مدخل إلى التفكير في المسألة
"السلطة الرمزية هي سلطة لا مرئية و لا يمكن أن تمارس إلا بتواطؤ أولئك الذين يأبون الاعتراف بأنهم يخضعون لها بل و يمارسونها " بيار بورديو.
1 ـ على سبيل التقديم :
يتحدّد التواصل عموما باعتباره ما يصل شيئين متباعدين ، ويفيد بين بني البشر التفاهم والفهم المتبادل ، لذلك يقتضي التواصل رسائل تتوسلها رموز و وسائل تقنية. ذلك أن التواصل لا يمكن أن يتحقق بشكل مباشر وإنما يقتضي دائما وسيطا. والوسيط الرمز او العلامة ليس بذاته دال، بطريقة ما سالبة او موجبة على الحضور المحض للظواهر التي يتمّ تبادلها ، بل ان المشكل في مأسسة هذه الرموز و تحولها الى انظمة للفكر وللانسان ، سلطة رمزية بعبارة بورديو، لها استقلاليتها الظاهرة ، لكنها تتكشف في الحقيقة على مفارقة الخضوع والاخضاع، وهو ما يصدق على الفن بل و على الأسطورة والدين وحتى المعرفة العلمية . فنتسائل ان كانت الرموز سلطة لنا ام علينا ؟ ان كنا واضعين لها ام خاضعين ؟ وان كانت الرموز بقدر تقدمها في خدمتنا بقدر تغولها علينا ؟
اذا كان التواصل لقاء بالغير و انفتاح عليه و اشتراك معه في إنتاج المعنى و الدلالة ، فإن التواصل يشترط وسيطا نتوسل به ومن خلاله اللقاء . والوسيط هو ما يحتل منزلة الوسيلة التي تصلنا بالعالم و بالآخرين أو يكون بمثابة رؤية من خلالها ندرك الأشياء، و داخلها ينتظم العالم و يكتسب معنى. إن كلّاَ من اللغة و العلم والفن و الدين و الفلسفة يمثل اذن بهذا المعنى وسائط . (كتاب الفلسفة للسنة الثالثة آداب ص 58 ) من ثمة اكتست الوسائط – الرموز والعلامات معنى وقيمة .
2 ـ إحراجات:
إذا كان التواصل بين البشر يحتاج ضرورة الى وسائط يصنعها الانسان ذاته، ألا يدعونا هذا الى النظر في التواصل من جهة منزلة هذه الوساطة : هل هي ما يؤمّن التواصل أم هي التي تعطله و تنحرف به إلى غير مقاصده ؟ وهل هذه الوسائط تقول حقيقة العالم ام تقف دونها ؟ وهل الرموز سلطة بيد الانسان ام سلطة عليه ان ياخذها بعين الاعتبار ؟ وهل تحوّل الانسان من واضع الى خاضع لها اليوم بعد التقدم التقني والفني الذي عرفته العولمة الراسمالية ؟ وهل تنوع الوسائط وتطورها اغناء لحياة الانسان واثراء لها ام افقار للذات الانسانية حد الاكراه او القتل الرمزي لها ؟ .
3 ـ التخطيط المُفصّل:
ومفهوم التواصل تتجاذبه حقول معرفية بالغة التنوع ( علم نفس – سيبرنطيقا- لسانيات- انثربولوجيا-سيميولوجيا- ميديولوجيا – الخ) تكاد تشمل كل المنتوج الإنساني، فكل ما يمكن أن يشتغل كرابط بين الإنسان وما يوجد خارجه، وكل الأشكال الثقافية التي تتحدد من خلالها هويّة الأفراد وتخبر عن انتماءاتهم إلى ثقافة بعينها - لغة ولباسا وطقوسا ونمط عيش - يجب النظر إليها باعتبارها " وقائع إبلاغية " أي رسائل تندرج ضمن حالات الاجتماع الإنساني الذي يتخلى داخله الفرد طوعا عن عالمه الخاص لكي يندمج في عالم الآخرين.
وعلى هذا الأساس، فإن الظواهر الإنسانية في كليتها لا يمكن أن توجد خارج رغبة الكائن البشري في التواصل مع غيره بشكل مباشر أو غير مباشر، فمجموع ما ينتجه الإنسان عبر لغته وأشيائه وجسده وإيماءاته وطقوسه ومعماره ، يندرج ضمن سيرورة تواصلية متعددة المظاهر والوجود والتجلي إلى الحد الذي يجعل الثقافة في كليتها سيرورة تواصلية دائمة . وتلك هي الحالة التي يصفها امبرتو إيكو وهو يتحدث عن حقل السميائيات وموضوعها . فالسميائيات هي دراسة للثقافة باعتبارها النموذج الكلي الذي يشتمل على كل حالات التواصل الإنساني. فلا يمكن تصور النشاط الثقافي - العنصر المحدد للوجود الإنساني - إلا من خلال زاوية تواصلية.
والحاصل ان الفعل التواصلي –كتقنية اخبارية – لم يعد يقتصر على علوم السيبرنطيقا (مع نوربيرت فينر1894 - 1964 ) او هندسة الاتصال ( مع كلود شانون المهندس أمريكي) و لا حتى المجال اللساني (مع دي سوسير وجاكوبسون) ، بل ليتعدى حقله الدلالي والوظيفي جميع مجالات الفعل الانساني ، وان كان جاكوبسون سيستفيد من خطاطة شانون ، ليرسم خطاطة تتعدى المجال التقني البحت الى تمثل البعد العاطفي والانفعالي عند الباث والمتقبل ، يرتسم فيها بين الباث والمتقبل حقولا ابعد للدلالة ، تكون الرسالة فيها او ما يراد تبليغه على اتصال مباشر بقناة البث او الوسيط مع ما تتركه الرسالة من اثر عند الباث والمتلقي على السواء كما يلي:
وذهب رولان بارط و غريماس و يلملسلف الى توسيع الحقل الدلالي للسيميولوجيا الى مجالات ابعد ، تتعلق بالمعيش اليومي للانسان مثل السرديات والكتابة والصورة والاشهار واللباس ... (انظر مثلا كتاب مبادئ في علم الادلة élements de semiologie لرولان بارط ترجمة محمد بكري –الدار البيضاء فيفري 1986) او( راجع مفردة سيميولوجيا في الكتاب المدرسي في نافذة دعائم التفكير ص 146-147). ما سيدفع الفيلسوف الالماني يورغن هابرماس الى استنباط مصطلح "تواصلية" communicationnel ، ليحيل على بنية الفعل التواصلي بما هو ايتقا للحوار ، انتصارا للحوار الفلسفي الخاضع لضرورات العقل مقابل هيمنة الاهواء والمصلحة .(راجع نص هابرماس في الكتاب المدرسي وحواشيه ص 100-101).
C 2- الانسان والرمز :
في تعريف الرمز والعلامة :
الرمز هو صورة الاحساس ومعناه ، وهو تمثيل مكثف للشكل الخارجي ، للشيء او تعبير عنه ، فليس الرمز نسخة للواقع رغم احتوائه لمقومات الشكل الاساسية بل علامة او اشارة تحيل الى استحضار شيء غائب . فهو يؤسس علاقة مماثلة بين شيئين احدهما مرئي يشكل علامة محسوسة ، و الثاني لامرئي وغير محسوس يعد موطن الدلالة التي يحملها الرمز ، و يعمل الذهن على تمثلها.(انظر التدقيقات المفهومية في الكتاب المدرسي ص148).
وكلمة symbole في اللاتينية اصلها اغريقي sumbolon ، مشتقة من فعل sumbollein ويفيد "وَصَلَ –جَمَعَ-قَرَنَ " فالرمز في اصله الدلالي اللغوي العلامة ، التي تجمع شيئين متباعدين يكونان وحدة واحدة فهي كما يعرفها لالاند في معجمه "علامة تعارف تتكون من نصفين عندما نجمعهما نكون كلمة سر" كما في التقليد الاغريقي، ان نتعارف من خلال قطعتي نقود منفصلتين او ميدالية او آنية ، يكون جمعهما دليل تعارف شخصين ، دائن ومدين او ضيف ومضيف وطرح هويته للاخر .
اما العلامة signe ، فهي ابعد من الرمز قد تكون حسية حركية او بصرية مرئية ، ترمي الى اثارة سلوك ما في المتلقي، كصفارة الانذار او اشارات المرور او التعابير الجسدية وقد تكون منطوقة او مكتوبة كشان العلامة اللغوية . والعلامة تواضعية او اعتباطية غنية بالمعنى والدلالة . وان كان العلم بها ودراستها في الاصل وليد علم اللسانيات مع دي سوسير، الا ان تطور وسائل الاتصال جعل للعلامة علما هو علم العلامة او السيمياء او السيميولوجياsémiologie (العلامة في اليونانية sémeion وعلم او دراسة logos ) فعلم العلامة ، علم يدرس العلامات ومعانيها سواء اكانت لسانية او غير لسانية ليشمل الحركات والايماءات والاصوات اللحنية والصور، اي مختلف الارساليات والوسائط المؤسسة للتواصل الانساني قصد الكشف عن الانظمة الدلالية الكامنة فيها . (انظر التدقيقات المفهومية في الكتاب المدرسي ص148- 146).
يذهب "كاسيرار" الى فهم الإنسان كجزء من الطبيعة، لذلك يتجاوز التعريفات التقليدية والكلاسيكية للإنسان ، عبر الإقرار بأن الفرق بين الإنسان والحيوان ليس فرقا في الطبيعة وإنما هو فرق في الدرجة . فالإنسان هو حيوان أكثر تطورا من بقية الحيوانات ، بل انه يتميز نوعيا عن الحيوان، وهذا التميز يكمن في امتلاكه "جهازا رمزيا " " هذه "الاداة الجديدة التي يملكها الانسان وحده تحول الحياة الانسانية كلها ." فعالم الحيوان كما وصفه البيولوجي يوهان يوكسكل، يتميز بامتلاكه جهازا مستقبلا وجهازا مؤثرا ينجز الكائن من خلالهما اتصاله بالعالم وبني جنسه ، اما عالم الانسان فيزيد على ذلك بتملّكه جهازا رمزيا ، يعطي وجود الانسان لا فقط عالما جديدا بل " بعدا جديدا من ابعاد الواقع " .
في هذا السياق، يأتي نقد "كاسيرار" لروسو الذي اعتبر تحول الإنسان نحو المدنية وفقدانه فطرته الطبيعية علامة فساد لإنسانيته . ف"الانسان المدني حيوان فاسد"كما يقول في "رسالة في اصل التفاوت بين البشر ". على العكس من ذلك يذهب "كاسيرار" الى أن الأنظمة الرمزية تميز الإنسان باعتبارها نشاطا أصيلا ، لا يمكن أن يرتبط بشيء آخر غير العقل البشري، وقدرته على التكيف ، بل أكثر من ذلك لا يمكن أن نتحدّث عن واقع إنساني قبل نشاة الرموز، ذلك أنها لا تمثل انعكاسا لواقع موجود بصفة مستقلة عنها ، بل إن الواقع لا يصبح معقولا إلا بفضل هذه الرموز . وهذا يعني أن كلّ الوظائف الروحية لدى الإنسان تشارك المعرفة في الخاصية الأساسية ، من جهة كونها مسكونة بقوة مشكّلة في الأصل، قوة لا تكتفي بمجرّد محاكاة الواقع بل إعادة إنتاجه وتشكيله بصورة اخرى، وهذا يصدق على الفن تماما كما يصدق علىاللغة و الأسطورة و الدين .
C 3- التجليات الرمزية :
وهذه الاستقلالية والتسيير الذاتي للغة جعل "غوسدورف" ، يعتبرها الوسيلة الجوهرية التي تمكّن الفرد من تمثل ثقافة المجموعة التي ينتمي إليها. فاللغة هي التي تمكن الإنسان من تجاوز كينونته البيولوجية. ، وهو ما يعني أن الوظيفة الأولى للغة هي التواصل بين الناس. فأن نتكلّم هو أن نتواصل، وفعل الكلام هو فعل تمرير المعلومات، لذلك فإن اللغة هي قبل كلّ شيء رابط اجتماعي، إذ هي منظومة اجتماعية تكوّن الإنسان ذاته ، كشبكة للتبادل والمشاركة والتواصل بما هي حوار يقتضي إفساح المجال أمام الناس للتعارف المتبادل ، كمقدّمة للفهم والتفاهم . لذلك يمثل الآخر طرفا أساسيا في فعل التواصل اللغوي، ففي هذا التواصل اللغوي، يحضر الآخر حتى عند غيابه، وحوار الذات مع ذاتها هو أبسط أشكال حضور هذا الآخر. وهذا يعني أن وعي الذات بذاتها يتحقّق عبر اللغة كنظام رمزي.
وغير بعيد عن ذلك يذهب اميل بنفنيست ، الى اعتبار اللغة ملكة التعبير الرمزي بامتياز و" كل انظمة التواصل الاخرى الخطية والحركية والبصرية ...تتفرع عنها وتفترضها مسبقا ". ذلك ان العلامة اللغوية هي اصل الرموز الاخرى القديمة كلها، فالاسطورة والخرافة والحكاية وحتى الدين والفن هي مدونات كتبتها لغة ، بل هي ذاتها لغة وان كانت خاصة .ثم ان العملية الذهنية المسماة تفكيرا ليست اكثر من تنظيم للغة .فاللغة حسب بنفنيست هي اداة الفكر .
فاللغة من جهة كونها بنية كما حددها ارنست كاسيرار، تتحدد بما هي علامة : دال ومدلول - ثنائية
من وجه صوتي ووجه ذهني شكل فيزيائي ومضمون نفسي يتشكلان معا بصورة اعتباطية ، بحكم التواضع الاجتماعي الذي يفترضهما . غير ان اميل بنفنيست يذهب الى ان لهذه البنية وظيفة بل وظائف ،لا تخلو منها قصديتها الاجتماعية .لان اللغة كما يراها حتى سوسير مؤسسة اجتماعية والتاسيس الاجتماعي، يفترض ان لا تبقى هذه البنية مجرد علامة ميتة مغلقة في سياقها الدلالي والاجتماعي .فما هي وظائف اللغة ؟
يمكننا ان نحدد للغة وظائف نذكر منها :
ذلك ان علاقة الانسان بالعالم ليست علاقة مباشرة ، بل تحتاج ضرورة الى وسائط، واللغة هي الوسيط او "التعبير الرمزي بامتياز" الذي يؤسس علاقتنا بالعالم "ذلك انه لا توجد –كما يقول بنفنيست- علاقة طبيعية آنية ومباشرة بين الانسان والعالم ولا بين الانسان والانسان . فلا بد في ذلك من وسيط اي ذاك الجهاز الرمزي ، الذي جعل الفكر واللغة ممكنين ". غير ان عملية التمثل الذهني تلك معقدة ، بحيث أن وجهي العلامة اللغوية الدال والمدلول يرتبطان بصورة ضرورية بما يجعل الواحد منهما يستدعي الاخر بكيفية لم يدركها دي سوسير من قبل . يقول بنفنيست معلقا على ذلك " ان الذهن لا يتقبل من الاشكال الصوتية الا ذلك الشكل الذي يكون حاملا لتمثل يمكنه التعرف عليه والا رفضه بوصفه مجهولا وغريبا " . فما نتمثله في الذهن هو ما نسميه ، وما نسميه هو ما نراه فاللغة وسيط بيننا وبين العالم الموضوعي وبفضلها ابتدع الانسان المعرفة ، وعلمه بالاشياء . ولولاها لبقي الانسان دون الحضارة كما يقول روسو ( في محاولة في اصل اللغات ):" لو لم تكن لنا قطّ غير حاجات طبيعية لأمكننا جدًّا أن لا نتكلم أبدًا ، وأن نتفاهم على التمام بمجرّد لغة الإشارة، ولكان بمقدورنا أن نقيم مجتمعات لا تختلف كثيرًا عمّا هي عليه اليوم، أو هي أصوب تدرّجًا نحو هدفها ". بل ان نيتشة رغم نقده للغة وفضحه للخطاب المنتج للوهم، يعترف بدور اللغة في انتاج المعرفة حين يقول (في انساني مفرط في انسانيته) : "ان اللغة هي فعلا اولى درجات السعي الى اكتساب العلم انها الايمان بالحقيقة المكتشفة التي تفرعت عنها من هنا ايضا منابع القوة الاكثر صلابة " .
ويذهب فيلسوف الظاهراتية ادموند هوسرل ، الى تاكيد هذه الوظيفة للغة متحدثا عن ما سماه "لغة كونية " للانسانية المشتركة ، هي اداة التفاهم وشرطه بين بني البشر ،" انها قدرة تعبير جماعية تحدث بشكل متبادل وسوي، وفي تعقل تام وفي هذه الجماعة يستطيع كل الناس الكلام ، وكأنهم يتكلمون عن وجود موضوعي بشأن ما يوجد هناك في العالم المحيط بانسانيته ".(انظر نص هوسرل ص 108 في الكتاب المدرسي).
يتجلى المقدس في صورة اله او قوة خارقة او كائن خرافي او عجيب لاواقعي او سحري، يثير الرعب والاجلال معا . وفي ذلك ما يشد اليه الاهتمام تلذذا ومتعة او انتظارا لعطاياه او استسلاما له خوفا من انتقامه .يقول روجي كايوا :" انما من المقدس ينتظر المؤمن كل ضروب العون وكل اشكال التوفيق ، فالاجلال الذي يبعثه في نفسه هو مزيج من الرعب والثقة ، وهو يعزو المصائب التي تتربص به فيكون ضحيتها كما .. الخيرات التي يحلم بها ".
والمقدّس الديني هو قبل كلّ شيء تجربة ، تنحو إلى أن تتجلى في صور و تمثلات رمزية . وقد بين "مايير" ان تجربة المقدّس هي ضرب روحاني من المعانقة للعالم . إنها حدس مؤسس لنوع من الحضور الغامض، لشيء يتجاوز الحدود المعتادة للتجربة الإنسانية . وهذا الشيء المغاير تماما للدنيوي يفلت من ظروف التجربة المدنسة . والمقدّس كرمز يسمح بالانفتاح على العالم المطلق، ذلك أن طقس ما يمكّن الإنسان من اكتشاف هذا العالم المطلق ، الذي يفلت بالماهية من كلّ لغة، خاصة وأن الدين هو نسق يعبّر عن ذاته بواسطة طقوس تشغل الرمز والأسطورة.
وفي هذا المنظور، تكون الأسطورة لغة المفارق، عند "غارودي" فهو لا يتحدث عن المفارق باعتباره خارجيا أو قوة فوق طبيعية ، فليس هو تعالي لرب فوقي بل تجريد رمزي للمطلق ، وهو ما يجعل من الأسطورة فعل خلق جماعي، فالأسطورة ليست مجرّد مشاركة في العالم ، بل هي رؤية للعالم تميز الإنسان، لذلك يرى "غارودي" أننا لا نستطيع أن ننعت بالأسطورة ما هو مجرّد أثر باقي من الماضي، كما لا نستطيع أن نعتبر الأسطورة مجرّد إعادة إنتاج، أو مجرّد محافظة على الحاضر باعتبارها معيارا للسلوك. وهذا يعني أن الأسطورة ليست من الماضي بل أن هناك أساطير ينتجها الإنسان اليوم . ما يخلق تقابلا بين المقدس والمدنس حسب مارسيا الياد، فعند الانسان المؤمن "المقدس يحاكي المسلك الالهي ، يقيم بالقرب من الالهة أي في الحقيقي وذي المعنى" . بينما يرى الانسان اللاديني في المقدس "عقبة امام حريته ، ولن يثوب الى رشده جذريا ، ولن يصير حرا حقا ، الا بأن يقتل الاله الاخير ، " هذا التعالق بين الديني واللاديني بين المقدس والمدنس ، يصفه بول ريكور بالتقابل بين الرمز والوثن ، هو ما يخلق ما يسميه ريكور "الاغتراب الديني " الذي لا يمكن حله الا ب"ان يموت الوثن ويحيا الرمز ". فالرمز صورة تخيلية في ذهن المتدين لا يمكن تمثلها واقعيا الا في موضوع حسي "هو انهيار العلامة في موضوع فوق طبيعي وفوق ثقافي" كما يقول ريكور .
ليس بعيد عن هذا الفهم ما ذهب اليه فرويد من ان التقديس الاسطوري ليس اكثر من اشباع خيالي، لرغبات لا شعورية شان ما نرى عند العصابي ، لذلك يعتبر فرويد الاسطورة او الدين ضرب من عصاب جماعي. وتكون الاساطير اشبه بالاحلام عند الانسان اللاسوي، حاملة للرموز وان كانت تختلف عنها في طبيعة الحامل ووظيفته.
لذا يصح أن يكون للمقدس- شأن الرموز الاخرى- وظائف متعددة يمكن حصرها في :
فالفهم الاسطوري للعالم اذن تفلسف ، بهذا المعنى من جهة كونه تفسيرا سببيا وهو ما يقوله صراحة غارودي بل وحتى فرانسوا جاكوب حين يقارن الاسطورة بالعلم (نص الحاجة الى رؤية العالم من كتاب انا افكر الكتاب المدرسي القديم للاداب ص 141 )فيقول :"تستجيب الاساطير كما هو الشأن بالنسبة الى النظريات العلمية الى هذا المطلب البشري، وخلافا لما نعتقده عادة فان الامر يتعلق في كل الحالات ، بتفسير ما نشاهده بما لانشاهده أي بتفسير العالم المرئي بعالم لا مرئي هو دوما نتاج المخيلة". كان نرى مثلا في الصاعقة تعبيرا عن غضب رباني او في المرض نتاجا لاذاية سحرية .
ولقد اشتغل بعض السيميائيين المعاصرين من امثال بروب وغريماس ، على المحكيات السردية مثل الحكاية والخرافة والاسطورة والملحمة التي تنتمي الى التراث الشفوي الشعبي من جهة ما هي اجلاء للعجايبي والخارق، الذي ينفتح على عالم الخيال، العالم الارحب الذي يتجاوز العالم الواقعي لا فقط لمجرد الامتاع والتلذذ ، بل ربما تذللا وتقربا خوفا منه او رغبة في عطاياه خاصة حين يتقاطع الاسطوري بالديني في المجتمعات المغلقة (في الريف العربي مثلا). فتصبح الشجاعة والقوة والنزاهة مراكز القوة عند البطل العجائبي ، يدافع عن قيم ثابتة مطلقة ينشدها في عالم مفارق كما يذكر لنا ذلك ، د. محمد الجويلي في انتربولوجيا الحكاية ، (دراسة انتربولوجية في حكايات شعبية تونسية تونس قرطاج 2002)من خلال تحليله لبعض الرموز الاسطورية في موروثنا الشفوي وفي طقوسنا. مثل خلع الحذاء عند الدخول الى المسجد او الانحناء عند الصلاة ، وهي ظاهرة مادية ترمز الى التقديس والاحترام او غطاء الراس والجسم عند المراة رمز العفة في الاسلام، وتصبح في التقليد الشعبي حياء او احتراما لقيم المجتمع الذكوري ، حتى اذا ما تعرت امام زوجها ينجدها شعرها الطويل كما في اسطورة الجازية الهلالية .(انكشف منقار انفها واصبع رجلها الاكبر فدعت على الاول بضربة برد والثاني بلطمة حجر). و الامثلة كثيرة عن التطير والتقديس لبعض الكائنات الحيوانية التي نالف حضورها بيننا مثلما يذكر لنا د.عزالدين عناية عن ريف في الساحل التونسي، (...) كالتطير من طائر الصرد (البوبشير )كونه يبشرنا بقدوم المطر(والحقيقة انه يورد حديث للنبي يمنع فيه اصطياده) ، او التطير من البوم كون نعيقه يذكرنا بالنحيب عن الميت، اما طائر الخطاف او السنونو الذي تفتح له البيوت تبركا وحين يقبض عليه يمسح على راسه بالزيت ويضعون في رجله خيطا احمر ويطلقون سراحه مرددين "يا خرطيفة هكة وهكة .(مع تحريك اليدين يمنة و يسرة في تقليد لحركة جناحيه ) ..سلميلي على بيت مكة". [1] لكون الانسان الريفي العاجز عن الحج (لمن استطاع اليه سبيلا)يعتقد ان هذا الطائر ينوب عنه هذه الفريضة .
3- الصورة –الفرجة : نظام رمزي
[1] .(انظر في هذا الشان الدراسة التي اعدها د.عزالدين عناية عن الموروث الاسطوري لمجتمع المشهد لمنطقة السد القبلي من اولاد علي من ولاية سوسة وردت في مجلة كتابات معاصرة العدد38 ايلول 1999بيروت لبنان).
[2] التعريف من مقال لعبد المجيد العابد عن مقاله الدور التربوي والتعليمي للصورة .ورد في موقع انفاس.
[3] [3] منذ أن تحدث آبل جونز سنة 1926 عن أن العصر الذي نعيشه هو عصر الصورة وهذا المفهوم متداول إلى يومنا هذا، وقد أشار بعده الناقد والمحلل السيميائي رولان بارط (Roland Barthes) في مقالته المشهورة "بلاغة الصورة" في مجلة "تواصلات" عدد 4 سنة 1964 بأننا نعيش "حضارة الصورة"، بالرغم من التحفظات التي أبداها بارط بشأن هذا النعت الجديد بالنسبة إليه، حيث إن حضارة الكلمة مازالت هي المهيمنة أمام زحف العوالم البصرية، مادامت الصورة عينها نسقا سيميائيا (Système sémiotique) لا يمكن، كما يرى بارط، أن يدل أو يخلق تدلالا(Sémiosis) تواصليا إلا من خلال التسنين اللساني، فالصورة عاجزة عن أن تقول كل شيء في غياب العلامات(Signe linguistique) اللسانية، لأن معانيها عائمة متعددة، والتواصل لا يتم بتاتا من الفراغ .(الملاحظة من مقال لعبد المجيد العابد عن مقاله الدور التربوي والتعليمي للصورة .ورد في موقع انفاس.
[4] انظر مجلة الفكر العربي المعاصر عدد 82-83 لسنة 1990 – عن مركز الانماء العربي – بيروت لبنان.
[5] يسميها الفيلسوف الفرنسي لويس التوسير الاجهزة الايديولوجية للدولة على نقيض الاجهزة المادية القمعية وهي تصنع قمعا اشد وطأة من الاجهزة المادية.
"السلطة الرمزية هي سلطة لا مرئية و لا يمكن أن تمارس إلا بتواطؤ أولئك الذين يأبون الاعتراف بأنهم يخضعون لها بل و يمارسونها " بيار بورديو.
1 ـ على سبيل التقديم :
يتحدّد التواصل عموما باعتباره ما يصل شيئين متباعدين ، ويفيد بين بني البشر التفاهم والفهم المتبادل ، لذلك يقتضي التواصل رسائل تتوسلها رموز و وسائل تقنية. ذلك أن التواصل لا يمكن أن يتحقق بشكل مباشر وإنما يقتضي دائما وسيطا. والوسيط الرمز او العلامة ليس بذاته دال، بطريقة ما سالبة او موجبة على الحضور المحض للظواهر التي يتمّ تبادلها ، بل ان المشكل في مأسسة هذه الرموز و تحولها الى انظمة للفكر وللانسان ، سلطة رمزية بعبارة بورديو، لها استقلاليتها الظاهرة ، لكنها تتكشف في الحقيقة على مفارقة الخضوع والاخضاع، وهو ما يصدق على الفن بل و على الأسطورة والدين وحتى المعرفة العلمية . فنتسائل ان كانت الرموز سلطة لنا ام علينا ؟ ان كنا واضعين لها ام خاضعين ؟ وان كانت الرموز بقدر تقدمها في خدمتنا بقدر تغولها علينا ؟
اذا كان التواصل لقاء بالغير و انفتاح عليه و اشتراك معه في إنتاج المعنى و الدلالة ، فإن التواصل يشترط وسيطا نتوسل به ومن خلاله اللقاء . والوسيط هو ما يحتل منزلة الوسيلة التي تصلنا بالعالم و بالآخرين أو يكون بمثابة رؤية من خلالها ندرك الأشياء، و داخلها ينتظم العالم و يكتسب معنى. إن كلّاَ من اللغة و العلم والفن و الدين و الفلسفة يمثل اذن بهذا المعنى وسائط . (كتاب الفلسفة للسنة الثالثة آداب ص 58 ) من ثمة اكتست الوسائط – الرموز والعلامات معنى وقيمة .
2 ـ إحراجات:
إذا كان التواصل بين البشر يحتاج ضرورة الى وسائط يصنعها الانسان ذاته، ألا يدعونا هذا الى النظر في التواصل من جهة منزلة هذه الوساطة : هل هي ما يؤمّن التواصل أم هي التي تعطله و تنحرف به إلى غير مقاصده ؟ وهل هذه الوسائط تقول حقيقة العالم ام تقف دونها ؟ وهل الرموز سلطة بيد الانسان ام سلطة عليه ان ياخذها بعين الاعتبار ؟ وهل تحوّل الانسان من واضع الى خاضع لها اليوم بعد التقدم التقني والفني الذي عرفته العولمة الراسمالية ؟ وهل تنوع الوسائط وتطورها اغناء لحياة الانسان واثراء لها ام افقار للذات الانسانية حد الاكراه او القتل الرمزي لها ؟ .
3 ـ التخطيط المُفصّل:
- في السّؤال عن التواصل
- الانسان والرمز
- التجليات الرمزية :
- اللغة بما هي نظام رمزي
- المقدس كنظام رمزي
- الصورة – الفرجة : كنظام رمزي
- الانظمة الرمزية : وساطة ام هيمنة ؟
- في السؤال عن التواصل :
ومفهوم التواصل تتجاذبه حقول معرفية بالغة التنوع ( علم نفس – سيبرنطيقا- لسانيات- انثربولوجيا-سيميولوجيا- ميديولوجيا – الخ) تكاد تشمل كل المنتوج الإنساني، فكل ما يمكن أن يشتغل كرابط بين الإنسان وما يوجد خارجه، وكل الأشكال الثقافية التي تتحدد من خلالها هويّة الأفراد وتخبر عن انتماءاتهم إلى ثقافة بعينها - لغة ولباسا وطقوسا ونمط عيش - يجب النظر إليها باعتبارها " وقائع إبلاغية " أي رسائل تندرج ضمن حالات الاجتماع الإنساني الذي يتخلى داخله الفرد طوعا عن عالمه الخاص لكي يندمج في عالم الآخرين.
وعلى هذا الأساس، فإن الظواهر الإنسانية في كليتها لا يمكن أن توجد خارج رغبة الكائن البشري في التواصل مع غيره بشكل مباشر أو غير مباشر، فمجموع ما ينتجه الإنسان عبر لغته وأشيائه وجسده وإيماءاته وطقوسه ومعماره ، يندرج ضمن سيرورة تواصلية متعددة المظاهر والوجود والتجلي إلى الحد الذي يجعل الثقافة في كليتها سيرورة تواصلية دائمة . وتلك هي الحالة التي يصفها امبرتو إيكو وهو يتحدث عن حقل السميائيات وموضوعها . فالسميائيات هي دراسة للثقافة باعتبارها النموذج الكلي الذي يشتمل على كل حالات التواصل الإنساني. فلا يمكن تصور النشاط الثقافي - العنصر المحدد للوجود الإنساني - إلا من خلال زاوية تواصلية.
يقول امبرتو ايكو :” لا نتعرف إلى أنفسنا إلا باعتبارنا سيميائية في حركة و أنظمة من مدلولات و عمليات التواصل و الخارطة السيميائية وحدها هي التي تقول لنا من نكون و كيف نفكر ” |
والحاصل ان الفعل التواصلي –كتقنية اخبارية – لم يعد يقتصر على علوم السيبرنطيقا (مع نوربيرت فينر1894 - 1964 ) او هندسة الاتصال ( مع كلود شانون المهندس أمريكي) و لا حتى المجال اللساني (مع دي سوسير وجاكوبسون) ، بل ليتعدى حقله الدلالي والوظيفي جميع مجالات الفعل الانساني ، وان كان جاكوبسون سيستفيد من خطاطة شانون ، ليرسم خطاطة تتعدى المجال التقني البحت الى تمثل البعد العاطفي والانفعالي عند الباث والمتقبل ، يرتسم فيها بين الباث والمتقبل حقولا ابعد للدلالة ، تكون الرسالة فيها او ما يراد تبليغه على اتصال مباشر بقناة البث او الوسيط مع ما تتركه الرسالة من اثر عند الباث والمتلقي على السواء كما يلي:
وذهب رولان بارط و غريماس و يلملسلف الى توسيع الحقل الدلالي للسيميولوجيا الى مجالات ابعد ، تتعلق بالمعيش اليومي للانسان مثل السرديات والكتابة والصورة والاشهار واللباس ... (انظر مثلا كتاب مبادئ في علم الادلة élements de semiologie لرولان بارط ترجمة محمد بكري –الدار البيضاء فيفري 1986) او( راجع مفردة سيميولوجيا في الكتاب المدرسي في نافذة دعائم التفكير ص 146-147). ما سيدفع الفيلسوف الالماني يورغن هابرماس الى استنباط مصطلح "تواصلية" communicationnel ، ليحيل على بنية الفعل التواصلي بما هو ايتقا للحوار ، انتصارا للحوار الفلسفي الخاضع لضرورات العقل مقابل هيمنة الاهواء والمصلحة .(راجع نص هابرماس في الكتاب المدرسي وحواشيه ص 100-101).
C 2- الانسان والرمز :
في تعريف الرمز والعلامة :
الرمز هو صورة الاحساس ومعناه ، وهو تمثيل مكثف للشكل الخارجي ، للشيء او تعبير عنه ، فليس الرمز نسخة للواقع رغم احتوائه لمقومات الشكل الاساسية بل علامة او اشارة تحيل الى استحضار شيء غائب . فهو يؤسس علاقة مماثلة بين شيئين احدهما مرئي يشكل علامة محسوسة ، و الثاني لامرئي وغير محسوس يعد موطن الدلالة التي يحملها الرمز ، و يعمل الذهن على تمثلها.(انظر التدقيقات المفهومية في الكتاب المدرسي ص148).
وكلمة symbole في اللاتينية اصلها اغريقي sumbolon ، مشتقة من فعل sumbollein ويفيد "وَصَلَ –جَمَعَ-قَرَنَ " فالرمز في اصله الدلالي اللغوي العلامة ، التي تجمع شيئين متباعدين يكونان وحدة واحدة فهي كما يعرفها لالاند في معجمه "علامة تعارف تتكون من نصفين عندما نجمعهما نكون كلمة سر" كما في التقليد الاغريقي، ان نتعارف من خلال قطعتي نقود منفصلتين او ميدالية او آنية ، يكون جمعهما دليل تعارف شخصين ، دائن ومدين او ضيف ومضيف وطرح هويته للاخر .
اما العلامة signe ، فهي ابعد من الرمز قد تكون حسية حركية او بصرية مرئية ، ترمي الى اثارة سلوك ما في المتلقي، كصفارة الانذار او اشارات المرور او التعابير الجسدية وقد تكون منطوقة او مكتوبة كشان العلامة اللغوية . والعلامة تواضعية او اعتباطية غنية بالمعنى والدلالة . وان كان العلم بها ودراستها في الاصل وليد علم اللسانيات مع دي سوسير، الا ان تطور وسائل الاتصال جعل للعلامة علما هو علم العلامة او السيمياء او السيميولوجياsémiologie (العلامة في اليونانية sémeion وعلم او دراسة logos ) فعلم العلامة ، علم يدرس العلامات ومعانيها سواء اكانت لسانية او غير لسانية ليشمل الحركات والايماءات والاصوات اللحنية والصور، اي مختلف الارساليات والوسائط المؤسسة للتواصل الانساني قصد الكشف عن الانظمة الدلالية الكامنة فيها . (انظر التدقيقات المفهومية في الكتاب المدرسي ص148- 146).
يذهب "كاسيرار" الى فهم الإنسان كجزء من الطبيعة، لذلك يتجاوز التعريفات التقليدية والكلاسيكية للإنسان ، عبر الإقرار بأن الفرق بين الإنسان والحيوان ليس فرقا في الطبيعة وإنما هو فرق في الدرجة . فالإنسان هو حيوان أكثر تطورا من بقية الحيوانات ، بل انه يتميز نوعيا عن الحيوان، وهذا التميز يكمن في امتلاكه "جهازا رمزيا " " هذه "الاداة الجديدة التي يملكها الانسان وحده تحول الحياة الانسانية كلها ." فعالم الحيوان كما وصفه البيولوجي يوهان يوكسكل، يتميز بامتلاكه جهازا مستقبلا وجهازا مؤثرا ينجز الكائن من خلالهما اتصاله بالعالم وبني جنسه ، اما عالم الانسان فيزيد على ذلك بتملّكه جهازا رمزيا ، يعطي وجود الانسان لا فقط عالما جديدا بل " بعدا جديدا من ابعاد الواقع " .
في هذا السياق، يأتي نقد "كاسيرار" لروسو الذي اعتبر تحول الإنسان نحو المدنية وفقدانه فطرته الطبيعية علامة فساد لإنسانيته . ف"الانسان المدني حيوان فاسد"كما يقول في "رسالة في اصل التفاوت بين البشر ". على العكس من ذلك يذهب "كاسيرار" الى أن الأنظمة الرمزية تميز الإنسان باعتبارها نشاطا أصيلا ، لا يمكن أن يرتبط بشيء آخر غير العقل البشري، وقدرته على التكيف ، بل أكثر من ذلك لا يمكن أن نتحدّث عن واقع إنساني قبل نشاة الرموز، ذلك أنها لا تمثل انعكاسا لواقع موجود بصفة مستقلة عنها ، بل إن الواقع لا يصبح معقولا إلا بفضل هذه الرموز . وهذا يعني أن كلّ الوظائف الروحية لدى الإنسان تشارك المعرفة في الخاصية الأساسية ، من جهة كونها مسكونة بقوة مشكّلة في الأصل، قوة لا تكتفي بمجرّد محاكاة الواقع بل إعادة إنتاجه وتشكيله بصورة اخرى، وهذا يصدق على الفن تماما كما يصدق علىاللغة و الأسطورة و الدين .
C 3- التجليات الرمزية :
- اللغة كنظام رمزي :
ابن جني :"يحتاج (الحكماء) الى الابانة عن الاشياء المعلومات فيضعوا لكل واحد منها سمة (رمزا) ولفظا اذا ذكر عرف به ما مسماه ليمتاز من غيره ويغني بذكره عن احضاره الى مرآة العين". |
وهذه الاستقلالية والتسيير الذاتي للغة جعل "غوسدورف" ، يعتبرها الوسيلة الجوهرية التي تمكّن الفرد من تمثل ثقافة المجموعة التي ينتمي إليها. فاللغة هي التي تمكن الإنسان من تجاوز كينونته البيولوجية. ، وهو ما يعني أن الوظيفة الأولى للغة هي التواصل بين الناس. فأن نتكلّم هو أن نتواصل، وفعل الكلام هو فعل تمرير المعلومات، لذلك فإن اللغة هي قبل كلّ شيء رابط اجتماعي، إذ هي منظومة اجتماعية تكوّن الإنسان ذاته ، كشبكة للتبادل والمشاركة والتواصل بما هي حوار يقتضي إفساح المجال أمام الناس للتعارف المتبادل ، كمقدّمة للفهم والتفاهم . لذلك يمثل الآخر طرفا أساسيا في فعل التواصل اللغوي، ففي هذا التواصل اللغوي، يحضر الآخر حتى عند غيابه، وحوار الذات مع ذاتها هو أبسط أشكال حضور هذا الآخر. وهذا يعني أن وعي الذات بذاتها يتحقّق عبر اللغة كنظام رمزي.
وغير بعيد عن ذلك يذهب اميل بنفنيست ، الى اعتبار اللغة ملكة التعبير الرمزي بامتياز و" كل انظمة التواصل الاخرى الخطية والحركية والبصرية ...تتفرع عنها وتفترضها مسبقا ". ذلك ان العلامة اللغوية هي اصل الرموز الاخرى القديمة كلها، فالاسطورة والخرافة والحكاية وحتى الدين والفن هي مدونات كتبتها لغة ، بل هي ذاتها لغة وان كانت خاصة .ثم ان العملية الذهنية المسماة تفكيرا ليست اكثر من تنظيم للغة .فاللغة حسب بنفنيست هي اداة الفكر .
يقول بنفنيست :"ليس التفكير شيئا اخر غير هذه القدرة على انشاء تمثلات للاشياء والاشتغال على هذه التمثلات انها في جوهرها قدرة رمزية .ان التحول الرمزي لعناصر الواقع او للتجربة الى مفاهيم هي العملية التي يتم بواسطتها اكتمال القدرة المعقلنة للفكر." |
فاللغة من جهة كونها بنية كما حددها ارنست كاسيرار، تتحدد بما هي علامة : دال ومدلول - ثنائية
من وجه صوتي ووجه ذهني شكل فيزيائي ومضمون نفسي يتشكلان معا بصورة اعتباطية ، بحكم التواضع الاجتماعي الذي يفترضهما . غير ان اميل بنفنيست يذهب الى ان لهذه البنية وظيفة بل وظائف ،لا تخلو منها قصديتها الاجتماعية .لان اللغة كما يراها حتى سوسير مؤسسة اجتماعية والتاسيس الاجتماعي، يفترض ان لا تبقى هذه البنية مجرد علامة ميتة مغلقة في سياقها الدلالي والاجتماعي .فما هي وظائف اللغة ؟
يمكننا ان نحدد للغة وظائف نذكر منها :
- الوظيفة المعرفية :
ذلك ان علاقة الانسان بالعالم ليست علاقة مباشرة ، بل تحتاج ضرورة الى وسائط، واللغة هي الوسيط او "التعبير الرمزي بامتياز" الذي يؤسس علاقتنا بالعالم "ذلك انه لا توجد –كما يقول بنفنيست- علاقة طبيعية آنية ومباشرة بين الانسان والعالم ولا بين الانسان والانسان . فلا بد في ذلك من وسيط اي ذاك الجهاز الرمزي ، الذي جعل الفكر واللغة ممكنين ". غير ان عملية التمثل الذهني تلك معقدة ، بحيث أن وجهي العلامة اللغوية الدال والمدلول يرتبطان بصورة ضرورية بما يجعل الواحد منهما يستدعي الاخر بكيفية لم يدركها دي سوسير من قبل . يقول بنفنيست معلقا على ذلك " ان الذهن لا يتقبل من الاشكال الصوتية الا ذلك الشكل الذي يكون حاملا لتمثل يمكنه التعرف عليه والا رفضه بوصفه مجهولا وغريبا " . فما نتمثله في الذهن هو ما نسميه ، وما نسميه هو ما نراه فاللغة وسيط بيننا وبين العالم الموضوعي وبفضلها ابتدع الانسان المعرفة ، وعلمه بالاشياء . ولولاها لبقي الانسان دون الحضارة كما يقول روسو ( في محاولة في اصل اللغات ):" لو لم تكن لنا قطّ غير حاجات طبيعية لأمكننا جدًّا أن لا نتكلم أبدًا ، وأن نتفاهم على التمام بمجرّد لغة الإشارة، ولكان بمقدورنا أن نقيم مجتمعات لا تختلف كثيرًا عمّا هي عليه اليوم، أو هي أصوب تدرّجًا نحو هدفها ". بل ان نيتشة رغم نقده للغة وفضحه للخطاب المنتج للوهم، يعترف بدور اللغة في انتاج المعرفة حين يقول (في انساني مفرط في انسانيته) : "ان اللغة هي فعلا اولى درجات السعي الى اكتساب العلم انها الايمان بالحقيقة المكتشفة التي تفرعت عنها من هنا ايضا منابع القوة الاكثر صلابة " .
- - الوظيفة الاجتماعية :
ويذهب فيلسوف الظاهراتية ادموند هوسرل ، الى تاكيد هذه الوظيفة للغة متحدثا عن ما سماه "لغة كونية " للانسانية المشتركة ، هي اداة التفاهم وشرطه بين بني البشر ،" انها قدرة تعبير جماعية تحدث بشكل متبادل وسوي، وفي تعقل تام وفي هذه الجماعة يستطيع كل الناس الكلام ، وكأنهم يتكلمون عن وجود موضوعي بشأن ما يوجد هناك في العالم المحيط بانسانيته ".(انظر نص هوسرل ص 108 في الكتاب المدرسي).
- الوظيفة الانطولوجية :
- الوظيفة السيميائية :
- المقدس كنظام رمزي :
يتجلى المقدس في صورة اله او قوة خارقة او كائن خرافي او عجيب لاواقعي او سحري، يثير الرعب والاجلال معا . وفي ذلك ما يشد اليه الاهتمام تلذذا ومتعة او انتظارا لعطاياه او استسلاما له خوفا من انتقامه .يقول روجي كايوا :" انما من المقدس ينتظر المؤمن كل ضروب العون وكل اشكال التوفيق ، فالاجلال الذي يبعثه في نفسه هو مزيج من الرعب والثقة ، وهو يعزو المصائب التي تتربص به فيكون ضحيتها كما .. الخيرات التي يحلم بها ".
والمقدّس الديني هو قبل كلّ شيء تجربة ، تنحو إلى أن تتجلى في صور و تمثلات رمزية . وقد بين "مايير" ان تجربة المقدّس هي ضرب روحاني من المعانقة للعالم . إنها حدس مؤسس لنوع من الحضور الغامض، لشيء يتجاوز الحدود المعتادة للتجربة الإنسانية . وهذا الشيء المغاير تماما للدنيوي يفلت من ظروف التجربة المدنسة . والمقدّس كرمز يسمح بالانفتاح على العالم المطلق، ذلك أن طقس ما يمكّن الإنسان من اكتشاف هذا العالم المطلق ، الذي يفلت بالماهية من كلّ لغة، خاصة وأن الدين هو نسق يعبّر عن ذاته بواسطة طقوس تشغل الرمز والأسطورة.
وفي هذا المنظور، تكون الأسطورة لغة المفارق، عند "غارودي" فهو لا يتحدث عن المفارق باعتباره خارجيا أو قوة فوق طبيعية ، فليس هو تعالي لرب فوقي بل تجريد رمزي للمطلق ، وهو ما يجعل من الأسطورة فعل خلق جماعي، فالأسطورة ليست مجرّد مشاركة في العالم ، بل هي رؤية للعالم تميز الإنسان، لذلك يرى "غارودي" أننا لا نستطيع أن ننعت بالأسطورة ما هو مجرّد أثر باقي من الماضي، كما لا نستطيع أن نعتبر الأسطورة مجرّد إعادة إنتاج، أو مجرّد محافظة على الحاضر باعتبارها معيارا للسلوك. وهذا يعني أن الأسطورة ليست من الماضي بل أن هناك أساطير ينتجها الإنسان اليوم . ما يخلق تقابلا بين المقدس والمدنس حسب مارسيا الياد، فعند الانسان المؤمن "المقدس يحاكي المسلك الالهي ، يقيم بالقرب من الالهة أي في الحقيقي وذي المعنى" . بينما يرى الانسان اللاديني في المقدس "عقبة امام حريته ، ولن يثوب الى رشده جذريا ، ولن يصير حرا حقا ، الا بأن يقتل الاله الاخير ، " هذا التعالق بين الديني واللاديني بين المقدس والمدنس ، يصفه بول ريكور بالتقابل بين الرمز والوثن ، هو ما يخلق ما يسميه ريكور "الاغتراب الديني " الذي لا يمكن حله الا ب"ان يموت الوثن ويحيا الرمز ". فالرمز صورة تخيلية في ذهن المتدين لا يمكن تمثلها واقعيا الا في موضوع حسي "هو انهيار العلامة في موضوع فوق طبيعي وفوق ثقافي" كما يقول ريكور .
ليس بعيد عن هذا الفهم ما ذهب اليه فرويد من ان التقديس الاسطوري ليس اكثر من اشباع خيالي، لرغبات لا شعورية شان ما نرى عند العصابي ، لذلك يعتبر فرويد الاسطورة او الدين ضرب من عصاب جماعي. وتكون الاساطير اشبه بالاحلام عند الانسان اللاسوي، حاملة للرموز وان كانت تختلف عنها في طبيعة الحامل ووظيفته.
لذا يصح أن يكون للمقدس- شأن الرموز الاخرى- وظائف متعددة يمكن حصرها في :
- وظيفة اجتماعية :
يقول دوركايم :"ليس ممكنا ان يوجد مجتمع لا يشعر بالحاجة الى مشاعر جماعية، وتصورات يرعاها في فترات منتظمة، اذ هي التي تصنع وحدته بالاتحادات والجمعيات والتكتلات ، حيث يكون التقارب وثيقا بين الافراد فيجمعون من جديد على تاكيد مشاعرهم المشتركة". |
- وظيفة نفسية :
- وظيفة معرفية :
يقول لوكراس :" كان البشر يلاحظون النظام السماوي وترتيبه الثابت ، وتعاقب الفصول الدوري خلال السنة، لكن دون ان يتوصلوا الى معرفة اسبابها . فلم يكن لهم من ملجا اذن سوى تفويض امرهم الى الالهة ". |
- وظيفة انثربولوجية :
ولقد اشتغل بعض السيميائيين المعاصرين من امثال بروب وغريماس ، على المحكيات السردية مثل الحكاية والخرافة والاسطورة والملحمة التي تنتمي الى التراث الشفوي الشعبي من جهة ما هي اجلاء للعجايبي والخارق، الذي ينفتح على عالم الخيال، العالم الارحب الذي يتجاوز العالم الواقعي لا فقط لمجرد الامتاع والتلذذ ، بل ربما تذللا وتقربا خوفا منه او رغبة في عطاياه خاصة حين يتقاطع الاسطوري بالديني في المجتمعات المغلقة (في الريف العربي مثلا). فتصبح الشجاعة والقوة والنزاهة مراكز القوة عند البطل العجائبي ، يدافع عن قيم ثابتة مطلقة ينشدها في عالم مفارق كما يذكر لنا ذلك ، د. محمد الجويلي في انتربولوجيا الحكاية ، (دراسة انتربولوجية في حكايات شعبية تونسية تونس قرطاج 2002)من خلال تحليله لبعض الرموز الاسطورية في موروثنا الشفوي وفي طقوسنا. مثل خلع الحذاء عند الدخول الى المسجد او الانحناء عند الصلاة ، وهي ظاهرة مادية ترمز الى التقديس والاحترام او غطاء الراس والجسم عند المراة رمز العفة في الاسلام، وتصبح في التقليد الشعبي حياء او احتراما لقيم المجتمع الذكوري ، حتى اذا ما تعرت امام زوجها ينجدها شعرها الطويل كما في اسطورة الجازية الهلالية .(انكشف منقار انفها واصبع رجلها الاكبر فدعت على الاول بضربة برد والثاني بلطمة حجر). و الامثلة كثيرة عن التطير والتقديس لبعض الكائنات الحيوانية التي نالف حضورها بيننا مثلما يذكر لنا د.عزالدين عناية عن ريف في الساحل التونسي، (...) كالتطير من طائر الصرد (البوبشير )كونه يبشرنا بقدوم المطر(والحقيقة انه يورد حديث للنبي يمنع فيه اصطياده) ، او التطير من البوم كون نعيقه يذكرنا بالنحيب عن الميت، اما طائر الخطاف او السنونو الذي تفتح له البيوت تبركا وحين يقبض عليه يمسح على راسه بالزيت ويضعون في رجله خيطا احمر ويطلقون سراحه مرددين "يا خرطيفة هكة وهكة .(مع تحريك اليدين يمنة و يسرة في تقليد لحركة جناحيه ) ..سلميلي على بيت مكة". [1] لكون الانسان الريفي العاجز عن الحج (لمن استطاع اليه سبيلا)يعتقد ان هذا الطائر ينوب عنه هذه الفريضة .
3- الصورة –الفرجة : نظام رمزي
[1] .(انظر في هذا الشان الدراسة التي اعدها د.عزالدين عناية عن الموروث الاسطوري لمجتمع المشهد لمنطقة السد القبلي من اولاد علي من ولاية سوسة وردت في مجلة كتابات معاصرة العدد38 ايلول 1999بيروت لبنان).
[2] التعريف من مقال لعبد المجيد العابد عن مقاله الدور التربوي والتعليمي للصورة .ورد في موقع انفاس.
[3] [3] منذ أن تحدث آبل جونز سنة 1926 عن أن العصر الذي نعيشه هو عصر الصورة وهذا المفهوم متداول إلى يومنا هذا، وقد أشار بعده الناقد والمحلل السيميائي رولان بارط (Roland Barthes) في مقالته المشهورة "بلاغة الصورة" في مجلة "تواصلات" عدد 4 سنة 1964 بأننا نعيش "حضارة الصورة"، بالرغم من التحفظات التي أبداها بارط بشأن هذا النعت الجديد بالنسبة إليه، حيث إن حضارة الكلمة مازالت هي المهيمنة أمام زحف العوالم البصرية، مادامت الصورة عينها نسقا سيميائيا (Système sémiotique) لا يمكن، كما يرى بارط، أن يدل أو يخلق تدلالا(Sémiosis) تواصليا إلا من خلال التسنين اللساني، فالصورة عاجزة عن أن تقول كل شيء في غياب العلامات(Signe linguistique) اللسانية، لأن معانيها عائمة متعددة، والتواصل لا يتم بتاتا من الفراغ .(الملاحظة من مقال لعبد المجيد العابد عن مقاله الدور التربوي والتعليمي للصورة .ورد في موقع انفاس.
[4] انظر مجلة الفكر العربي المعاصر عدد 82-83 لسنة 1990 – عن مركز الانماء العربي – بيروت لبنان.
[5] يسميها الفيلسوف الفرنسي لويس التوسير الاجهزة الايديولوجية للدولة على نقيض الاجهزة المادية القمعية وهي تصنع قمعا اشد وطأة من الاجهزة المادية.