قبل أربعين عامًا، بالطبع كنّا أولادً وأطفالاً (بالمعنى الحرفي)، وبعضنا كانوا شبابًا. لم يكن الاعتقال الأوَّل لمعظمنا، وترددت إدارة سجن جنين، في قبول أحدنا لصغر سنه، وحدثت مفارقة مضحكة. سئل بغيظ لماذا هو ليس أكبر قليلاً.
اعتقلنا احترازيًا، بدون أيّة تهم، فقط الشك بأنّنا يمكن أن نفعل شيئًا. ارتكب المحتلون جريمة قتل الطفل محمد أبو شيخة، أخذوه من شارع القدس-الخليل أمام المخيم، وقتلوه في الجبل المقابل الذي أصبح الآن مدينة الدوحة، واعتقلوننا، أخذروا روحه، وصادروا أرواحنا.
تذكرت الأمر، وكان يجب أن أتذكره، مع تذكر دولة الاحتلال ضرب المفاعل النوويّ العراقي، وإدلاء بعض المنفذين بشهادتهم، حيث طاروا عبر الأجواء العربية.
المدهش في الأمر، أن ما كان يشغلنا، نحن الأولاد المتعصبين وطنيًا وحزبيًا وسياسيًا، هي نفس ما يشغل الكثير من أولاد الفلسطينيين الآن. النقاشات الحادة تعلقت بإصلاح منظمة التحرير، وهرولة قيادتها للاستسلام لدولة الاحتلال، وضرب المفاعل النووي العراقي، وتصريحات فائق ورّاد أمين عام الحزب الشيوعي الأردني آنذاك، التي نقلتها جريدة الأنباء صحيفة الاحتلال الناطقة بالعربية، والتي توزع هي فقط في السجن، حول قبول حزبه بقرار 242 أضاف إليها تصريحات تخبيصية استسلامية مجانية أخرى، ومواقف نظام حافظ الأسد وجرائمه ضد الفلسطينيّين والحركة الوطنية اللبنانية، وخدمة الدروز في جيش الاحتلال (إدارة السجن كانت من الدروز)، والعمل النقابي وتدخلات فتح فيه من الخارج، ومزاحمة الجبهة الديمقراطية، الشيوعيين على النقابات، ومواقف الحزب الشيوعي الإسرائيلي ومشاركته في الانتخابات البرلمانية، وصوم رمضان، مع دخول الشهر الفضيل إلينا في السجن، بعد أيّام من الاعتقال، ودستة مواضيع ما زالت ساخنة حتى الآن، وكأن الزمن لم يسر، ولم يتغيّر، وكأن دماء مئات آلاف الشهداء الفلسطينيين والعرب، لم تحدث فارقًا أبدًا. ولم تحفز لبناء مؤسسات ونقابات واتحادات وبلديات وصحف، وغير ذلك، يمكن أن تكون مقبولة في حدها الأدنى.
من الذين شاركونا تلك السجنة غادروا، وفي أنفسهم أشياء، من النقاشات، التي لم تنته أبدًا، أذكر منهم: أبو فريد الأطرش، وصلاح عبد ربه (أبو عصام)، وحسين شاهين (أبو عماد)، وعبد الرحيم هماش الموسوعي، الذي كان ما زال يبحث في مسألة أيهما الذبيح اسحق أم إسماعيل؟ وهذا أمر مهم للإبراهيميين، وربما لأبينا في الأعالي الذي لا يحب أن يُذكر اسمه في الكبيرة والصغيرة، وجمال فراج، وربما غيرهم.
اقترح أبو فريد الأطرش، أن يرد صدام، بضرب مخابز البيرمن الإسرائيلية، ولكن معتقلاً يشبه صدام كثيرًا وعرفه أو سمع عنه، أزعرًا خلال مرحلة الرئيس العراقي المصرية، قال إنّه جبان لا يفعلها.
وسخر الأطرش، من عدم كشف أنظمة الإنذار المبكر (الاواكس) السعودية، للطائرات الإسرائيليّة التي اخترقت أجواءها، وهي في طريقها لضرب المفاعل العراقي، بأنها يمكنها فقط رصد شخير أحد زملائنا السجناء، وقد تفشل في ذلك، رغم ما دفع فيها من أموال.
خرجت من تلك السجنة القصيرة، بقراءة كتب الشيخ خالد محمد خالد، ولم أكن أعرف حينها، أنني أقرأ كتبًا تنصل منها صاحبها، وربما أكثر المستفيدين منا، من استغل فترة وجوده، ومهارة أحد الأسرى بنقش الوسوم، نقشوا الأحرف الأولى من أسماء حبيباتهم على أذرعهم، وأظن منهم، من يشعر بندم على ذلك.
من الذين ما زالوا شهودًا، على تلك السجنة، شوقي العيسة، الذي فقد فرصة تقديم امتحانات التوجيهي، لأنَّ الاعتقال كان عشية تلك الامتحانات، وما زال مهتمًا بمسألة إصلاح منظمة التحرير، عبر مقالاته وبوستاته الفيس بوكية، وخالد حلمي مزهر، التي قدمت عائلته المضحية، وما زالت، معتقلين وشهداء ومبعدين باسم فصائل مختلفة، والذي ربّما نسي أنه امتلك يومًا صوتًا جميلاً، كانت الفصائل تستعين به لينشد لها، وصاحبنا، الذي ما إن دخلنا غرفة السجن، حتى طلب كتب لينين وماركس ليتزود بالمعرفة، ولاحقًا تمشيّخ، وفوجئت به يطرق باب منزلي يومًا، مع رفاق له من جماعة الدعوة، يدعوني للإسلام.
الاحتلال سرق طفولتنا، بعد أن سرق أرضنا، وحاضرنا، ومستقبلنا، ولكنه لم يتمكن من روحنا، التي أعتقد الآن، أكثر من أي وقت مضى، أن الفصائل سممتها، وكلاهما فلت من العقاب.
شعب، قادر على بذل الدم دائمًا، ويقدّس الشهادة، ويسمح بالمتاجرة بها، وهذه نخبه، لا يمكن أن ينتصر، وشعوب هذه دولها، ستظل مهزومة حتى لو بعد 400 ديمومية أخرى.
**
اعتقلنا احترازيًا، بدون أيّة تهم، فقط الشك بأنّنا يمكن أن نفعل شيئًا. ارتكب المحتلون جريمة قتل الطفل محمد أبو شيخة، أخذوه من شارع القدس-الخليل أمام المخيم، وقتلوه في الجبل المقابل الذي أصبح الآن مدينة الدوحة، واعتقلوننا، أخذروا روحه، وصادروا أرواحنا.
تذكرت الأمر، وكان يجب أن أتذكره، مع تذكر دولة الاحتلال ضرب المفاعل النوويّ العراقي، وإدلاء بعض المنفذين بشهادتهم، حيث طاروا عبر الأجواء العربية.
المدهش في الأمر، أن ما كان يشغلنا، نحن الأولاد المتعصبين وطنيًا وحزبيًا وسياسيًا، هي نفس ما يشغل الكثير من أولاد الفلسطينيين الآن. النقاشات الحادة تعلقت بإصلاح منظمة التحرير، وهرولة قيادتها للاستسلام لدولة الاحتلال، وضرب المفاعل النووي العراقي، وتصريحات فائق ورّاد أمين عام الحزب الشيوعي الأردني آنذاك، التي نقلتها جريدة الأنباء صحيفة الاحتلال الناطقة بالعربية، والتي توزع هي فقط في السجن، حول قبول حزبه بقرار 242 أضاف إليها تصريحات تخبيصية استسلامية مجانية أخرى، ومواقف نظام حافظ الأسد وجرائمه ضد الفلسطينيّين والحركة الوطنية اللبنانية، وخدمة الدروز في جيش الاحتلال (إدارة السجن كانت من الدروز)، والعمل النقابي وتدخلات فتح فيه من الخارج، ومزاحمة الجبهة الديمقراطية، الشيوعيين على النقابات، ومواقف الحزب الشيوعي الإسرائيلي ومشاركته في الانتخابات البرلمانية، وصوم رمضان، مع دخول الشهر الفضيل إلينا في السجن، بعد أيّام من الاعتقال، ودستة مواضيع ما زالت ساخنة حتى الآن، وكأن الزمن لم يسر، ولم يتغيّر، وكأن دماء مئات آلاف الشهداء الفلسطينيين والعرب، لم تحدث فارقًا أبدًا. ولم تحفز لبناء مؤسسات ونقابات واتحادات وبلديات وصحف، وغير ذلك، يمكن أن تكون مقبولة في حدها الأدنى.
من الذين شاركونا تلك السجنة غادروا، وفي أنفسهم أشياء، من النقاشات، التي لم تنته أبدًا، أذكر منهم: أبو فريد الأطرش، وصلاح عبد ربه (أبو عصام)، وحسين شاهين (أبو عماد)، وعبد الرحيم هماش الموسوعي، الذي كان ما زال يبحث في مسألة أيهما الذبيح اسحق أم إسماعيل؟ وهذا أمر مهم للإبراهيميين، وربما لأبينا في الأعالي الذي لا يحب أن يُذكر اسمه في الكبيرة والصغيرة، وجمال فراج، وربما غيرهم.
اقترح أبو فريد الأطرش، أن يرد صدام، بضرب مخابز البيرمن الإسرائيلية، ولكن معتقلاً يشبه صدام كثيرًا وعرفه أو سمع عنه، أزعرًا خلال مرحلة الرئيس العراقي المصرية، قال إنّه جبان لا يفعلها.
وسخر الأطرش، من عدم كشف أنظمة الإنذار المبكر (الاواكس) السعودية، للطائرات الإسرائيليّة التي اخترقت أجواءها، وهي في طريقها لضرب المفاعل العراقي، بأنها يمكنها فقط رصد شخير أحد زملائنا السجناء، وقد تفشل في ذلك، رغم ما دفع فيها من أموال.
خرجت من تلك السجنة القصيرة، بقراءة كتب الشيخ خالد محمد خالد، ولم أكن أعرف حينها، أنني أقرأ كتبًا تنصل منها صاحبها، وربما أكثر المستفيدين منا، من استغل فترة وجوده، ومهارة أحد الأسرى بنقش الوسوم، نقشوا الأحرف الأولى من أسماء حبيباتهم على أذرعهم، وأظن منهم، من يشعر بندم على ذلك.
من الذين ما زالوا شهودًا، على تلك السجنة، شوقي العيسة، الذي فقد فرصة تقديم امتحانات التوجيهي، لأنَّ الاعتقال كان عشية تلك الامتحانات، وما زال مهتمًا بمسألة إصلاح منظمة التحرير، عبر مقالاته وبوستاته الفيس بوكية، وخالد حلمي مزهر، التي قدمت عائلته المضحية، وما زالت، معتقلين وشهداء ومبعدين باسم فصائل مختلفة، والذي ربّما نسي أنه امتلك يومًا صوتًا جميلاً، كانت الفصائل تستعين به لينشد لها، وصاحبنا، الذي ما إن دخلنا غرفة السجن، حتى طلب كتب لينين وماركس ليتزود بالمعرفة، ولاحقًا تمشيّخ، وفوجئت به يطرق باب منزلي يومًا، مع رفاق له من جماعة الدعوة، يدعوني للإسلام.
الاحتلال سرق طفولتنا، بعد أن سرق أرضنا، وحاضرنا، ومستقبلنا، ولكنه لم يتمكن من روحنا، التي أعتقد الآن، أكثر من أي وقت مضى، أن الفصائل سممتها، وكلاهما فلت من العقاب.
شعب، قادر على بذل الدم دائمًا، ويقدّس الشهادة، ويسمح بالمتاجرة بها، وهذه نخبه، لا يمكن أن ينتصر، وشعوب هذه دولها، ستظل مهزومة حتى لو بعد 400 ديمومية أخرى.
**
الكاتب أسامة العيسة
الكاتب أسامة العيسة. Gefällt 6.518 Mal · 428 Personen sprechen darüber. أسامة العيسة ـــــــ كاتب وصحافي فلسطيني، مواليد بيت لحم عام 1963. صدرت له عدة كتب أدبية وبحثية، في القصة والرواية والآثار...
www.facebook.com