الهادي عبد الحفيظ - الرمز والتواصل

مدخل إلى التفكير في المسألة

"السلطة الرمزية هي سلطة لا مرئية و لا يمكن أن تمارس إلا بتواطؤ أولئك الذين يأبون الاعتراف بأنهم يخضعون لها بل و يمارسونها " بيار بورديو.

1 ـ على سبيل التقديم :

يتحدّد التواصل عموما باعتباره ما يصل شيئين متباعدين ، ويفيد بين بني البشر التفاهم والفهم المتبادل ، لذلك يقتضي التواصل رسائل تتوسلها رموز و وسائل تقنية. ذلك أن التواصل لا يمكن أن يتحقق بشكل مباشر وإنما يقتضي دائما وسيطا. والوسيط الرمز او العلامة ليس بذاته دال، بطريقة ما سالبة او موجبة على الحضور المحض للظواهر التي يتمّ تبادلها ، بل ان المشكل في مأسسة هذه الرموز و تحولها الى انظمة للفكر وللانسان ، سلطة رمزية بعبارة بورديو، لها استقلاليتها الظاهرة ، لكنها تتكشف في الحقيقة على مفارقة الخضوع والاخضاع، وهو ما يصدق على الفن بل و على الأسطورة والدين وحتى المعرفة العلمية . فنتسائل ان كانت الرموز سلطة لنا ام علينا ؟ ان كنا واضعين لها ام خاضعين ؟ وان كانت الرموز بقدر تقدمها في خدمتنا بقدر تغولها علينا ؟

اذا كان التواصل لقاء بالغير و انفتاح عليه و اشتراك معه في إنتاج المعنى و الدلالة ، فإن التواصل يشترط وسيطا نتوسل به ومن خلاله اللقاء . والوسيط هو ما يحتل منزلة الوسيلة التي تصلنا بالعالم و بالآخرين أو يكون بمثابة رؤية من خلالها ندرك الأشياء، و داخلها ينتظم العالم و يكتسب معنى. إن كلّاَ من اللغة و العلم والفن و الدين و الفلسفة يمثل اذن بهذا المعنى وسائط . (كتاب الفلسفة للسنة الثالثة آداب ص 58 ) من ثمة اكتست الوسائط – الرموز والعلامات معنى وقيمة .

2 ـ إحراجات:

إذا كان التواصل بين البشر يحتاج ضرورة الى وسائط يصنعها الانسان ذاته، ألا يدعونا هذا الى النظر في التواصل من جهة منزلة هذه الوساطة : هل هي ما يؤمّن التواصل أم هي التي تعطله و تنحرف به إلى غير مقاصده ؟ وهل هذه الوسائط تقول حقيقة العالم ام تقف دونها ؟ وهل الرموز سلطة بيد الانسان ام سلطة عليه ان ياخذها بعين الاعتبار ؟ وهل تحوّل الانسان من واضع الى خاضع لها اليوم بعد التقدم التقني والفني الذي عرفته العولمة الراسمالية ؟ وهل تنوع الوسائط وتطورها اغناء لحياة الانسان واثراء لها ام افقار للذات الانسانية حد الاكراه او القتل الرمزي لها ؟ .

3 ـ التخطيط المُفصّل:
  • في السّؤال عن التواصل
  • الانسان والرمز
  • التجليات الرمزية :
  • اللغة بما هي نظام رمزي
  • المقدس كنظام رمزي
  • الصورة – الفرجة : كنظام رمزي
  • الانظمة الرمزية : وساطة ام هيمنة ؟

  • في السؤال عن التواصل :
نقول في اللغة العربية واصل وتواصل والمصدر وصال ومواصلة ، ويشير فعل تواصل الى حدوث المشاركة في الفعل بين شخصين، و يكون نقيضها تنافر و تقاطع ويعني الوصال الرغبة في اقامة علاقة مع الاخر ذات مضمون عاطفي او نفسي . ويحدد هانز فير في معجمه الفروق بين إتصل و تواصل . فإتصل تعني وصل شيئا بشيء اخر احتكّ به to be connected، بينما تعني تواصل العلاقة المتبادلة بين طرفين .to be interconnected . في الاتصال هناك رغبة من احد الطرفين باتجاه الاخر وهذا الاخر قد يستجيب ويتفاعل مع تلك الرغبة او انه قد يرفض وينغلق أما في التواصل فإن الرغبة تحدث من كلا الطرفين .(راجع في هذا الشان الموسوعة الفلسفية العربية ج1).

ومفهوم التواصل تتجاذبه حقول معرفية بالغة التنوع ( علم نفس – سيبرنطيقا- لسانيات- انثربولوجيا-سيميولوجيا- ميديولوجيا – الخ) تكاد تشمل كل المنتوج الإنساني، فكل ما يمكن أن يشتغل كرابط بين الإنسان وما يوجد خارجه، وكل الأشكال الثقافية التي تتحدد من خلالها هويّة الأفراد وتخبر عن انتماءاتهم إلى ثقافة بعينها - لغة ولباسا وطقوسا ونمط عيش - يجب النظر إليها باعتبارها " وقائع إبلاغية " أي رسائل تندرج ضمن حالات الاجتماع الإنساني الذي يتخلى داخله الفرد طوعا عن عالمه الخاص لكي يندمج في عالم الآخرين.

وعلى هذا الأساس، فإن الظواهر الإنسانية في كليتها لا يمكن أن توجد خارج رغبة الكائن البشري في التواصل مع غيره بشكل مباشر أو غير مباشر، فمجموع ما ينتجه الإنسان عبر لغته وأشيائه وجسده وإيماءاته وطقوسه ومعماره ، يندرج ضمن سيرورة تواصلية متعددة المظاهر والوجود والتجلي إلى الحد الذي يجعل الثقافة في كليتها سيرورة تواصلية دائمة . وتلك هي الحالة التي يصفها امبرتو إيكو وهو يتحدث عن حقل السميائيات وموضوعها . فالسميائيات هي دراسة للثقافة باعتبارها النموذج الكلي الذي يشتمل على كل حالات التواصل الإنساني. فلا يمكن تصور النشاط الثقافي - العنصر المحدد للوجود الإنساني - إلا من خلال زاوية تواصلية.

يقول امبرتو ايكو :” لا نتعرف إلى أنفسنا إلا باعتبارنا سيميائية في حركة و أنظمة من مدلولات و عمليات التواصل و الخارطة السيميائية وحدها هي التي تقول لنا من نكون و كيف نفكر ”

والحاصل ان الفعل التواصلي –كتقنية اخبارية – لم يعد يقتصر على علوم السيبرنطيقا (مع نوربيرت فينر1894 - 1964 ) او هندسة الاتصال ( مع كلود شانون المهندس أمريكي) و لا حتى المجال اللساني (مع دي سوسير وجاكوبسون) ، بل ليتعدى حقله الدلالي والوظيفي جميع مجالات الفعل الانساني ، وان كان جاكوبسون سيستفيد من خطاطة شانون ، ليرسم خطاطة تتعدى المجال التقني البحت الى تمثل البعد العاطفي والانفعالي عند الباث والمتقبل ، يرتسم فيها بين الباث والمتقبل حقولا ابعد للدلالة ، تكون الرسالة فيها او ما يراد تبليغه على اتصال مباشر بقناة البث او الوسيط مع ما تتركه الرسالة من اثر عند الباث والمتلقي على السواء كما يلي:









وذهب رولان بارط و غريماس و يلملسلف الى توسيع الحقل الدلالي للسيميولوجيا الى مجالات ابعد ، تتعلق بالمعيش اليومي للانسان مثل السرديات والكتابة والصورة والاشهار واللباس ... (انظر مثلا كتاب مبادئ في علم الادلة élements de semiologie لرولان بارط ترجمة محمد بكري –الدار البيضاء فيفري 1986) او( راجع مفردة سيميولوجيا في الكتاب المدرسي في نافذة دعائم التفكير ص 146-147). ما سيدفع الفيلسوف الالماني يورغن هابرماس الى استنباط مصطلح "تواصلية" communicationnel ، ليحيل على بنية الفعل التواصلي بما هو ايتقا للحوار ، انتصارا للحوار الفلسفي الخاضع لضرورات العقل مقابل هيمنة الاهواء والمصلحة .(راجع نص هابرماس في الكتاب المدرسي وحواشيه ص 100-101).

C 2- الانسان والرمز :

في تعريف الرمز والعلامة :

الرمز هو صورة الاحساس ومعناه ، وهو تمثيل مكثف للشكل الخارجي ، للشيء او تعبير عنه ، فليس الرمز نسخة للواقع رغم احتوائه لمقومات الشكل الاساسية بل علامة او اشارة تحيل الى استحضار شيء غائب . فهو يؤسس علاقة مماثلة بين شيئين احدهما مرئي يشكل علامة محسوسة ، و الثاني لامرئي وغير محسوس يعد موطن الدلالة التي يحملها الرمز ، و يعمل الذهن على تمثلها.(انظر التدقيقات المفهومية في الكتاب المدرسي ص148).

وكلمة symbole في اللاتينية اصلها اغريقي sumbolon ، مشتقة من فعل sumbollein ويفيد "وَصَلَ –جَمَعَ-قَرَنَ " فالرمز في اصله الدلالي اللغوي العلامة ، التي تجمع شيئين متباعدين يكونان وحدة واحدة فهي كما يعرفها لالاند في معجمه "علامة تعارف تتكون من نصفين عندما نجمعهما نكون كلمة سر" كما في التقليد الاغريقي، ان نتعارف من خلال قطعتي نقود منفصلتين او ميدالية او آنية ، يكون جمعهما دليل تعارف شخصين ، دائن ومدين او ضيف ومضيف وطرح هويته للاخر .

اما العلامة signe ، فهي ابعد من الرمز قد تكون حسية حركية او بصرية مرئية ، ترمي الى اثارة سلوك ما في المتلقي، كصفارة الانذار او اشارات المرور او التعابير الجسدية وقد تكون منطوقة او مكتوبة كشان العلامة اللغوية . والعلامة تواضعية او اعتباطية غنية بالمعنى والدلالة . وان كان العلم بها ودراستها في الاصل وليد علم اللسانيات مع دي سوسير، الا ان تطور وسائل الاتصال جعل للعلامة علما هو علم العلامة او السيمياء او السيميولوجياsémiologie (العلامة في اليونانية sémeion وعلم او دراسة logos ) فعلم العلامة ، علم يدرس العلامات ومعانيها سواء اكانت لسانية او غير لسانية ليشمل الحركات والايماءات والاصوات اللحنية والصور، اي مختلف الارساليات والوسائط المؤسسة للتواصل الانساني قصد الكشف عن الانظمة الدلالية الكامنة فيها . (انظر التدقيقات المفهومية في الكتاب المدرسي ص148- 146).

يذهب "كاسيرار" الى فهم الإنسان كجزء من الطبيعة، لذلك يتجاوز التعريفات التقليدية والكلاسيكية للإنسان ، عبر الإقرار بأن الفرق بين الإنسان والحيوان ليس فرقا في الطبيعة وإنما هو فرق في الدرجة . فالإنسان هو حيوان أكثر تطورا من بقية الحيوانات ، بل انه يتميز نوعيا عن الحيوان، وهذا التميز يكمن في امتلاكه "جهازا رمزيا " " هذه "الاداة الجديدة التي يملكها الانسان وحده تحول الحياة الانسانية كلها ." فعالم الحيوان كما وصفه البيولوجي يوهان يوكسكل، يتميز بامتلاكه جهازا مستقبلا وجهازا مؤثرا ينجز الكائن من خلالهما اتصاله بالعالم وبني جنسه ، اما عالم الانسان فيزيد على ذلك بتملّكه جهازا رمزيا ، يعطي وجود الانسان لا فقط عالما جديدا بل " بعدا جديدا من ابعاد الواقع " .

في هذا السياق، يأتي نقد "كاسيرار" لروسو الذي اعتبر تحول الإنسان نحو المدنية وفقدانه فطرته الطبيعية علامة فساد لإنسانيته . ف"الانسان المدني حيوان فاسد"كما يقول في "رسالة في اصل التفاوت بين البشر ". على العكس من ذلك يذهب "كاسيرار" الى أن الأنظمة الرمزية تميز الإنسان باعتبارها نشاطا أصيلا ، لا يمكن أن يرتبط بشيء آخر غير العقل البشري، وقدرته على التكيف ، بل أكثر من ذلك لا يمكن أن نتحدّث عن واقع إنساني قبل نشاة الرموز، ذلك أنها لا تمثل انعكاسا لواقع موجود بصفة مستقلة عنها ، بل إن الواقع لا يصبح معقولا إلا بفضل هذه الرموز . وهذا يعني أن كلّ الوظائف الروحية لدى الإنسان تشارك المعرفة في الخاصية الأساسية ، من جهة كونها مسكونة بقوة مشكّلة في الأصل، قوة لا تكتفي بمجرّد محاكاة الواقع بل إعادة إنتاجه وتشكيله بصورة اخرى، وهذا يصدق على الفن تماما كما يصدق علىاللغة و الأسطورة و الدين .

C 3- التجليات الرمزية :

  • اللغة كنظام رمزي :
تؤسس اللغة عالما رمزيا متميزا ، يستحضر العالم ولكن لا يشبهه، فالكلمات ليست الأشياء، لذلك كانت اللغة نظاما رمزيا . والوظيفة الرمزية للغة تتمظهر في القدرة على استعمال العلامات كرموز ، تمكننا من تمثل شيء آخر رغم غيابه. وبالتالي فإن اللغة كنسق من العلامات ليست لها علاقة مادية بما تعنيه هذه العلامات. وهذا الاختلاف عن الواقع يعطي اللغة نوعا من الاستقلالية عما هو كائن، وتسمح بالتالي للإنسان من الارتباط بالعالم و بالارتحال عنه.

ابن جني :"يحتاج (الحكماء) الى الابانة عن الاشياء المعلومات فيضعوا لكل واحد منها سمة (رمزا) ولفظا اذا ذكر عرف به ما مسماه ليمتاز من غيره ويغني بذكره عن احضاره الى مرآة العين".


وهذه الاستقلالية والتسيير الذاتي للغة جعل "غوسدورف" ، يعتبرها الوسيلة الجوهرية التي تمكّن الفرد من تمثل ثقافة المجموعة التي ينتمي إليها. فاللغة هي التي تمكن الإنسان من تجاوز كينونته البيولوجية. ، وهو ما يعني أن الوظيفة الأولى للغة هي التواصل بين الناس. فأن نتكلّم هو أن نتواصل، وفعل الكلام هو فعل تمرير المعلومات، لذلك فإن اللغة هي قبل كلّ شيء رابط اجتماعي، إذ هي منظومة اجتماعية تكوّن الإنسان ذاته ، كشبكة للتبادل والمشاركة والتواصل بما هي حوار يقتضي إفساح المجال أمام الناس للتعارف المتبادل ، كمقدّمة للفهم والتفاهم . لذلك يمثل الآخر طرفا أساسيا في فعل التواصل اللغوي، ففي هذا التواصل اللغوي، يحضر الآخر حتى عند غيابه، وحوار الذات مع ذاتها هو أبسط أشكال حضور هذا الآخر. وهذا يعني أن وعي الذات بذاتها يتحقّق عبر اللغة كنظام رمزي.

وغير بعيد عن ذلك يذهب اميل بنفنيست ، الى اعتبار اللغة ملكة التعبير الرمزي بامتياز و" كل انظمة التواصل الاخرى الخطية والحركية والبصرية ...تتفرع عنها وتفترضها مسبقا ". ذلك ان العلامة اللغوية هي اصل الرموز الاخرى القديمة كلها، فالاسطورة والخرافة والحكاية وحتى الدين والفن هي مدونات كتبتها لغة ، بل هي ذاتها لغة وان كانت خاصة .ثم ان العملية الذهنية المسماة تفكيرا ليست اكثر من تنظيم للغة .فاللغة حسب بنفنيست هي اداة الفكر .

يقول بنفنيست :"ليس التفكير شيئا اخر غير هذه القدرة على انشاء تمثلات للاشياء والاشتغال على هذه التمثلات انها في جوهرها قدرة رمزية .ان التحول الرمزي لعناصر الواقع او للتجربة الى مفاهيم هي العملية التي يتم بواسطتها اكتمال القدرة المعقلنة للفكر."


فاللغة من جهة كونها بنية كما حددها ارنست كاسيرار، تتحدد بما هي علامة : دال ومدلول - ثنائية

من وجه صوتي ووجه ذهني شكل فيزيائي ومضمون نفسي يتشكلان معا بصورة اعتباطية ، بحكم التواضع الاجتماعي الذي يفترضهما . غير ان اميل بنفنيست يذهب الى ان لهذه البنية وظيفة بل وظائف ،لا تخلو منها قصديتها الاجتماعية .لان اللغة كما يراها حتى سوسير مؤسسة اجتماعية والتاسيس الاجتماعي، يفترض ان لا تبقى هذه البنية مجرد علامة ميتة مغلقة في سياقها الدلالي والاجتماعي .فما هي وظائف اللغة ؟

يمكننا ان نحدد للغة وظائف نذكر منها :

  • الوظيفة المعرفية :
اذا كانت اللغة دالة الفكر كما يذهب الى ذلك ديكارت وحتى بنفنيست، فإن العملية الذهنية لا تصبح ممكنة الا من خلال اللغة . فالخطاب هو من جعل المعرفة ممكنة لذا كانت اللغة لا فقط مجرد علامات لغوية ، تنسج خيوط العلاقة فيها بين دالها ومدلولها بل انها تمثل ذهني منتظم للعالم . يقول بنفنيست "ان التحول الرمزي لعناصر الواقع او للتجربة الى مفاهيم هي العملية التي يتم بواسطتها اكتمال القدرة المعقلنة للفكر . ان الفكر ليس مجرد انعكاس للعالم فهو يحلل الواقع مقوليا وفي هذه الوظيفة المنظمة يرتبط الفكر شديد الارتباط باللغة " .

ذلك ان علاقة الانسان بالعالم ليست علاقة مباشرة ، بل تحتاج ضرورة الى وسائط، واللغة هي الوسيط او "التعبير الرمزي بامتياز" الذي يؤسس علاقتنا بالعالم "ذلك انه لا توجد –كما يقول بنفنيست- علاقة طبيعية آنية ومباشرة بين الانسان والعالم ولا بين الانسان والانسان . فلا بد في ذلك من وسيط اي ذاك الجهاز الرمزي ، الذي جعل الفكر واللغة ممكنين ". غير ان عملية التمثل الذهني تلك معقدة ، بحيث أن وجهي العلامة اللغوية الدال والمدلول يرتبطان بصورة ضرورية بما يجعل الواحد منهما يستدعي الاخر بكيفية لم يدركها دي سوسير من قبل . يقول بنفنيست معلقا على ذلك " ان الذهن لا يتقبل من الاشكال الصوتية الا ذلك الشكل الذي يكون حاملا لتمثل يمكنه التعرف عليه والا رفضه بوصفه مجهولا وغريبا " . فما نتمثله في الذهن هو ما نسميه ، وما نسميه هو ما نراه فاللغة وسيط بيننا وبين العالم الموضوعي وبفضلها ابتدع الانسان المعرفة ، وعلمه بالاشياء . ولولاها لبقي الانسان دون الحضارة كما يقول روسو ( في محاولة في اصل اللغات ):" لو لم تكن لنا قطّ غير حاجات طبيعية لأمكننا جدًّا أن لا نتكلم أبدًا ، وأن نتفاهم على التمام بمجرّد لغة الإشارة، ولكان بمقدورنا أن نقيم مجتمعات لا تختلف كثيرًا عمّا هي عليه اليوم، أو هي أصوب تدرّجًا نحو هدفها ". بل ان نيتشة رغم نقده للغة وفضحه للخطاب المنتج للوهم، يعترف بدور اللغة في انتاج المعرفة حين يقول (في انساني مفرط في انسانيته) : "ان اللغة هي فعلا اولى درجات السعي الى اكتساب العلم انها الايمان بالحقيقة المكتشفة التي تفرعت عنها من هنا ايضا منابع القوة الاكثر صلابة " .
  • - الوظيفة الاجتماعية :
من جهة اخرى ، فإن اللغة ابدعها الانسان للتواصل مع بني جنسه، وللتعبير عما يختلج فيه من احاسيس وعواطف وافكار، لذا اعتبر دي سوسير اللغة مؤسسة اجتماعية ، وذهب بنفنيست الى ابعد من ذلك ، حين اعتبر هذا التركيب الرمزي الذي نسميه اللسان ، هو انشاء اجتماعي يتعلمه الطفل حين يتربى في حضن والديه . يقول بنفنيست :" إن اكتساب اللغة تجربة تسير بمحاذاة تشكل الرمز و إنشاء الموضوع لدى الطفل، إنه يتعلم الأشياء من خلال أسمائها ، و يكتشف أن لكل شيء إسما ، و أن تعلم الأسماء يمكنه من تدبرها ، و لكنه يكتشف أيضا أن له هو ذاته اسما و أنه من ثمة يتواصل مع محيطه " . وعليه لا يمكن تصور مجتمع من دون لغة ،او لغة خارج السياق الاجتماعي ، لان الرمز هو بالضرورة انشاء اجتماعي، لذا اعتبر علماء الانتربولوجيا اللغة مكوّنا اساسيا لهوية جماعة ما ، وما كان يمكن قيام ثقافة امة ما من دونها، مثلما يذهب الى ذلك عالم الانتربولوجيا المعاصر رالف لينتون حين يقول:"ان اللغة نفسها جزء لا يتجزا من الثقافة ، فالنطق صار ممكنا بواسطة تركيب الدماغ البشري واعضاء النطق، ولكن ربط قيم رمزية بمجموعات من الاصوات والقدرة على اخراج هذه الاصوات لا يشكل لغة "(كتاب الفلسفة لمدارس ترشيح المعلمين ج2 ص235) .

ويذهب فيلسوف الظاهراتية ادموند هوسرل ، الى تاكيد هذه الوظيفة للغة متحدثا عن ما سماه "لغة كونية " للانسانية المشتركة ، هي اداة التفاهم وشرطه بين بني البشر ،" انها قدرة تعبير جماعية تحدث بشكل متبادل وسوي، وفي تعقل تام وفي هذه الجماعة يستطيع كل الناس الكلام ، وكأنهم يتكلمون عن وجود موضوعي بشأن ما يوجد هناك في العالم المحيط بانسانيته ".(انظر نص هوسرل ص 108 في الكتاب المدرسي).

  • الوظيفة الانطولوجية :
اضافة لذلك فان اللغة ، هي ما به ومن خلاله يكتشف الانسان ذاته ، ويعرف انه موجود في العالم . فالقدرة على الكلام هي قدرة على اعلان "الذاتية" على تجلي ذاتي للاخر في العالم ، والذاتية من منظور بنفنيست هي "قدرة المتكلم على ان يطرح نفسه باعتباره ذاتا " لذا "يكون انا من يقول انا "، معلنا بذلك عن كوجيتو جديد لساني تكون اللغة والكلام شرط وجودنا وشرط انكشافنا للاخر . ف"لااستعمل ضمير انا الا عندما اخاطب احدا يكون انت في كلامي " فلم نعد نعتقد مع ديكارت ، ان "انا افكر" شرط الوجود بل "انا اتكلم" اذن فانا موجود .ففي اللغة ومن خلالها يتشكل الانسان، اذ هي وحدها التي تشكل حقيقتنا . و لم يجانب نيتشة الصواب ، حين اعتبر اللغة شانها شان العقل سلاح الانسان في مواجهة الطبيعة . فالطبيعة لم تمنح الانسان قرونا ولا انياب و لا مخالب ، بل منحته القدرة على ترميز العالم ، وبها اثبت انه قادر على يستمر في وجوده في العالم و يكون الافضل .

  • الوظيفة السيميائية :
اعطى السيميائي رولان بارط ، شانه شان غريماس وهلملسف اللغة معاني ابعد من التعبير والتواصل الاجتماعي . بل اللغة دالة الثقافة وعلامة العلامات ، التي نكتشفها في كل اشكال المعيش اليومي، وكل الرموز التي ينتجها الانسان من لباس وسلوك وقيم .ف"اللغة سلطة تشريعية اللسان قانونها.. فأي لهجة إنما تتعين بما ترغم على قوله أكثر مما تتعين بما تسمح بقوله "(رولان بارط ” دروس ”) ، بحيث تمارس اللغة إكراها بنيويا يصعب معه التمييز، في عملية التواصل، بين المحتوى والشكل خاصة وأن كلّ وسيلة تقنية للتواصل، لها فعل ارتدادي على الرسالة التي تمرّرها . بل يبدو حسب "ماك لوهان" أن "الرسالة الحقيقية هي الوسيط ذاته". لذلك فإن تجديد وسائل الاتصال، بدءا بالكتابة إلى شبكة الانترنات يؤثر نسقيا في الثقافة والفكر ، ولذلك تحاول السيميائيات اليوم تحليل الوظائف الدلالية المتنوعة ل (الدين/ الفن/ السياسة/ اللغة) ، في علاقاتها بوسائل الاتصال والتواصل وما تحمله من أفكار تخص مجتمعا من المجتمعات . خاصة وأنّ نمط الحياة المعاصر يتسم بالتكالب على المصالح ، و بتقديس التقنية ومنتجاتها في غير اكتراث بالبعد الثقافي والروحي للوجود الإنساني . والفعل الذي تولّده هذه الوسائط على الثقافة بصورة عامة، ما جعل ميشال هنري يقرّ بأن الأمر لا يتعلق بانحطاط القيم الأخلاقية والدينية والثقافية تحت تأثير وسائل الإعلام التي تنشر خطابا رديئا، بل إن الأمر يتعلق بسيرورة تحطيم الإنساني، إذ نشهد تراجعا للإنساني في كل المستويات.

  • المقدس كنظام رمزي :
يحيل لفظ المقدس على القداسة والتقديس ، وهي مشتقة من فعل قدّس بمعنى طهّر وتبارك الى مرجعية دينية بالاساس ، سواء كان موضوع التقديس اماكن او كتبا او كائنات . ويقال عن الله القدّوس، أي المنزه عن كل نقص وعيب . فلا غرابة ان يحيل المقدس على الطهارة وانتفاء التدنيس، وهي خاصية السلوك الديني ، وهنا يتداخل الاسطوري بالديني بل ان المقدس يتجلى كذلك في السحري والطقوسي ، بل في اشكال تعابير دنيا كالخرافة او الحكاية الشعبية . حيث يكون مضمونها دوما هو الخيال fiction والعجيب merveilleux ، و الخارق fantaisie ، والميثولوجي و اللامعقول irrationnel ، والمعقول plausible أحيانا أخرى .

يتجلى المقدس في صورة اله او قوة خارقة او كائن خرافي او عجيب لاواقعي او سحري، يثير الرعب والاجلال معا . وفي ذلك ما يشد اليه الاهتمام تلذذا ومتعة او انتظارا لعطاياه او استسلاما له خوفا من انتقامه .يقول روجي كايوا :" انما من المقدس ينتظر المؤمن كل ضروب العون وكل اشكال التوفيق ، فالاجلال الذي يبعثه في نفسه هو مزيج من الرعب والثقة ، وهو يعزو المصائب التي تتربص به فيكون ضحيتها كما .. الخيرات التي يحلم بها ".

والمقدّس الديني هو قبل كلّ شيء تجربة ، تنحو إلى أن تتجلى في صور و تمثلات رمزية . وقد بين "مايير" ان تجربة المقدّس هي ضرب روحاني من المعانقة للعالم . إنها حدس مؤسس لنوع من الحضور الغامض، لشيء يتجاوز الحدود المعتادة للتجربة الإنسانية . وهذا الشيء المغاير تماما للدنيوي يفلت من ظروف التجربة المدنسة . والمقدّس كرمز يسمح بالانفتاح على العالم المطلق، ذلك أن طقس ما يمكّن الإنسان من اكتشاف هذا العالم المطلق ، الذي يفلت بالماهية من كلّ لغة، خاصة وأن الدين هو نسق يعبّر عن ذاته بواسطة طقوس تشغل الرمز والأسطورة.

وفي هذا المنظور، تكون الأسطورة لغة المفارق، عند "غارودي" فهو لا يتحدث عن المفارق باعتباره خارجيا أو قوة فوق طبيعية ، فليس هو تعالي لرب فوقي بل تجريد رمزي للمطلق ، وهو ما يجعل من الأسطورة فعل خلق جماعي، فالأسطورة ليست مجرّد مشاركة في العالم ، بل هي رؤية للعالم تميز الإنسان، لذلك يرى "غارودي" أننا لا نستطيع أن ننعت بالأسطورة ما هو مجرّد أثر باقي من الماضي، كما لا نستطيع أن نعتبر الأسطورة مجرّد إعادة إنتاج، أو مجرّد محافظة على الحاضر باعتبارها معيارا للسلوك. وهذا يعني أن الأسطورة ليست من الماضي بل أن هناك أساطير ينتجها الإنسان اليوم . ما يخلق تقابلا بين المقدس والمدنس حسب مارسيا الياد، فعند الانسان المؤمن "المقدس يحاكي المسلك الالهي ، يقيم بالقرب من الالهة أي في الحقيقي وذي المعنى" . بينما يرى الانسان اللاديني في المقدس "عقبة امام حريته ، ولن يثوب الى رشده جذريا ، ولن يصير حرا حقا ، الا بأن يقتل الاله الاخير ، " هذا التعالق بين الديني واللاديني بين المقدس والمدنس ، يصفه بول ريكور بالتقابل بين الرمز والوثن ، هو ما يخلق ما يسميه ريكور "الاغتراب الديني " الذي لا يمكن حله الا ب"ان يموت الوثن ويحيا الرمز ". فالرمز صورة تخيلية في ذهن المتدين لا يمكن تمثلها واقعيا الا في موضوع حسي "هو انهيار العلامة في موضوع فوق طبيعي وفوق ثقافي" كما يقول ريكور .

ليس بعيد عن هذا الفهم ما ذهب اليه فرويد من ان التقديس الاسطوري ليس اكثر من اشباع خيالي، لرغبات لا شعورية شان ما نرى عند العصابي ، لذلك يعتبر فرويد الاسطورة او الدين ضرب من عصاب جماعي. وتكون الاساطير اشبه بالاحلام عند الانسان اللاسوي، حاملة للرموز وان كانت تختلف عنها في طبيعة الحامل ووظيفته.

لذا يصح أن يكون للمقدس- شأن الرموز الاخرى- وظائف متعددة يمكن حصرها في :

  • وظيفة اجتماعية :
يرى دوركايم ان الافكار الدينية والاسطورية ، تعمل لاجل وظيفة اجتماعية بالاساس لا لغاية الايمان او الاعتقاد، بل لتحقيق التماسك الاجتماعي للمجتمع وهو ما يفسر حسبه ، خلود واستمرار الظاهرة الدينية والاسطورية بشكل عام. فهذه الافكار ضرب من "وعي جمعي" ، تعمل على توحيد المجتمع واعادة انتاج علاقاته، بعد ان يكون قد اصابها الفتور. فالاعياد الدينية وطقوسها تعمل ك "محرار" اعادة انتاج علاقات الافراد بعضهم ببعض .

يقول دوركايم :"ليس ممكنا ان يوجد مجتمع لا يشعر بالحاجة الى مشاعر جماعية، وتصورات يرعاها في فترات منتظمة، اذ هي التي تصنع وحدته بالاتحادات والجمعيات والتكتلات ، حيث يكون التقارب وثيقا بين الافراد فيجمعون من جديد على تاكيد مشاعرهم المشتركة".

  • وظيفة نفسية :
يعتبر فرويد ان للاسطورة والدين ، وظيفة تحقيق الطمانينة النفسية للانسان ، اذ الدين والمقدس بشكل عام" عصاب جماعي "، اشباع خيالي لرغبات لاشعورية . والصور الطقوسية تحقق ما لا يستطيع العلم ولا الفلسفة تحقيقه ، من الاجابة عن سؤال الانسان . عن مسالة الهدف من الحياة يقول فرويد :"الشيء الاكيد ان الدين هو وحده المؤهل لمعرفة الجواب عن السؤال المتعلق بهدف الحياة ".

  • وظيفة معرفية :
يتفق الفلاسفة وعلماء الانتربولوجيا والاجتماع ، على ان للمقدس وظيفة هي وظيفته الاصلية التي من اجلها ظهرت الاسطورة والدين والسحر واشكال الطقوس الاخرى، ونعني تفسير العالم. فالاسطورة ظهرت قبل ظهور الفلسفة والعلم ، أي انها كانت بشكل ما ضربا من المعرفة الفلسفية ان استعرنا عبارة ارسطو ،حين اعتبر ان "الاسطورة كانت بضرب ما حبا للحكمة" (وحب الحكمة هي التفلسف في اليونانية) . وبالفعل كانت الاسطورة والايمان بالمقدس تفلسفا ، من جهة ما هي تفسير للعالم . "ولا تهمنا كثيرا –كما يقول روجي كايوا-الطريقة التي بها يتخيل المؤمن هذا الاصل الاسمى للنعم او المحن، سواء اكان اله الكون اجمع الاله القدير اله الديانات التوحيدية ام كان الالهة التي تحمي المدن وارواح الموتى ام كان قوة منتشرة غير محددة ، تهب كل شيء كماله في ادائه وظيفته فتجعل الزورق سريعا، والسلاح قاتلا ، والطعام مغذيا " . لكن ما يهمنا في فهم هذه الظاهرة ، ان انتاج الاسطورة كمنظومة رمزية انما كان ضربا من المعرفة ، حينما غابت المعرفة العقلانية لان الجهل بالاسباب الحقيقية للظواهر هو ما دفع الانسان الاول الى الاعتقاد في المقدس.

يقول لوكراس :" كان البشر يلاحظون النظام السماوي وترتيبه الثابت ، وتعاقب الفصول الدوري خلال السنة، لكن دون ان يتوصلوا الى معرفة اسبابها . فلم يكن لهم من ملجا اذن سوى تفويض امرهم الى الالهة ".
فالفهم الاسطوري للعالم اذن تفلسف ، بهذا المعنى من جهة كونه تفسيرا سببيا وهو ما يقوله صراحة غارودي بل وحتى فرانسوا جاكوب حين يقارن الاسطورة بالعلم (نص الحاجة الى رؤية العالم من كتاب انا افكر الكتاب المدرسي القديم للاداب ص 141 )فيقول :"تستجيب الاساطير كما هو الشأن بالنسبة الى النظريات العلمية الى هذا المطلب البشري، وخلافا لما نعتقده عادة فان الامر يتعلق في كل الحالات ، بتفسير ما نشاهده بما لانشاهده أي بتفسير العالم المرئي بعالم لا مرئي هو دوما نتاج المخيلة". كان نرى مثلا في الصاعقة تعبيرا عن غضب رباني او في المرض نتاجا لاذاية سحرية .

  • وظيفة انثربولوجية :
الاسطورة مؤسسة اجتماعية كما راينا ، انتجها خيال الشعوب في لحظة ما من لحظات تطور المجتمع ، لذا فاللغة التي نتحدث بها هي بالضرورة قيم المجتمع وسلوكه وعاداته ، وما كل ما يشكل خصوصياته الثقافية . لذا كان المقدس مكونا اساسيا للهوية الثقافية، لأي جماعة وكل الرموز التي تنتجها الاسطورة او يكشف عنها المقدس الديني او السحري ، هي بالضرورة المجتمع ذاته " اذ ليس الاله في الاخير سوى المجتمع ذاته في قالب رمزي " كما يقول دوركايم .

ولقد اشتغل بعض السيميائيين المعاصرين من امثال بروب وغريماس ، على المحكيات السردية مثل الحكاية والخرافة والاسطورة والملحمة التي تنتمي الى التراث الشفوي الشعبي من جهة ما هي اجلاء للعجايبي والخارق، الذي ينفتح على عالم الخيال، العالم الارحب الذي يتجاوز العالم الواقعي لا فقط لمجرد الامتاع والتلذذ ، بل ربما تذللا وتقربا خوفا منه او رغبة في عطاياه خاصة حين يتقاطع الاسطوري بالديني في المجتمعات المغلقة (في الريف العربي مثلا). فتصبح الشجاعة والقوة والنزاهة مراكز القوة عند البطل العجائبي ، يدافع عن قيم ثابتة مطلقة ينشدها في عالم مفارق كما يذكر لنا ذلك ، د. محمد الجويلي في انتربولوجيا الحكاية ، (دراسة انتربولوجية في حكايات شعبية تونسية تونس قرطاج 2002)من خلال تحليله لبعض الرموز الاسطورية في موروثنا الشفوي وفي طقوسنا. مثل خلع الحذاء عند الدخول الى المسجد او الانحناء عند الصلاة ، وهي ظاهرة مادية ترمز الى التقديس والاحترام او غطاء الراس والجسم عند المراة رمز العفة في الاسلام، وتصبح في التقليد الشعبي حياء او احتراما لقيم المجتمع الذكوري ، حتى اذا ما تعرت امام زوجها ينجدها شعرها الطويل كما في اسطورة الجازية الهلالية .(انكشف منقار انفها واصبع رجلها الاكبر فدعت على الاول بضربة برد والثاني بلطمة حجر). و الامثلة كثيرة عن التطير والتقديس لبعض الكائنات الحيوانية التي نالف حضورها بيننا مثلما يذكر لنا د.عزالدين عناية عن ريف في الساحل التونسي، (...) كالتطير من طائر الصرد (البوبشير )كونه يبشرنا بقدوم المطر(والحقيقة انه يورد حديث للنبي يمنع فيه اصطياده) ، او التطير من البوم كون نعيقه يذكرنا بالنحيب عن الميت، اما طائر الخطاف او السنونو الذي تفتح له البيوت تبركا وحين يقبض عليه يمسح على راسه بالزيت ويضعون في رجله خيطا احمر ويطلقون سراحه مرددين "يا خرطيفة هكة وهكة .(مع تحريك اليدين يمنة و يسرة في تقليد لحركة جناحيه ) ..سلميلي على بيت مكة". [1] لكون الانسان الريفي العاجز عن الحج (لمن استطاع اليه سبيلا)يعتقد ان هذا الطائر ينوب عنه هذه الفريضة .
3- الصورة –الفرجة : نظام رمزي

الصورة في اليونانية (Icon) تعني التشابه والتماثل، و ترجمت إلى (Imago) في اللاتينية و (Image) في الفرنسية، مع اختلاف في النطق. ويتفق معجما لاروس(Larousse) وروبير(Robert) ، على أن الصورة هي إعادة إنتاج شيء بواسطة الرسم أو النحت أو غيرهما، كما يشيرا إلى أن الصورة الذهنية(Image mentale)تحيل على معنى التمثل(Répresentation) ، وهو تمثل تخييلي (imaginaire) ومنها (imagination) الخيال او التخيل .
فالصورة رسم ذهني تخيلي لشيء يستوحى من الواقع فيعيد تمثله بشكل اخر [2].
فالصورة تتحدّد في معناها الأصلي، باعتبارها إعادة إنتاج طبق الأصل. والفلسفة كانت تستبعد الصورة بناءا على التقليد الأفلاطوني الذي يستبعد العالم الحسي، ذلك أن الصورة والمفهوم يتقابلان راديكاليا. فالصورة في معناها الدقيق تمثل الشكل المحسوس لشيء خاص، والمفهوم هو الفكرة الكونية او ما يسميه افلاطون المثال (idée) ، ولذلك ارتبطت الصورة قديما بالعجائبي والمقدس دوما. ما جعلها في ثقافتنا العربية الاسلامية موضع تحريم، لارتباطها بإعادة الخلق استنادا إلى المخيلة والمصورة ، ما يجعل من المصور او النحات صانعا للصور يتشبه في فعله بالالاه الخالق . ( التحريم ورد صراحة في الاحاديث النبوية والتشديد على تحريمها دفعا لشبهة الوثنية ).
وفي ذلك يرى ابن منظور أن الصورة ترتبط بالتخيل والتوهم، فتصورت الشيء توهمت صورته، والتصاوير التماثيل.
ولعل هذا ما جعل ريجيس دي براي يقسّم تاريخخ الحضارات ، إلى ثلاث عصور محكومة بنظم سلطوية متناسبة مع الشكل الذي تتخذه الصورة في كلّ عصر:
- عصر الخطاب او اللوغوسفار logosphère وشكل صورته هو الصنم الذي يتطلب الرهبة،حيث كانت الصور تستعمل اقنعة للموتى او تماثيل للعبادة .
- عصر الأشكالاو القرافوسفارgraphosphère، وشكل صورته الفن الذي يتطلّب الحياة، وهو عصر الكتابة ظهر بظهور المطبعة وانتشار الكتاب ، فاستعاد المرئي مكانته كفن تشكيلي .
- عصر الشاشة أو الفيديوسفار videosphère ، وشكل صورته هو الصورة البصرية التي تمتلئ بالحركة والتي ظهرت وانتشرت مع انتشار السينما و التلفزة ثم الحاسوب .
هذا التحول في نظام الصورة من مجرد رمز تقديسي، الى علامة متعددة الدلالة خاصة بعد التطور التقني في أنظمة البث الاتصالي الحديث مع ظهور الانترنت واندماج الصورة والحركة بالمعلومة ، في " العصر المرآوي" كما يسميه مطاع صفدي أو عصر "حضارة الصورة " كما سماه رولان بارط = وهو العصر الرابع إن شئنا اضافة لما دونه ديبراي عصر الميدياسفار (mèdiasphère)
[3] .
من ثم كان التصوير منذ القديم لغة، لها دلالاتها ولان الصورة تتكلم الحسي، فإنه ابلغ من أي لغة أخرى لذلك قال ألجرداس جوليان غريماس (A.G.Greimas) ، رائد السيميائيات السردية في تعريفه للصورة "الصورة هي كل دال"، وهذا التعريف هو الشائع في الدراسات السيميائية.
وظيفة الصورة :
اذا اعتبرنا الصورة نظاما للتواصل، فإنها ستكون بذلك حسب رولان بارط ، حاملة لتمثل اسطوري شأنها شأن الاسطورة او الكتابة، غير ان هذا الجمع بين الانظمة التواصلية يفسح بالنسبة اليه مجالا لكشف القدرة التاثيرية للاشكال التواصلية، اذ هي اشكال لها وظائف دالة ضمن نطاق الوضعية التي ترتبط بها داخل نسيج العلاقات بين الافراد والمجتمعات. اين تتكون علامات تجمع بين مفهوم وصورة او بين شكل ومعنى وتعبر عن نسق تواصلي ، والصورة بالنسبة اليه لا تخلو من "الاكراه البنيوي" الذي يميز اللغة بل ان الصورة كما يقول بارط "آمرة اكثر من الكتابة "، بما انها تفرض الدلالة دون تحليل ودفعة واحدة . ف "الصورة تصبح كتابة في اللحظة التي فيها دالة " انها مثل الكتابة ، تدعو الى"حكم القوة" ففي نظام الادراك لا تستدعي الصورة نفس نمط الوعي الذي تستدعيه الكتابة . ففي الصورة ذاتها ثمة ولاشك انماط من القراءة فالرسم مهيأ للدلالة اكثر من التصوير ، والمحاكاة اكثر من الاصل ، والكاريكاتير اكثر من الصور الذاتية ".
ومن هذا المنطلق ، فإن سلطة الصورة تكون كبيرة على الحس المشترك خاصة وان الصورة تعكس رغبة من قام باخذها ، اكثر مما تعكس الواقع. ذلك ان سلطة الصورة ، تستند الى ميل الانسان الى تحويل حاجاته الى معرفة ، أي الاعتقاد في ما يريد رؤيته . ومن هنا يتأتى استخدام الصور كأداة في الخطاب الديني املا في خلق الخلط بين واقع الصورة والواقع الذي تتمثله، وكذلك الشأن في الحروب الاعلامية الموجهة ايديولوجيا ، بل وحتى في الخطاب الاشهاري ونظام الموضة . فغدا عصرنا بامتياز عصر "حضارة الصورة " بلغة بارط او هو "العصر المرآوي" .
[4]
غير ان ديبور ، يذهب الى ابعد من ذلك في تفكيك دالات الصورة نحو ربطها بالاجتماعي ، حتى تتجلى الصورة ك "فرجة" او"مشهد " spectacle . فهذا التراكم الهائل للصور كبضاعة للاستهلاك، جعل ديبور يتحدث عن المجتمعات المعاصرة باعتبارها مجتمعات الفرجة، و تمثل الفرجة، عنده، رؤية كلية للحياة وهي أساسا ترسانة من الصور المؤثرة على المشاهد، ما من شأنه أن ينتج ما سماه ب"الاستبعاد المعمم"، الذي يمثل وجها من وجوه الاغتراب. اغتراب له قدرة تأثيرية بالغة ، تستمدّ من الأساس الاقتصادي، بحيث تطوّع الصورة والكلمة لتشكيل الوعي الزائف. إنه تأثير يغري الجموع صنعه مخطط الاقتصاد الليبرالي ، للتحكم في صفوف الناس وإبعادهم عن مشاغلهم الحقيقية عبر التشبه بسلوك المشاهير والنجوم ، الذين يتصدرون الفرجات الاشهارية . وبقدر ما تعتمد الفرجة أنواعا من الصور الباهرة وأشكال الترفيه المغرية، يتحول الإنسان المستهلك للسلع إلى مستهلك للأوهام، والصورة التي كانت في الأصل تبلغ الدلالة وتحدث التواصل، تحوّلت إلى عنصر تأثير مفسد للتواصل الحقيقي ومعطّل للحوار بين الذوات.
4) حدود الانظمة الرمزية :
ان تحول الرمز الى نظام ، يعطيه القوة على الفعل والتاثير ، انه يصبح رأسمال رمزي شديد التأثير تمتلكه "سلطة رمزية " كما يسميها بيار بورديو، تخترق العلاقات الاساسية والمادية التي تربط الحاكم بالمحكوم ، الباث والمتقبل .

يقول بورديو :"هذه السلطة لا تعمل عملها الا اذا اعترف بها أي اذا لم يؤبه بها كقوة اعتباطية "


ولكن كيف تعمل هذه السلطة ؟ وما هي نتائجها على الوسيط والمتقبل؟
يجيب بورديو بأننا لسنا مخيرين في اعتماد واحد من نموذجين : النموذج الطاقي او النموذج السيبرنطيقي .الاول يعتمد براديغم ميكانيكي يفهم الحركة الاجتماعية للافراد والمجموعات وما ينتجونه بما هو مولد لطاقة فعل يستغلها الحاكم او المتحكم بهذه الوسائط ، والثاني يعتمد براديغم اداتي يعمل على توجيه السلوك والتحكم فيه نحو ما يخدم مشروعا ما ، (سياسي او اقتصادي او اجتماعي ...)ما يجعل الافراد كالكائنات الروبوتية امام الوسائط .(البروباغاندا السياسية – سبر الاراء-الاشهار ..).ما يجعل من هذه الوسائط "سلطة رمزية قادرة على التاثير الفعلي دون بذل للطاقة ).
[5]
ويجيب ديبراي عن السؤال ذاته كيف تعمل السلطة ؟ سلطة الرموز ، بأن طبيعة الوسيط (النظام الرمزي بشكل عام)انه قابل للانعكاس ، بما "يسمح للعقل ان يصبح قوة ، وللقوة بأن تنشئ لها عقلا " ، والكلام لديبراي مشكّلا "جانوس"JANUS (كائن خرافي عند الرومان هو اله البدايات عندهم بوجهين ملتصقين واحد ينظر للماضي والاخر للمستقبل) ، شبيه بالتنين عند هوبز يمسك بيد سيفا وبالاخرى مرشة الماء المقدس . فعلاقة القوة والعقل تختصر اليوم في علاقة المثقف بالسلطة ، او كما تريد السلطة للمثقف ان يكون .ففعل الهيمنة ذو حدين كما يرى ديبراي، لان " التعميم والخصخصة ، يصطدم كلاهما باداة التحول المادي او الوسيط ، فهو موضع صراع مرير بين الدولة والانتلجنسيا (المثقفون). لان السلطة السياسية تؤثر من خلال الوسيط " ، ودور الوسيط انه يحول الفعل التواصلي (اي الفكر)الى عامل سياسي، و السلطة السياسية الى فكر هدفه وغايته المشتركة هي المحكومون . وهكذا فإن " الصور التي ترينا العالم – كما يقول ديبراي - هي ايضا ما يعمينا عن النظر اليه ".
اذن، فليست الرموز غاية في ذاتها بل في ما تنتجه من سلطة وقوة ، وفي تحولها الى راسمال رمزي او جهاز ايديولجي ، يعمل على التحكم في الجماهير وتوجيههم الى ما يريده ويرضاه راس المال المادي .
الى ذلك ستتحول وسائل الاتصال الحديثة – خاصة مع ظهور مجتمعات الوفرة والاستهلاك ثم زمن العولمة – الى ما يشبه القيتوات ghetto (محتشدات او سجون مغلقة ) ، تعزل فيها الافراد ويتم اغراقهم في ايديولوجيا معممة، يتم التحكم بها عن بعد كما يكشف عن ذلك كل من فيلسوفا مدرسة فرانكفورت النقدية تيودور ادورنو وماكس هوركهايمر، (انظر النص في الكتاب المدرسي ازمة التواصل اليوم ص 114). ففي نقدهما للمجتمع المفتوح ، مجتمع الراسمالية المعاصرة بين فيلسوفا النقدية المعاصرة أن وسائل التواصل بقدر ما عملت على ربط الصلة بين الافراد في ما بينهم عن طريق وسائل الاتصال الحديثة ، بقدر ما عزلتهم واعمتهم بخطابات مضللة كاذبة، فاضحى التقدم يفرق بين الناس " كما يقولان : "فالخطاب الكاذب لمذيع الراديو ينطبع في ادمغة الناس ويمنعهم من التحدث ودعاية البيبسي كولا تحجب الاخبار المتعلقة بانهيار قارات باسرها...ولم يعد يسمح زجاج المكاتب الحديدية (لمكاتب البريد او المحطات)للموظف بالثرثرة والمزاح مع زميله "، بل لم يعد الموظف قادرا على اضاعة الوقت "انهم منعزلون داخل الجماعة ".
كذلك فعلت السيارة الخاصة او التلفزيون اليوم للاسرة ، اذ عمل على عزل افرادها بعضهم عن بعض تماما فلم يعد ثمة وقت للحوار او للجلسات الحميمية داخل العائلة . فتنكشف لنا مفارقة عجيبة لانظمة التواصل الحديثة، يعبر عنها ادورنو وهوركهايمر بقولهم : " ان الاتصالات تحقق التماثل بين الناس وذلك بعزلهم ".
وغير بعيد عن ذلك ما يذهب اليه بودريارد ، من ان كل الوسائط تمثل رسائل تخضع المشاهد للاكراه والقصر ، فالانسان المعاصر محكوم بنظام علامات تمثل بدائل عن الواقع "، ذلك ان المضمون يحجب عنا في معظم الاحيان الوظيفة الحقيقية للوسيط ، فهو يقدم نفسه كرسالة " وفي الاخير يكون "استهلاك الرسالة هو ذاته الرسالة " .
يقول بودريارد " رسالة التلفزة كما ليست ما تنقله من صور بل ما تفرضه من انماط جديدة من العلاقات والادراكات " .


انها رسالة تمجيد المضمون، بوصفه علامة ، فنسقط هكذا في عبودية جديدة، وشكل اخر للاغتراب يكون الانسان فيه هو ذاته الاداة والمشروع ، ويصبح مجتمع المشهد هو ذاته الصنم .

استنتاجات :
وهذا يعني أن كلّ نظام رمزي، بقدر ما ينتج صورة هي مجال وسائطي، فإنه يشكل في الوقت نفسه وعيا زائفا، فأزمة الوسائط - كما يبدو- لا تتعلق بكثرتها وباختلافها و لا بتعدد وظائفها ، ولا بهيمنة أحدها على الأخرى، بل بمحاولات توظيفها وتحويلها الى ادوات سلطة . و أزمة التواصل اليوم ترتبط ايضا بهذا الصعود القوي للصورة ، والمكانة التي أصبحت تحتلها كوسيط أساسي، وكوسيط لا يعكس فقط إرادة التواصل في أخلاقياته الإنسانية ، بقدر ما يعكس إرادة المهيمن على التأثير عبر الصورة كنسخة تدعي التطابق مع الواقع .
ما يدعونا مجددا الى اعلاء الخطاب الفلسفي خطاب العقل ، في وجه الخطاب الاداتي من اجل "اتيقا للحوار والتواصل " نراها ضرورية اليوم ، لفن "عيش مشترك" ممكن ، هو شرط وغاية الكوني الانساني .







[1] .(انظر في هذا الشان الدراسة التي اعدها د.عزالدين عناية عن الموروث الاسطوري لمجتمع المشهد لمنطقة السد القبلي من اولاد علي من ولاية سوسة وردت في مجلة كتابات معاصرة العدد38 ايلول 1999بيروت لبنان).
[2] التعريف من مقال لعبد المجيد العابد عن مقاله الدور التربوي والتعليمي للصورة .ورد في موقع انفاس.
[3] [3] منذ أن تحدث آبل جونز سنة 1926 عن أن العصر الذي نعيشه هو عصر الصورة وهذا المفهوم متداول إلى يومنا هذا، وقد أشار بعده الناقد والمحلل السيميائي رولان بارط (Roland Barthes) في مقالته المشهورة "بلاغة الصورة" في مجلة "تواصلات" عدد 4 سنة 1964 بأننا نعيش "حضارة الصورة"، بالرغم من التحفظات التي أبداها بارط بشأن هذا النعت الجديد بالنسبة إليه، حيث إن حضارة الكلمة مازالت هي المهيمنة أمام زحف العوالم البصرية، مادامت الصورة عينها نسقا سيميائيا (Système sémiotique) لا يمكن، كما يرى بارط، أن يدل أو يخلق تدلالا(Sémiosis) تواصليا إلا من خلال التسنين اللساني، فالصورة عاجزة عن أن تقول كل شيء في غياب العلامات(Signe linguistique) اللسانية، لأن معانيها عائمة متعددة، والتواصل لا يتم بتاتا من الفراغ .(الملاحظة من مقال لعبد المجيد العابد عن مقاله الدور التربوي والتعليمي للصورة .ورد في موقع انفاس.


[4] انظر مجلة الفكر العربي المعاصر عدد 82-83 لسنة 1990 – عن مركز الانماء العربي – بيروت لبنان.
[5] يسميها الفيلسوف الفرنسي لويس التوسير الاجهزة الايديولوجية للدولة على نقيض الاجهزة المادية القمعية وهي تصنع قمعا اشد وطأة من الاجهزة المادية.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى