نشأت فكرة (البديل الثقافي) على الطرف الجنوبي من المركز الشمولي لثقافة العاصمة في العام ٢٠٠٦ لتستقطب "البدائل" السابقة لها، وتجمع فضائل الاستقلال عن الوظيفة النفعية للمؤسسة الثقافية، وتؤسس لوعي قائم على المبادرة والاعتراف بأصوات (الآن). و(الآن) مجلة سبقت "البديل الثقافي" الميسانيّة في وعي التأسيس، أصدرتها مجموعة أدباء في مدينة المحاويل العام ١٩٩٨، بمعزل عن جماعة (البصرة أواخر القرن العشرين) التي سحبَت السرد في تلك السنوات إلى أقصى الجنوب واعتكفت عليه عند ضفاف شطّ العرب؛ ومثلهما كانت المجموعة الأدبية التي التفّت حول (نون) شماليّ العاصمة، تناوِر لانتزاع حقّها في الظهور المستقلّ بالقرب من أطلال المدينة الأثرية نينوى. ظلّت تلك "البدائل" البعيدة تقاوم سلطة التمثيل الأحادي لهيمنة النشر وامتلاك الشهرة الأدبية، بوسائلها الخاصة، المختصَرة في طريقة الاستنساخ الضوئي، والطباعة على آلات صغيرة (ميني برنتر) التي شاعت تدريجياً نهاية القرن؛ وروَّجَت لمنشورات أعضائها بواسطة التوزيع الفردي. ولم تُضمِر أيّ من المجموعات البديلة الانتظام في علاقة أخوية أو حزبية قوية، لكنّها حظيت بانتباه شديد، وعضدٍ فردي، من الفئات المنتبِذة قصرَ "النهايات" ومؤسساته الرقابية، الملتفّة حوله.
والحقيقة، فإنّ مجلات رائدة، خلال العقد الستيني من القرن المنصرم (مجلات الثقافة والقافلة والعاملون في النفط في بغداد ، ومجلتي الكلمة وجيلي في النجف، ومجلة القصة في بعقوبة، ومجلة الفكر الحي ومجموعة ١٢ قصة وجريدة المرفأ) في البصرة، زرعَت بذور التأسيس، الفالت من تنميط المركز النقدي التقليدي، وألغت الحلقةَ الوسطى بين الصحافة والحزب الحاكم (جريدة المرفأ مثلا). لقد آثرَت الجماعاتُ المعتزِلة إرساءَ قواربها/ نصوصها الطليعية على أكتاف الأنهار الصغيرة، ولم يعُد منها الى المصبّ الكبير في العاصمة غير مجلة واحدة (مجلة الكلمة)، إلا أنّ هذه العودة سجّلت طلاقاً نهائياً بين البذرة والمعول الذي هدَمَ عذرية الفطرة المتمردة لهذه الفروع، ودمَجَها بإقطاعات المكاتب الوثيرة، وأموال الخزائن المشبوهة. وهكذا فرَّعَت الفروعُ الأسبق نشوءاً لِما أصبح واحاتٍ خفيّة، ومنازلَ ظليلة، ونصوصاً قرينة لنهايات القرن، وحصونِه المهدَّدة بالانهيار والافلاس السياسي والثقافي والعسكري.
التفّت عصبة (الآن) في المحاويل حول السؤال عن: "آنيّة الظرف، وثِقل كونيته، وجسارة عشوائيته، وعقلانية أدواته". وتصدى رئيس تحرير المجلة إسماعيل ابراهيم عبد لتحديد الجواب والمسعى والالتزام "بمسؤولية القلق الثقافي وديناميكية التطور الفني المتجاوز، المعتدّ بالإرث، المجايل_ للآن" (العدد الثاني- تشرين الثاني- ١٩٩٨). أمّا جماعة (البصرة) للقرن العشرين، فقد راهنت على "القصة القصيرة" سبيلاً لشقّ عصا الطاعة على قواعد النوع السائد، وتمثيلاته المطبوعة في مطابع المؤسسة المركزية، في أحد عشر عدداً اقتصرت على أصوات الآن القصصية المحتصَرة، المطبوعة يدوياً. ولم تبرّر الجماعة فكرَها النقدي والنظري إلا بعد توقفها عند تخوم نهاية القرن، في كتاب استعاديّ ضمَّ قصصَ الأعداد كلها، صدر بتقديم مقتضب من قصي الخفاجي، العام ٢٠١٨. وعلى المنحنى الشمالي لقوس القرن العشرين، امتازت نصوص (نون) بفرادتها وطليعيتها الأدبية.
توقفت بدائل القرن الفرعية عند حاجز الانهيار الشامل للقرن، فورثت مجلة (البديل الثقافي) الميسانيّة قلقَها الأصيل بشأن مسؤولية التأسيس لثقافة ديناميكية، تثويرية. انبثقت المجلة عند حاجز آخر من أسئلة _الآن_ الحرجة عام ٢٠٠٦، والتحمت بالمياه القديمة عند المصبّات الجديدة. غير أنّ السؤال الأول حول قلق التأسيس، عاد ليقوى ويتعقّد عندما شكَت رئاسةُ تحرير المجلة البديلة سوء حظَّها من الشهرة المحرّمة على قريناتها السابقات، لأنها حافظت على التقليد الاعتزالي المحدود في الطباعة والتوزيع. ظلّ المنظر الجنوبيّ الأول، مع تقاليده وكبريائه المقوَّضة، يُرسِل عبر هذه المجلة إنذارات غامضة بصعوبة الاندماج مع أكتاف المؤسسة الثقافية الجديدة، البديلة لسدّة قصر "النهايات" المخيف. (ولربما أعقبت المجلةَ الفرعية مجلات عانت قلق الاندماج نفسه، هي مجلة _امضاءات_ التي قطعت مسافة قصيرة في إرسال الإنذارات وتداول أسئلة _الآن، ومثلها مجلة _الثقافة العراقية_ في الديوانية قبل توقفهما، يضاف اليهما مجلة _شرفات_ المنتظمة الصدور في الموصل).
استمرّت الأصوات الخفية/ الخافتة تُنعِش الذاكرة بأيقونات البذور الدفينة بأرض الخوف والهيمنة والاحتصار. وبحسب رؤية الزمن البديل، فإنّ تلك الأيقونات الصرعى بقلق التأسيس لم تكن أضحياتٍ رمزية وحسب؛ إذ أنّ هناك من يحسبها شواهدَ البحث الاستراتيجي عن معابر قصيّة، ومرافئ هادئة، ومباحث حرّة.. ولعل الانطفاء المتدرّج للبدائل الأولى، والانتقال لمصبّ القرن الجديد، يتفق مع "وعي إعادة التأسيس" الذي صرّح به الشاعر جمال جاسم أمين، رئيس تحرير مجلة (البديل الثقافي) في افتتاحية عددها الأخير (الحادي عشر) الصادر في آذار ٢٠١٠: "لا يمكن ان يكون التأسيس فعلاً نظرياً مجرداً بل هو محاكمات نظرية لواقع ما.. التأسيس هو الريادة العابرة لعُقد وإشكالات ذلك الواقع، وهو بهذا يقع ضمن الوظائف الأصيلة للثقافة الجادة وليست المزاولات التي تضفي على نفسها احياناً أبهة زائفة، والمؤسِّسون طِبقاً لهذا المعنى هم العابرون بأهداف ومفاهيم الثقافة من مباهج وغنائم (الوظيفة) إلى عناء (الرسالة)".
والحقيقة، فإنّ مجلات رائدة، خلال العقد الستيني من القرن المنصرم (مجلات الثقافة والقافلة والعاملون في النفط في بغداد ، ومجلتي الكلمة وجيلي في النجف، ومجلة القصة في بعقوبة، ومجلة الفكر الحي ومجموعة ١٢ قصة وجريدة المرفأ) في البصرة، زرعَت بذور التأسيس، الفالت من تنميط المركز النقدي التقليدي، وألغت الحلقةَ الوسطى بين الصحافة والحزب الحاكم (جريدة المرفأ مثلا). لقد آثرَت الجماعاتُ المعتزِلة إرساءَ قواربها/ نصوصها الطليعية على أكتاف الأنهار الصغيرة، ولم يعُد منها الى المصبّ الكبير في العاصمة غير مجلة واحدة (مجلة الكلمة)، إلا أنّ هذه العودة سجّلت طلاقاً نهائياً بين البذرة والمعول الذي هدَمَ عذرية الفطرة المتمردة لهذه الفروع، ودمَجَها بإقطاعات المكاتب الوثيرة، وأموال الخزائن المشبوهة. وهكذا فرَّعَت الفروعُ الأسبق نشوءاً لِما أصبح واحاتٍ خفيّة، ومنازلَ ظليلة، ونصوصاً قرينة لنهايات القرن، وحصونِه المهدَّدة بالانهيار والافلاس السياسي والثقافي والعسكري.
التفّت عصبة (الآن) في المحاويل حول السؤال عن: "آنيّة الظرف، وثِقل كونيته، وجسارة عشوائيته، وعقلانية أدواته". وتصدى رئيس تحرير المجلة إسماعيل ابراهيم عبد لتحديد الجواب والمسعى والالتزام "بمسؤولية القلق الثقافي وديناميكية التطور الفني المتجاوز، المعتدّ بالإرث، المجايل_ للآن" (العدد الثاني- تشرين الثاني- ١٩٩٨). أمّا جماعة (البصرة) للقرن العشرين، فقد راهنت على "القصة القصيرة" سبيلاً لشقّ عصا الطاعة على قواعد النوع السائد، وتمثيلاته المطبوعة في مطابع المؤسسة المركزية، في أحد عشر عدداً اقتصرت على أصوات الآن القصصية المحتصَرة، المطبوعة يدوياً. ولم تبرّر الجماعة فكرَها النقدي والنظري إلا بعد توقفها عند تخوم نهاية القرن، في كتاب استعاديّ ضمَّ قصصَ الأعداد كلها، صدر بتقديم مقتضب من قصي الخفاجي، العام ٢٠١٨. وعلى المنحنى الشمالي لقوس القرن العشرين، امتازت نصوص (نون) بفرادتها وطليعيتها الأدبية.
توقفت بدائل القرن الفرعية عند حاجز الانهيار الشامل للقرن، فورثت مجلة (البديل الثقافي) الميسانيّة قلقَها الأصيل بشأن مسؤولية التأسيس لثقافة ديناميكية، تثويرية. انبثقت المجلة عند حاجز آخر من أسئلة _الآن_ الحرجة عام ٢٠٠٦، والتحمت بالمياه القديمة عند المصبّات الجديدة. غير أنّ السؤال الأول حول قلق التأسيس، عاد ليقوى ويتعقّد عندما شكَت رئاسةُ تحرير المجلة البديلة سوء حظَّها من الشهرة المحرّمة على قريناتها السابقات، لأنها حافظت على التقليد الاعتزالي المحدود في الطباعة والتوزيع. ظلّ المنظر الجنوبيّ الأول، مع تقاليده وكبريائه المقوَّضة، يُرسِل عبر هذه المجلة إنذارات غامضة بصعوبة الاندماج مع أكتاف المؤسسة الثقافية الجديدة، البديلة لسدّة قصر "النهايات" المخيف. (ولربما أعقبت المجلةَ الفرعية مجلات عانت قلق الاندماج نفسه، هي مجلة _امضاءات_ التي قطعت مسافة قصيرة في إرسال الإنذارات وتداول أسئلة _الآن، ومثلها مجلة _الثقافة العراقية_ في الديوانية قبل توقفهما، يضاف اليهما مجلة _شرفات_ المنتظمة الصدور في الموصل).
استمرّت الأصوات الخفية/ الخافتة تُنعِش الذاكرة بأيقونات البذور الدفينة بأرض الخوف والهيمنة والاحتصار. وبحسب رؤية الزمن البديل، فإنّ تلك الأيقونات الصرعى بقلق التأسيس لم تكن أضحياتٍ رمزية وحسب؛ إذ أنّ هناك من يحسبها شواهدَ البحث الاستراتيجي عن معابر قصيّة، ومرافئ هادئة، ومباحث حرّة.. ولعل الانطفاء المتدرّج للبدائل الأولى، والانتقال لمصبّ القرن الجديد، يتفق مع "وعي إعادة التأسيس" الذي صرّح به الشاعر جمال جاسم أمين، رئيس تحرير مجلة (البديل الثقافي) في افتتاحية عددها الأخير (الحادي عشر) الصادر في آذار ٢٠١٠: "لا يمكن ان يكون التأسيس فعلاً نظرياً مجرداً بل هو محاكمات نظرية لواقع ما.. التأسيس هو الريادة العابرة لعُقد وإشكالات ذلك الواقع، وهو بهذا يقع ضمن الوظائف الأصيلة للثقافة الجادة وليست المزاولات التي تضفي على نفسها احياناً أبهة زائفة، والمؤسِّسون طِبقاً لهذا المعنى هم العابرون بأهداف ومفاهيم الثقافة من مباهج وغنائم (الوظيفة) إلى عناء (الرسالة)".