بمثل هذا الأسئلة يبدأ الباحث خالد أيوب رحلته في دراسة المفردة "فلسطين".
البحث عن فلسطين: الاسم والمكان
“..وإذا كان هناك أي صحة في القصص التي يروونها عن بحيرة في “فلسطين” فإنها ستظهر من خلال ما أقوله”
أرسطو ( عاش في القرن الرابع ق.م)
-” وكان لمرصيوس ثمانية أبناء قطنوا جميعاً المنطقة الممتدة من غزة إلى مصر، لكن فلسطينوس هو الوحيد الذي حافظت بلاده على اسم مؤسسها والسبب أن الإغريق يطلقون اسم “فلسطين” على هذا القسم من الإقليم.. و(..) كان لآرام أربعة أبناء، قام منهم أوسوس بتأسيس اللجة ودمشق اللتين تقعان وسط المنطقة بين فلسطين وجوف سوريا “
يوسيفوس فلافيوس\ الحوليات 1: 2,6
-“.. وهذا كان مسار الأحداث في “فلسطين”، ذلك أن هذا هو الاسم الذي أعطي لتلك البلاد الممتدة من فينيقيا حتى مصر على امتداد البحر الداخلي، وقد اكتسبوا اسماً آخراً، فقد عرفوا باسم (يهوذا) وعرف السكان أنفسهم بأنهم يهوذيين، ولا أعلم كيف اكتسبوا هذا الاسم، لكنه ينطبق على كل الناس الذين أخذوا بعاداتهم وإن انتموا لأجني أخرى، وهذه الجماعة موجودة حتى بين الرومان ورغم أنها اضطهدت بشدة، فقد تكاثر عددها إلى درجة هائلة”.
كاسيوس ديو( 160- 325 م.) -Historia Romana
ثمة قاعدة-مازالت صحيحة حتى الآن- تقول أنه لم يستطع شعب ينتمي لخارج منطقة الشرق القديم أن يفرض اسمه على جزء منها أو على إقليم محدد منها، وطالما الأمر كذلك، فلماذا علينا أن نقبل، إذن، أن “الفلستيين” فعلوا ذلك؟
رغم أن الاسم الجغرافي “فلسطين” لا يعدّ حديثاً إلّا أنه لا يوجد حتى الآن ما يؤكّد يقيناً مصدره أو جذوره. ويشير موسكاتي بأن التوراة” تسمّي المنطقة المكوّنة من فلسطين وفينيقيا باسم “كنعان” وتسمّي سكانها بالكنعانيين”، ويبدو أن موسكاتي نفسه غير راضٍ عن هذه التسمية فهو يرى أن لفظ “كنعاني وكنعانيين كانا يعنيان قبل كل شيء فينيقيا والفينيقيين ولم يُستعملا إلّا في مراحل متأخرة للدلالة على مدلولين أوسع نطاقاً أحدهم “إثني” والآخر “جغرافي”، وقبل اقتحام الآراميين تاريخ المنطقة كان لفظ كنعان وكنعانيين يشيران إلى عموم المنطقة السورية الفلسطينية وإن كانت الكنعانية بحد ذاتها لا تشير إلى وحدة لغوية حقيقيّة، بل كانت تطلق على أي مجموعة لغوية سورية -فلسطينية غير آرامية(1). وما الطروحات المختلفة: الاستشراقية منها والتوراتية أو العروبية القومية أو حتى تلك المحلية الجهوية (ذات النزعة الآرامية أو الفينيقية) ليست سوى محاولات تسعى لتقديم معنى وأصل الاسم، ولكنها محاولات تبقى تدور في إطار الاجتهادات والتكهنات التي لا يعوّل عليها من الناحية العلمية. ويشير د. زياد منى إلى عدة أمثلة عن ذكر كلمة فلسطين في المصادر القديمة فينقل عن هيرودوت(2): “ومن هناك أرادوا [أي السكيثيون] التقدم أيضاً باتجاه مصر، لكن بسماتخ الأول، ملك مصر، التقاهم بفلسطين في سوريا وأقنعهم عبر الاستجداء والعطايا بالرجوع وعدم التقدم أبعد من ذلك، ولكن عندما وصلوا وهم في طريق العودة إلى مدينة عسقلان الواقعة في سوريا واستمر معظمهم في الترحال، بقيت هناك مجموعة صغيرة منهم قامت بنهب معبد أفروديت، ووفق المعلومات التي جمعتها، فإنه أقدم معبد لتلك الآلهة على الإطلاق، ذلك أن القائم في قبرص: وكما يقول القبارصة أنفسهم، تم بناؤه من قبلهم [أي أهل عسقلان] وأن المعبد القائم في كيثيرا [عاصمة إقليم ليديا وتقع في تركيا الحالية] بناه الفينيقيون الذين قدموا من سوريا”. ثم ينقل عنه أيضاً(3) : “فالمنطقة الممتدة من فينيقيا وحتى منطقة كاديتس [غزة] تابعة لسوريي فلسطين، ومن الأخيرة، وهي مدينة أعتقد أن حجمها يقارب مساحة مدينة سراديس وحتى مدينة يانيسوس، فإن المنطقة الواقعة منها على البحر تابعة للعرب، ومن يانيسوس وحتى بحيرة ساربونيس على البحر-تابعة مرة أخرى للسوريين. وتبدأ حدود مصر قرب بحيرة ساربونيس وهو المكان المفترض أن تيفون اختبأ فيه”، وفي حديث هيرودوت عن الإقليم، ينقل زياد منى قوله في تحديد بداية فينيقيا (4): “من بحرنا عبر فلسطين سوريا وحتى مصر حيث ينتهي هناك. ويعيش فيها ثلاثة أقوام”. والملفت للنظر أن مثل هذا التفصيل عن الإقليم وتضاريسه والأقوام التي عاشت فيه ذكرها هيرودوت دون أي إشارة إلى أورشليم ويهوذا وإسرائيل ومملكتيهما، ولا إلى الغزو البابلي وهو الحدث المركزي في السردية التوراتية “.. الفينيقيون وسورييو فلسطين معاً ثلاث مائة… ووفق ما يقوله الفينيقيون، فقد كانوا في العصور القديمة، يعيشون على ساحل البحر الأحمر، لكنهم قاموا بالانتقال عبر سوريا إلى شريط الساحل الذي يقطنونه حالياً، ولكن هذا القسم من سوريا وكافة الأراضي الممتدة حتى مصر تسمى فلسطين…”(5). وبالإضافة إلى الإشارات المختلفة لهيرودوت عن اسم الإقليم، وينقل د. زياد منى عن المؤرخ الروماني فلافيوس أريان عن حروب الاسكندر اعتماداً على ما كتبه المؤرخ الإغريقي كزينزفون (430-354 ق.م) “لكن الاسكندر قرر الاستمرار في التقدم نحو مصر، وهنا انضمت إليه باقي أقسام سوريا التي تعرف باسم فلسطين.” ثم يقول على لسان الاسكندر الذي يخاطب قواته المتمردة عليه “فأنتم المستفيدون من كل ما توفره بضائع مصر أو برقة، اللتين تمكنا من أخذهما دون اللجوء إل السيف وكل سوريا وفلسطين وما بين النهرين”(6).
المصدر: زياد منى/ تاريخ فلسطين القديم
وإذا كانت اللقى الأثرية تعتبر من الأدلة الأكثر وثوقيّة في هذا المجال، فإن “التأويل الدائري” لهذه اللقى يعدّ المنهج السائد في الأبحاث الكتابية التي تنظر لتاريخ المنطقة باعتباره تاريخ شعوب وأقوام العهد القديم, ويتم تفسير الوقائع التاريخية حسب معطيات النصوص الكتابية, لذلك من المنطقي أن تقوم هذه البحوث بربط اسم فلسطين بأحد القبائل المعروفة التي ذكرتها التوراة، أي شعوب البحر، الذين ينظر لهم كغزاة أجانب للمنطقة في وقت ما من القرن الثاني عشر ق.م. فدمّروا حضارات كانت قائمة مثل الحيثيين ومملكة أوغاريت وغيرها من ممالك الساحل الشرقي لحوض المتوسط، وبعض مدن بحر إيجة وصولاً إلى سواحل مصر، حين تصدّى لهم الملك المصري رعمسيس الثالث فدحرهم مثلما تشير النقوش من تلك الفترة عن مواجهته لثلاث هجمات وقعت في منطقة الدلتا خلال سنوات حكمه الإحدى عشر الأولى, ففي العام الخامس من حكمه (1182 ق.م) هاجمت بعض القبال الليبية غرب الدلتا “يزعم الملك المصري أنه قتل منهم نحو 12535″، وبعد ثلاث سنوات (1179 ق.م) هاجمت مصر من الشرق قوة تتكون في الغالب من الفلست والتجكرTjekker، بمساعدة الوشيش Weshesh والشيكليش ShekeleshوالدونانDenyen ،والتورشا Tursha، الأمر الذي دفع رعمسيس لمواجهتهم في معركة دجاهي البرية Djahi، في مكان ما من جنوب بلاد الشام، كما هزم فرقة مهاجمة أخرى من نفس التحالف في معركة بحرية. وفي عامه الحادي عشر (1176 ق.م) كان عليه أن يواجه غزواً ليبياً آخر. وتشير سجلات مدينة حابو عن قتل رعمسيس الثالث لحوالي 2175 من رجال المشواش Meshwesh (وأسر 1200 آخرين) (7). وتذكر بردية هاريس( (Papyrus Harris I: LXXVI, أن رعمسيس الثالث أخذ الفلست أسرى له وأسكنهم في مدنه المحصنة، ومن المتفق عليه بين أهل الاختصاص أن “برشت\ فرست PRST هم نفسهم بلست Peleset ويعتقد المختصون أن المصريين القدماء لم يكونوا يعرفوا حرف اللام, لذلك كل لام عند غيرهم تصبح عندهم راء, وبالتشابه بين فلست \فلشت التوراتية صار هؤلاء فلستيون، ورغم احتمالية هذا التأويل، إلّا أنه لا يمكن الركون إليه وحده، إذ يرى توماس طومسون أن استمرار الاسم “فلست\فرست” في المنطقة يشبه نوعاً ما استمرار أي اسم آخر، مثل الدونان وقربه من اسم دان، وكذلك الشردان و قربه من اسم جزيرة سردينيا، إلّا أن هذا لايعني بالضرورة وجود علاقة بين هذه الأسماء وتلك الأماكن(9), علماً أن نصوص العهد القديم نظرت إلى الفلستيين كجماعة أجنبية أتت من كفتور, “يحددها إسرائيل فنكلشتين بأنها كريت(10)، رغم أنه لم يعثر في فلسطين أو في أي مكان آخر على نقش يعود لهؤلاء الفلست. كما تربط التوراة بينهم وبين خمس مدن قامت فيها حضاراتهم، (سفر يشوع 13 : 3) [مِنْ شَيحورَ الجاري في مِصْرَ إلى أرضِ عَقرونَ شمالا وهيَ لِلكنعانيِّينَ وفيها أقطابُ الفِلسطيِّينَ الخمسةُ في غزَّةَ وأشدودَ وأشقَلونَ وجَتَّ وعَقرونَ وأرضُ العَوِيِّينَ في الجنوبِ.]. كما يربط الكتاب بينهم وبين ظهور الأسلحة الحديدية (سفر القضاة 1 : 19) [ وَكَانَ الرَّبُّ مَعَ أَبْنَاءِ يَهُوذَا فَتَمَلَّكُوا الْجَبَلَ، وَلَكِنَّهُمْ أَخْفَقُوا فِي طَرْدِ سُكَّانِ الْوَادِي لأَنَّهُمْ كَانُوا يَمْلِكُونَ مَرْكَبَاتٍ حَدِيدِيَّةً].
المصدر: زياد منى، تاريخ فلسطين اقديم
والتفسير الاستشراقي\الصهيوني لمعنى وأصل الاسم فلسطين المستمد من المفردة الكتابية “فلشتيم” وتنويعاتها هو أكثر التفاسير شيوعاً وهيمنةً، وباستخدام المنهج اللغوي المقارن بين “بلست” و”فلشتيم”، باعتبار أن البلست هم أحد شعوب التوراة مثلهم مثل أقوام أخرى كالعمونيين والمؤابيين واليبوسيين والحيثيين.. تم تصنيفهم باعتبارهم شعوباً،(سوف أستعرض في مقالات لاحقة حقيقة هذه “الشعوب”). أما البلست فموطنهم الأصلي كما سبق القول “حسبما يرى فنكلشتين” جزيرة كريت وقد قدموا منها واستوطنوا الساحل الجنوبي لفلسطين، وتم الاستدلال على أن البلست هم الفلشتيم بالمقارنة التالية: يرى البعض أن الاسم تعرّض لما يعرف بالإبدال اللفظي (وهي قاعدة تخضع لها الحروف ذات المخرج الصوتي الواحد أو المشترك)، فتم استبدال الباء في بلست إلى فاء ليتحول الاسم إلى فلست \فلشت، وبالجمع فلشتيم، مثلما يفترض، لأن كل سين في العبرية تقلب شيناً والعكس بالعكس، فكلمة شعر هي سعر وجسر تصبح جشر (وفي الإسرائيلية الحديثة المتأثرة بالييديش تصبح جيشر ” بالجيم المصرية غير المعطشة”) أما الياء والميم في فلشتيم فهما علامة الجمع العبرية، وهكذا أصبح البلست فلشتيم، ولن أذهب، هنا، بعيداً لإثبات صحة أو عدم صحة المنهج اللغوي المقارن في استنتاج المعاني أيّاً كان الباحث أو المدرسة النقدية التي تعتمد هذا المنهج كأداة عمل وتحليل لها. بل سوف أنطلق من مقاربة مختلفة سأعتبرها أساساً لفهم معنى اسم فلسطين الذي أطلق على تلك المنطقة الجغرافيّة المحددة من إقليم بلاد الشام، وسوف أتغاضى -مؤقتاً- عن الإجابة عن سؤال متى أطلق هذا الاسم على المنطقة، نظراً للاختلافات الكثيرة حول هذه المسألة، فضلاً عن استحالة الإجابة على هذا السؤال دون أن التعرف على الأصول اللغوية للكلمة ذاتها. ويرد في سفر التكوين 10: 14 (وَمِصْرَايِمُ وَلَدَ: لُودِيمَ وَعَنَامِيمَ وَلَهَابِيمَ وَنَفْتُوحِيمَ وَفَتْرُوسِيمَ وَكَسْلُوحِيمَ. الَّذِينَ خَرَجَ مِنْهُمْ فِلِشْتِيمُ وَكَفْتُورِيمُ) وقد اعتبرت كفتور بأنها قبرص وبالتالي فشعوب البحر هم الفلستيين( فلستيم) أي هم \أنفسهم الذين حاربهم و أسرهم رعمسيس الثالث، ونص الآية السابقة هو كما يلي: ( ومصريم يلدءت لوديم وءت عنميم وءت لهبيم وءت فترسيم وءت كسلحيم ءشر يصءو مشم فلشتيم وءت كفتريم) ، أي أن مصراييم وَلَدَ بني لود وعنام ولهاب ونفتوح وفتروس وكسلوح كما ولد كفتور الذين خرج منهم الفلسطيون”. علما أن الترجمة العربية الأقدم تقول ” ومصراييم ولد لوديم وعناميم لهابيم ونفتوحيم وفتروسيم و كسلوحيم الذين خرج منهم فلسطيون و كفتوريون” وتبدو هذه الترجمة أكثر دقة من سابقتها إذ لامعنى للقول ” كما ولد كفتور الذين خرج منهم الفلسطيون”(11)
وقد عثر على مفردة فلست في نقش يعود للملك المصري رعمسيس التاسع (1134-1117 ق.م) كإشارة إلى نوعين من شعوب البحر “شردانا” و “تجكر” وإلى ثلاث مدن “فلستية”: عسقلان وأسدود وغزة(12). ويوظف العهد القديم الصيغ المختلفة للاسم: فلست،هفلستيم، فلستيم، فلستييم للدلالة على سكان تلك المدن، وتعدد الصيغ اللغوية لهذه الأسماء يعكس حقيقة أن التوراة اعتمدت على مصادر مختلفة للاسم، سواء للشعب أو للإقليم، ويبدو أن الصيغة العربية الحالية “فلسطين” مشتقة من الآرامية فلستءين(13) ، وليس سراً القول أن العرب يميلون إل تفخيم الأسماء الأعجمية التي تحتوي حرف التاء مثل أفلاطون و أرسطو وفلسطين.. إلخ.
يعزى انهيار العصر البرونزي في منطقة البحر الأبيض المتوسط إلى ما يطلق عليهم شعوب البحر، الذين تسببوا بدمار هائل ثم اختفوا فجأة كما ظهروا. وتزخر إلياذة هوميروس بالعديد من الشواهد عن نهب وانهيار المدن في تلك الفترة، كما تظهر نقوش رعمسيس الثالث عن توطين بعض ما يسمى بشعوب البحر “الفلستيين” في مصر أو حولها. ولكن كيف أصبح سكان فلسطين هم البلست الذين أتوا من البحر (جزر بحر إيجة اليونانية وكريت) وسكنوا الشواطئ الجنوبية قرب غزة في القرن الثاني عشر ق.م؟ (يؤرخ البعض ظهورهم بحلول العام 1900 ق.م نظراً لذكرهم في المرويات المتعلقة بارتحال إبراهيم من “أور الكلدانيين” وتوطنه في فلسطين، وهذا ما سوف نعود إليه لاحقاً)، فيرد في سفر التكوين (21: 34 ): ” وَتَغَرَّبَ إِبْرَاهِيمُ فِي أَرْضِ الْفِلِسْطِينِيِّينَ أَيَّامًا كَثِيرَةً ” (ويجر ءبرهم بءرص فلشتيم يميم ربيم) وعلى الرغم من قلّة عدد كلمات هذه الآية، إلّا أنها تحتوي على الكثير من الغموض واللبس، فهي لا تشير إلى أرض قوم بعينهم، أي أرض الفلسطينيين، لأن أداة التعريف غير موجودة في الأصل ولكي يستقيم المعنى ينبغي أن تكون الترجمة كما يلي: “وَتَغَرَّبَ إِبْرَاهِيمُ فِي أَرْضِ ْفِلِسْطِينِ أَيَّامًا كَثِيرَةً”. ولعل الالتباس في فهم ومن ثم ترجمة هذا النص أو غيره يعود لعدم التمييز-قصداً أم سهواً- بين فلست كمفرد وفلستيم كجمع وبالتالي استسهال التعبير تبادلياً لاً بينهما كأنهما شيء واحد، وهكذا تم اعتبار هفلشتيم قوم أو أقوام يسكنون في مكان يدعى فلشت قريب من مسكنهم وهؤلاء الفلشتيم هم نفسهم الفلستيين\الفلسطيين\الفلسطينيين .. إلخ، ومثل هذا الخطأ يتكرر كثيراً، مثل تسمية أبيمالك ملك جرار كملك للفلسطينيين رغم أن النص يقول صراحة أنه ملك فلشتيم وهي بالتأكيد لا تعني ملك الفلسطينيين لعدم وجود أداة التعريف. فإذا كان من الصعب إثبات وجود قوم يعرفون باسم الفلستيين في عصر إبراهيم المفترض، فثمة إشارات متفرقة في نصوص اللعن المصرية والتي تعود لأوائل الألفية الثانية ق.م، تشير إلى أسماء “دول” و “حكّام” من سوريا وفلسطين، ولكن دون الإشارة إلى مكان جغرافي محدد يعرف باسم فلسطين، وتنويعاتها، فلست, ءرص فلشتيم، فلشتيم، بلست.. إلخ، كما أن الفترة السابقة للظهور المفترض للإسرائيليين والمعروفة لأهل الاختصاص باسم عصر العمارنة لا تشير إلى اسم مكان محدد يدعى فلسطين و تنويعاته السابقة, وأول ربط لهذا الاسم سوف يأتي بعد قرنين، على الأقل، من ذلك العصر مع غزوات شعوب البحر التي تؤرخ لانهيار حضارات وممالك الشرق القديم ونهاية العصر البرونزي المتأخر. وابتداء من القرن الثاني عشر ق.م، صار بإمكاننا العثور على أسماء تظهر لأول مرة في تاريخ المنطقة مثل: البلست.. ولكن هزيمتهم على يد رعمسيس الثالث، أدت بهم إلى التوجّه نحو الساحل الفلسطيني و توطنه. ومن هذه اللحظة يبدأ بالظهور على مسرح الأحداث شعوب وأقوام كثيرة و عديدة حسب الوقائع التوراتية المفترضة فصرنا نعرف المؤابيين والعبرانيين والفلستيين والعمّونيين والميديانيين والأدوميين.. إلخ.
أول رفض، على يد المستهودين العرب، لتأويل البلست بأنهم فلشتيم جاء فيما طرحه كمال الصليبي ومن تبعه مثل فاضل الربيعي وزياد منى وغيرهم, وقد رأى الصليبي أن فلسطين = فلس+ طي+ ن ” وهي النون اليمنية، وفي هذا الصدد يقول ابن الكلبي أنه كان لقبيلة طيّء صنم يقال له “فلس” وسط جبل أجأ وكان سدنته بنو بولان، ولم يزل فلس يُعبد حتى أرسلَ النبي بعد فتح مكة عليّاً بن أبي طالب فهدمه(14). وتذكر الموسوعة اليمنية(15) في الحديث عن الزراعة أن ثمر التين ( البَلَس العربي) معروف في اليمن منذ القدم, وتورد الموسوعة(16) شروحات أوفى عن البّلّس فتقول أنه ثمرة التين في لهجة أهل اليمن, ولا يقال للتين في اليمن إلا البَلَس، ويطلق الاسم على جميع أنواع التين المستزرع، أمّا التين البرّي فيطلق عليه أهل اليمن اسم (البَلَس الكلبي) مثلما يطلق أهل الشام صفة “الكلابي” على نوع من المُشمُش تكون ثماره صغيرة وبذوره مرّة الطعم. كما أطلق أهل اليمن اسم البَلَس التركي على ثمار “الصبّار” المستجلب للبلاد خلال العصر العثماني لتمييزه عن البَلَس العربي أي التين, ثم أبت اللغة إلّا أن تفاجأنا فتظهر كلمة بَلَس من جديد، ففي بلاد الشام ينادي الباعة على الصبّارة بالعبارة (صبّارة يا تين)، علماً أن كلمة بَلَس بحد ذاتها قديمة وقد ورد في الحديث: “من أراد أن يرقَّ قلبه فليدمن أكل البَلَس“، كما ذكرها المعرّي في بعض شعره حين يقول:
حسبي من بلسن يمارس لي فإن تكن لي حلاوة فبلس
وقد اختلف أهل الاختصاص في معنى بلس هنا، ففريق اعتبر أن الباء حرف جر و “لس” هو العشب الغض الطري, وما سبقها من قوله عن حلاوة الطعم لاتدع مجالاً للاختلاف بين التين والعشب، وتؤكد الموسوعة اليمنية أن كلمة بَلَس تستخدم بصورة واسعة في الأغاني والأقوال الشعبية اليمنيّة، فإذا نظرنا إلى فلسطين باعتبارها “الأرض المقدسة” حسب الأديان الوثنيّة والسماويّة فسوف تكون معابدها “مقدسة” أيضاً وجغرافيتها “مقدسة” والحروب على أرضها “مقدسة” ولغتها لاشك ستكون “مقدسة”، حتى الأبجدية الفلسطينية سيطلق عليها الأبجدية “المقدسة”، وإذن، والحال هذه، لن تنتج أرضها سوى الثمار المقدسة، وليس صعباً التدليل على “قدسيّة” التين (ويمكن مقارنة مفردة التين مع غيرها من اللغات القديمة، وهذا موضوع آخر له علاقة بالنصوص الآثارية ربما نأتي على ذكره في بحث آخر).
جميع المعطيات السابقة بخصوص (فلس- تين) و (بلس-تين) لم تؤخذ بالحسبان عند التطرق لمعنى وأصل كلمة فسطين، بل تم النظر اعتباطياً إلى كلمة فلشتيم التوراتية واعتبارها مطابقة لما نطلق عليه الآن “فلسطين”.
وقد يحلو للبعض القول أن اللاحقة “بلس” في بعض أسماء الأماكن مثل طرابلس وديكابلس ونابلس تيح لنا القول أن أصل فلسطين هو بلس تين= بلستين أي بلاد التين، ورغم وجاهة مثل هذا التأويل إلّا أنه لايصمد أمام وقائع عدة، أهمها أن الاسم فلسطين هو بلا شك سابق لوجود لرومان في المنطقة. بل أن الرومان حين ألغوا التسمية “يهوذا” للمقاطعة واستبدلوه بالاسم “فلسطين” سنة 135 م، لم يخترعوا الاسم من عندياتهم، بل أخذوه من الاسم القديم للإقليم، فالعلاقة التاريخية بين الحضارة اليونانية-الرومانية مع الشرق معقّدة وشائكة وتشتبك معها في جميع المجالات الحيوية، ولعل أحدها التسميات اليونانية لبعض الأماكن مثل: قسطنطينية،طرابلس، لاذقية، طرطوس، طبريا.. إلخ، فهل “فلسطين” هي أحد هذه “التشابكات” المعقّدة؟
يزداد هذا الاحتمال، حين نقارن فلسطين مع غيرها من الكلمات التي تقع على “وزنها” مثل قسطنطين وأغسطين وراماتين، وأغسطين هو اسم ولقب الملك البيزنطي هرقل (فلافيوس أوغسطوس هيراكليوس) كما أن قسطنطين اسم ابنه من زواجه من مارتينا ابنة اخته، وله ابن آخر يدعى قسطنطين” الثالث” من زواجه من فابيا إيدوكيا. ويذكر الواقدي في فتوح الشام أن لهرقل هذا ابن يدعى “فلسطين”: ” فلسطين ابن هرقل كان القائد العسكري الذي هُزم أمام عمرو بن العاص في الفتوحات الإسلامية على أرض فلسطين حين التقاه في محل”. وكان آخر القادة البيزنطيين الذي حكموا الإقليم.
من ناحية أخرى، عرف الإغريق عبادة الإله بَلَسْ “بالاس” بإطلاق الأحرف الصوتية عوض عن الحركات في اللغة العربية, واسم هذا الإله يمثل الأحرف الثلاثة الأولى من كلمة فلسطين في اللغات الأوروبية” بالاستين\ بلستين”، ومن الجدير ذكره أن الإله بَلَسْ كان شديد الالتصاق بالإلهة الإغريقية الشهيرة أثينا، بل أنه يتوحد معها في البلاديوم الإغريقي باسم: ب ل س أ ت ي ن ا(17)، وهو يطابق إلى درجة كبيرة اسم فلسطين الحالي في معظم اللغات الأوروبية. المشتقة مباشرة أو بطريقة غير مباشرة من الإغريقية واللاتينية وحتى السلافية، وقد عبد الإغريق أثينا كآلهة حرب وصوّروها تصوب سهامها نحو الأعداء، فتصيب صديقة طفولتها فتقتلها على الفور، فتحزن عليها وتقرر أن تقيم لها “فلس” وتضيف اسم صديقتها إلى اسمها لتصبح ف ل س ا ت ي ن ا = ب ل س ا ت ي ن ا، وبالتالي تتضح لنا هنا مسألة ورود الاسم بحالتين الأولى تبدا بحرف “ب\P” و الأخرى “ف\PH” ( بالنسبة لنا تبدأ الكلمتان بحرف “ب” في كلتا الحالتين)، ولعل هذا يدفع بنا للبحث، من جديد، عن معنى “فلس” الذي تحدّث عنه ابن الكلبي، إذ تستخدم المعاجم العربية في تصريف الكلمات الكلمة ” فلس” فترد كميزان صرفي للكلمات قبل أن تحل محلها كلمة “فعل”، والميزان الصرفي في اللغة يعني التماثل مثل “تماثل” كفتي الميزان، أي قولنا بأن كذا “مثل” كذا، كما أن الكلمة فلس أصبحت تعني وحدة نقدية ” للصرافة والشراء” تستخدم في العمليات التجارية من بيع و شراء ومقايضة ورهن ودين وغيرها وباتت تعني مبادلة شيء بشيء يساويه، أي، “مثله”، كما أن قولنا بأنها “مثل كذا” وقرين أثينا صارت “مثلها” أي آلهة، ومن هنا أتى معنى “تمثال”، أي أنه “يماثل” الأصل, فتمثال الزعيم يحاكي الزعيم وتمثال الفلاح هو فلاح مثله.. وهكذا.
ويذكر سامي سعيد الأحمد (18) كيف اتصل الإله زيوس بالآلهة سيميل” (وهي ابنة قدموس ملك طيبة حسب الأساطير الإغريقية) فحملت منه، لكنها ماتت قبل أن تلد، فقام زيوس بانتزاع ابنه “ديونيسيوس” من رحمها، فعاش الولد وكبر، لكنه ظلّ يشعر بالشوق لأمه ويرغب في رؤيتها، ولأن ديونيسيوس كان بمقدوره أن يمضي للعالم السفلي ويعود للحياة ثانيةً (كنوع من التأويل لتعاقب الفصول) حيث كان يقضي فترة سباته\ موته المؤقت هناك، فقد خطر له أن يختطف أمّه سيميل ويعيدها للحياة, غير أنه خشي من غضب آلهة الموت بأن تكتشف غيابها فلجأ إلى حيلة تقضي بأن يصنع “تمثال” من خشب التين يماثل أمّه سيميل تماماً فصنع فلس من التين= (ف ل س ت ي ن) يشبهها ووضعه مكانها.
أخيراً يتيح لنا علم الآثار بمعطياته الحديثة القيام بتقويم جديد للمصادر القديمة ومراجعة الدراسات الأكاديمية المختلفة إعادة النظر في تأويل اللقى الآثارية والسعي بطرق أكثر صوابيّة نحو إعادة كتابة تاريخ المنطقة، أو على الأقل، إعادة النظر بما هو مكتوب الآن، لاسيما في الفترات التي تهم موضوع بحثنا هنا، أي نهاية العصر البرونزي المتأخر وأطوار العصر الحديدي المختلفة، وربطها ليس فقط بشعوب المنطقة، بل ايضاُ بالمناطق المحيطة بها / الأناضول وجزر بحر إيجة والعالم الإغريقي القديم، وبالتالي يمكن القول، أن شعوب البحر أولئك، لم يكونوا أغراباً أو شعوب بحر بالضرورة، بصورة كاملة، إذ تنظر بعض الفرضيات للظهور المفاجئ لهم “والمقصود الفلست هنا” على أنهم اقوام استوطنوا جنوبي بلاد الشام وفقاً لهجرات ” بريّة”, ويدللون على ذلك من خلال نقوش مدينة حابو التي تصور اشتباك الجيش المصري في معركة بريّة مع قوات أجنبية يمتطي رجالها عربات تجرّها الثيران، ومع ذلك لا يوجد دليل أثري على مثل هذه الهجرة، فضلاً عن عدم وجود هجرات بحرية بالطريقة التي يمكن تخيلها من مواقع بحر إيجة.
في حقيقة الأمر، إن ما يثير “قلق” الباحثين “الكتابيين” التناقض الكبير بين الـتأويل النصي والبحث الآثاري، فعلى سبيل المثال، يذكر سفر القضاة 16:23 أن الفلستيين عبدوا الإله “دجن” وهو يعتبر تقليدياً إلهاً سامياً غربياً بأصول عمّورية ربما.” وَأَمَّا أَقْطَابُ الْفِلِسْطِينِيِّينَ فَاجْتَمَعُوا لِيَذْبَحُوا ذَبِيحَةً عَظِيمَةً لِدَاجُونَ إِلهِهِمْ وَيَفْرَحُوا، وَقَالُوا: «قَدْ دَفَعَ إِلهُنَا لِيَدِنَا شَمْشُونَ عَدُوَّنَا”. فإذا كان الفلستيون ينتمون لجزر بحر إيجة فكيف لهم أن يعبدوا إلهاً غريباً؟. فلندعهم يقلقون إذن كما يشاؤوا.
….
هوامش
1- سبتينو موسكاتي، الحضارات السامية القديمة، ترجمة د. السيد يعقوب بكر، دار الكتاب العربي للطباعة و النشر, القاهرة، ص 114
2- هيرودوت ( 1: 107) في :زياد منى، زياد منى، مقدمة في تاريخ فلسطين القديم، بيسان للنشر والتوزيع والإعلام، بيروت، الطبعة الأولى، 2000، ص 72
3- هيرودوت ( 3 : 5)، في زياد منى / مصدر سابق، ص 73
4- هيرودوت ( 4 : 39)، في زياد منى، مصدر سابق، ص 74
5- هيرودوت ( 7 : 89)، في زياد منى، مصدر سابق، ص 74
6- فلافيوس آريان(2: 4, 25)، في زياد منى، مصدر سابق، ص 81
7- انظر: Edgerton and Wilson, Historical Records of Ramses Ill: The Texts in “Medinet Habu ” Volumes I and II , Translated with Explanatory Notes (Chicago : University of Chicago Press,1936), plate 75.
8- انظر: Papyrus Harris I, trans. Samuel Birch, 1876 accessed online
...
9- انظر على سبيل المثال مواقع مختلفة في، توماس طومسون، التاريخ القديم للشعب الإسرائيلي, ترجمة صالح على سوداح، بيسان للنشر والتوزيع والإعلام، 1995
10- انظر: Finkelstein, Israel. 2002, ‘The Philistines in the Bible: A Late-Monarchic Perspective’, Journal for the Study of the Old Testament 27, 2, 131-167
11- زياد منى، مصدر سابق، ص 59
12- زياد منى، مصدر سابق، انظر مواقع مختلفة من الفصل المعنون فلسطين- الإقليم ص 71-88
13- زياد منى، مصدر سابق, ص 53
14 -هشام بن السائب الكلبي، تحقيق، أحمد زكي باشا، دار الكتب المصرية، 1995 الأصنام ص 56
15- الموسوعة اليمنية، مركز دراسات الوحدة العربية، ج 2، ص 1468
16- الموسوعة اليمنية، مصدر سابق، ج 1 ، ص 540.
17- للمزيد حول معبد البلاديوم “بالاس أثينا”، انظر/ معجم الأساطير، ماكس شابيرو، رودا هندريكس، ترجمة حنا عبّود، دار الكندي 1989، ص 194.
18- سامي سعيد الأحمد/ زووس, مطبعة جامعة بغداد 1970، ص 34
...
خالد أيوب / كاتب ومؤرخ
البحث عن فلسطين: الاسم والمكان
“..وإذا كان هناك أي صحة في القصص التي يروونها عن بحيرة في “فلسطين” فإنها ستظهر من خلال ما أقوله”
أرسطو ( عاش في القرن الرابع ق.م)
-” وكان لمرصيوس ثمانية أبناء قطنوا جميعاً المنطقة الممتدة من غزة إلى مصر، لكن فلسطينوس هو الوحيد الذي حافظت بلاده على اسم مؤسسها والسبب أن الإغريق يطلقون اسم “فلسطين” على هذا القسم من الإقليم.. و(..) كان لآرام أربعة أبناء، قام منهم أوسوس بتأسيس اللجة ودمشق اللتين تقعان وسط المنطقة بين فلسطين وجوف سوريا “
يوسيفوس فلافيوس\ الحوليات 1: 2,6
-“.. وهذا كان مسار الأحداث في “فلسطين”، ذلك أن هذا هو الاسم الذي أعطي لتلك البلاد الممتدة من فينيقيا حتى مصر على امتداد البحر الداخلي، وقد اكتسبوا اسماً آخراً، فقد عرفوا باسم (يهوذا) وعرف السكان أنفسهم بأنهم يهوذيين، ولا أعلم كيف اكتسبوا هذا الاسم، لكنه ينطبق على كل الناس الذين أخذوا بعاداتهم وإن انتموا لأجني أخرى، وهذه الجماعة موجودة حتى بين الرومان ورغم أنها اضطهدت بشدة، فقد تكاثر عددها إلى درجة هائلة”.
كاسيوس ديو( 160- 325 م.) -Historia Romana
ثمة قاعدة-مازالت صحيحة حتى الآن- تقول أنه لم يستطع شعب ينتمي لخارج منطقة الشرق القديم أن يفرض اسمه على جزء منها أو على إقليم محدد منها، وطالما الأمر كذلك، فلماذا علينا أن نقبل، إذن، أن “الفلستيين” فعلوا ذلك؟
رغم أن الاسم الجغرافي “فلسطين” لا يعدّ حديثاً إلّا أنه لا يوجد حتى الآن ما يؤكّد يقيناً مصدره أو جذوره. ويشير موسكاتي بأن التوراة” تسمّي المنطقة المكوّنة من فلسطين وفينيقيا باسم “كنعان” وتسمّي سكانها بالكنعانيين”، ويبدو أن موسكاتي نفسه غير راضٍ عن هذه التسمية فهو يرى أن لفظ “كنعاني وكنعانيين كانا يعنيان قبل كل شيء فينيقيا والفينيقيين ولم يُستعملا إلّا في مراحل متأخرة للدلالة على مدلولين أوسع نطاقاً أحدهم “إثني” والآخر “جغرافي”، وقبل اقتحام الآراميين تاريخ المنطقة كان لفظ كنعان وكنعانيين يشيران إلى عموم المنطقة السورية الفلسطينية وإن كانت الكنعانية بحد ذاتها لا تشير إلى وحدة لغوية حقيقيّة، بل كانت تطلق على أي مجموعة لغوية سورية -فلسطينية غير آرامية(1). وما الطروحات المختلفة: الاستشراقية منها والتوراتية أو العروبية القومية أو حتى تلك المحلية الجهوية (ذات النزعة الآرامية أو الفينيقية) ليست سوى محاولات تسعى لتقديم معنى وأصل الاسم، ولكنها محاولات تبقى تدور في إطار الاجتهادات والتكهنات التي لا يعوّل عليها من الناحية العلمية. ويشير د. زياد منى إلى عدة أمثلة عن ذكر كلمة فلسطين في المصادر القديمة فينقل عن هيرودوت(2): “ومن هناك أرادوا [أي السكيثيون] التقدم أيضاً باتجاه مصر، لكن بسماتخ الأول، ملك مصر، التقاهم بفلسطين في سوريا وأقنعهم عبر الاستجداء والعطايا بالرجوع وعدم التقدم أبعد من ذلك، ولكن عندما وصلوا وهم في طريق العودة إلى مدينة عسقلان الواقعة في سوريا واستمر معظمهم في الترحال، بقيت هناك مجموعة صغيرة منهم قامت بنهب معبد أفروديت، ووفق المعلومات التي جمعتها، فإنه أقدم معبد لتلك الآلهة على الإطلاق، ذلك أن القائم في قبرص: وكما يقول القبارصة أنفسهم، تم بناؤه من قبلهم [أي أهل عسقلان] وأن المعبد القائم في كيثيرا [عاصمة إقليم ليديا وتقع في تركيا الحالية] بناه الفينيقيون الذين قدموا من سوريا”. ثم ينقل عنه أيضاً(3) : “فالمنطقة الممتدة من فينيقيا وحتى منطقة كاديتس [غزة] تابعة لسوريي فلسطين، ومن الأخيرة، وهي مدينة أعتقد أن حجمها يقارب مساحة مدينة سراديس وحتى مدينة يانيسوس، فإن المنطقة الواقعة منها على البحر تابعة للعرب، ومن يانيسوس وحتى بحيرة ساربونيس على البحر-تابعة مرة أخرى للسوريين. وتبدأ حدود مصر قرب بحيرة ساربونيس وهو المكان المفترض أن تيفون اختبأ فيه”، وفي حديث هيرودوت عن الإقليم، ينقل زياد منى قوله في تحديد بداية فينيقيا (4): “من بحرنا عبر فلسطين سوريا وحتى مصر حيث ينتهي هناك. ويعيش فيها ثلاثة أقوام”. والملفت للنظر أن مثل هذا التفصيل عن الإقليم وتضاريسه والأقوام التي عاشت فيه ذكرها هيرودوت دون أي إشارة إلى أورشليم ويهوذا وإسرائيل ومملكتيهما، ولا إلى الغزو البابلي وهو الحدث المركزي في السردية التوراتية “.. الفينيقيون وسورييو فلسطين معاً ثلاث مائة… ووفق ما يقوله الفينيقيون، فقد كانوا في العصور القديمة، يعيشون على ساحل البحر الأحمر، لكنهم قاموا بالانتقال عبر سوريا إلى شريط الساحل الذي يقطنونه حالياً، ولكن هذا القسم من سوريا وكافة الأراضي الممتدة حتى مصر تسمى فلسطين…”(5). وبالإضافة إلى الإشارات المختلفة لهيرودوت عن اسم الإقليم، وينقل د. زياد منى عن المؤرخ الروماني فلافيوس أريان عن حروب الاسكندر اعتماداً على ما كتبه المؤرخ الإغريقي كزينزفون (430-354 ق.م) “لكن الاسكندر قرر الاستمرار في التقدم نحو مصر، وهنا انضمت إليه باقي أقسام سوريا التي تعرف باسم فلسطين.” ثم يقول على لسان الاسكندر الذي يخاطب قواته المتمردة عليه “فأنتم المستفيدون من كل ما توفره بضائع مصر أو برقة، اللتين تمكنا من أخذهما دون اللجوء إل السيف وكل سوريا وفلسطين وما بين النهرين”(6).
المصدر: زياد منى/ تاريخ فلسطين القديم
وإذا كانت اللقى الأثرية تعتبر من الأدلة الأكثر وثوقيّة في هذا المجال، فإن “التأويل الدائري” لهذه اللقى يعدّ المنهج السائد في الأبحاث الكتابية التي تنظر لتاريخ المنطقة باعتباره تاريخ شعوب وأقوام العهد القديم, ويتم تفسير الوقائع التاريخية حسب معطيات النصوص الكتابية, لذلك من المنطقي أن تقوم هذه البحوث بربط اسم فلسطين بأحد القبائل المعروفة التي ذكرتها التوراة، أي شعوب البحر، الذين ينظر لهم كغزاة أجانب للمنطقة في وقت ما من القرن الثاني عشر ق.م. فدمّروا حضارات كانت قائمة مثل الحيثيين ومملكة أوغاريت وغيرها من ممالك الساحل الشرقي لحوض المتوسط، وبعض مدن بحر إيجة وصولاً إلى سواحل مصر، حين تصدّى لهم الملك المصري رعمسيس الثالث فدحرهم مثلما تشير النقوش من تلك الفترة عن مواجهته لثلاث هجمات وقعت في منطقة الدلتا خلال سنوات حكمه الإحدى عشر الأولى, ففي العام الخامس من حكمه (1182 ق.م) هاجمت بعض القبال الليبية غرب الدلتا “يزعم الملك المصري أنه قتل منهم نحو 12535″، وبعد ثلاث سنوات (1179 ق.م) هاجمت مصر من الشرق قوة تتكون في الغالب من الفلست والتجكرTjekker، بمساعدة الوشيش Weshesh والشيكليش ShekeleshوالدونانDenyen ،والتورشا Tursha، الأمر الذي دفع رعمسيس لمواجهتهم في معركة دجاهي البرية Djahi، في مكان ما من جنوب بلاد الشام، كما هزم فرقة مهاجمة أخرى من نفس التحالف في معركة بحرية. وفي عامه الحادي عشر (1176 ق.م) كان عليه أن يواجه غزواً ليبياً آخر. وتشير سجلات مدينة حابو عن قتل رعمسيس الثالث لحوالي 2175 من رجال المشواش Meshwesh (وأسر 1200 آخرين) (7). وتذكر بردية هاريس( (Papyrus Harris I: LXXVI, أن رعمسيس الثالث أخذ الفلست أسرى له وأسكنهم في مدنه المحصنة، ومن المتفق عليه بين أهل الاختصاص أن “برشت\ فرست PRST هم نفسهم بلست Peleset ويعتقد المختصون أن المصريين القدماء لم يكونوا يعرفوا حرف اللام, لذلك كل لام عند غيرهم تصبح عندهم راء, وبالتشابه بين فلست \فلشت التوراتية صار هؤلاء فلستيون، ورغم احتمالية هذا التأويل، إلّا أنه لا يمكن الركون إليه وحده، إذ يرى توماس طومسون أن استمرار الاسم “فلست\فرست” في المنطقة يشبه نوعاً ما استمرار أي اسم آخر، مثل الدونان وقربه من اسم دان، وكذلك الشردان و قربه من اسم جزيرة سردينيا، إلّا أن هذا لايعني بالضرورة وجود علاقة بين هذه الأسماء وتلك الأماكن(9), علماً أن نصوص العهد القديم نظرت إلى الفلستيين كجماعة أجنبية أتت من كفتور, “يحددها إسرائيل فنكلشتين بأنها كريت(10)، رغم أنه لم يعثر في فلسطين أو في أي مكان آخر على نقش يعود لهؤلاء الفلست. كما تربط التوراة بينهم وبين خمس مدن قامت فيها حضاراتهم، (سفر يشوع 13 : 3) [مِنْ شَيحورَ الجاري في مِصْرَ إلى أرضِ عَقرونَ شمالا وهيَ لِلكنعانيِّينَ وفيها أقطابُ الفِلسطيِّينَ الخمسةُ في غزَّةَ وأشدودَ وأشقَلونَ وجَتَّ وعَقرونَ وأرضُ العَوِيِّينَ في الجنوبِ.]. كما يربط الكتاب بينهم وبين ظهور الأسلحة الحديدية (سفر القضاة 1 : 19) [ وَكَانَ الرَّبُّ مَعَ أَبْنَاءِ يَهُوذَا فَتَمَلَّكُوا الْجَبَلَ، وَلَكِنَّهُمْ أَخْفَقُوا فِي طَرْدِ سُكَّانِ الْوَادِي لأَنَّهُمْ كَانُوا يَمْلِكُونَ مَرْكَبَاتٍ حَدِيدِيَّةً].
المصدر: زياد منى، تاريخ فلسطين اقديم
والتفسير الاستشراقي\الصهيوني لمعنى وأصل الاسم فلسطين المستمد من المفردة الكتابية “فلشتيم” وتنويعاتها هو أكثر التفاسير شيوعاً وهيمنةً، وباستخدام المنهج اللغوي المقارن بين “بلست” و”فلشتيم”، باعتبار أن البلست هم أحد شعوب التوراة مثلهم مثل أقوام أخرى كالعمونيين والمؤابيين واليبوسيين والحيثيين.. تم تصنيفهم باعتبارهم شعوباً،(سوف أستعرض في مقالات لاحقة حقيقة هذه “الشعوب”). أما البلست فموطنهم الأصلي كما سبق القول “حسبما يرى فنكلشتين” جزيرة كريت وقد قدموا منها واستوطنوا الساحل الجنوبي لفلسطين، وتم الاستدلال على أن البلست هم الفلشتيم بالمقارنة التالية: يرى البعض أن الاسم تعرّض لما يعرف بالإبدال اللفظي (وهي قاعدة تخضع لها الحروف ذات المخرج الصوتي الواحد أو المشترك)، فتم استبدال الباء في بلست إلى فاء ليتحول الاسم إلى فلست \فلشت، وبالجمع فلشتيم، مثلما يفترض، لأن كل سين في العبرية تقلب شيناً والعكس بالعكس، فكلمة شعر هي سعر وجسر تصبح جشر (وفي الإسرائيلية الحديثة المتأثرة بالييديش تصبح جيشر ” بالجيم المصرية غير المعطشة”) أما الياء والميم في فلشتيم فهما علامة الجمع العبرية، وهكذا أصبح البلست فلشتيم، ولن أذهب، هنا، بعيداً لإثبات صحة أو عدم صحة المنهج اللغوي المقارن في استنتاج المعاني أيّاً كان الباحث أو المدرسة النقدية التي تعتمد هذا المنهج كأداة عمل وتحليل لها. بل سوف أنطلق من مقاربة مختلفة سأعتبرها أساساً لفهم معنى اسم فلسطين الذي أطلق على تلك المنطقة الجغرافيّة المحددة من إقليم بلاد الشام، وسوف أتغاضى -مؤقتاً- عن الإجابة عن سؤال متى أطلق هذا الاسم على المنطقة، نظراً للاختلافات الكثيرة حول هذه المسألة، فضلاً عن استحالة الإجابة على هذا السؤال دون أن التعرف على الأصول اللغوية للكلمة ذاتها. ويرد في سفر التكوين 10: 14 (وَمِصْرَايِمُ وَلَدَ: لُودِيمَ وَعَنَامِيمَ وَلَهَابِيمَ وَنَفْتُوحِيمَ وَفَتْرُوسِيمَ وَكَسْلُوحِيمَ. الَّذِينَ خَرَجَ مِنْهُمْ فِلِشْتِيمُ وَكَفْتُورِيمُ) وقد اعتبرت كفتور بأنها قبرص وبالتالي فشعوب البحر هم الفلستيين( فلستيم) أي هم \أنفسهم الذين حاربهم و أسرهم رعمسيس الثالث، ونص الآية السابقة هو كما يلي: ( ومصريم يلدءت لوديم وءت عنميم وءت لهبيم وءت فترسيم وءت كسلحيم ءشر يصءو مشم فلشتيم وءت كفتريم) ، أي أن مصراييم وَلَدَ بني لود وعنام ولهاب ونفتوح وفتروس وكسلوح كما ولد كفتور الذين خرج منهم الفلسطيون”. علما أن الترجمة العربية الأقدم تقول ” ومصراييم ولد لوديم وعناميم لهابيم ونفتوحيم وفتروسيم و كسلوحيم الذين خرج منهم فلسطيون و كفتوريون” وتبدو هذه الترجمة أكثر دقة من سابقتها إذ لامعنى للقول ” كما ولد كفتور الذين خرج منهم الفلسطيون”(11)
وقد عثر على مفردة فلست في نقش يعود للملك المصري رعمسيس التاسع (1134-1117 ق.م) كإشارة إلى نوعين من شعوب البحر “شردانا” و “تجكر” وإلى ثلاث مدن “فلستية”: عسقلان وأسدود وغزة(12). ويوظف العهد القديم الصيغ المختلفة للاسم: فلست،هفلستيم، فلستيم، فلستييم للدلالة على سكان تلك المدن، وتعدد الصيغ اللغوية لهذه الأسماء يعكس حقيقة أن التوراة اعتمدت على مصادر مختلفة للاسم، سواء للشعب أو للإقليم، ويبدو أن الصيغة العربية الحالية “فلسطين” مشتقة من الآرامية فلستءين(13) ، وليس سراً القول أن العرب يميلون إل تفخيم الأسماء الأعجمية التي تحتوي حرف التاء مثل أفلاطون و أرسطو وفلسطين.. إلخ.
يعزى انهيار العصر البرونزي في منطقة البحر الأبيض المتوسط إلى ما يطلق عليهم شعوب البحر، الذين تسببوا بدمار هائل ثم اختفوا فجأة كما ظهروا. وتزخر إلياذة هوميروس بالعديد من الشواهد عن نهب وانهيار المدن في تلك الفترة، كما تظهر نقوش رعمسيس الثالث عن توطين بعض ما يسمى بشعوب البحر “الفلستيين” في مصر أو حولها. ولكن كيف أصبح سكان فلسطين هم البلست الذين أتوا من البحر (جزر بحر إيجة اليونانية وكريت) وسكنوا الشواطئ الجنوبية قرب غزة في القرن الثاني عشر ق.م؟ (يؤرخ البعض ظهورهم بحلول العام 1900 ق.م نظراً لذكرهم في المرويات المتعلقة بارتحال إبراهيم من “أور الكلدانيين” وتوطنه في فلسطين، وهذا ما سوف نعود إليه لاحقاً)، فيرد في سفر التكوين (21: 34 ): ” وَتَغَرَّبَ إِبْرَاهِيمُ فِي أَرْضِ الْفِلِسْطِينِيِّينَ أَيَّامًا كَثِيرَةً ” (ويجر ءبرهم بءرص فلشتيم يميم ربيم) وعلى الرغم من قلّة عدد كلمات هذه الآية، إلّا أنها تحتوي على الكثير من الغموض واللبس، فهي لا تشير إلى أرض قوم بعينهم، أي أرض الفلسطينيين، لأن أداة التعريف غير موجودة في الأصل ولكي يستقيم المعنى ينبغي أن تكون الترجمة كما يلي: “وَتَغَرَّبَ إِبْرَاهِيمُ فِي أَرْضِ ْفِلِسْطِينِ أَيَّامًا كَثِيرَةً”. ولعل الالتباس في فهم ومن ثم ترجمة هذا النص أو غيره يعود لعدم التمييز-قصداً أم سهواً- بين فلست كمفرد وفلستيم كجمع وبالتالي استسهال التعبير تبادلياً لاً بينهما كأنهما شيء واحد، وهكذا تم اعتبار هفلشتيم قوم أو أقوام يسكنون في مكان يدعى فلشت قريب من مسكنهم وهؤلاء الفلشتيم هم نفسهم الفلستيين\الفلسطيين\الفلسطينيين .. إلخ، ومثل هذا الخطأ يتكرر كثيراً، مثل تسمية أبيمالك ملك جرار كملك للفلسطينيين رغم أن النص يقول صراحة أنه ملك فلشتيم وهي بالتأكيد لا تعني ملك الفلسطينيين لعدم وجود أداة التعريف. فإذا كان من الصعب إثبات وجود قوم يعرفون باسم الفلستيين في عصر إبراهيم المفترض، فثمة إشارات متفرقة في نصوص اللعن المصرية والتي تعود لأوائل الألفية الثانية ق.م، تشير إلى أسماء “دول” و “حكّام” من سوريا وفلسطين، ولكن دون الإشارة إلى مكان جغرافي محدد يعرف باسم فلسطين، وتنويعاتها، فلست, ءرص فلشتيم، فلشتيم، بلست.. إلخ، كما أن الفترة السابقة للظهور المفترض للإسرائيليين والمعروفة لأهل الاختصاص باسم عصر العمارنة لا تشير إلى اسم مكان محدد يدعى فلسطين و تنويعاته السابقة, وأول ربط لهذا الاسم سوف يأتي بعد قرنين، على الأقل، من ذلك العصر مع غزوات شعوب البحر التي تؤرخ لانهيار حضارات وممالك الشرق القديم ونهاية العصر البرونزي المتأخر. وابتداء من القرن الثاني عشر ق.م، صار بإمكاننا العثور على أسماء تظهر لأول مرة في تاريخ المنطقة مثل: البلست.. ولكن هزيمتهم على يد رعمسيس الثالث، أدت بهم إلى التوجّه نحو الساحل الفلسطيني و توطنه. ومن هذه اللحظة يبدأ بالظهور على مسرح الأحداث شعوب وأقوام كثيرة و عديدة حسب الوقائع التوراتية المفترضة فصرنا نعرف المؤابيين والعبرانيين والفلستيين والعمّونيين والميديانيين والأدوميين.. إلخ.
أول رفض، على يد المستهودين العرب، لتأويل البلست بأنهم فلشتيم جاء فيما طرحه كمال الصليبي ومن تبعه مثل فاضل الربيعي وزياد منى وغيرهم, وقد رأى الصليبي أن فلسطين = فلس+ طي+ ن ” وهي النون اليمنية، وفي هذا الصدد يقول ابن الكلبي أنه كان لقبيلة طيّء صنم يقال له “فلس” وسط جبل أجأ وكان سدنته بنو بولان، ولم يزل فلس يُعبد حتى أرسلَ النبي بعد فتح مكة عليّاً بن أبي طالب فهدمه(14). وتذكر الموسوعة اليمنية(15) في الحديث عن الزراعة أن ثمر التين ( البَلَس العربي) معروف في اليمن منذ القدم, وتورد الموسوعة(16) شروحات أوفى عن البّلّس فتقول أنه ثمرة التين في لهجة أهل اليمن, ولا يقال للتين في اليمن إلا البَلَس، ويطلق الاسم على جميع أنواع التين المستزرع، أمّا التين البرّي فيطلق عليه أهل اليمن اسم (البَلَس الكلبي) مثلما يطلق أهل الشام صفة “الكلابي” على نوع من المُشمُش تكون ثماره صغيرة وبذوره مرّة الطعم. كما أطلق أهل اليمن اسم البَلَس التركي على ثمار “الصبّار” المستجلب للبلاد خلال العصر العثماني لتمييزه عن البَلَس العربي أي التين, ثم أبت اللغة إلّا أن تفاجأنا فتظهر كلمة بَلَس من جديد، ففي بلاد الشام ينادي الباعة على الصبّارة بالعبارة (صبّارة يا تين)، علماً أن كلمة بَلَس بحد ذاتها قديمة وقد ورد في الحديث: “من أراد أن يرقَّ قلبه فليدمن أكل البَلَس“، كما ذكرها المعرّي في بعض شعره حين يقول:
حسبي من بلسن يمارس لي فإن تكن لي حلاوة فبلس
وقد اختلف أهل الاختصاص في معنى بلس هنا، ففريق اعتبر أن الباء حرف جر و “لس” هو العشب الغض الطري, وما سبقها من قوله عن حلاوة الطعم لاتدع مجالاً للاختلاف بين التين والعشب، وتؤكد الموسوعة اليمنية أن كلمة بَلَس تستخدم بصورة واسعة في الأغاني والأقوال الشعبية اليمنيّة، فإذا نظرنا إلى فلسطين باعتبارها “الأرض المقدسة” حسب الأديان الوثنيّة والسماويّة فسوف تكون معابدها “مقدسة” أيضاً وجغرافيتها “مقدسة” والحروب على أرضها “مقدسة” ولغتها لاشك ستكون “مقدسة”، حتى الأبجدية الفلسطينية سيطلق عليها الأبجدية “المقدسة”، وإذن، والحال هذه، لن تنتج أرضها سوى الثمار المقدسة، وليس صعباً التدليل على “قدسيّة” التين (ويمكن مقارنة مفردة التين مع غيرها من اللغات القديمة، وهذا موضوع آخر له علاقة بالنصوص الآثارية ربما نأتي على ذكره في بحث آخر).
جميع المعطيات السابقة بخصوص (فلس- تين) و (بلس-تين) لم تؤخذ بالحسبان عند التطرق لمعنى وأصل كلمة فسطين، بل تم النظر اعتباطياً إلى كلمة فلشتيم التوراتية واعتبارها مطابقة لما نطلق عليه الآن “فلسطين”.
وقد يحلو للبعض القول أن اللاحقة “بلس” في بعض أسماء الأماكن مثل طرابلس وديكابلس ونابلس تيح لنا القول أن أصل فلسطين هو بلس تين= بلستين أي بلاد التين، ورغم وجاهة مثل هذا التأويل إلّا أنه لايصمد أمام وقائع عدة، أهمها أن الاسم فلسطين هو بلا شك سابق لوجود لرومان في المنطقة. بل أن الرومان حين ألغوا التسمية “يهوذا” للمقاطعة واستبدلوه بالاسم “فلسطين” سنة 135 م، لم يخترعوا الاسم من عندياتهم، بل أخذوه من الاسم القديم للإقليم، فالعلاقة التاريخية بين الحضارة اليونانية-الرومانية مع الشرق معقّدة وشائكة وتشتبك معها في جميع المجالات الحيوية، ولعل أحدها التسميات اليونانية لبعض الأماكن مثل: قسطنطينية،طرابلس، لاذقية، طرطوس، طبريا.. إلخ، فهل “فلسطين” هي أحد هذه “التشابكات” المعقّدة؟
يزداد هذا الاحتمال، حين نقارن فلسطين مع غيرها من الكلمات التي تقع على “وزنها” مثل قسطنطين وأغسطين وراماتين، وأغسطين هو اسم ولقب الملك البيزنطي هرقل (فلافيوس أوغسطوس هيراكليوس) كما أن قسطنطين اسم ابنه من زواجه من مارتينا ابنة اخته، وله ابن آخر يدعى قسطنطين” الثالث” من زواجه من فابيا إيدوكيا. ويذكر الواقدي في فتوح الشام أن لهرقل هذا ابن يدعى “فلسطين”: ” فلسطين ابن هرقل كان القائد العسكري الذي هُزم أمام عمرو بن العاص في الفتوحات الإسلامية على أرض فلسطين حين التقاه في محل”. وكان آخر القادة البيزنطيين الذي حكموا الإقليم.
من ناحية أخرى، عرف الإغريق عبادة الإله بَلَسْ “بالاس” بإطلاق الأحرف الصوتية عوض عن الحركات في اللغة العربية, واسم هذا الإله يمثل الأحرف الثلاثة الأولى من كلمة فلسطين في اللغات الأوروبية” بالاستين\ بلستين”، ومن الجدير ذكره أن الإله بَلَسْ كان شديد الالتصاق بالإلهة الإغريقية الشهيرة أثينا، بل أنه يتوحد معها في البلاديوم الإغريقي باسم: ب ل س أ ت ي ن ا(17)، وهو يطابق إلى درجة كبيرة اسم فلسطين الحالي في معظم اللغات الأوروبية. المشتقة مباشرة أو بطريقة غير مباشرة من الإغريقية واللاتينية وحتى السلافية، وقد عبد الإغريق أثينا كآلهة حرب وصوّروها تصوب سهامها نحو الأعداء، فتصيب صديقة طفولتها فتقتلها على الفور، فتحزن عليها وتقرر أن تقيم لها “فلس” وتضيف اسم صديقتها إلى اسمها لتصبح ف ل س ا ت ي ن ا = ب ل س ا ت ي ن ا، وبالتالي تتضح لنا هنا مسألة ورود الاسم بحالتين الأولى تبدا بحرف “ب\P” و الأخرى “ف\PH” ( بالنسبة لنا تبدأ الكلمتان بحرف “ب” في كلتا الحالتين)، ولعل هذا يدفع بنا للبحث، من جديد، عن معنى “فلس” الذي تحدّث عنه ابن الكلبي، إذ تستخدم المعاجم العربية في تصريف الكلمات الكلمة ” فلس” فترد كميزان صرفي للكلمات قبل أن تحل محلها كلمة “فعل”، والميزان الصرفي في اللغة يعني التماثل مثل “تماثل” كفتي الميزان، أي قولنا بأن كذا “مثل” كذا، كما أن الكلمة فلس أصبحت تعني وحدة نقدية ” للصرافة والشراء” تستخدم في العمليات التجارية من بيع و شراء ومقايضة ورهن ودين وغيرها وباتت تعني مبادلة شيء بشيء يساويه، أي، “مثله”، كما أن قولنا بأنها “مثل كذا” وقرين أثينا صارت “مثلها” أي آلهة، ومن هنا أتى معنى “تمثال”، أي أنه “يماثل” الأصل, فتمثال الزعيم يحاكي الزعيم وتمثال الفلاح هو فلاح مثله.. وهكذا.
ويذكر سامي سعيد الأحمد (18) كيف اتصل الإله زيوس بالآلهة سيميل” (وهي ابنة قدموس ملك طيبة حسب الأساطير الإغريقية) فحملت منه، لكنها ماتت قبل أن تلد، فقام زيوس بانتزاع ابنه “ديونيسيوس” من رحمها، فعاش الولد وكبر، لكنه ظلّ يشعر بالشوق لأمه ويرغب في رؤيتها، ولأن ديونيسيوس كان بمقدوره أن يمضي للعالم السفلي ويعود للحياة ثانيةً (كنوع من التأويل لتعاقب الفصول) حيث كان يقضي فترة سباته\ موته المؤقت هناك، فقد خطر له أن يختطف أمّه سيميل ويعيدها للحياة, غير أنه خشي من غضب آلهة الموت بأن تكتشف غيابها فلجأ إلى حيلة تقضي بأن يصنع “تمثال” من خشب التين يماثل أمّه سيميل تماماً فصنع فلس من التين= (ف ل س ت ي ن) يشبهها ووضعه مكانها.
أخيراً يتيح لنا علم الآثار بمعطياته الحديثة القيام بتقويم جديد للمصادر القديمة ومراجعة الدراسات الأكاديمية المختلفة إعادة النظر في تأويل اللقى الآثارية والسعي بطرق أكثر صوابيّة نحو إعادة كتابة تاريخ المنطقة، أو على الأقل، إعادة النظر بما هو مكتوب الآن، لاسيما في الفترات التي تهم موضوع بحثنا هنا، أي نهاية العصر البرونزي المتأخر وأطوار العصر الحديدي المختلفة، وربطها ليس فقط بشعوب المنطقة، بل ايضاُ بالمناطق المحيطة بها / الأناضول وجزر بحر إيجة والعالم الإغريقي القديم، وبالتالي يمكن القول، أن شعوب البحر أولئك، لم يكونوا أغراباً أو شعوب بحر بالضرورة، بصورة كاملة، إذ تنظر بعض الفرضيات للظهور المفاجئ لهم “والمقصود الفلست هنا” على أنهم اقوام استوطنوا جنوبي بلاد الشام وفقاً لهجرات ” بريّة”, ويدللون على ذلك من خلال نقوش مدينة حابو التي تصور اشتباك الجيش المصري في معركة بريّة مع قوات أجنبية يمتطي رجالها عربات تجرّها الثيران، ومع ذلك لا يوجد دليل أثري على مثل هذه الهجرة، فضلاً عن عدم وجود هجرات بحرية بالطريقة التي يمكن تخيلها من مواقع بحر إيجة.
في حقيقة الأمر، إن ما يثير “قلق” الباحثين “الكتابيين” التناقض الكبير بين الـتأويل النصي والبحث الآثاري، فعلى سبيل المثال، يذكر سفر القضاة 16:23 أن الفلستيين عبدوا الإله “دجن” وهو يعتبر تقليدياً إلهاً سامياً غربياً بأصول عمّورية ربما.” وَأَمَّا أَقْطَابُ الْفِلِسْطِينِيِّينَ فَاجْتَمَعُوا لِيَذْبَحُوا ذَبِيحَةً عَظِيمَةً لِدَاجُونَ إِلهِهِمْ وَيَفْرَحُوا، وَقَالُوا: «قَدْ دَفَعَ إِلهُنَا لِيَدِنَا شَمْشُونَ عَدُوَّنَا”. فإذا كان الفلستيون ينتمون لجزر بحر إيجة فكيف لهم أن يعبدوا إلهاً غريباً؟. فلندعهم يقلقون إذن كما يشاؤوا.
….
هوامش
1- سبتينو موسكاتي، الحضارات السامية القديمة، ترجمة د. السيد يعقوب بكر، دار الكتاب العربي للطباعة و النشر, القاهرة، ص 114
2- هيرودوت ( 1: 107) في :زياد منى، زياد منى، مقدمة في تاريخ فلسطين القديم، بيسان للنشر والتوزيع والإعلام، بيروت، الطبعة الأولى، 2000، ص 72
3- هيرودوت ( 3 : 5)، في زياد منى / مصدر سابق، ص 73
4- هيرودوت ( 4 : 39)، في زياد منى، مصدر سابق، ص 74
5- هيرودوت ( 7 : 89)، في زياد منى، مصدر سابق، ص 74
6- فلافيوس آريان(2: 4, 25)، في زياد منى، مصدر سابق، ص 81
7- انظر: Edgerton and Wilson, Historical Records of Ramses Ill: The Texts in “Medinet Habu ” Volumes I and II , Translated with Explanatory Notes (Chicago : University of Chicago Press,1936), plate 75.
8- انظر: Papyrus Harris I, trans. Samuel Birch, 1876 accessed online
...
9- انظر على سبيل المثال مواقع مختلفة في، توماس طومسون، التاريخ القديم للشعب الإسرائيلي, ترجمة صالح على سوداح، بيسان للنشر والتوزيع والإعلام، 1995
10- انظر: Finkelstein, Israel. 2002, ‘The Philistines in the Bible: A Late-Monarchic Perspective’, Journal for the Study of the Old Testament 27, 2, 131-167
11- زياد منى، مصدر سابق، ص 59
12- زياد منى، مصدر سابق، انظر مواقع مختلفة من الفصل المعنون فلسطين- الإقليم ص 71-88
13- زياد منى، مصدر سابق, ص 53
14 -هشام بن السائب الكلبي، تحقيق، أحمد زكي باشا، دار الكتب المصرية، 1995 الأصنام ص 56
15- الموسوعة اليمنية، مركز دراسات الوحدة العربية، ج 2، ص 1468
16- الموسوعة اليمنية، مصدر سابق، ج 1 ، ص 540.
17- للمزيد حول معبد البلاديوم “بالاس أثينا”، انظر/ معجم الأساطير، ماكس شابيرو، رودا هندريكس، ترجمة حنا عبّود، دار الكندي 1989، ص 194.
18- سامي سعيد الأحمد/ زووس, مطبعة جامعة بغداد 1970، ص 34
خالد أيوب / كاتب ومؤرخ
Bei Facebook anmelden
Melde dich bei Facebook an, um dich mit deinen Freunden, deiner Familie und Personen, die du kennst, zu verbinden und Inhalte zu teilen.
www.facebook.com