فرج المالكي - انتصار إرادة.. قصة قصيرة

عاد العاملان صبري ياسين وخالد دفع الله من حسبة رام الله ، يمشيان على ما قدر الله، يحملان في أيديهما أكياسا صغيرة ملونة فيها بعض الخضار لوجبة الغداء، ولم يفوّتا فرصة شراء كيلو من الرمََّّان، الذي هل موسمه ونضج ثمره، وقلّ سعره، واكتظت به الأسواق .
كانت وجهتهما مسكنهما في الغرفة المستأجرة في حي الشرفا في البيرة، أخذ صبري يضرب برجله ما يلقاه من علب فارغة على قارعة الطريق ،وكأنه ينتقم من قمامة الشارع، بينما راح زميله خالد يجر قدميه متثاقلا من نعاس ثقيل هبط على رأسه من ساعات السهر الطويلة التي تشاركها مع زميله في نوبة حراستهما في محطة توليد الكهرباء التابعة لشركة كهرباء القدس في شعفاط.
سارا هذا يركل بقدميه الأشياء والهواء، وهذا يجرُّ قدميه يزحف منهكا ،وكأن أقدامهما أقلام ترسم على الأرض خارطة ما يختلج في الرؤوس ويدور في النفوس .
خالد وصبري متشابهان ومختلفان، جمعتهما الدنيا وفرقتهما الحياة. هما ابنا حيّ واحد من جيل واحد، جمعتمها مقاعد الدراسة الابتدائية والإعدادية ثم سافرا ليدرسا الثانوية في مدرسة اللوثري الصناعية، وتخرجا من قسمالميكانيك، وعملا بعد تخرجهما في محطة كهرباء شعفاط .
ولكنهما مختلفان في الموقف من الحياة، خالد شعاره.. امش الحيط الحيط ،وقل يا رب الستر .
أما صبري فشعاره.. لا يمشي الحيط الحيط إلا الأجرب كي يحك جربه .
ولما وصل الصديقان ولاحت أمامهما يافطة.. فرقة بلالين للمسرح.. فُتح ستار القدر عن مسرحية سوف يكونان ممثلين رئيسين فيها، وبدا العرض عندما أوقفتهما دورية راجلة من جنود الاحتلال .
بدأ العرض بأن طلب مجند، يبدو أنه الضابط ، الهويات ، وطلب الجنود من الفلسطيني الهوية في طريق عام نذير شر .
وضع الصديقان الأكياس على الأرض، وأخرج كلٌّ دفتر هويته الأزرق ،وناوله للضابط، تفرس الضابط بالهويات، وتظاهر بأنه يطابق الصورة مع صاحبها، ثم قال:
ـ ما ييش بسكيم ..
لم يفهم الصديقان المطلوب، فتطوع جندي يعرف العربية، وترجم:
ـ ماذا في الأكياس؟
تنطع خالد، وقال مجاريا لهجة الضابط:
ـ رومانيم يا كابتن ..
قفز الضابط للوراء، واستنفر الجنود متأهبين، وصوبوا فوهات بنادقهم نحو الصديقين، وصرخ الضابط:
ـ افتخ.. افتخ
راح خالد يفتح الأكياس، فظهرت حبات الخيار والبندورة والبطاطا ،فصرخ الضابط:
ـ أيفو هرومانيم ..
تناول خالد كيس الرمان، وأخرج حبة رمان وقدمها للضابط، فضرب الضابط حبة الرمان، فتدحرجت على الطريق، وركل برجله كيس الرمان غاضبا، فتناثرت الثمار في كل اتجاه، وراح الجنود يقهقهون، والضابط يهرس ببسطاره فاكهة الموسم، وقف الصديقان في ذهول لا يفهمان ما يجري، شتم الضابط عورة أم الصديقين شتيمة فاحشة، فغلى مرجل الغيظ في صدر صبري، وراح خالد يجمع ما تناثر من الأكياس عن الأرض .
هدأ روع الضابط والجنود، أعادوا البنادق للأكتاف، نظر أحد الجنود، فرأى صبري يقف غير آبه، ويضع علبة سجائر إمبريال حمراء في جيب قميصه المفتوح حتى وسط صدره:
ـ هات سيجارة.
قال صبري بحزم: أنت طلبت الهوية وهذا حقك كجندي، وليس من حقك أن تطلب سيجارة.
قال الجندي غاضبا: هات سيجارة، وإلا كسرت رأسك.
ردّ صبري: لن أعطيك سيجارة، وافعل ما بدا لك.
لم يتمالك الجندي نفسه، وهجم على صبري وشرع يضربه بكلتا يديه،حاول صبري رد الضربات فبدا وكأنه يتعارك مع الجندي ،تدخل بقية الجنود وانهالوا على صبري ضربا ورفسا، هنا ما كان من صبري إلا أن تناول علبة السجائر من جيبه ومزقها وألقى بالسجائر على الأرض، وقال للجنود:
ـ هذه السجائر التي تضربونني من أجلها، تستطيعون أخذها عن الأرض ،ولن تحصلوا مني على سيجارة بإرادتي..
وبعد أن أشبع الجنود صبري ضربا، أجلسوه على الرصيف، وصاروا يوقفون السيارات العابرة، ومن كل سيارة يأخذون سيجارة أو سيجارتين، وأخذوا، أحيانا ، ُعُلبا كاملة من بعض السائقين، وراحوا يشعلون السجائر يتلذذون بنفخ دخانها في وجهه، وكأنهم بذلك يقولون له إنهم يستطيعون الحصول على ما يريدون .
كان صبري لا يستنكف أن يرمقهم بنظرات شزرة طوال فترة جلوسه على الرصيف، وهو يتحسس الكدمات في جسده، ويتذوق طعم خيط الدم المنساب من شفته.
بعد ساعات انتهى العرض، وأفرج الجنود عن الصديقين، وأكملا طريقهما نحو الغرفة، في طريق العودة عاد صبري يركل ما يعترضه في الطريق ،أغاظت حركاته صاحبه، فقال خالد معاتبا:
ـ اسمح لي، يا صديقي، أن أقول لك إنك أغبى الأغبياء .
ـ كيف حسبتها، يا أعقل العقلاء؟!
ـ من أجل سيجارة خسرت علبة السجائر، وخسرنا كيلو الرمان، وفوق ذلك عرضت نفسك للضرب والإهانة أمام الناس، وقضينا ساعات محجوزين .
رد صبري، وهو يرفع كم قميصه الممزق:
ـ ليس مهما الضرب ولا الحجز ولا علبة السجائر، المهم أنني لم أنكسر لهم، وانتصرت لإرادتي، ولم أخضع لإرادتهم ..


** رومانيم بالعبرية تعني قنابل



أعلى