة للحرية.. يجب التذكير بالحاجة الكونية للاعتقاد.
تشير الكاتبة جوابا عن سؤال يتعلق بإشكالية إنكار الحاجة إلى الاعتقاد، إلى أنها لاحظت، وبالاستناد إلى فْرُويْدْ، بان هذه الحاجة تحتد مع المراهقة: فالمراهق يحتاج الى الاعتقاد بمثل أعلى كي يتجاوز نفسه، يفارق والديه ويضمن موقعا له في الحياة. هذا الاندفاع الباني عنيف لأنه يترافق مع ما يسميه فرويد دافع الموت هذا الدافع المدمر الذي يسمح بالتخلص من الماضي لأجل التقدم إلى الأمام. حين لا تتم تلبية هذه الحاجة للاعتقاد يرتد دافع الموت على نفسه -بالتخريب والانتحار- أو الهمجية أو التمرد الدائم. أو ما يسمى مرض المثالية.
تشير الباحثة إلى المجتمع الغربي الحديث حيث يتم إنكار الاعتقاد يظل الاعتقاد المراهق غير ملبى. في غياب طقوس أولية تدمج المراهقين في مجتمعات أخرى، إضافة الى تفكك الاسرة صار المراهقون أكثر فأكثر هشاشة إزاء دوافعهم. والتشدد الديني يستغل هذه الهشاشة عن طريق تمكين الشباب مما ينقصهم: مثل عليا، اعتراف بالذات، طائفة ينتمون اليها...
وعلى سؤال حول الطابع الاشكالي للأجوبة التي تمنحها الأديان تجيب المحللة النفسية بأنه يوجد هناك بالطبع خطران: فالديني يحصر الاعتقاد في مثل اعلى لفضيلة مطلقة تؤدي الى الانغلاق في اخلاق مغلقة. الخطر الثاني يتعلق بتحويل هذا المثل الأعلى إلى عنف: كل ما ليس طاهرا يجب إقصاؤه. نجد هنا الانتحاري والجهادي ... كل من يتمجد بالقتل باسم الطهر...
كيف يمكن ان تحمل المجتمعات الحديثة على محمل الجد هذه الحاجة للاعتقاد دون السقوط في مزالق الأديان؟ تجيب المفكرة بأنها تدعم لائكية واضحة المعالم قادرة على مواجهة التشدد. زتشير الى ان الحضارة الأوروبية هي الوحيدة التي كانت لها الجرأة لمواجهة تجاوزات الأديان بإقرار العلمانية. مع ذلك يجب بذل مجهود في تأويل المعتقدات بكل أشكالها. لأنه إذا كان الاعتقاد حاجة كونية فالمعرفة بدورها كذلك. اللاهوت يراجع هذه الثنائية في شكل تعارض بين الإيمان والعقل.
توافق الكاتبة على تعليم مدرسي موضوعه الواقعة الدينية ليس بوصفها تعاليم دينية من خلال معارضتها للعقل، ولكن بوصفها سؤالا عن الجذور النفسية والأنثروبولوجية للاعتقاد: مصدر هذا العقيدة أو الشعيرة؟ ما سبب التزامي بها؟ ما الانفعالات العلاقات الكلمات التي تقوم بتعبئتها؟ يمر هذا العمل على قراءة النصوص الأساسية المؤسسة، تعلم تاريخ الأديان والعلمانية فضلا عن الادب. (تستشهد الباحثة ببروست Proust ، باطاي Bataille ، دوستويفسكي) ، كل ما يفسر البواعث النفسية للمعتقدات الدينية. ولكن ولإرساء تعليم كهذا ينبغي-تقول الكاتبة- أن نثق أخيرا في قدرة المعارف الحديثة على مقاومة " عدوى " دينية مفترضة. علينا مواجهة قارة الدين دون الخوف من أن تبتلعنا.
وتنهي الفيلسوفة حوارها بالتعبير عن تقديرها، على الرغم من إلحادها، للدين (تقصد المسيحية) حيث التفرد المتقاسم الذي كان أساس حقوق الإنسان... لكن مع انحلال الهويات بسبب انتشار الشبكة العنكبوتية وشيوع النزعة الاستهلاكية...حل محل التفرد قلقٌ مُتَفَشٍّ. تبدي الكاتبة تفاؤلا ناجما عن نزعتها الإنسانية التي بمقدورها أن تزرع هذا التفرد المتقاسم عن طريق الإنصات للأديان وفي نفس الوقت القطيعة معها.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى