دخلت عالم جماعة الناصرية عن طريق الأصدقاء الذين كنت أتتلمذ معهم في كلية الأداب ببغداد بين عامي 1963– 1967 وفي مقدمتهم الصديق (عيسى رشيد ملا عمران) وقد كنا في مرحلة واحدة وفي نفس القسم ونسكن القسم الداخلي نفسه وهو شاب مبتهج مقبل على الحياة نتسكع شوارع بغداد ونتسول وجوه البغداديات السمراوات ونأوي الى مقاهيها المكتظة بضوضائها اللزج والمنتشرة على جانبي شارع الرشيد, في هذه الفترة انضم الى حلقتنا المقهوية شابان اخران من مدينة (الناصرية) (محمد مهاوش) وهو يدرس اللغة الفرنسية في كلية اللغات وفاضل عباس هادي يتخصص في الادب الانكليزي في الكلية عينها. محمد مهاوش شوهد اوائل السبعينيات وهو يدور في شوارع (باريس) واظن انه بقي هناك واما عن (فاضل) فقد رحل هو الاخر الى (لندن) بعد ان نال شيئا من الشهرة في عالمي الترجمة والنقد.
القاص (عبد الرحمان مجيد الربيعي) تعرفته في بيوت (جديد حسن باشا) كان مستاجرا لغرفة في احدى الدور وكنت ازور بعض الاصدقاء الذين كانوا نزلاء في نفس البيت ومن ثم كنت اراه في مقهى (البلدية) في ساحة الميدان وهو شاب متانق في ملابسه يتخصص في مادة الرسم في اكاديمية الفنون وله محاولات شعرية وقصصية بالاضافة الى مواهبه التشكيلية وكان بعض من كتاباته قد ظهر في المجلات البيروتية, ثم اصبح مشرفا على الصفحة الثقافية في جريدة (الانباء الجديدة) وقد فتح صفحته لنا وظهر فيها العديد من محاولاتنا الشعرية في تلك الايام تحت عنوان (قصائد من كركوك) ونزوره مرارا في مكتبه في الجريدة في عمارة انيقة تتوسط شارع الرشيد نذهب اليه انا وعيسى ومحمد مهاوش واقدم اليه القصائد التي كنت اجلبها من كركوك لصحبتي من جماعة كركوك .
وعن هذه الصفحة يحدثنا الشاعر (فاضل العزاوي) في كتابه السيروي (الروح الحية) (وانا في السجن كتبت في العام 1964رسالة الى القاص عبد الرحمن الربيعي الذي كان يشرف على الصفحة الثقافية في جريدة الانباء الجديدة فعمد الى نشر بعض ما فيها بدون الإشارة الى اسمي بعنوان (كلمات من شاعر) في هذه الرسالة التي كانت طويلة كما اذكر تحدثت عن جيل منتظر سوف يضع الأسس لادب جديد كما أعلنت ان القصيدة بالنسبة لي هي إعادة بناء للعالم).ص131 وفي مكان اخر من نفس الكتاب يحدثنا العزاوي عن السنة التي التقى فيها بـ(عبد الرحمان) في غرفة بسريرين في فندق رخيص تعرفت في العام1961على معلم من مدينة (الناصرية) يكتب الشعر المنثور. كان يتابع ما انشره كما يبدو. كان ذلك الشاب المتانق ذو الصوت الرفيع المخنوق والذي قدم نفسه لي هو عبد الرحمان مجيد الربيعي الذي قرأ علي بعضا من قصائده.ص
101وبعد ذلك انعقدت اواصر الصداقة بينهما وظل الربيعي يزوره في كلية التربية كلما قدم من الناصرية لقضاء اجازته في العاصمة.
وعبد الرحمن مجيد الربيعي بدوره هو يتحدث عن (فاضل العزاوي) وبقية الصحب في جماعة كركوك في كتابه الموسوم (اصوات وخطوات).
(ينتمي فاضل العزاوي الى مجموعة من الادباء الشبان الذين نشأوا في مدينة كركوك البترولية الهامة. ونتيجة لوجود عدد من القوميات العراقية فيها فهم يتكلمون هذه اللغات كلها اضافة الى اللغة الانكليزية). ص141
ويضيف الربيعي عن العزاوي بانه بدأ شاعرا منذ اوائل الستينات من القرن المنصرم وكانت له اجتهاداته ومفاهيمه في الشعر الميكانيكي الذي دعا اليه وكتب النماذج التبشيريه له. ص242
ثم يستطرد في الحديث عن فاضل العزاوي الروائي ويشير الى اعماله الروائية مثل: (مخلوقات فاضل العزاوي الجميلة) و (القلعة الخامسة) ثم (الديناصور الاخير) ويسوق الربيعي طائفة من آرائه وانطباعاته عن هذه الاعمال السردية وهذا لا يعني اننا نتفق مع تلك الاراء ولا نريد ان ندخل في تفاصيلها وانما نتركها للمتلقي ان اراد الاطلاع عليها فما عليه الا الرجوع الى كتاب الربيعي (اصوات وخطوات).
اصدر الربيعي مجموعته القصصية الاولى (السيف والسفينة) عام 1966وقد استقبلناها بحفاوة وحرارة وحماس منقطع النظير وقد قمت شخصيا بالترويج لهذه المجموعة وبعث نسخا عديدة لزملائي وزميلاتي داخل كلية الاداب والى اصحابي خارجها, ثم تتالت مجاميع الربيعي القصصية الاخرى والى ان ظهرت روايته الاولى (الوشم) عام 1972 في بيروت.
دعوت (جان دمو) مرة الى زيارة حدائق كلية الاداب وبالفعل قدم اليها صباح اليوم التالي وراق له الجو هناك بما حظي من حفاوة زملائي لقد احبوه وفتحوا قلوبهم له و (جان) هو الاخر لا يحتاج أي استئذان عندما يريد ان يطرق بوابة أي قلب ثم تتالت زوراته الى كلية الاداب وكان اصدقائي يحتفون بمقدمه وخاصة رفقتي من مدينة الناصرية حتى انه عندما سيق الى خدمة العلم نقل الى الناصرية. ولكن من في مكنته ان يتخيل (جان دمو) عسكريا حيث وجد هناك حفاوة ولكن لم يطل به المقام حتى تخلى عن العسكرية دونما رجعة.
لا اذكر كيف تعرفت على التشكيلي (فائق حسين) ولكنني اذكر جيدا ذهابي كثيرا الى الغرفة التي كان استاجرها في مكان قريب من منطقة (باب المعظم) يدعوني اليها ويعرض علي لوحاته وتخطيطاته ولا انسى احدى لوحاته التي ظلت عالقة في الذاكرة (البحث عن الاقليم) نتامل عالمه اللوني والتشكيلي ثم سرعان ما ننتقل الى عالم اخر وهو قراءة الاشعار التي اجد بعض القصاصات المحبرة بها في جيوبي فاسمعها اياه ثم يطلب مني ان ادون بعضا منها ليصحبه معه في اليوم التالي الى اصدقائه في اكاديمية الفنون وبين فائق حسين وفاضل عباس هادي صداقة حميمية وهو يحدثني عن ايامهما ومسامراتهما في مدينة (الناصرية) وفائق حسين عندما يحل في أي مكان يفيض حوله مناخا من الطيبة ويشعل طقسا من السخاء وكثيرا ماشوهد في ليالي بغداد وهو يحمل سلة ملاى بضروب من الحلوى يوزعها على الاطفال والاولاد الذين يلتقي بهم في الازقة والدروب التي يقطعها. رحل فائق حسين الى اسبانيا ثم الى الاكوادور في امريكا الوسطى وانقطعت كل اخباره عني باستثناء الحب الكبير الذي تركه لي والمودة الاثيرة التي مازالت تظللني ازهارها الفاغمات.
في عام 1969 وانا راجع الى العراق من بلاد الجزائر لقضاء العطلة الصيفية اشتقت الى صحبتي في الناصرية فركبت القطار الهابط من بغداد الى البصرة. جلست في المقطورة السياحية. واذ انتشيت بقناني الجعة التي تناولتها مازلت اذكر صور بساتين النخيل وهي تترى اماسي من النافذة والسهوب الممتدة بشكل لا متناه والقرى المتواضعة التي يخيم عليها هدوء من النسيان والقرويات وهن يخبزن الخبز في تنانيرهن الطينية. وصلت الناصرية وعانقت (عيسى رشيد ملا عمران) وجالست طويلا الكاتب والمسرحي (عزيز عبد الصاحب) مررنا من شارع (الحبوبي) او (عقد الهوى) ثم تجولنا في متنزة بعد ان قطعنا النهر اليه وقد شيد بعد ثورة الرابع عشر من تموز. وكان الفرات ينساب بحزن ووقار ولم اجد عليه الا مقهى متوحدا وقد اغرقت بكرم وسخاء صحبتي ولا ادري اذا كان هؤلاء الاصحاب يتذكرون ذلك الفقير الكركوكي الذي احبهم ومازالت ايامهم وذكرياتهم تتوهج في مخيلة المضنكة.
-------------------------------------------------------
احالات
1. الروح الحية. جيل الستينيات في العراق/ فاضل العزاوي/الطبعة (2)003 دار المدى/دمشق
2. اصوات وخطوات/عبد الرحمن الربيعي/المؤسسة العربية للدراسات والنشر/بيروت/1984
3. جماعة كركوك/الاستذكارات ا
القاص (عبد الرحمان مجيد الربيعي) تعرفته في بيوت (جديد حسن باشا) كان مستاجرا لغرفة في احدى الدور وكنت ازور بعض الاصدقاء الذين كانوا نزلاء في نفس البيت ومن ثم كنت اراه في مقهى (البلدية) في ساحة الميدان وهو شاب متانق في ملابسه يتخصص في مادة الرسم في اكاديمية الفنون وله محاولات شعرية وقصصية بالاضافة الى مواهبه التشكيلية وكان بعض من كتاباته قد ظهر في المجلات البيروتية, ثم اصبح مشرفا على الصفحة الثقافية في جريدة (الانباء الجديدة) وقد فتح صفحته لنا وظهر فيها العديد من محاولاتنا الشعرية في تلك الايام تحت عنوان (قصائد من كركوك) ونزوره مرارا في مكتبه في الجريدة في عمارة انيقة تتوسط شارع الرشيد نذهب اليه انا وعيسى ومحمد مهاوش واقدم اليه القصائد التي كنت اجلبها من كركوك لصحبتي من جماعة كركوك .
وعن هذه الصفحة يحدثنا الشاعر (فاضل العزاوي) في كتابه السيروي (الروح الحية) (وانا في السجن كتبت في العام 1964رسالة الى القاص عبد الرحمن الربيعي الذي كان يشرف على الصفحة الثقافية في جريدة الانباء الجديدة فعمد الى نشر بعض ما فيها بدون الإشارة الى اسمي بعنوان (كلمات من شاعر) في هذه الرسالة التي كانت طويلة كما اذكر تحدثت عن جيل منتظر سوف يضع الأسس لادب جديد كما أعلنت ان القصيدة بالنسبة لي هي إعادة بناء للعالم).ص131 وفي مكان اخر من نفس الكتاب يحدثنا العزاوي عن السنة التي التقى فيها بـ(عبد الرحمان) في غرفة بسريرين في فندق رخيص تعرفت في العام1961على معلم من مدينة (الناصرية) يكتب الشعر المنثور. كان يتابع ما انشره كما يبدو. كان ذلك الشاب المتانق ذو الصوت الرفيع المخنوق والذي قدم نفسه لي هو عبد الرحمان مجيد الربيعي الذي قرأ علي بعضا من قصائده.ص
101وبعد ذلك انعقدت اواصر الصداقة بينهما وظل الربيعي يزوره في كلية التربية كلما قدم من الناصرية لقضاء اجازته في العاصمة.
وعبد الرحمن مجيد الربيعي بدوره هو يتحدث عن (فاضل العزاوي) وبقية الصحب في جماعة كركوك في كتابه الموسوم (اصوات وخطوات).
(ينتمي فاضل العزاوي الى مجموعة من الادباء الشبان الذين نشأوا في مدينة كركوك البترولية الهامة. ونتيجة لوجود عدد من القوميات العراقية فيها فهم يتكلمون هذه اللغات كلها اضافة الى اللغة الانكليزية). ص141
ويضيف الربيعي عن العزاوي بانه بدأ شاعرا منذ اوائل الستينات من القرن المنصرم وكانت له اجتهاداته ومفاهيمه في الشعر الميكانيكي الذي دعا اليه وكتب النماذج التبشيريه له. ص242
ثم يستطرد في الحديث عن فاضل العزاوي الروائي ويشير الى اعماله الروائية مثل: (مخلوقات فاضل العزاوي الجميلة) و (القلعة الخامسة) ثم (الديناصور الاخير) ويسوق الربيعي طائفة من آرائه وانطباعاته عن هذه الاعمال السردية وهذا لا يعني اننا نتفق مع تلك الاراء ولا نريد ان ندخل في تفاصيلها وانما نتركها للمتلقي ان اراد الاطلاع عليها فما عليه الا الرجوع الى كتاب الربيعي (اصوات وخطوات).
اصدر الربيعي مجموعته القصصية الاولى (السيف والسفينة) عام 1966وقد استقبلناها بحفاوة وحرارة وحماس منقطع النظير وقد قمت شخصيا بالترويج لهذه المجموعة وبعث نسخا عديدة لزملائي وزميلاتي داخل كلية الاداب والى اصحابي خارجها, ثم تتالت مجاميع الربيعي القصصية الاخرى والى ان ظهرت روايته الاولى (الوشم) عام 1972 في بيروت.
دعوت (جان دمو) مرة الى زيارة حدائق كلية الاداب وبالفعل قدم اليها صباح اليوم التالي وراق له الجو هناك بما حظي من حفاوة زملائي لقد احبوه وفتحوا قلوبهم له و (جان) هو الاخر لا يحتاج أي استئذان عندما يريد ان يطرق بوابة أي قلب ثم تتالت زوراته الى كلية الاداب وكان اصدقائي يحتفون بمقدمه وخاصة رفقتي من مدينة الناصرية حتى انه عندما سيق الى خدمة العلم نقل الى الناصرية. ولكن من في مكنته ان يتخيل (جان دمو) عسكريا حيث وجد هناك حفاوة ولكن لم يطل به المقام حتى تخلى عن العسكرية دونما رجعة.
لا اذكر كيف تعرفت على التشكيلي (فائق حسين) ولكنني اذكر جيدا ذهابي كثيرا الى الغرفة التي كان استاجرها في مكان قريب من منطقة (باب المعظم) يدعوني اليها ويعرض علي لوحاته وتخطيطاته ولا انسى احدى لوحاته التي ظلت عالقة في الذاكرة (البحث عن الاقليم) نتامل عالمه اللوني والتشكيلي ثم سرعان ما ننتقل الى عالم اخر وهو قراءة الاشعار التي اجد بعض القصاصات المحبرة بها في جيوبي فاسمعها اياه ثم يطلب مني ان ادون بعضا منها ليصحبه معه في اليوم التالي الى اصدقائه في اكاديمية الفنون وبين فائق حسين وفاضل عباس هادي صداقة حميمية وهو يحدثني عن ايامهما ومسامراتهما في مدينة (الناصرية) وفائق حسين عندما يحل في أي مكان يفيض حوله مناخا من الطيبة ويشعل طقسا من السخاء وكثيرا ماشوهد في ليالي بغداد وهو يحمل سلة ملاى بضروب من الحلوى يوزعها على الاطفال والاولاد الذين يلتقي بهم في الازقة والدروب التي يقطعها. رحل فائق حسين الى اسبانيا ثم الى الاكوادور في امريكا الوسطى وانقطعت كل اخباره عني باستثناء الحب الكبير الذي تركه لي والمودة الاثيرة التي مازالت تظللني ازهارها الفاغمات.
في عام 1969 وانا راجع الى العراق من بلاد الجزائر لقضاء العطلة الصيفية اشتقت الى صحبتي في الناصرية فركبت القطار الهابط من بغداد الى البصرة. جلست في المقطورة السياحية. واذ انتشيت بقناني الجعة التي تناولتها مازلت اذكر صور بساتين النخيل وهي تترى اماسي من النافذة والسهوب الممتدة بشكل لا متناه والقرى المتواضعة التي يخيم عليها هدوء من النسيان والقرويات وهن يخبزن الخبز في تنانيرهن الطينية. وصلت الناصرية وعانقت (عيسى رشيد ملا عمران) وجالست طويلا الكاتب والمسرحي (عزيز عبد الصاحب) مررنا من شارع (الحبوبي) او (عقد الهوى) ثم تجولنا في متنزة بعد ان قطعنا النهر اليه وقد شيد بعد ثورة الرابع عشر من تموز. وكان الفرات ينساب بحزن ووقار ولم اجد عليه الا مقهى متوحدا وقد اغرقت بكرم وسخاء صحبتي ولا ادري اذا كان هؤلاء الاصحاب يتذكرون ذلك الفقير الكركوكي الذي احبهم ومازالت ايامهم وذكرياتهم تتوهج في مخيلة المضنكة.
-------------------------------------------------------
احالات
1. الروح الحية. جيل الستينيات في العراق/ فاضل العزاوي/الطبعة (2)003 دار المدى/دمشق
2. اصوات وخطوات/عبد الرحمن الربيعي/المؤسسة العربية للدراسات والنشر/بيروت/1984
3. جماعة كركوك/الاستذكارات ا
Bei Facebook anmelden
Melde dich bei Facebook an, um dich mit deinen Freunden, deiner Familie und Personen, die du kennst, zu verbinden und Inhalte zu teilen.
www.facebook.com