رسالة إلى “روحي فيصل”
بيروت 1954/11/23
1374/3/27
عزيزي الأستاذ روحي، رعاه الله،
اليوم قرأت ذاك الكلام الطويل العريض المنتهي بتوقيعك، وكنت أرجو مُخلصاً أن تصرف طاقتك الكتابية المبدعة في غير هذا الكدِّ الأجوف وغير هذا النَّصَب المُضني الذي لا محصول وراءه. فما أنت بناقدٍ فيما كتبتَ ـ على جلال الكتابة ومكانة الكاتب ـ، ولا أنت بمؤلِّفٍ ولا بمُلَخِّصٍ، وأحسبُكَ كنت كذاك الطفل البريء العابث الذي أحبَّ والداه أن يشجِّعاه على الحركة – وقد لحظا بطء حركته – فأوعزا إليه أن يبني قصوراً من الرِّمال الناعمة على الشاطئ السّاجي .. فبنى ولكنه البناء الذي ليس وراءه شيء اذ ما هو في الأصل من شيء…
وكنت أودُّ من أعماقي أن أرى لك غير هذا الذي كتبتَ، فأنا عالمٌ بالنَّصَب الذي نالك من مطالعةٍ وتمحيصِ ما ليس بجديرٍ بالمُطالعة والتّمحيص، وهي بالتالي مقالاتٌ وقصائد وأقاصيص عددٍ كاملٍ من مجلّة سيّارة، وأكثر ذاك المكتوب لم يكن ليستوقفك قليلاً أو كثيراً، ولكنك رأيتَ نفسك مُلزَماً بمطالعته مُطالعةً واعيةً رصينة، ثم وجدتَ نفسك بالتالي مُكرهاً على أن تكتب فيه، كأنما هو شيءٌ جديرٌ بأن يبقي لديك بعض الانطباعات الموجِبة للكتابة، كأنما هي آثارٌ (موحية) ما تكاد تترك مطالعتَها حتى تجدَ نفسَك وقد استغرقتْ في المجهول تحاول أن تلملم نفسَك لتخُطَّ ماعرض لك خطوطاً على القرطاس إعجاباً أو نقداً.
… وإنَّما نكتب في الآثار التي تترك في نفسنا خطّاً واضحاً من الإعجاب، أو تُخلِّف خطّاً عميقاً من التأثير الشعوريّ. ألستَ ترى هذا الذي أرى؟ إذن ما بالك تمرَّدتَ على طبيعتك الهيّنة اللّينة المُبدعة وانطلقتَ تُجيب طلب مَنْ رغب إليك أن تكتب في (العدد) الماضي من الآداب ؟؟؟ كأنَّما الكتابة في “العدد الماضي من الآداب” أدبٌ أو فيها شيءٌ من الأدب ـ دون توريةٍ طبعا -؟
أحسبُ ـ والله أعلم ـ أنك قد انسَقتَ إلى ذلك بعاملين اثنين، أوَّلهما أن في تلك الدعوة “إكراهاً” لك على الكتابة ـ وأنت المُقِلُّ ـ، وثانيهما أنَّها تجْعلكَ وجهاً لوجه أمام قرّاءٍ أكثرهم لا يعرفُك ـ لمرور الزمن وتقاعسك عن الاهتمام بالواجبات الأدبية الكبرى المُلقاة على عاتقك ـ فإذا كان في الشقِّ الأوّل ما يشفع لك فإنَّ في الشقِّ الثاني ما لا يشفع لك ..
.. أفتظنُّني أقف منك موقف الواعظ أو موقف المُوجِّه؟ أعوذ بالله إلّا إذا كان التلميذ يعلوعلى أستاذه أو في الدّقيق من التعبير “يتطاول” عليه .. وما أعتقد أنك جرَّبتَ عليَّ شيئاً من هذا أبداً، وكلُّ ما هنالك أنني وصلتُ بيروت اليوم في أعمالٍ خاصَّةٍ فوجدتُ عدد “الآداب” الأخير في أيدي الباعة، فاقتنيتُه وجلستُ في ركنٍ منزوٍ من مكتبي أطالعه حتى وقعتُ على اسمك، فوجدتني أندفع لقراءة ما خططتَه بنفسِ مَشوقٍ ورغبةٍ جارفة، كأنني ذاك الظامئ الذي هَمَت السماء عليه قطَراتٍ فحاول ابتلاع كلِّ قطرة بشغفٍ ونَهَم، فكنتَ ترى في وجهي المعبِّر صوراً مُتباينةَ التأثير والتلوين؛ فتارةً أنا راضٍ مُشرقُ الوجه والنفس، وتارةً أنا ذاك المُتجهِّم الذي يريد لو (يأكل) هذا المكتوب ويعلكه بين أضراسه علكاً، وتارةً أقفُ موقف الحائر من هذا الذي أراه فأراك أمامي وقد جهِدْتَ الجهد كلَّه، وتصبَّب العرَق بارداً من جبهتك وأنتَ تحاول أن تركِّز كلماتك كلمةً كلمة لتكون في موضعها من أختها أوَّلاً ومن الفكرة ثانياً، وأكادُ أكون أعلمَ الناس ـ ولا فخر ـ بقيمة موقع اللَّفظة من مخطوطاتك، لذا فإنَّه من اليسير عليّ بالذّات أن أقرِّر مدى النصَب الذي نالك من كتابة هذه الصفحات التي لا تُسمِن ولا تُغني من جوع ـ كما يقولون ـ .
… وما كان أغناكَ عن كتابة هذا الذي كتبتَ، ولو خطَطتَ لنا فصلاً في النَّقد، أو لو أمسكتَ بمنظومِ ذاك العدد ـ وحده ـ وجعلته تحت مِبْضعك إذن لقرأنا لك نثراً ممتازاً فكرةً وأسلوباً .. أمّا أنْ تُبعثر نفسك وقلمك وفكرك بين قصَّةٍ ومقالةٍ وملخَّصٍ ومقطوعةٍ، وتأتي بهذا الذي أتيتَ به إرضاءً لرغبة الذين كلَّفوك هذا التكليف فهذا ما لا نرتضيه لك؛ لأنَّه من حيث المحصول جفاءٌ، وما فيه ما هو نافعٌ يمكثُ في الأرض.
… على أنَّك وقد ارتضيتَ أن تكتب في غير هواك .. فقد ارتضيتُ أنا أن أكتب لك لأقول لك رأيي فيما كتبتَ، وإنْ كنتُ على يقينٍ من أنَّك غاضبٌ عليَّ الآنَ وأنت تُطالع هذه الأسطر … ولكنَّ غضبَك قريبٌ إلى قلبي فقد ألفتُه، ورضاك بعيدٌ عن قلبي وما رغبتُه نظراً لشُحِّك وبُخلك في المديح والإطراء، وما أغنى الأديب الطُّلَعة عن أن ينثر منثوره في مديحٍ لا طائل تحته أو نقدٍ لا طحينَ معه ؟؟!!!!!
أمّا التمهيد الذي مهَّدتَ به لكلمتِك فعلى نوعين: أوّلهما وهو القسم الأوّل جيدٌ جدّاً، وأمّا الثاني وهو الوجه الآخر الذي تعرَّضتَ له فهو ـ وعفواً منك ـ مُتهالكٌ جدّاً، ولم يكن لك أن تُشير إليه من قريبٍ أو بعيد … وأحسبُ أنَّ خير ما أذكره لك كرأيّ في هذا المقام ذاك التعقيب الذي لاحقك به سهيل إدريس بتوقيع “الآداب”، وإن كنتُ أرى شخصيّاً أنَّه (هاجمَك) أكثر ممّا أحبَّ أن يُعقِّب على كلمتك لردِّ اّلأشياء إلى أصولها.
أمّا كلمتُك في كلمة رئيف الخوري فأحسبُ أنَّ للصداقة التي بينكما بعض الأثر في توجيه كلمتك، ولم تحبّ أنت أن تسرع في رئيف الخوري لتهاجمه .. إذ مَنْ يبقى لك بعده لتُثني عليه؟؟ و كلِمتُه ـ في الأصل ـ عاديّة جدّاً، وفيها من تفاهة الأسلوب وضعف ارتباط الجُمَل ما هو غنيّ عن البيان، ولكن لفتتَك إلى كلمة (عبر النفس) فيها براعة الآلة المصوِّرة الحسّاسة التي وقعت على (أسمن) ما في المقال.
ثمَّ ما كدتَ تجوز كلمة رئيف الخوري حتى وقعتَ على المسكين رجاء النقّاش فنقشتَ في صفحة قلبه حُفَراً وأخاديدَ ما أحسبُ أنَّه يمكن طمرها ولو بعد حين … فماذا فعل لك ذاك المسكين حتى صببتَ عليه جامَ غضبك؟ وماذا جنى حتى تجني عليه بمثل هذه الكلمات توزعها توزيعاً فيه كثيرٌ من الكرم، وقد كان من حقِّها أن يكون في توزيعها كثيرٌ من البخل نظراً لأهميّة كلٍّ منها على حدة (يغرب) ( وهذا كلامٌ لا معنى له) (ولا يقوله باحث) (ابتُلي بها الكاتب) (جنت عليه بهذا النقص المعيب) …..
وماذا فعلتْ لك بعد ذلك دار اليقظة العربيّة حتى تحشرها في مجال مهاجمة “النقَّاش”؟ هل كانت هي هدف نقمتك فجاء العاثر الحظِّ “النقَّاش” في الطريق فاكتسحته عملاً بقول شوقي: (ماتَ مَنْ في طُرُقاتِ السَّيلِ ناما)؟
وتقول: “فليس كلُّ نقدٍ غربيٍّ أو كلُّ أدَبٍ غربيٍّ مفيداً لنا. وما أجدر المترجمين أن يفهموا هذه الحقيقة البسيطة، لا سيَّما الذين يترجمون لدار اليقظة العربيّة بدمشق”.. الله الله يا روحي … أفأنتَ الذي يقول هذا القول وهو في تمام صدقه ويقينه؟ وما قيمة لفظة (مفيد) في كلمتك؟ وما قصدك من إيراد (الفائدة) و(الاستفادة) في مقام إدراج اسم دار اليقظة العربيّة؟ أفحَسِبْتَ أَّنَّ الفائدة هي ما يتراءى لك وحدك أنَّه فائدة؟ أم حَسِبْتَ أنَّ لفظ الفائدة يعني في هذا المجال ( تقويم الأدب المُعاصر) وعلينا بالتالي أن ننقل الآثار الغربيّة لـ (نستفيد) من أسلوبها أو أفكارها أو ترابطها وما اتّصل بذلك؟ ألستَ على علمٍ بأنَّ النّاشر لا يخضع لمثل هذا الذي ترمي إليه؟ وأنَّ الذين يُترجِمون بصورةٍ عامّة ـ لدار اليقظة العربيّة أو لغير دار اليقظة العربيّة أو لأنفسهم ـ إنَّما يترجمون استجابةً لانطباع الأثر المُترجَم في نفوسهم؟ أيقوى أحدٌ على إكراهك على ترجمة ما لا تتحسَّس به؟ وما هو مقياس هذا التحسُّس؟ هل هو(الفائدة)، إذن ما فائدة ترجمتك أنت لمسرحية (برليوز) ؟؟؟؟ هل هناك أيَّة فائدةٍ من نقلها إلى اللغة العربيّة! إلّا أنَّها أثَرٌ وجد في نفسك هوىً وعلى صفحة قلبك انطباعاً فانسَقْتَ إلى ترجمته بدافع (الاستجابة) لتلك المتعة الخاصَّة التي أوجدتها بنفسك القراءة الأولى لذاك الأثر .. أمّا الشقُّ الآخر من الفائدة وهو الفائدة الماديّة؛ فعليك ألّا توعز إلى المترجمين أن يهتَّموا بهذا الذي دعوتَهم للاهتمام به بقدر ما تنظر إلى ذاك أو تلك (البالوعة) المُخيفة التي يسمُّونها (التيراج) فهي وحدها التي تفرِض على النّاشر (لون الترجمات)، وهي التي تستدعي المترجِم ـ استجابةً لرغبة الناشرـ أن يهتمَّ بهذا النَّسق من الكتُب أو ذاك …… ومن هنا يتضِّحُ لي أنَّك لم تكن شديد التحديد يوم استهلكتَ لفظة (المفيد) في هذا المجال، فأصبتَ دار اليقظة بما كنت أرجو لو لم تُصِبْها به، ولا عبرة بقولك أنَّك أردتَ “(المترجمين) لدار اليقظة العربيّة” فليس من وجودٍ للمترجمين المذكورين إلّا من خلال الدار نفسها.
أمّا كلمتُك في عبد الله عبد الدائم فقد دُرْتَ في حلقة مُفرغة (عن قصدٍ وسابق تصوُّرٍ وتصميم، لا شكَّ في ذلك ولا رَيْب) بحيث لا يدري القارئ أأردْتَ به خيراً أم أردْتَ به شرّاً؟؟؟ وواقع الأمر بالنّسبة إليَّ أنَّك أردتَ به شرّاً في إطارٍ حاولتَ جهد المستطاع ألّا ينمَّ عن الشرِّ الكامن، ولم تستطع أن تخفي ما بنفسك طويلاً لأنَّه أفلتتْ منك كلماتٌ تدلُّ على ذلك كقولك بشيءٍ كثيرٍ من التهذيب (بقي أن أقول إنَّ جانب النقد للمذهب الوجوديّ قد جاء “مُرتجَلاً لا يفي بالمرام …..) وقد ظهرت براعتُكَ في التغطية ـ على أسلوب العسكريين ـ عندما أفرغت إناء مديحك على الكتاب المترجَم ـ الذي تعترف أنت أنَّك لم تُطالعه ـ ومع هذا فقد ارتضيتَ أن تمدح المترجِم بألفاظٍ فيها شمول، كقولك: (… ولكنني لا أشكُّ في أنَّ يد المترجِم سوف تكون سابغة الفضل على الشباب …) سامحك الله يا روحي، فلقد ظلمتَ عبد الله وظلمتَ في آنٍ معاً سهيل إدريس الذي أثنيتَ عليه بما لم تقرأ له…..؟!!!!!!!!
ـ ملاحظاتُك على أقصوصة (عرق) طيّبة ،وأكاد أقول جدّاً.
ـ أمّا ملاحظاتُك على (المحاولات الشعريّة التي نظمَها …… فدلَّ بها على ألمعيَّةٍ وليدة ….) فحسبُكَ أن يكون استهلال الكلمة هذا الاستهلال حتى تعرف مدى ما تنطوي عليه الكلمة من تشجيعٍ لطيفٍ في حدودٍ مرسومة، فشعرُهم (محاولات) وهو بالتالي (نظْمٌ) ، وفيه ألمعيّة ولكنها (وليدة) . أتُرى هذا الوليد حبَا أمْ لمْ يحبُ بعد ؟؟؟
أمّا المسكين الثاني في كلمتك ـ بعد المسكين الأوَّل رجاء النقّاش ـ فهو الدكتور أبو شادي فقد تركته كما تركتَ الأوّل، ذاك نقشتَ في قلبه الحسرة على أدبه الذي ضاعَ على شباةِ قلمك، وهذا ستتركه يشدو لحناً حزيناً على أيّامه و لياليه التي أضاعها في البحث والدراسة والتنقيب حتى جاء بهذا المقال عن (الفوفزم) فجئتَ فجعلتَ منه مُهرِّجاً، منه أي من (المرحوم!!) هنري ماتيس!! ، ولست أدري إنْ كان قد ارتحم قبل كلمتك، أو أنَّه ارتحم على يديك الكريمتين!!!
ولا يفوتني أن أشير إلى أنني قرأتُ بإعجابٍ شديد تشبيهك الفوفزم بقولك (لشدَّ ما يشبهون عندنا المشعوذين المرتزقة الذين يركبون عربةً ويقفون في منتصف الطريق يصيحون بحناجرهم ويلعبون بأيديهم ليلفتوا نظرك إلى دواءٍ صنعوه إكسيراً للحياة)، وما أبرئك ـ يا أستاذ روحي ـ ولكنني أخشى أنك تحاول أن تلمُز من أحدهم بهذا المثال …
وهَبْ أنني حاولتُ أن أثنيَ على كلمتك الموفَّقة في الفوفزم، فهل أنسى أنك أمسكت بتلابيب الدكتور أبي شادي لتقول له (دعْكَ يا دكتور من …)، مسكين ذاك الدكتور الذي اهتمَّ بموضوع الفوفزم الذي أبدعه ذاك الذي يرحمه الله (فقد مات وأنت تكتب هذه الكلمة عن 85 عاماً من التهريج …) ولستُ أدري ماذا حلَّ بالمسكين أبي شادي وهو يرى أنه يتابع خطوات مهرِّجٍ أنفق 85 عاماً من عمره بالتهريج!!!! لقد قتلتَه، أحياكَ الله.
وفي كلمتك (لينزلوا إلى الشارع) وردتْ خطيئةٌ ـ أستغفر الله ـ بل هي هفوةٌ جرَتْ على الألسنة، إذ قلتَ (ومساهمة ….) والصّواب ( وإسهام …)، إذ الفعل منها (سهم) أو (أسهم) أيْ اشترك، ودعْكَ يا صديقي الأستاذ روحي من أولئك الذين يلوِّحون لك بأفعال المطاوعة …..
أمّا ثالثة الأثافيّ في كلمتك ـ إنْ كان هناك أثفيَّتان سابقتان ـ إعجابك بهذا الذي يقول: (ومِزَقٌ مهرورةٌ من أخي .. من صدره المُرتخي .. يخبئها السنبل والموسم .. عفيفة يخجل منها الدم ..)، أما خجلت من إعجابك بمثل هذا الهذْرِ؟ قد يشفع للقصيدة (روحٌ) تنساب في أثنائها وتتركك تعيشها فكرةً وروحاً وأسلوباً … ولكنْ إيّاك أنْ تقتطع منها أجزاء، لأنَّك إذ ذاك كأنما تُرسل رأساً جميلاً ـ وحده مُنفصلاً عن الجسد ـ لتقول لمَنْ يُحاورك: انظر ما أبدعه؛ وإنما الإبداع والجمال ـ بصورةٍ أدقّ ـ إنما هو روحٌ وجسد، فإذا انفصل أحدهما عن الآخر لم يعُدْ هناك روحٌ جميلةٌ، ولم يعُدْ هناك بالتالي جسَدٌ جميل.
أم تراك نسيت هذه المبادئ الأولية بعد ما علاك غبار الزمن، ولم تمد يدك لإزاحته بين حين وحين؟؟؟؟
أهذا شِعرٌ يُقرأ: (ومزق مهرورة) ـ سامحه الله ـ، ما أبرع كلمة (مهرورة)، هكذا وحدها دون أن يكون هناك من (السوابق) ما يشفع لإيرادها … ثمَّ … ألا تُسكرُكَ لفظة ( المُرتخي) ؟؟ أمّا أنا فقد ارتختْ مفاصلي وأنا أقرأ إعجابك بهذا الارتخاء الشنيع …..
أمّا إنَّه شعرٌ إنسانيٌّ فهذا ما لا نحاورك فيه، ولكنَّك أخطأت كلَّ الخطأ عندما أوردْتَ أو اقتطعتَ هذا الجزء الجميل في الجسد والقبيح جدّاً عندما انفتل قطعةً لا حياةَ فيها ولا حركة …. وأنا في الأصل لم أقرأ القصيدة برمَّتها، وعندما أعود إلى دمشق خلال هذين اليومين ـ إن شاء الله ـ سأقرأ القصيدة عسى أفهمُها على الوجه الذي فهمتَها أنت عليه ….
أما المسكين الثالث فهو الفقيد إليه تعالى الدكتور عبد العزيز عبد المجيد الذي تفضَّلتَ عليه وعلى كلمته بقولك (وهي أدنى إلى عمل تلميذ بكالوريا منها إلى ….) ولو وقفتَ عند هذا الحدِّ لكان هيّناً ميسوراً على قسوته وجرحه، ولكنك ثبَّتَّ ذاك الكلام القاسي بقولك (وهذا وزنها في الميزان ولا أزيد) …. ليتك زدْتَ ولم تقفْ عند هذا الحدِّ الذي بتر رأس المسكين الثالث…
وكلمتك عن (مات الملك) حاولتَ جهد الإمكان أنت أنْ تُخفِّفَ من حدَّة غضبك عليها فصرفت وجهك شطر المؤلِّف وليس المُترجم الذي هو (….سهيل إدريس …)، ولكنك مع هذا المديح الذي أزجيته إليه في كلمتك عن عبد الله عبد الدائم، وفي هذا التخلُّص عندما واجهته وجهاً لوجه رأيته لا يرحمك ولا يريد أن تنزل بك رحمة ربك، فتراه في التعليق أو التعقيب الأول يهاجمك بشيء من العنف، ولكنه في التعقيب الثاني بتوقيع (س.ا) لا يرحمك مطلقاً بل يردُّ لك الصّاع مئة صاع، بلا رحمة ولا هوادة ولا لين، ولو كان دفاعاً عن نفسه لهان الأمر، ولكنه دافع عن صاحبه، وساق إليك ألفاظاً أقلُّ ما يُقال فيها أنَّها اتّهامٌ لك في قدرتك على (الفَهْم).
هل أنا مخطئٌ في فهمي لكلمته التي ساقها تعقيباًعلى كلمتكَ؟ ألم يكن من حقِّه أن يتريَّث ولا يعقِّب ولا يكتب حتى يكون العدد التالي فتكون المناقشة مناقشة نظيرٍ لنظير في وجهة نظرٍ معيَّنةٍ بدل أن يبعث لك ببطاقةٍ صغيرةٍ لا يدعوك فيها إلى المبارزة،وإنما يمنحك فيها ألفاظاً أدنى ما فيها أقوى مما وجَّهتَه أنت جميعاً لكلِّ المساكين الذين وقعوا تحت يديك؟
حقّاً لقد كانت كلمته في غاية القسوة، وأشهد أنني تألَّمتُ كلَّ الألم لأنه أوردها على هذه الشاكلة، وقد كان يستطيع أن يُشير إلى أنَّه سيردُّ عليك في العدد القادم ويناقشك الرأي، أمّا أن يقول وبكلِّ بساطة كأنَّه يكتب تعقيباً على كلمةٍ لأديبٍ ناشئٍ (يؤسفني أن أقول إنَّ الأستاذ الناقد لم يفهم القصَّة، وأنَّ مغزاها قد فاته تماماً، وأنَّ أحكامه ـ بالتالي ـ خاطئةٌ كلُّها. وإني أرجوه أن يُعيد قراءتها فلا بُدَّ أن يعرف خطأه …..)
والحقُّ أنَّ هذا الكلام كثيرٌ وكثيرٌ جدّاً من أديبٍ ناشئٍ ـ ولو كان رئيساً للتحرير ـ إلى أديبٍ معروف مرموقٍ كروحي فيصل. هذا مع العلم أنني معك فيما ذهبتَ إليه من التناقض الوارد في (مات الملك) ـ حسبما أوردتَ من أمثلة ـ، وعلى كلٍّ فإنني سأقرأ الأقصوصة حال وصولي إلى دمشق ـ إن شاء الله ِ وأردُّ عليه إن وجدتُ مجالاً للردِّ ـ هذا إذا أذنتَ لي أنت ـ وإنني بانتظار رأيك في هذا الموضوع.
أمّا بقيَّة كلماتك في (نظرية الفنِّ عند تولستوي) و(النّسر) فإنَّها تدور في فلك كلماتك السابقة، ولم يستوقفني منها إلّا فكرة صغيرة جدّاً أردتَ أن تقولها في الشاروني ثمَّ عدلتَ عن ذلك إذ عُدْتَ إلى مديحه، وهو كما ذكرتَ أديبٌ يستحقُّ التشجيع والاحترام أيضاً.
وبعد، فقد بهرتَ أنفاسي، وأوقعتني فيما وقعتَ فيه أنت، وما أحسبُني إلّا أغضبتُك ويشهد الله أنني ما قصدتُ إلى ذلك ولن أقصد إليه، فلك عليَّ حُرُماتٌ أدناها أنَّك أستاذي الذي أعتزُّ به وأدافع عنه وأنافح دونه، ويكفي أن تسأل سعيد الجزائريّ وصباح قبّاني والدكتور حكمت هاشم لتعلم كيف تلقّيتُ صفَعاتٍ منهم وأنا بسبيل الدّفاع عنك وقتَ رفضتُ أن أقرَّ بأنَّ السيد شاكر مصطفى يُحسن علم الكتابة والقراءة أكثر منك، وضربوني بك يوم قرَّروا أنك أنت الذي (حطّيت له الطاعة) في غرفة سعيد الجزائريّ، فألجموا فمي وكمُّوه، وانصرفتُ عنهم وأنا أشدُّ تأثُّراً منك لأنَّك خلوتَ من الميدان .
والسلام عليك من أخيك المُحبِّ المُريد
زهير ميرزا
عنواني بدمشق (ص ب 268)
***************************
* رسالة من “روحي فيصل”
محمد روحي فيصل
رئيس فرع الدعاية والأنباء في حمص
حمص 28 ت2 954
الصديق الوفي الأستاذ ميرزا المحترم
لم أغضب لرسالتك كما ظننتَ، بل رضيتُ عنها كلَّ الرّضى.. لقد قرأتُ في سطورها آيات الوفاء، ولمحتُ دفَقات الصراحة تخطُّ أعمق الملاحظات والمطالعات. وأنا معجبٌ بنشاطك وأدبك، ولولا أنَّ رسالتك خاصّةٌ بي لدفعتُ بها في طريق بيروت لتُنشَر في ( الآداب). ولا ريبَ أنك قد عرفتَ مواضع الخلاف بيني وبين الدكتور سهيل إدريس، كما ستعرفُ خلافاتٍ ومناقشاتٍ أُخَر، وأرجو أن يكون رائدُنا جميعاً خدمةَ الأدب والفِكْر، والقولُ الفصلُ هو لأمثالك من النّقدة المُخلصين.
ماذا صنعتَ في بيروت؟ وهل أنت مُطمئنٌّ إلى عملك؟ وكيف حال العائلة؟ وماذا تُعدُّ من إنتاج؟
إنني أرجو أن أسمع الجواب يوم أصيرُ في دمشق عند أولى زياراتي القادمة لها، وما ذلك ببعيد فيما أعتقد.
واسلم لأخيك الذي يرغب في لقاء الشّخص الوفي والوجه الصّريح.
روحي
بيروت 1954/11/23
1374/3/27
عزيزي الأستاذ روحي، رعاه الله،
اليوم قرأت ذاك الكلام الطويل العريض المنتهي بتوقيعك، وكنت أرجو مُخلصاً أن تصرف طاقتك الكتابية المبدعة في غير هذا الكدِّ الأجوف وغير هذا النَّصَب المُضني الذي لا محصول وراءه. فما أنت بناقدٍ فيما كتبتَ ـ على جلال الكتابة ومكانة الكاتب ـ، ولا أنت بمؤلِّفٍ ولا بمُلَخِّصٍ، وأحسبُكَ كنت كذاك الطفل البريء العابث الذي أحبَّ والداه أن يشجِّعاه على الحركة – وقد لحظا بطء حركته – فأوعزا إليه أن يبني قصوراً من الرِّمال الناعمة على الشاطئ السّاجي .. فبنى ولكنه البناء الذي ليس وراءه شيء اذ ما هو في الأصل من شيء…
وكنت أودُّ من أعماقي أن أرى لك غير هذا الذي كتبتَ، فأنا عالمٌ بالنَّصَب الذي نالك من مطالعةٍ وتمحيصِ ما ليس بجديرٍ بالمُطالعة والتّمحيص، وهي بالتالي مقالاتٌ وقصائد وأقاصيص عددٍ كاملٍ من مجلّة سيّارة، وأكثر ذاك المكتوب لم يكن ليستوقفك قليلاً أو كثيراً، ولكنك رأيتَ نفسك مُلزَماً بمطالعته مُطالعةً واعيةً رصينة، ثم وجدتَ نفسك بالتالي مُكرهاً على أن تكتب فيه، كأنما هو شيءٌ جديرٌ بأن يبقي لديك بعض الانطباعات الموجِبة للكتابة، كأنما هي آثارٌ (موحية) ما تكاد تترك مطالعتَها حتى تجدَ نفسَك وقد استغرقتْ في المجهول تحاول أن تلملم نفسَك لتخُطَّ ماعرض لك خطوطاً على القرطاس إعجاباً أو نقداً.
… وإنَّما نكتب في الآثار التي تترك في نفسنا خطّاً واضحاً من الإعجاب، أو تُخلِّف خطّاً عميقاً من التأثير الشعوريّ. ألستَ ترى هذا الذي أرى؟ إذن ما بالك تمرَّدتَ على طبيعتك الهيّنة اللّينة المُبدعة وانطلقتَ تُجيب طلب مَنْ رغب إليك أن تكتب في (العدد) الماضي من الآداب ؟؟؟ كأنَّما الكتابة في “العدد الماضي من الآداب” أدبٌ أو فيها شيءٌ من الأدب ـ دون توريةٍ طبعا -؟
أحسبُ ـ والله أعلم ـ أنك قد انسَقتَ إلى ذلك بعاملين اثنين، أوَّلهما أن في تلك الدعوة “إكراهاً” لك على الكتابة ـ وأنت المُقِلُّ ـ، وثانيهما أنَّها تجْعلكَ وجهاً لوجه أمام قرّاءٍ أكثرهم لا يعرفُك ـ لمرور الزمن وتقاعسك عن الاهتمام بالواجبات الأدبية الكبرى المُلقاة على عاتقك ـ فإذا كان في الشقِّ الأوّل ما يشفع لك فإنَّ في الشقِّ الثاني ما لا يشفع لك ..
.. أفتظنُّني أقف منك موقف الواعظ أو موقف المُوجِّه؟ أعوذ بالله إلّا إذا كان التلميذ يعلوعلى أستاذه أو في الدّقيق من التعبير “يتطاول” عليه .. وما أعتقد أنك جرَّبتَ عليَّ شيئاً من هذا أبداً، وكلُّ ما هنالك أنني وصلتُ بيروت اليوم في أعمالٍ خاصَّةٍ فوجدتُ عدد “الآداب” الأخير في أيدي الباعة، فاقتنيتُه وجلستُ في ركنٍ منزوٍ من مكتبي أطالعه حتى وقعتُ على اسمك، فوجدتني أندفع لقراءة ما خططتَه بنفسِ مَشوقٍ ورغبةٍ جارفة، كأنني ذاك الظامئ الذي هَمَت السماء عليه قطَراتٍ فحاول ابتلاع كلِّ قطرة بشغفٍ ونَهَم، فكنتَ ترى في وجهي المعبِّر صوراً مُتباينةَ التأثير والتلوين؛ فتارةً أنا راضٍ مُشرقُ الوجه والنفس، وتارةً أنا ذاك المُتجهِّم الذي يريد لو (يأكل) هذا المكتوب ويعلكه بين أضراسه علكاً، وتارةً أقفُ موقف الحائر من هذا الذي أراه فأراك أمامي وقد جهِدْتَ الجهد كلَّه، وتصبَّب العرَق بارداً من جبهتك وأنتَ تحاول أن تركِّز كلماتك كلمةً كلمة لتكون في موضعها من أختها أوَّلاً ومن الفكرة ثانياً، وأكادُ أكون أعلمَ الناس ـ ولا فخر ـ بقيمة موقع اللَّفظة من مخطوطاتك، لذا فإنَّه من اليسير عليّ بالذّات أن أقرِّر مدى النصَب الذي نالك من كتابة هذه الصفحات التي لا تُسمِن ولا تُغني من جوع ـ كما يقولون ـ .
… وما كان أغناكَ عن كتابة هذا الذي كتبتَ، ولو خطَطتَ لنا فصلاً في النَّقد، أو لو أمسكتَ بمنظومِ ذاك العدد ـ وحده ـ وجعلته تحت مِبْضعك إذن لقرأنا لك نثراً ممتازاً فكرةً وأسلوباً .. أمّا أنْ تُبعثر نفسك وقلمك وفكرك بين قصَّةٍ ومقالةٍ وملخَّصٍ ومقطوعةٍ، وتأتي بهذا الذي أتيتَ به إرضاءً لرغبة الذين كلَّفوك هذا التكليف فهذا ما لا نرتضيه لك؛ لأنَّه من حيث المحصول جفاءٌ، وما فيه ما هو نافعٌ يمكثُ في الأرض.
… على أنَّك وقد ارتضيتَ أن تكتب في غير هواك .. فقد ارتضيتُ أنا أن أكتب لك لأقول لك رأيي فيما كتبتَ، وإنْ كنتُ على يقينٍ من أنَّك غاضبٌ عليَّ الآنَ وأنت تُطالع هذه الأسطر … ولكنَّ غضبَك قريبٌ إلى قلبي فقد ألفتُه، ورضاك بعيدٌ عن قلبي وما رغبتُه نظراً لشُحِّك وبُخلك في المديح والإطراء، وما أغنى الأديب الطُّلَعة عن أن ينثر منثوره في مديحٍ لا طائل تحته أو نقدٍ لا طحينَ معه ؟؟!!!!!
أمّا التمهيد الذي مهَّدتَ به لكلمتِك فعلى نوعين: أوّلهما وهو القسم الأوّل جيدٌ جدّاً، وأمّا الثاني وهو الوجه الآخر الذي تعرَّضتَ له فهو ـ وعفواً منك ـ مُتهالكٌ جدّاً، ولم يكن لك أن تُشير إليه من قريبٍ أو بعيد … وأحسبُ أنَّ خير ما أذكره لك كرأيّ في هذا المقام ذاك التعقيب الذي لاحقك به سهيل إدريس بتوقيع “الآداب”، وإن كنتُ أرى شخصيّاً أنَّه (هاجمَك) أكثر ممّا أحبَّ أن يُعقِّب على كلمتك لردِّ اّلأشياء إلى أصولها.
أمّا كلمتُك في كلمة رئيف الخوري فأحسبُ أنَّ للصداقة التي بينكما بعض الأثر في توجيه كلمتك، ولم تحبّ أنت أن تسرع في رئيف الخوري لتهاجمه .. إذ مَنْ يبقى لك بعده لتُثني عليه؟؟ و كلِمتُه ـ في الأصل ـ عاديّة جدّاً، وفيها من تفاهة الأسلوب وضعف ارتباط الجُمَل ما هو غنيّ عن البيان، ولكن لفتتَك إلى كلمة (عبر النفس) فيها براعة الآلة المصوِّرة الحسّاسة التي وقعت على (أسمن) ما في المقال.
ثمَّ ما كدتَ تجوز كلمة رئيف الخوري حتى وقعتَ على المسكين رجاء النقّاش فنقشتَ في صفحة قلبه حُفَراً وأخاديدَ ما أحسبُ أنَّه يمكن طمرها ولو بعد حين … فماذا فعل لك ذاك المسكين حتى صببتَ عليه جامَ غضبك؟ وماذا جنى حتى تجني عليه بمثل هذه الكلمات توزعها توزيعاً فيه كثيرٌ من الكرم، وقد كان من حقِّها أن يكون في توزيعها كثيرٌ من البخل نظراً لأهميّة كلٍّ منها على حدة (يغرب) ( وهذا كلامٌ لا معنى له) (ولا يقوله باحث) (ابتُلي بها الكاتب) (جنت عليه بهذا النقص المعيب) …..
وماذا فعلتْ لك بعد ذلك دار اليقظة العربيّة حتى تحشرها في مجال مهاجمة “النقَّاش”؟ هل كانت هي هدف نقمتك فجاء العاثر الحظِّ “النقَّاش” في الطريق فاكتسحته عملاً بقول شوقي: (ماتَ مَنْ في طُرُقاتِ السَّيلِ ناما)؟
وتقول: “فليس كلُّ نقدٍ غربيٍّ أو كلُّ أدَبٍ غربيٍّ مفيداً لنا. وما أجدر المترجمين أن يفهموا هذه الحقيقة البسيطة، لا سيَّما الذين يترجمون لدار اليقظة العربيّة بدمشق”.. الله الله يا روحي … أفأنتَ الذي يقول هذا القول وهو في تمام صدقه ويقينه؟ وما قيمة لفظة (مفيد) في كلمتك؟ وما قصدك من إيراد (الفائدة) و(الاستفادة) في مقام إدراج اسم دار اليقظة العربيّة؟ أفحَسِبْتَ أَّنَّ الفائدة هي ما يتراءى لك وحدك أنَّه فائدة؟ أم حَسِبْتَ أنَّ لفظ الفائدة يعني في هذا المجال ( تقويم الأدب المُعاصر) وعلينا بالتالي أن ننقل الآثار الغربيّة لـ (نستفيد) من أسلوبها أو أفكارها أو ترابطها وما اتّصل بذلك؟ ألستَ على علمٍ بأنَّ النّاشر لا يخضع لمثل هذا الذي ترمي إليه؟ وأنَّ الذين يُترجِمون بصورةٍ عامّة ـ لدار اليقظة العربيّة أو لغير دار اليقظة العربيّة أو لأنفسهم ـ إنَّما يترجمون استجابةً لانطباع الأثر المُترجَم في نفوسهم؟ أيقوى أحدٌ على إكراهك على ترجمة ما لا تتحسَّس به؟ وما هو مقياس هذا التحسُّس؟ هل هو(الفائدة)، إذن ما فائدة ترجمتك أنت لمسرحية (برليوز) ؟؟؟؟ هل هناك أيَّة فائدةٍ من نقلها إلى اللغة العربيّة! إلّا أنَّها أثَرٌ وجد في نفسك هوىً وعلى صفحة قلبك انطباعاً فانسَقْتَ إلى ترجمته بدافع (الاستجابة) لتلك المتعة الخاصَّة التي أوجدتها بنفسك القراءة الأولى لذاك الأثر .. أمّا الشقُّ الآخر من الفائدة وهو الفائدة الماديّة؛ فعليك ألّا توعز إلى المترجمين أن يهتَّموا بهذا الذي دعوتَهم للاهتمام به بقدر ما تنظر إلى ذاك أو تلك (البالوعة) المُخيفة التي يسمُّونها (التيراج) فهي وحدها التي تفرِض على النّاشر (لون الترجمات)، وهي التي تستدعي المترجِم ـ استجابةً لرغبة الناشرـ أن يهتمَّ بهذا النَّسق من الكتُب أو ذاك …… ومن هنا يتضِّحُ لي أنَّك لم تكن شديد التحديد يوم استهلكتَ لفظة (المفيد) في هذا المجال، فأصبتَ دار اليقظة بما كنت أرجو لو لم تُصِبْها به، ولا عبرة بقولك أنَّك أردتَ “(المترجمين) لدار اليقظة العربيّة” فليس من وجودٍ للمترجمين المذكورين إلّا من خلال الدار نفسها.
أمّا كلمتُك في عبد الله عبد الدائم فقد دُرْتَ في حلقة مُفرغة (عن قصدٍ وسابق تصوُّرٍ وتصميم، لا شكَّ في ذلك ولا رَيْب) بحيث لا يدري القارئ أأردْتَ به خيراً أم أردْتَ به شرّاً؟؟؟ وواقع الأمر بالنّسبة إليَّ أنَّك أردتَ به شرّاً في إطارٍ حاولتَ جهد المستطاع ألّا ينمَّ عن الشرِّ الكامن، ولم تستطع أن تخفي ما بنفسك طويلاً لأنَّه أفلتتْ منك كلماتٌ تدلُّ على ذلك كقولك بشيءٍ كثيرٍ من التهذيب (بقي أن أقول إنَّ جانب النقد للمذهب الوجوديّ قد جاء “مُرتجَلاً لا يفي بالمرام …..) وقد ظهرت براعتُكَ في التغطية ـ على أسلوب العسكريين ـ عندما أفرغت إناء مديحك على الكتاب المترجَم ـ الذي تعترف أنت أنَّك لم تُطالعه ـ ومع هذا فقد ارتضيتَ أن تمدح المترجِم بألفاظٍ فيها شمول، كقولك: (… ولكنني لا أشكُّ في أنَّ يد المترجِم سوف تكون سابغة الفضل على الشباب …) سامحك الله يا روحي، فلقد ظلمتَ عبد الله وظلمتَ في آنٍ معاً سهيل إدريس الذي أثنيتَ عليه بما لم تقرأ له…..؟!!!!!!!!
ـ ملاحظاتُك على أقصوصة (عرق) طيّبة ،وأكاد أقول جدّاً.
ـ أمّا ملاحظاتُك على (المحاولات الشعريّة التي نظمَها …… فدلَّ بها على ألمعيَّةٍ وليدة ….) فحسبُكَ أن يكون استهلال الكلمة هذا الاستهلال حتى تعرف مدى ما تنطوي عليه الكلمة من تشجيعٍ لطيفٍ في حدودٍ مرسومة، فشعرُهم (محاولات) وهو بالتالي (نظْمٌ) ، وفيه ألمعيّة ولكنها (وليدة) . أتُرى هذا الوليد حبَا أمْ لمْ يحبُ بعد ؟؟؟
أمّا المسكين الثاني في كلمتك ـ بعد المسكين الأوَّل رجاء النقّاش ـ فهو الدكتور أبو شادي فقد تركته كما تركتَ الأوّل، ذاك نقشتَ في قلبه الحسرة على أدبه الذي ضاعَ على شباةِ قلمك، وهذا ستتركه يشدو لحناً حزيناً على أيّامه و لياليه التي أضاعها في البحث والدراسة والتنقيب حتى جاء بهذا المقال عن (الفوفزم) فجئتَ فجعلتَ منه مُهرِّجاً، منه أي من (المرحوم!!) هنري ماتيس!! ، ولست أدري إنْ كان قد ارتحم قبل كلمتك، أو أنَّه ارتحم على يديك الكريمتين!!!
ولا يفوتني أن أشير إلى أنني قرأتُ بإعجابٍ شديد تشبيهك الفوفزم بقولك (لشدَّ ما يشبهون عندنا المشعوذين المرتزقة الذين يركبون عربةً ويقفون في منتصف الطريق يصيحون بحناجرهم ويلعبون بأيديهم ليلفتوا نظرك إلى دواءٍ صنعوه إكسيراً للحياة)، وما أبرئك ـ يا أستاذ روحي ـ ولكنني أخشى أنك تحاول أن تلمُز من أحدهم بهذا المثال …
وهَبْ أنني حاولتُ أن أثنيَ على كلمتك الموفَّقة في الفوفزم، فهل أنسى أنك أمسكت بتلابيب الدكتور أبي شادي لتقول له (دعْكَ يا دكتور من …)، مسكين ذاك الدكتور الذي اهتمَّ بموضوع الفوفزم الذي أبدعه ذاك الذي يرحمه الله (فقد مات وأنت تكتب هذه الكلمة عن 85 عاماً من التهريج …) ولستُ أدري ماذا حلَّ بالمسكين أبي شادي وهو يرى أنه يتابع خطوات مهرِّجٍ أنفق 85 عاماً من عمره بالتهريج!!!! لقد قتلتَه، أحياكَ الله.
وفي كلمتك (لينزلوا إلى الشارع) وردتْ خطيئةٌ ـ أستغفر الله ـ بل هي هفوةٌ جرَتْ على الألسنة، إذ قلتَ (ومساهمة ….) والصّواب ( وإسهام …)، إذ الفعل منها (سهم) أو (أسهم) أيْ اشترك، ودعْكَ يا صديقي الأستاذ روحي من أولئك الذين يلوِّحون لك بأفعال المطاوعة …..
أمّا ثالثة الأثافيّ في كلمتك ـ إنْ كان هناك أثفيَّتان سابقتان ـ إعجابك بهذا الذي يقول: (ومِزَقٌ مهرورةٌ من أخي .. من صدره المُرتخي .. يخبئها السنبل والموسم .. عفيفة يخجل منها الدم ..)، أما خجلت من إعجابك بمثل هذا الهذْرِ؟ قد يشفع للقصيدة (روحٌ) تنساب في أثنائها وتتركك تعيشها فكرةً وروحاً وأسلوباً … ولكنْ إيّاك أنْ تقتطع منها أجزاء، لأنَّك إذ ذاك كأنما تُرسل رأساً جميلاً ـ وحده مُنفصلاً عن الجسد ـ لتقول لمَنْ يُحاورك: انظر ما أبدعه؛ وإنما الإبداع والجمال ـ بصورةٍ أدقّ ـ إنما هو روحٌ وجسد، فإذا انفصل أحدهما عن الآخر لم يعُدْ هناك روحٌ جميلةٌ، ولم يعُدْ هناك بالتالي جسَدٌ جميل.
أم تراك نسيت هذه المبادئ الأولية بعد ما علاك غبار الزمن، ولم تمد يدك لإزاحته بين حين وحين؟؟؟؟
أهذا شِعرٌ يُقرأ: (ومزق مهرورة) ـ سامحه الله ـ، ما أبرع كلمة (مهرورة)، هكذا وحدها دون أن يكون هناك من (السوابق) ما يشفع لإيرادها … ثمَّ … ألا تُسكرُكَ لفظة ( المُرتخي) ؟؟ أمّا أنا فقد ارتختْ مفاصلي وأنا أقرأ إعجابك بهذا الارتخاء الشنيع …..
أمّا إنَّه شعرٌ إنسانيٌّ فهذا ما لا نحاورك فيه، ولكنَّك أخطأت كلَّ الخطأ عندما أوردْتَ أو اقتطعتَ هذا الجزء الجميل في الجسد والقبيح جدّاً عندما انفتل قطعةً لا حياةَ فيها ولا حركة …. وأنا في الأصل لم أقرأ القصيدة برمَّتها، وعندما أعود إلى دمشق خلال هذين اليومين ـ إن شاء الله ـ سأقرأ القصيدة عسى أفهمُها على الوجه الذي فهمتَها أنت عليه ….
أما المسكين الثالث فهو الفقيد إليه تعالى الدكتور عبد العزيز عبد المجيد الذي تفضَّلتَ عليه وعلى كلمته بقولك (وهي أدنى إلى عمل تلميذ بكالوريا منها إلى ….) ولو وقفتَ عند هذا الحدِّ لكان هيّناً ميسوراً على قسوته وجرحه، ولكنك ثبَّتَّ ذاك الكلام القاسي بقولك (وهذا وزنها في الميزان ولا أزيد) …. ليتك زدْتَ ولم تقفْ عند هذا الحدِّ الذي بتر رأس المسكين الثالث…
وكلمتك عن (مات الملك) حاولتَ جهد الإمكان أنت أنْ تُخفِّفَ من حدَّة غضبك عليها فصرفت وجهك شطر المؤلِّف وليس المُترجم الذي هو (….سهيل إدريس …)، ولكنك مع هذا المديح الذي أزجيته إليه في كلمتك عن عبد الله عبد الدائم، وفي هذا التخلُّص عندما واجهته وجهاً لوجه رأيته لا يرحمك ولا يريد أن تنزل بك رحمة ربك، فتراه في التعليق أو التعقيب الأول يهاجمك بشيء من العنف، ولكنه في التعقيب الثاني بتوقيع (س.ا) لا يرحمك مطلقاً بل يردُّ لك الصّاع مئة صاع، بلا رحمة ولا هوادة ولا لين، ولو كان دفاعاً عن نفسه لهان الأمر، ولكنه دافع عن صاحبه، وساق إليك ألفاظاً أقلُّ ما يُقال فيها أنَّها اتّهامٌ لك في قدرتك على (الفَهْم).
هل أنا مخطئٌ في فهمي لكلمته التي ساقها تعقيباًعلى كلمتكَ؟ ألم يكن من حقِّه أن يتريَّث ولا يعقِّب ولا يكتب حتى يكون العدد التالي فتكون المناقشة مناقشة نظيرٍ لنظير في وجهة نظرٍ معيَّنةٍ بدل أن يبعث لك ببطاقةٍ صغيرةٍ لا يدعوك فيها إلى المبارزة،وإنما يمنحك فيها ألفاظاً أدنى ما فيها أقوى مما وجَّهتَه أنت جميعاً لكلِّ المساكين الذين وقعوا تحت يديك؟
حقّاً لقد كانت كلمته في غاية القسوة، وأشهد أنني تألَّمتُ كلَّ الألم لأنه أوردها على هذه الشاكلة، وقد كان يستطيع أن يُشير إلى أنَّه سيردُّ عليك في العدد القادم ويناقشك الرأي، أمّا أن يقول وبكلِّ بساطة كأنَّه يكتب تعقيباً على كلمةٍ لأديبٍ ناشئٍ (يؤسفني أن أقول إنَّ الأستاذ الناقد لم يفهم القصَّة، وأنَّ مغزاها قد فاته تماماً، وأنَّ أحكامه ـ بالتالي ـ خاطئةٌ كلُّها. وإني أرجوه أن يُعيد قراءتها فلا بُدَّ أن يعرف خطأه …..)
والحقُّ أنَّ هذا الكلام كثيرٌ وكثيرٌ جدّاً من أديبٍ ناشئٍ ـ ولو كان رئيساً للتحرير ـ إلى أديبٍ معروف مرموقٍ كروحي فيصل. هذا مع العلم أنني معك فيما ذهبتَ إليه من التناقض الوارد في (مات الملك) ـ حسبما أوردتَ من أمثلة ـ، وعلى كلٍّ فإنني سأقرأ الأقصوصة حال وصولي إلى دمشق ـ إن شاء الله ِ وأردُّ عليه إن وجدتُ مجالاً للردِّ ـ هذا إذا أذنتَ لي أنت ـ وإنني بانتظار رأيك في هذا الموضوع.
أمّا بقيَّة كلماتك في (نظرية الفنِّ عند تولستوي) و(النّسر) فإنَّها تدور في فلك كلماتك السابقة، ولم يستوقفني منها إلّا فكرة صغيرة جدّاً أردتَ أن تقولها في الشاروني ثمَّ عدلتَ عن ذلك إذ عُدْتَ إلى مديحه، وهو كما ذكرتَ أديبٌ يستحقُّ التشجيع والاحترام أيضاً.
وبعد، فقد بهرتَ أنفاسي، وأوقعتني فيما وقعتَ فيه أنت، وما أحسبُني إلّا أغضبتُك ويشهد الله أنني ما قصدتُ إلى ذلك ولن أقصد إليه، فلك عليَّ حُرُماتٌ أدناها أنَّك أستاذي الذي أعتزُّ به وأدافع عنه وأنافح دونه، ويكفي أن تسأل سعيد الجزائريّ وصباح قبّاني والدكتور حكمت هاشم لتعلم كيف تلقّيتُ صفَعاتٍ منهم وأنا بسبيل الدّفاع عنك وقتَ رفضتُ أن أقرَّ بأنَّ السيد شاكر مصطفى يُحسن علم الكتابة والقراءة أكثر منك، وضربوني بك يوم قرَّروا أنك أنت الذي (حطّيت له الطاعة) في غرفة سعيد الجزائريّ، فألجموا فمي وكمُّوه، وانصرفتُ عنهم وأنا أشدُّ تأثُّراً منك لأنَّك خلوتَ من الميدان .
والسلام عليك من أخيك المُحبِّ المُريد
زهير ميرزا
عنواني بدمشق (ص ب 268)
***************************
* رسالة من “روحي فيصل”
محمد روحي فيصل
رئيس فرع الدعاية والأنباء في حمص
حمص 28 ت2 954
الصديق الوفي الأستاذ ميرزا المحترم
لم أغضب لرسالتك كما ظننتَ، بل رضيتُ عنها كلَّ الرّضى.. لقد قرأتُ في سطورها آيات الوفاء، ولمحتُ دفَقات الصراحة تخطُّ أعمق الملاحظات والمطالعات. وأنا معجبٌ بنشاطك وأدبك، ولولا أنَّ رسالتك خاصّةٌ بي لدفعتُ بها في طريق بيروت لتُنشَر في ( الآداب). ولا ريبَ أنك قد عرفتَ مواضع الخلاف بيني وبين الدكتور سهيل إدريس، كما ستعرفُ خلافاتٍ ومناقشاتٍ أُخَر، وأرجو أن يكون رائدُنا جميعاً خدمةَ الأدب والفِكْر، والقولُ الفصلُ هو لأمثالك من النّقدة المُخلصين.
ماذا صنعتَ في بيروت؟ وهل أنت مُطمئنٌّ إلى عملك؟ وكيف حال العائلة؟ وماذا تُعدُّ من إنتاج؟
إنني أرجو أن أسمع الجواب يوم أصيرُ في دمشق عند أولى زياراتي القادمة لها، وما ذلك ببعيد فيما أعتقد.
واسلم لأخيك الذي يرغب في لقاء الشّخص الوفي والوجه الصّريح.
روحي