برحيل القاص والروائي الدكتور (زهدي الداوودي) عن عالمنا في المانيا انطفأت شعلة أخرى من تلك الشُعل الثقافية التي أضاءت المشهد الثقافي العراقي وانهدّ عمود آخر من الأعمدة التي استندت إليها مجموعة كركوك وتعد هذه فاجعة أخرى تصيب هذه الجماعة فلم يبقَ في ساحتها إلا اثنان فاضل العزاوي
وتولده عام 1940 والمقيم في ألمانيا في الوقت الحاضر وصلاح فائق سعيد وتولده 1945 وهو الذي أمضى عشرين سنة في (الفلبين) ولا أدري إنْ ترك تلك البلاد نهائياً واختار بلاد (تركيا) مقاماً ومستقراً له كما اخبرني بذلك الصديق (آزاد أسود أحمد) حيث إلتقاه في تلك البلاد.
كيف تبدو جماعة كركوك للرائي في هذه الأيام بعد رحيل أهم وجوهها في السنوات الأخيرة فقد اغمض (جليل القيسي) عينيه عام 2006 وسركون بولص عام 2007 وأنور الغساني توفاه الله في بلاد (كوستاريكا) عام 2009والأب يوسف سعيد عام 2012. وفي آخر المطاف مؤيد الراوي الذي توفي غداة صدور ديوانه الثالث الموسوم بـ(سرد المفرد) 2015 وكان يوسف الحيدري سبق اصحابه في رحيله الابدي جوار 1993 وبعده بعشر سنوات فرق(جان دمو) اسماله في استراليا البعيدة ثم وشمه الموت بالفراق المحتوم، أعود فأقول آخر وجهين بقيا من هذه الجماعة التي غطت شهرتها وطالت ابداعاتها وأخبارها كل محافظات العراق بل تجاوزتها الى خارج البلاد مع تشتت الصحب في كل أقطار المعمورة، وصل صوتهم واصداؤهم الجزر البعيدة كـ(كوستاريكا) التي القى فيها (انور الغساني) عكاكيز ترحاله وصرنا نصغي إليه عبر كل هذه المسافات البعيدات، فاضل العزاوي الذي تشبث بمهجره الالماني الذي ظلت كتاباته تترى وتتخطى شهرته ألمانيا وتعبر أصقاعاً أخرى عندما ترجمت روايته (آخر الملائكة) الى الانكليزية وكتب عنها (كولن ولسن) وأطراها أما الثاني فهو(صلاح فائق) الذي اصطحب كركوك معه في حله وترحاله بعد أن حمل قلعتها وجسورها وطرقاتها وبساتينها وفهرسها في حقائبه يناجيها في وحدته فاذا هي كائنات تنبض وتدب وصلاح معهم يتهامسون ويتسارون ثم يبوح لهم بأمنيته التي تؤرق مضجعه وهي أن يستقل دراجته الهوائية ويوجهها صوب المعشوقة كركوك حيث المكان الأول والعش الذي تأوي اليه هواجسه وأحلامه. انتقل معظم وجوه المجموعة الى بغداد كان في مقدمتهم العزاوي ثم لحق به الغساني فالراوي ويوسف الحيدري نقل وظيفته وهي في سلك التعليم الى الحلة ومنها عرج الى بغداد وتبع أولاء بقية الأصدقاء وكان آخرهم صلاح فائق ولم يبق في كركوك إلا (القيسي) فلهذا خاطبه مؤيد الراوي في نص كرسه لذكرى (جليل) بانه غدا حارساً لقلعة كركوك وظل متعلقاً بمدينته الى أن توفاه الله عام 2006.
بعد تغير النظام بدأ الاهتمام بالصحب وبكتاباتهم وانجازاتهم وتعقب أخبارهم والى ما آلت إليه تجاربهم الأدبية وما حققوا من أحلام كانوا يصبون إليها آمالهم العِراض.
لقد اعترف الجميع بدور المجموعة في تنشيط وإثراء الحركة الثقافية في العراق إبان ستينيات القرن المرتحل، عملوا بإخلاص وكتبوا بصدق وحفزت كتاباتهم مخيلة المتلقين وكذلك ثابروا في العمل الصحافي وكانت لهم بصماتهم اللاحبة، والشيء الثاني الذي يلفت النظر في منجز الجماعة هو التجريب الذي تعاطوه في مضمار الشعر فكانت خطواتهم الواثقة في مماشي قصيدة النثر، كانت غرساتهم تشتل في أرض عذراء وسفنهم محملة بغريب الرؤى والأخيلة وهي قادمة من الجزر البعيدات. في مكنتي أن أضيف سمة أخرى وسَمَتْ الاصدقاء اولاء وهي الصحبة الطويلة التي ربطت بينهم، بعضها بدأت من أواسط العقد الخمسيني وبعضها تجذر في الستينيات، استمرت هذه الصداقة الى آخر أيامهم فلا يسع المرء إلا الانحناء أمام الصداقة الثلاثية بين سركون بولص وأنور الغساني ومؤيد الراوي وبالرغم من كونهم كانوا مشتتين في بلاد الله الواسعة، مؤيد في ألمانيا وسركون في امريكا والغساني في كوستاريكا إلا انهم كانوا يجددون اللقاء كل صائفة في برلين ويعيدون زهو أيام كركوك الماضيات حيث القلعة ونهر (الخاصة) وشارع (تكساس). إن الوفاء للإنسان والاخلاص للمكان وشما هوية الاصدقاء وخير شاهد على ذلك مجموعة مؤيد الثانية الموسومة بـ(مماليك) حيث فاضت نصوصها بوجدها الأسيان وهي تخاطب الأصدقاء الراحلين وكركوك التي تطفو وتغوص في الذاكرة المضنكة.
يعد (فاضل العزاوي) من أغزر كتاب الجماعة حيث تعاطى الأجناس الادبية كلها برز في قصيدة النثر وكتب روايات اكتنزت برؤاها الممراعة وفي مقدمتها عمله الفذ (آخر الملائكة) حيث استوحاها من مواطن طفولته وصباه وبواكير شبابه وترك احداث روايته تشتبك في فضاءٍ من الميثولوجيات الشعبية والعلاقات الاجتماعية المشتجرة والوقائع التاريخية فكان حصيلة ذلك منجز روائي مشوق يسحر المتلقي محفزاً مخيلته في إدهاشها وإطلاقها نحو التخوم المنداحة، ولا بد من الإشارة ايضاً الى كتابه السيروي الذي حمل عنوان (الروح الحية) الذي حاول فيه أن يقارب المشهد الثقافي في العقد الستيني وفوق ذلك فهو صاحب البيان الشعري الشهير الذي نشر في مجلة (شعر69) العراقية حيث وقعه معه ثلاثة شعراء آخرين هم : سامي مهدي، خالد علي مصطفى، وفوزي كريم، هذا البيان الذي أثار مما أثار من صخب وجلبةٍ وردّ عليه من ردَّ وللاستزادة من هذا الموضوع مراجعة كتب (الروح الحية) للعزاوي و (الموجة الصاخبة) لسامي مهدي و(شعراء البيان الشعري) لخالد علي مصطفى.
صلاح فائق هو الآخر ظل مخلصاً لعالمه الشعري ومن باكورة اعماله الشعرية التي حملت عنوان(رهائن) والمطبوعة في دمشق عام 1975 والى آخر كتاباته الشعرية الكثيرة التي وصلني بعضها مثل (ومضات) و(دببة في مأتم) و(نملة في جنازة) والعديد منها لم يصلني فهو شاعر مقتدر يمتلك مخيلة خصبة وعبرها يمتح من كهاريز ذاكرته ومنها يلتقط ما يخدم صوره الشعرية التي دائماً تحمل الفانتازيا والغرابة والإدهاش وخرق المألوف إلا إن المتلقي يستسيغ تلك الصور تاركة إياه في حالةٍ متناغمة معها وأثبتت الايام إن الشاعر في حالة وفاق مع نبعه الذي يغذيه دائماً ومخلصاً لصوته وادواته حتى عده(عباس بيضون) كاهناً من كهان الشعر.
الشيء المحزن ما يتعلق بمنجز الجماعة هو فقدان مجموعة مؤيد الراوي المعنونة بـ(نزهة في غواصة) حيث قدمها للرقابة العراقية عام 1969 إلا إن الرقابة لم تمنحه اذناً بالإصدار فبقيت المخطوطة عندهم ولا أدري لماذا لم يحاول الشاعر استرجاعها وطبعها في مكان آخر، المخطوطة ضاعت ولكن بقي منها بعض النصوص القليلة وظهر هنا وهناك، ونفس الشيء مع رواية (جليل القيسي) هذه الرواية الافتراضية، لكن الدكتور عبدالله ابراهيم أعلمني بان جليلاً كتب مثل هذه الرواية وربما هي موجودة في أوراقه التي تركها وتحديداً يستطيع ابنه (اسامة) أن يزيح اللبس عن هذا الموضوع هذا اذا ظل محتفظاً بأوراق الراحل (جليل).
ترك الصحب الكثير من الأعمال مع تشتتهم في ارجاء المعمورة وهي تفرعت اجناساً مختلفة وتنوعت ثيماتها فما أحوجنا الآن الى الايدي البيضاء المحبة أن تمتد الى هذه الأعمال تجمعها وتبوبها وتلم أخبار أصحابها لتكون في مظان معلومة تسهل العودة إليها مع الدعاء بطول العمر لفاضل العزاوي وصلاح فائق في الاستمرار في ابداعهما في استدامة نهره الدافق جرياناً وتضوعاً واتساعاً.
وتولده عام 1940 والمقيم في ألمانيا في الوقت الحاضر وصلاح فائق سعيد وتولده 1945 وهو الذي أمضى عشرين سنة في (الفلبين) ولا أدري إنْ ترك تلك البلاد نهائياً واختار بلاد (تركيا) مقاماً ومستقراً له كما اخبرني بذلك الصديق (آزاد أسود أحمد) حيث إلتقاه في تلك البلاد.
كيف تبدو جماعة كركوك للرائي في هذه الأيام بعد رحيل أهم وجوهها في السنوات الأخيرة فقد اغمض (جليل القيسي) عينيه عام 2006 وسركون بولص عام 2007 وأنور الغساني توفاه الله في بلاد (كوستاريكا) عام 2009والأب يوسف سعيد عام 2012. وفي آخر المطاف مؤيد الراوي الذي توفي غداة صدور ديوانه الثالث الموسوم بـ(سرد المفرد) 2015 وكان يوسف الحيدري سبق اصحابه في رحيله الابدي جوار 1993 وبعده بعشر سنوات فرق(جان دمو) اسماله في استراليا البعيدة ثم وشمه الموت بالفراق المحتوم، أعود فأقول آخر وجهين بقيا من هذه الجماعة التي غطت شهرتها وطالت ابداعاتها وأخبارها كل محافظات العراق بل تجاوزتها الى خارج البلاد مع تشتت الصحب في كل أقطار المعمورة، وصل صوتهم واصداؤهم الجزر البعيدة كـ(كوستاريكا) التي القى فيها (انور الغساني) عكاكيز ترحاله وصرنا نصغي إليه عبر كل هذه المسافات البعيدات، فاضل العزاوي الذي تشبث بمهجره الالماني الذي ظلت كتاباته تترى وتتخطى شهرته ألمانيا وتعبر أصقاعاً أخرى عندما ترجمت روايته (آخر الملائكة) الى الانكليزية وكتب عنها (كولن ولسن) وأطراها أما الثاني فهو(صلاح فائق) الذي اصطحب كركوك معه في حله وترحاله بعد أن حمل قلعتها وجسورها وطرقاتها وبساتينها وفهرسها في حقائبه يناجيها في وحدته فاذا هي كائنات تنبض وتدب وصلاح معهم يتهامسون ويتسارون ثم يبوح لهم بأمنيته التي تؤرق مضجعه وهي أن يستقل دراجته الهوائية ويوجهها صوب المعشوقة كركوك حيث المكان الأول والعش الذي تأوي اليه هواجسه وأحلامه. انتقل معظم وجوه المجموعة الى بغداد كان في مقدمتهم العزاوي ثم لحق به الغساني فالراوي ويوسف الحيدري نقل وظيفته وهي في سلك التعليم الى الحلة ومنها عرج الى بغداد وتبع أولاء بقية الأصدقاء وكان آخرهم صلاح فائق ولم يبق في كركوك إلا (القيسي) فلهذا خاطبه مؤيد الراوي في نص كرسه لذكرى (جليل) بانه غدا حارساً لقلعة كركوك وظل متعلقاً بمدينته الى أن توفاه الله عام 2006.
بعد تغير النظام بدأ الاهتمام بالصحب وبكتاباتهم وانجازاتهم وتعقب أخبارهم والى ما آلت إليه تجاربهم الأدبية وما حققوا من أحلام كانوا يصبون إليها آمالهم العِراض.
لقد اعترف الجميع بدور المجموعة في تنشيط وإثراء الحركة الثقافية في العراق إبان ستينيات القرن المرتحل، عملوا بإخلاص وكتبوا بصدق وحفزت كتاباتهم مخيلة المتلقين وكذلك ثابروا في العمل الصحافي وكانت لهم بصماتهم اللاحبة، والشيء الثاني الذي يلفت النظر في منجز الجماعة هو التجريب الذي تعاطوه في مضمار الشعر فكانت خطواتهم الواثقة في مماشي قصيدة النثر، كانت غرساتهم تشتل في أرض عذراء وسفنهم محملة بغريب الرؤى والأخيلة وهي قادمة من الجزر البعيدات. في مكنتي أن أضيف سمة أخرى وسَمَتْ الاصدقاء اولاء وهي الصحبة الطويلة التي ربطت بينهم، بعضها بدأت من أواسط العقد الخمسيني وبعضها تجذر في الستينيات، استمرت هذه الصداقة الى آخر أيامهم فلا يسع المرء إلا الانحناء أمام الصداقة الثلاثية بين سركون بولص وأنور الغساني ومؤيد الراوي وبالرغم من كونهم كانوا مشتتين في بلاد الله الواسعة، مؤيد في ألمانيا وسركون في امريكا والغساني في كوستاريكا إلا انهم كانوا يجددون اللقاء كل صائفة في برلين ويعيدون زهو أيام كركوك الماضيات حيث القلعة ونهر (الخاصة) وشارع (تكساس). إن الوفاء للإنسان والاخلاص للمكان وشما هوية الاصدقاء وخير شاهد على ذلك مجموعة مؤيد الثانية الموسومة بـ(مماليك) حيث فاضت نصوصها بوجدها الأسيان وهي تخاطب الأصدقاء الراحلين وكركوك التي تطفو وتغوص في الذاكرة المضنكة.
يعد (فاضل العزاوي) من أغزر كتاب الجماعة حيث تعاطى الأجناس الادبية كلها برز في قصيدة النثر وكتب روايات اكتنزت برؤاها الممراعة وفي مقدمتها عمله الفذ (آخر الملائكة) حيث استوحاها من مواطن طفولته وصباه وبواكير شبابه وترك احداث روايته تشتبك في فضاءٍ من الميثولوجيات الشعبية والعلاقات الاجتماعية المشتجرة والوقائع التاريخية فكان حصيلة ذلك منجز روائي مشوق يسحر المتلقي محفزاً مخيلته في إدهاشها وإطلاقها نحو التخوم المنداحة، ولا بد من الإشارة ايضاً الى كتابه السيروي الذي حمل عنوان (الروح الحية) الذي حاول فيه أن يقارب المشهد الثقافي في العقد الستيني وفوق ذلك فهو صاحب البيان الشعري الشهير الذي نشر في مجلة (شعر69) العراقية حيث وقعه معه ثلاثة شعراء آخرين هم : سامي مهدي، خالد علي مصطفى، وفوزي كريم، هذا البيان الذي أثار مما أثار من صخب وجلبةٍ وردّ عليه من ردَّ وللاستزادة من هذا الموضوع مراجعة كتب (الروح الحية) للعزاوي و (الموجة الصاخبة) لسامي مهدي و(شعراء البيان الشعري) لخالد علي مصطفى.
صلاح فائق هو الآخر ظل مخلصاً لعالمه الشعري ومن باكورة اعماله الشعرية التي حملت عنوان(رهائن) والمطبوعة في دمشق عام 1975 والى آخر كتاباته الشعرية الكثيرة التي وصلني بعضها مثل (ومضات) و(دببة في مأتم) و(نملة في جنازة) والعديد منها لم يصلني فهو شاعر مقتدر يمتلك مخيلة خصبة وعبرها يمتح من كهاريز ذاكرته ومنها يلتقط ما يخدم صوره الشعرية التي دائماً تحمل الفانتازيا والغرابة والإدهاش وخرق المألوف إلا إن المتلقي يستسيغ تلك الصور تاركة إياه في حالةٍ متناغمة معها وأثبتت الايام إن الشاعر في حالة وفاق مع نبعه الذي يغذيه دائماً ومخلصاً لصوته وادواته حتى عده(عباس بيضون) كاهناً من كهان الشعر.
الشيء المحزن ما يتعلق بمنجز الجماعة هو فقدان مجموعة مؤيد الراوي المعنونة بـ(نزهة في غواصة) حيث قدمها للرقابة العراقية عام 1969 إلا إن الرقابة لم تمنحه اذناً بالإصدار فبقيت المخطوطة عندهم ولا أدري لماذا لم يحاول الشاعر استرجاعها وطبعها في مكان آخر، المخطوطة ضاعت ولكن بقي منها بعض النصوص القليلة وظهر هنا وهناك، ونفس الشيء مع رواية (جليل القيسي) هذه الرواية الافتراضية، لكن الدكتور عبدالله ابراهيم أعلمني بان جليلاً كتب مثل هذه الرواية وربما هي موجودة في أوراقه التي تركها وتحديداً يستطيع ابنه (اسامة) أن يزيح اللبس عن هذا الموضوع هذا اذا ظل محتفظاً بأوراق الراحل (جليل).
ترك الصحب الكثير من الأعمال مع تشتتهم في ارجاء المعمورة وهي تفرعت اجناساً مختلفة وتنوعت ثيماتها فما أحوجنا الآن الى الايدي البيضاء المحبة أن تمتد الى هذه الأعمال تجمعها وتبوبها وتلم أخبار أصحابها لتكون في مظان معلومة تسهل العودة إليها مع الدعاء بطول العمر لفاضل العزاوي وصلاح فائق في الاستمرار في ابداعهما في استدامة نهره الدافق جرياناً وتضوعاً واتساعاً.