أصل إليها يوم الخميس، (29/8/1996) ومعي جمال غوشة مدير المسرح الوطني الفلسطيني في القدس، والممثلة المسرحية رائدة غزالة، لحضور مهرجان المسرح الهولندي. أغادر البيت في التاسعة والنصف من ليل الأربعاء، ألتحق بجمال ورائدة ثم نتجه إلى مطار اللد. نبقى في المطار حتى الصباح، بسبب إجراءات الأمن التي لم أشهدها من قبل. العاملون في جهاز الأمن الإسرائيلي جعلونا ننتظر (نحن الفلسطينيين ومعنا بعض الأجانب) ساعات طويلة. كانوا يسمحون للإسرائيليين بالمرور، ومن عداهم، وبالذات الفلسطينيون، تعرضوا لتفتيش دقيق ولانتظار مذلّ. جاء قبطان الطائرة الهولندية، وعد بانتظارنا رغم هذا التأخير المقصود.
وجدنا الهولندي “نيل” في انتظارنا بالمطار. (نيل شاب نحيف طويل القامة، صامت أغلب الوقت. زار فلسطين غير مرة في مهمات تتعلق بالمسرح) ركبنا القطار الذي سيأخذنا إلى المدينة. نصحنا نيل بضرورة الانتباه إلى حقائبنا التي كانت مركونة بالقرب من أحد الأبواب. قال: تحدث هنا بعض السرقات. تأملت وجوه الركاب. إنهم خليط صامت من الرجال والنساء، بوجوه وملامح متنوعة، من مختلف الأعمار.
وضعنا حقائبنا في الفندق. استرحنا قليلاً، ثم ركبنا الترام وذهبنا إلى مركز المدينة. تمشينا في الشوارع وقتاً طويلاً، وكنا مغتبطين بما نفعل. أخذ المطر في الهطول. عدنا إلى الفندق مشياً على الأقدام. مشينا ساعة تقريباً تحت مطر لا يتوقف. في المساء، شاهدنا عرض الافتتاح، وهو مسرحية (من قتل ماري روجرز؟) التي أعدها كاتب هولندي عن قصة للكاتب الأمريكي إدغار ألن بو. المسرحية توليفة جيدة من الدراما والأوبرا، إذ امتزج الشعر بالغناء بالموسيقى بالرقص. بعد العرض جرى حوار مع طاقم المسرحية. الممثلة التي أدت دور ماري روجرز تتمتع بجمال هادئ جذاب. لم يستمر الحوار طويلاً. عدنا إلى الفندق في منتصف الليل تقريباً، ولم يكن ثمة مطر.
في الصباح التالي، ذهبنا إلى معرض للرسام الهولندي فان كوخ. المعرض يقع داخل بناية كبيرة محاذية للشارع الذي يأخذنا إلى الفندق. ثمة مجموعة من لوحات فان كوخ المكرسة للطبيعة، للقرى والمدن، وللوجوه البشرية في حالات نفسية مختلفة. ثمة لوحات له يتضح فيها تأثره بالفن التشكيلي الياباني. في المعرض نفسه، رسوم لبول غوغان بأسلوبه الخاص المتأثر ببيئة تاهيتي وثقافتها الأقرب إلى الفطرة الأولى، وتماثيل لرودان وغيره. في المعرض أيضاً تماثيل ملونة تشكل بدايات الخروج على المألوف في النحت، حيث كان التلوين مرفوضاً في زمن سابق.
أمستردام مدينة جميلة، (750 ألف نسمة) مشيدة على أرض منبسطة، تخترقها أربع أقنية دائرية يجري تغيير مائها من النهر باستمرار، تسير فيها السفن متوسطة الحجم وقوارب النزهة. فيها بنايات من النمط الذي شاهدته من قبل في لندن. الواحدة منها تتكون من أربع أو خمس طبقات، لها نوافذ كبيرة مستطيلة الشكل، وفي واجهاتها زخارف وتماثيل. لها سطوح مائلة من قرميد. تكثر في المدينة خطوط الترام. أهل المدينة يستخدمون الدراجات الهوائية بكثرة. النساء الهولنديات جميلات. يوجد في البلاد نصف مليون نسمة من الأقليات. الأقلية التركية هي الأكثر عدداً، تأتي بعدها الأقلية المغربية التي يبلغ عدد أفرادها 200 ألف نسمة. في المدينة، عدد كبير من الناس ذوي البشرة السوداء، الذين نقلتهم شركات تجارة الرقيق الهولندية من إفريقيا إلى أمريكا، ثم انتقل قسم منهم فيما بعد إلى هولندا ليعيشوا فيها، وثمة أناس من قوميات مختلفة من العالم الثالث يعيشون هنا، بينهم عدد قليل من الفلسطينيين. بعد وصولنا بيومين، فيما كنا ننتظر الترام لنقلنا إلى الفندق، تعرفنا إلى شاب فلسطيني من بيت لحم، يقيم في أمستردام منذ سبعة عشر عاماً، ويعمل حلاقاً. أبدى استعداده لمرافقتنا في أي وقت نشاء، في رحلة داخل المدينة. أعطانا رقم هاتفه ثم افترقنا بعد أن شكرناه على اهتمامه بنا.
أسكن في الطابق الأول من فندق كوك، في الغرفة رقم 154. تأملت سقف الغرفة وجدرانها منذ اللحظة الأولى، بنظرات مستريبة. (الموقف نفسه سوف يتكرر في كل فندق أنزل فيه) توقفت عند لوحتين متقابلتين، في الأولى مستطيل أرضيته من الرمادي والأصفر الغامق، وعليه خمسة عيدان طويلة ذات لون أصفر محاط بسواد كثيف. في الثانية مستطيل أرضيته حمراء وفوقها بياض، وعلى أرضية اللوحة ما يشبه السلك الملتوي. تعجبني هذه البساطة المقرونة بالعمق، التي تثير في النفس بهجة وارتياحاً!
ولا نمكث في الفندق إلى قليلاً. نجوب أنحاء المدينة كلما لاحت فرصة لذلك، ونشاهد عروضاً مسرحية عديدة. أحدها لا يدور فيه أي حوار. الممثلون يتحدثون أحياناً بلغة لا تعني شيئاً. المسرحية تستفيد من بعض تقنيات السيرك، ومن بعض الألعاب والحركات التي يقوم بها الممثلون على إيقاع الموسيقى التي تستمر حتى لحظة العرض الأخيرة. المسرحية متميزة، فيها بعض الإبهار، تشتمل على لحظات إنسانية، بخاصة بعد أن يقتل الرجل، بطريق الخطأ، المرأة التي يحبها. يظل منهمكاً في البحث عن وسيلة لإعادتها إلى الحياة، لكن من دون جدوى، ثم يرقص معها رقصة معبرة، يؤرجحها وهي مربوطة بحبل نازل من سقف المسرح. يحظى الممثلون والممثلات وبقية العاملين في المسرحية، بتصفيق استمر بضع دقائق، من الجمهور الذي كان يملأ قاعة مسرح كارييه.
سنخرج للتمشي في شوارع المدينة. الشوارع غاصة بالناس الذين يمضون عطلة نهاية الأسبوع في فرح وغبطة كما أعتقد. نعود إلى الفندق. في اليوم التالي، نتناول طعام الغداء في بيت نيل. نجلس في الحديقة التي تقع خلف البيت. يجيء رجال ونساء من معارف نيل. نتجاذب أطراف الحديث، حديث خفيف من النوع الذي لا يرهق الذهن ولا يتطلب جهداً. ثم نذهب إلى جولة في بعض أنحاء المدينة. ثمة جسر يرتفع كأنه جناحا طائرة لكي تمر السفن، ثم يعود إلى مكانه لتمر من فوقه السيارات. ثمة بيوت مزروعة في الماء، نتأمل الهدوء الذي يخيم عليها وعلى أصحابها، نتذكر انعدام الهدوء في بلادنا.
نجلس أنا ورائدة وجمال في مقهى على الرصيف. (جمال إنسان طيب، مغرم بسرد القصص والتعليقات الساخرة، ثم الغرق في بحر من الضحك المسترسل النابع من القلب) نشرب شاياً، ثم نتوجه إلى المسرح. نلتقي هناك الكاتبة الفلسطينية ليانة بدر، التي وصلت قبل يومين إلى أمستردام بمناسبة صدور روايتها “عين المرآة” باللغة الهولندية، ولإجراء مقابلة معها لإحدى الصحف.
بعد العرض المسرحي، تمشيت وحدي في شوارع المدينة. الطقس معتدل والمطر لم يهطل منذ أيام، وأنا أتأمل كل شيء من حولي. الساحة الرئيسة في المدينة غاصة بالناس، ثمة فرق فنية تقدم ألعاباً أو تعزف مقطوعات موسيقية، مقابل ما يتبرع به المتفرجون من مال. الناس في الساحة مشدودون إلى الموسيقى أو الألعاب، ما عدا شخصاً بائساً مهزول الجسم، اعتدت أن أراه طوال الأيام الماضية، لا يبرح هذه الساحة، يعيش على الفضلات التي يعثر عليها في صناديق القمامة. رثيت لحاله ولم أتصدق عليه بشيء. لاحظت كذلك أن بعض الشباب الهولنديين يستوقفون المارة، يستجدونهم بعض النقود. (حتى هنا! في أرقى عواصم الدول المتقدمة!).
نمت في ساعة متأخرة من الليل. وفي صباح اليوم التالي، ذهبنا، جمال ورائدة وأنا، إلى مؤسسة المسرح بالقرب من محطة “دام”. التقينا أحد المسؤولين في المؤسسة، تبادلنا الحديث حول آفاق تعاوننا المشترك في ميدان المسرح. جاء نيل وانضم إلى الاجتماع. (نيل متعاطف مع الفلسطينيين، لكنه لا يبدو مؤثراً في الوسط الثقافي الهولندي. اصطلحت أنا وجمال على إعطائه لقباً يغنينا عن ذكر اسمه. صرنا نقول كلما ذكرناه: سفيرنا وراء البحار! ثم نضحك لمجرد التسلية) بعد ذلك تفرجنا على أقسام المؤسسة، خصوصاً المكتبة التي تحوي كتباً وأرشيفاً عن المسرح. غادرنا المكان. ذهبت رائدة إلى مكتب للخطوط الجوية. (رائدة شابة ذكية من بيت جالا، لها ابتسامة بريئة، التقيتها أول مرة قبل سنتين في حفل استقبال أقامته القنصلية الأمريكية في فندق الأمريكان كولوني في القدس) عدت أنا وجمال إلى السوق. مشينا في شارع تكثر فيه حركة التجارة وتتنوع المعروضات. بحثنا عن مكتبة، اشتريت أربعة كتب بخمسين دولاراً، وهي مجموعات قصصية لكتاب من أمريكا وإفريقيا (باللغة الانجليزية). دخلنا محلات عديدة للنوفوتيه، تفرجنا على بضائع وملابس وأزياء حديثة. ذهبنا إلى مطعم هندي.
عدنا إلى الفندق، نمت ساعتين. ثم ذهبنا، أنا وجمال ومانفريد ودانييلا (هي عاملة في المسرح النمساوي وهو كذلك) إلى مسرح “دي بالي”، شاهدنا مسرحية “العاصفة” لشكسبير، قدمتها فرقة من أحد عشر ممثلاً وممثلة. برع المخرج باعتماده لغة الجسد التي أداها الممثلون والممثلات بإتقان.
كان ذلك في الليلة التي سبقت ذهابنا إلى دانهاغ العاصمة السياسية لهولندا، (750 ألف نسمة) ركبنا الحافلة، أنا وجمال وسفيرنا وراء البحار، وذهبنا إليها في الصباح المبكر، التقينا مسؤولة العلاقات الدولية في القسم الثقافي بوزارة الخارجية. تبادلنا الرأي حول آفاق التعاون الثقافي بين المؤسسات الثقافية الهولندية والمسرح الوطني الفلسطيني في القدس، ثم اتفقنا على برنامج مشترك.
تمشينا في شوارع المدينة بعد أن افترقنا عن سفيرنا وراء البحار. المدينة شبيهة بأمستردام في نمط البناء وأسلوب تنظيم الأسواق. جلسنا في مقهى. تناولنا الساندويشات وشربنا الشاي. جلستْ إلى طاولة قريبة منا طالبة مغربية اسمها أنيسة ميمون، تدرس الاقتصاد في الجامعة. البنت لا تعرف العربية، لأنها ولدت هنا وتعيش مع أسرتها التي هاجرت إلى هولندا قبل سنوات. بعد أن خرجنا من المقهى، ساورتنا الشكوك تجاه البنت، قلنا ربما كانت تعمل في خدمة الموساد الإسرائيلي. ظلت هذه الشكوك مفتقرة إلى دليل، فلم نتوقف عندها طويلاً.
بحثت في المدينة عن رسّامة هولندية اسمها “مارجي”، التقيتها مع أختها “إيفييت” في براغ حينما كنت أعيش أيامي الأولى من إقامة دامت ثلاث سنوات هناك. ذهب جمال معي للبحث عنها. ركبنا الترام إلى الحي الذي تقيم فيه الرسامة بحسب العنوان الذي أحتفظ به في جيبي. ضغطتُ على جرس الباب. ظهرت أمامي سيدة عجوز ومعها كلبها. سألتها عن “مارجي”، قالت إنها رحلت من هذا البيت إلى بيت آخر لا تعرفه. خاب مسعاي في العثور عليها، في لحظة واحدة.
عدنا إلى أمستردام. خطرت ببالي فكرة مباغتة. أعطيت موظفة الاستقبال في الفندق، عنوان مارجي للبحث عن هاتفها. فوجئتُ بالموظفة تعطيني رقماً، أجربُ الرقم، يصلني صوت الرسامة واضحاً، تقول لي إنها تزوجت رجلاً غيوراً، ما اضطرها إلى التوقف عن مراسلة الأصدقاء. تمنيت لها حياة سعيدة مع زوجها الثاني. (انفصلت عن زوجها الأول بعد سنوات من حياة مشتركة، شهدت الانسجام حيناً والاضطراب حيناً آخر) سألتُ سفيرنا وراء البحار، عن ظاهرة كثرة الشباب في شوارع المدينة. قال: يأتي طلاب وطالبات إلى أمستردام من كل أنحاء البلاد ومن الخارج للدراسة في الجامعة. قال إن نسبة العجائز في هولندا كبيرة.
نشاهد عروضاً مسرحية أخرى: أحدها للأطفال، يقوم فيه عدد قليل من الممثلين والممثلات بتقمص أدوار متنوعة. عرض مسرحي آخر عن شوبنهاور الفيلسوف الألماني، عن علاقته السيئة بأمه. قام ببطولة المسرحية ممثلان اثنان، (أحدهما لعب دور أم شوبنهاور. لم تقم بالدور امرأة، ربما للتماهي مع نزعة التشاؤم التي اتسمت بها أفكار هذا الفيلسوف) المسرحية الأكثر أهمية هي “كاليغولا” التي كتبها ألبير كامو. استعان مخرجها بتقنيات فنية جديدة (مرآة كبيرة في وسط المسرح، أجهزة تلفاز تظهر على شاشاتها وجوه الممثلين) شارك بدور رئيس فيها، ممثل هولندي من أصل فلسطيني، (من بلدة سلفيت) اسمه رمزي نصر، عمره 23 سنة، متخرج حديثاً في الجامعة (تخصص دراما) التقيناه بعد العرض، تحدثنا عن سلفيت، لاحظت أنه يعرف (ربما من والده) شيئاً عن الزجال الشعبي التقدمي المرحوم راجح السلفيتي. (سيأتي رمزي بعد سنة إلى فلسطين، لتقديم مونودراما من تأليفه وإخراجه في القدس وفي مدن فلسطينية أخرى. سيزور مسقط رأسه، ويتواصل مع جذوره).
في الليل، نذهب، جمال ونيل ودانييلا ومانفريد وأنا، إلى صالة للديسكو. الصالة غاصة بالراقصين والراقصات. نمكث هناك ساعتين، نرقص بعض الوقت، (لا أجيد الرقص، أقفز كيفما اتفق، ولا أحد يلقي بالاً إلى ذلك) ثم نعود إلى الفندق وقد أرهقنا التعب.
في يوم الرحلة الأخير، أمضينا، أنا وجمال وسفيرنا وراء البحار، وقتاً طويلاً في المقهى التابع لمسرح “دي باليه” (غادرتْ رائدة قبل يومين إلى قبرص للمشاركة في نشاط فني هناك) تناولنا ساندويشات الجبنة والمرطبات. في المقهى ثلاث عاملات شابات، يقدمن الخدمة لنا ولبقية الزبائن. كم كان منظرهن بهيجاً وهن يتنقلن بيننا مثل الفراشات! في الثالثة بعد الظهر، غادرنا المقهى نحو الترام الذي سيأخذنا إلى محطة القطارات. فوجئنا بمسيرة ضخمة تجوب شوارع أمستردام، احتفاء بيوم الورود، ما أدى إلى تعطيل حركة الترام. ركبنا التاكسي، حاول السائق تفادي الحواجز المقامة في الطرقات، بالسير في شوارع فرعية لن تعبرها المسيرة. وصلنا محطة القطارات، ركبنا قطار الساعة الرابعة متوجهين إلى المطار.
وصلنا في الوقت المناسب. اتجهنا إلى البوابة الخاصة بالرحلة المتجهة إلى تل أبيب. خضعنا لتحقيق قام به أفراد من البوليس السري الإسرائيلي. (أين كنت؟ ماذا تعمل؟ من أعد لك حقيبة السفر؟ في أي فندق كنت تقيم؟ أين تسكن؟ هل تحمل سلاحاً؟ الخ..) استأت من هذا التحقيق المهين. استمرت الرحلة من أمستردام إلى تل أبيب أربع ساعات ونصف الساعة، قضيتها في الاستماع إلى الموسيقى، وقراءة بعض حكايات إفريقية في كتاب باللغة الانجليزية، اشتريته من مكتبة في أمستردام.
ودّعْنا المضيفة السويسرية التي تعمل على الخطوط الجوية الهولندية. كانت تغبطنا لأننا نعود إلى الوطن، فيما ستنام هي الليلة بعيداً من وطنها! قلت لنفسي: ماذا ستقول لو عرفت أنني في زمن سابق، لم أتمكن من العودة إلى وطني إلا بعد مرور ثماني عشرة سنة!.
_______
*روائي وقاص من فلسطين
صلت إليها يوم الخميس، (29/8/1996) ومعي جمال غوشة مدير المسرح الوطني الفلسطيني في القدس، والممثلة المسرحية رائدة غزالة، لحضور مهرجان المسرح الهولندي. أغادر البيت في التاسعة والنصف من ليل الأربعاء، ألتحق بجمال ورائدة ثم نتجه إلى مطار اللد. نبقى في المطار حتى الصباح، بسبب إجراءات الأمن التي لم أشهدها من قبل. العاملون في جهاز الأمن الإسرائيلي جعلونا ننتظر (نحن الفلسطينيين ومعنا بعض الأجانب) ساعات طويلة. كانوا يسمحون للإسرائيليين بالمرور، ومن عداهم، وبالذات الفلسطينيون، تعرضوا لتفتيش دقيق ولانتظار مذلّ. جاء قبطان الطائرة الهولندية، وعد بانتظارنا رغم هذا التأخير المقصود.
وجدنا الهولندي “نيل” في انتظارنا بالمطار. (نيل شاب نحيف طويل القامة، صامت أغلب الوقت. زار فلسطين غير مرة في مهمات تتعلق بالمسرح) ركبنا القطار الذي سيأخذنا إلى المدينة. نصحنا نيل بضرورة الانتباه إلى حقائبنا التي كانت مركونة بالقرب من أحد الأبواب. قال: تحدث هنا بعض السرقات. تأملت وجوه الركاب. إنهم خليط صامت من الرجال والنساء، بوجوه وملامح متنوعة، من مختلف الأعمار.
وضعنا حقائبنا في الفندق. استرحنا قليلاً، ثم ركبنا الترام وذهبنا إلى مركز المدينة. تمشينا في الشوارع وقتاً طويلاً، وكنا مغتبطين بما نفعل. أخذ المطر في الهطول. عدنا إلى الفندق مشياً على الأقدام. مشينا ساعة تقريباً تحت مطر لا يتوقف. في المساء، شاهدنا عرض الافتتاح، وهو مسرحية (من قتل ماري روجرز؟) التي أعدها كاتب هولندي عن قصة للكاتب الأمريكي إدغار ألن بو. المسرحية توليفة جيدة من الدراما والأوبرا، إذ امتزج الشعر بالغناء بالموسيقى بالرقص. بعد العرض جرى حوار مع طاقم المسرحية. الممثلة التي أدت دور ماري روجرز تتمتع بجمال هادئ جذاب. لم يستمر الحوار طويلاً. عدنا إلى الفندق في منتصف الليل تقريباً، ولم يكن ثمة مطر.
في الصباح التالي، ذهبنا إلى معرض للرسام الهولندي فان كوخ. المعرض يقع داخل بناية كبيرة محاذية للشارع الذي يأخذنا إلى الفندق. ثمة مجموعة من لوحات فان كوخ المكرسة للطبيعة، للقرى والمدن، وللوجوه البشرية في حالات نفسية مختلفة. ثمة لوحات له يتضح فيها تأثره بالفن التشكيلي الياباني. في المعرض نفسه، رسوم لبول غوغان بأسلوبه الخاص المتأثر ببيئة تاهيتي وثقافتها الأقرب إلى الفطرة الأولى، وتماثيل لرودان وغيره. في المعرض أيضاً تماثيل ملونة تشكل بدايات الخروج على المألوف في النحت، حيث كان التلوين مرفوضاً في زمن سابق.
أمستردام مدينة جميلة، (750 ألف نسمة) مشيدة على أرض منبسطة، تخترقها أربع أقنية دائرية يجري تغيير مائها من النهر باستمرار، تسير فيها السفن متوسطة الحجم وقوارب النزهة. فيها بنايات من النمط الذي شاهدته من قبل في لندن. الواحدة منها تتكون من أربع أو خمس طبقات، لها نوافذ كبيرة مستطيلة الشكل، وفي واجهاتها زخارف وتماثيل. لها سطوح مائلة من قرميد. تكثر في المدينة خطوط الترام. أهل المدينة يستخدمون الدراجات الهوائية بكثرة. النساء الهولنديات جميلات. يوجد في البلاد نصف مليون نسمة من الأقليات. الأقلية التركية هي الأكثر عدداً، تأتي بعدها الأقلية المغربية التي يبلغ عدد أفرادها 200 ألف نسمة. في المدينة، عدد كبير من الناس ذوي البشرة السوداء، الذين نقلتهم شركات تجارة الرقيق الهولندية من إفريقيا إلى أمريكا، ثم انتقل قسم منهم فيما بعد إلى هولندا ليعيشوا فيها، وثمة أناس من قوميات مختلفة من العالم الثالث يعيشون هنا، بينهم عدد قليل من الفلسطينيين. بعد وصولنا بيومين، فيما كنا ننتظر الترام لنقلنا إلى الفندق، تعرفنا إلى شاب فلسطيني من بيت لحم، يقيم في أمستردام منذ سبعة عشر عاماً، ويعمل حلاقاً. أبدى استعداده لمرافقتنا في أي وقت نشاء، في رحلة داخل المدينة. أعطانا رقم هاتفه ثم افترقنا بعد أن شكرناه على اهتمامه بنا.
أسكن في الطابق الأول من فندق كوك، في الغرفة رقم 154. تأملت سقف الغرفة وجدرانها منذ اللحظة الأولى، بنظرات مستريبة. (الموقف نفسه سوف يتكرر في كل فندق أنزل فيه) توقفت عند لوحتين متقابلتين، في الأولى مستطيل أرضيته من الرمادي والأصفر الغامق، وعليه خمسة عيدان طويلة ذات لون أصفر محاط بسواد كثيف. في الثانية مستطيل أرضيته حمراء وفوقها بياض، وعلى أرضية اللوحة ما يشبه السلك الملتوي. تعجبني هذه البساطة المقرونة بالعمق، التي تثير في النفس بهجة وارتياحاً!
ولا نمكث في الفندق إلى قليلاً. نجوب أنحاء المدينة كلما لاحت فرصة لذلك، ونشاهد عروضاً مسرحية عديدة. أحدها لا يدور فيه أي حوار. الممثلون يتحدثون أحياناً بلغة لا تعني شيئاً. المسرحية تستفيد من بعض تقنيات السيرك، ومن بعض الألعاب والحركات التي يقوم بها الممثلون على إيقاع الموسيقى التي تستمر حتى لحظة العرض الأخيرة. المسرحية متميزة، فيها بعض الإبهار، تشتمل على لحظات إنسانية، بخاصة بعد أن يقتل الرجل، بطريق الخطأ، المرأة التي يحبها. يظل منهمكاً في البحث عن وسيلة لإعادتها إلى الحياة، لكن من دون جدوى، ثم يرقص معها رقصة معبرة، يؤرجحها وهي مربوطة بحبل نازل من سقف المسرح. يحظى الممثلون والممثلات وبقية العاملين في المسرحية، بتصفيق استمر بضع دقائق، من الجمهور الذي كان يملأ قاعة مسرح كارييه.
سنخرج للتمشي في شوارع المدينة. الشوارع غاصة بالناس الذين يمضون عطلة نهاية الأسبوع في فرح وغبطة كما أعتقد. نعود إلى الفندق. في اليوم التالي، نتناول طعام الغداء في بيت نيل. نجلس في الحديقة التي تقع خلف البيت. يجيء رجال ونساء من معارف نيل. نتجاذب أطراف الحديث، حديث خفيف من النوع الذي لا يرهق الذهن ولا يتطلب جهداً. ثم نذهب إلى جولة في بعض أنحاء المدينة. ثمة جسر يرتفع كأنه جناحا طائرة لكي تمر السفن، ثم يعود إلى مكانه لتمر من فوقه السيارات. ثمة بيوت مزروعة في الماء، نتأمل الهدوء الذي يخيم عليها وعلى أصحابها، نتذكر انعدام الهدوء في بلادنا.
نجلس أنا ورائدة وجمال في مقهى على الرصيف. (جمال إنسان طيب، مغرم بسرد القصص والتعليقات الساخرة، ثم الغرق في بحر من الضحك المسترسل النابع من القلب) نشرب شاياً، ثم نتوجه إلى المسرح. نلتقي هناك الكاتبة الفلسطينية ليانة بدر، التي وصلت قبل يومين إلى أمستردام بمناسبة صدور روايتها “عين المرآة” باللغة الهولندية، ولإجراء مقابلة معها لإحدى الصحف.
بعد العرض المسرحي، تمشيت وحدي في شوارع المدينة. الطقس معتدل والمطر لم يهطل منذ أيام، وأنا أتأمل كل شيء من حولي. الساحة الرئيسة في المدينة غاصة بالناس، ثمة فرق فنية تقدم ألعاباً أو تعزف مقطوعات موسيقية، مقابل ما يتبرع به المتفرجون من مال. الناس في الساحة مشدودون إلى الموسيقى أو الألعاب، ما عدا شخصاً بائساً مهزول الجسم، اعتدت أن أراه طوال الأيام الماضية، لا يبرح هذه الساحة، يعيش على الفضلات التي يعثر عليها في صناديق القمامة. رثيت لحاله ولم أتصدق عليه بشيء. لاحظت كذلك أن بعض الشباب الهولنديين يستوقفون المارة، يستجدونهم بعض النقود. (حتى هنا! في أرقى عواصم الدول المتقدمة!).
نمت في ساعة متأخرة من الليل. وفي صباح اليوم التالي، ذهبنا، جمال ورائدة وأنا، إلى مؤسسة المسرح بالقرب من محطة “دام”. التقينا أحد المسؤولين في المؤسسة، تبادلنا الحديث حول آفاق تعاوننا المشترك في ميدان المسرح. جاء نيل وانضم إلى الاجتماع. (نيل متعاطف مع الفلسطينيين، لكنه لا يبدو مؤثراً في الوسط الثقافي الهولندي. اصطلحت أنا وجمال على إعطائه لقباً يغنينا عن ذكر اسمه. صرنا نقول كلما ذكرناه: سفيرنا وراء البحار! ثم نضحك لمجرد التسلية) بعد ذلك تفرجنا على أقسام المؤسسة، خصوصاً المكتبة التي تحوي كتباً وأرشيفاً عن المسرح. غادرنا المكان. ذهبت رائدة إلى مكتب للخطوط الجوية. (رائدة شابة ذكية من بيت جالا، لها ابتسامة بريئة، التقيتها أول مرة قبل سنتين في حفل استقبال أقامته القنصلية الأمريكية في فندق الأمريكان كولوني في القدس) عدت أنا وجمال إلى السوق. مشينا في شارع تكثر فيه حركة التجارة وتتنوع المعروضات. بحثنا عن مكتبة، اشتريت أربعة كتب بخمسين دولاراً، وهي مجموعات قصصية لكتاب من أمريكا وإفريقيا (باللغة الانجليزية). دخلنا محلات عديدة للنوفوتيه، تفرجنا على بضائع وملابس وأزياء حديثة. ذهبنا إلى مطعم هندي.
عدنا إلى الفندق، نمت ساعتين. ثم ذهبنا، أنا وجمال ومانفريد ودانييلا (هي عاملة في المسرح النمساوي وهو كذلك) إلى مسرح “دي بالي”، شاهدنا مسرحية “العاصفة” لشكسبير، قدمتها فرقة من أحد عشر ممثلاً وممثلة. برع المخرج باعتماده لغة الجسد التي أداها الممثلون والممثلات بإتقان.
كان ذلك في الليلة التي سبقت ذهابنا إلى دانهاغ العاصمة السياسية لهولندا، (750 ألف نسمة) ركبنا الحافلة، أنا وجمال وسفيرنا وراء البحار، وذهبنا إليها في الصباح المبكر، التقينا مسؤولة العلاقات الدولية في القسم الثقافي بوزارة الخارجية. تبادلنا الرأي حول آفاق التعاون الثقافي بين المؤسسات الثقافية الهولندية والمسرح الوطني الفلسطيني في القدس، ثم اتفقنا على برنامج مشترك.
تمشينا في شوارع المدينة بعد أن افترقنا عن سفيرنا وراء البحار. المدينة شبيهة بأمستردام في نمط البناء وأسلوب تنظيم الأسواق. جلسنا في مقهى. تناولنا الساندويشات وشربنا الشاي. جلستْ إلى طاولة قريبة منا طالبة مغربية اسمها أنيسة ميمون، تدرس الاقتصاد في الجامعة. البنت لا تعرف العربية، لأنها ولدت هنا وتعيش مع أسرتها التي هاجرت إلى هولندا قبل سنوات. بعد أن خرجنا من المقهى، ساورتنا الشكوك تجاه البنت، قلنا ربما كانت تعمل في خدمة الموساد الإسرائيلي. ظلت هذه الشكوك مفتقرة إلى دليل، فلم نتوقف عندها طويلاً.
بحثت في المدينة عن رسّامة هولندية اسمها “مارجي”، التقيتها مع أختها “إيفييت” في براغ حينما كنت أعيش أيامي الأولى من إقامة دامت ثلاث سنوات هناك. ذهب جمال معي للبحث عنها. ركبنا الترام إلى الحي الذي تقيم فيه الرسامة بحسب العنوان الذي أحتفظ به في جيبي. ضغطتُ على جرس الباب. ظهرت أمامي سيدة عجوز ومعها كلبها. سألتها عن “مارجي”، قالت إنها رحلت من هذا البيت إلى بيت آخر لا تعرفه. خاب مسعاي في العثور عليها، في لحظة واحدة.
عدنا إلى أمستردام. خطرت ببالي فكرة مباغتة. أعطيت موظفة الاستقبال في الفندق، عنوان مارجي للبحث عن هاتفها. فوجئتُ بالموظفة تعطيني رقماً، أجربُ الرقم، يصلني صوت الرسامة واضحاً، تقول لي إنها تزوجت رجلاً غيوراً، ما اضطرها إلى التوقف عن مراسلة الأصدقاء. تمنيت لها حياة سعيدة مع زوجها الثاني. (انفصلت عن زوجها الأول بعد سنوات من حياة مشتركة، شهدت الانسجام حيناً والاضطراب حيناً آخر) سألتُ سفيرنا وراء البحار، عن ظاهرة كثرة الشباب في شوارع المدينة. قال: يأتي طلاب وطالبات إلى أمستردام من كل أنحاء البلاد ومن الخارج للدراسة في الجامعة. قال إن نسبة العجائز في هولندا كبيرة.
نشاهد عروضاً مسرحية أخرى: أحدها للأطفال، يقوم فيه عدد قليل من الممثلين والممثلات بتقمص أدوار متنوعة. عرض مسرحي آخر عن شوبنهاور الفيلسوف الألماني، عن علاقته السيئة بأمه. قام ببطولة المسرحية ممثلان اثنان، (أحدهما لعب دور أم شوبنهاور. لم تقم بالدور امرأة، ربما للتماهي مع نزعة التشاؤم التي اتسمت بها أفكار هذا الفيلسوف) المسرحية الأكثر أهمية هي “كاليغولا” التي كتبها ألبير كامو. استعان مخرجها بتقنيات فنية جديدة (مرآة كبيرة في وسط المسرح، أجهزة تلفاز تظهر على شاشاتها وجوه الممثلين) شارك بدور رئيس فيها، ممثل هولندي من أصل فلسطيني، (من بلدة سلفيت) اسمه رمزي نصر، عمره 23 سنة، متخرج حديثاً في الجامعة (تخصص دراما) التقيناه بعد العرض، تحدثنا عن سلفيت، لاحظت أنه يعرف (ربما من والده) شيئاً عن الزجال الشعبي التقدمي المرحوم راجح السلفيتي. (سيأتي رمزي بعد سنة إلى فلسطين، لتقديم مونودراما من تأليفه وإخراجه في القدس وفي مدن فلسطينية أخرى. سيزور مسقط رأسه، ويتواصل مع جذوره).
في الليل، نذهب، جمال ونيل ودانييلا ومانفريد وأنا، إلى صالة للديسكو. الصالة غاصة بالراقصين والراقصات. نمكث هناك ساعتين، نرقص بعض الوقت، (لا أجيد الرقص، أقفز كيفما اتفق، ولا أحد يلقي بالاً إلى ذلك) ثم نعود إلى الفندق وقد أرهقنا التعب.
في يوم الرحلة الأخير، أمضينا، أنا وجمال وسفيرنا وراء البحار، وقتاً طويلاً في المقهى التابع لمسرح “دي باليه” (غادرتْ رائدة قبل يومين إلى قبرص للمشاركة في نشاط فني هناك) تناولنا ساندويشات الجبنة والمرطبات. في المقهى ثلاث عاملات شابات، يقدمن الخدمة لنا ولبقية الزبائن. كم كان منظرهن بهيجاً وهن يتنقلن بيننا مثل الفراشات! في الثالثة بعد الظهر، غادرنا المقهى نحو الترام الذي سيأخذنا إلى محطة القطارات. فوجئنا بمسيرة ضخمة تجوب شوارع أمستردام، احتفاء بيوم الورود، ما أدى إلى تعطيل حركة الترام. ركبنا التاكسي، حاول السائق تفادي الحواجز المقامة في الطرقات، بالسير في شوارع فرعية لن تعبرها المسيرة. وصلنا محطة القطارات، ركبنا قطار الساعة الرابعة متوجهين إلى المطار.
وصلنا في الوقت المناسب. اتجهنا إلى البوابة الخاصة بالرحلة المتجهة إلى تل أبيب. خضعنا لتحقيق قام به أفراد من البوليس السري الإسرائيلي. (أين كنت؟ ماذا تعمل؟ من أعد لك حقيبة السفر؟ في أي فندق كنت تقيم؟ أين تسكن؟ هل تحمل سلاحاً؟ الخ..) استأت من هذا التحقيق المهين. استمرت الرحلة من أمستردام إلى تل أبيب أربع ساعات ونصف الساعة، قضيتها في الاستماع إلى الموسيقى، وقراءة بعض حكايات إفريقية في كتاب باللغة الانجليزية، اشتريته من مكتبة في أمستردام.
ودّعْنا المضيفة السويسرية التي تعمل على الخطوط الجوية الهولندية. كانت تغبطنا لأننا نعود إلى الوطن، فيما ستنام هي الليلة بعيداً من وطنها! قلت لنفسي: ماذا ستقول لو عرفت أنني في زمن سابق، لم أتمكن من العودة إلى وطني إلا بعد مرور ثماني عشرة سنة!.
_______
* سبتمبر 16, 2015
*محمود شقير
خاص ( ثقافات )
وجدنا الهولندي “نيل” في انتظارنا بالمطار. (نيل شاب نحيف طويل القامة، صامت أغلب الوقت. زار فلسطين غير مرة في مهمات تتعلق بالمسرح) ركبنا القطار الذي سيأخذنا إلى المدينة. نصحنا نيل بضرورة الانتباه إلى حقائبنا التي كانت مركونة بالقرب من أحد الأبواب. قال: تحدث هنا بعض السرقات. تأملت وجوه الركاب. إنهم خليط صامت من الرجال والنساء، بوجوه وملامح متنوعة، من مختلف الأعمار.
وضعنا حقائبنا في الفندق. استرحنا قليلاً، ثم ركبنا الترام وذهبنا إلى مركز المدينة. تمشينا في الشوارع وقتاً طويلاً، وكنا مغتبطين بما نفعل. أخذ المطر في الهطول. عدنا إلى الفندق مشياً على الأقدام. مشينا ساعة تقريباً تحت مطر لا يتوقف. في المساء، شاهدنا عرض الافتتاح، وهو مسرحية (من قتل ماري روجرز؟) التي أعدها كاتب هولندي عن قصة للكاتب الأمريكي إدغار ألن بو. المسرحية توليفة جيدة من الدراما والأوبرا، إذ امتزج الشعر بالغناء بالموسيقى بالرقص. بعد العرض جرى حوار مع طاقم المسرحية. الممثلة التي أدت دور ماري روجرز تتمتع بجمال هادئ جذاب. لم يستمر الحوار طويلاً. عدنا إلى الفندق في منتصف الليل تقريباً، ولم يكن ثمة مطر.
في الصباح التالي، ذهبنا إلى معرض للرسام الهولندي فان كوخ. المعرض يقع داخل بناية كبيرة محاذية للشارع الذي يأخذنا إلى الفندق. ثمة مجموعة من لوحات فان كوخ المكرسة للطبيعة، للقرى والمدن، وللوجوه البشرية في حالات نفسية مختلفة. ثمة لوحات له يتضح فيها تأثره بالفن التشكيلي الياباني. في المعرض نفسه، رسوم لبول غوغان بأسلوبه الخاص المتأثر ببيئة تاهيتي وثقافتها الأقرب إلى الفطرة الأولى، وتماثيل لرودان وغيره. في المعرض أيضاً تماثيل ملونة تشكل بدايات الخروج على المألوف في النحت، حيث كان التلوين مرفوضاً في زمن سابق.
أمستردام مدينة جميلة، (750 ألف نسمة) مشيدة على أرض منبسطة، تخترقها أربع أقنية دائرية يجري تغيير مائها من النهر باستمرار، تسير فيها السفن متوسطة الحجم وقوارب النزهة. فيها بنايات من النمط الذي شاهدته من قبل في لندن. الواحدة منها تتكون من أربع أو خمس طبقات، لها نوافذ كبيرة مستطيلة الشكل، وفي واجهاتها زخارف وتماثيل. لها سطوح مائلة من قرميد. تكثر في المدينة خطوط الترام. أهل المدينة يستخدمون الدراجات الهوائية بكثرة. النساء الهولنديات جميلات. يوجد في البلاد نصف مليون نسمة من الأقليات. الأقلية التركية هي الأكثر عدداً، تأتي بعدها الأقلية المغربية التي يبلغ عدد أفرادها 200 ألف نسمة. في المدينة، عدد كبير من الناس ذوي البشرة السوداء، الذين نقلتهم شركات تجارة الرقيق الهولندية من إفريقيا إلى أمريكا، ثم انتقل قسم منهم فيما بعد إلى هولندا ليعيشوا فيها، وثمة أناس من قوميات مختلفة من العالم الثالث يعيشون هنا، بينهم عدد قليل من الفلسطينيين. بعد وصولنا بيومين، فيما كنا ننتظر الترام لنقلنا إلى الفندق، تعرفنا إلى شاب فلسطيني من بيت لحم، يقيم في أمستردام منذ سبعة عشر عاماً، ويعمل حلاقاً. أبدى استعداده لمرافقتنا في أي وقت نشاء، في رحلة داخل المدينة. أعطانا رقم هاتفه ثم افترقنا بعد أن شكرناه على اهتمامه بنا.
أسكن في الطابق الأول من فندق كوك، في الغرفة رقم 154. تأملت سقف الغرفة وجدرانها منذ اللحظة الأولى، بنظرات مستريبة. (الموقف نفسه سوف يتكرر في كل فندق أنزل فيه) توقفت عند لوحتين متقابلتين، في الأولى مستطيل أرضيته من الرمادي والأصفر الغامق، وعليه خمسة عيدان طويلة ذات لون أصفر محاط بسواد كثيف. في الثانية مستطيل أرضيته حمراء وفوقها بياض، وعلى أرضية اللوحة ما يشبه السلك الملتوي. تعجبني هذه البساطة المقرونة بالعمق، التي تثير في النفس بهجة وارتياحاً!
ولا نمكث في الفندق إلى قليلاً. نجوب أنحاء المدينة كلما لاحت فرصة لذلك، ونشاهد عروضاً مسرحية عديدة. أحدها لا يدور فيه أي حوار. الممثلون يتحدثون أحياناً بلغة لا تعني شيئاً. المسرحية تستفيد من بعض تقنيات السيرك، ومن بعض الألعاب والحركات التي يقوم بها الممثلون على إيقاع الموسيقى التي تستمر حتى لحظة العرض الأخيرة. المسرحية متميزة، فيها بعض الإبهار، تشتمل على لحظات إنسانية، بخاصة بعد أن يقتل الرجل، بطريق الخطأ، المرأة التي يحبها. يظل منهمكاً في البحث عن وسيلة لإعادتها إلى الحياة، لكن من دون جدوى، ثم يرقص معها رقصة معبرة، يؤرجحها وهي مربوطة بحبل نازل من سقف المسرح. يحظى الممثلون والممثلات وبقية العاملين في المسرحية، بتصفيق استمر بضع دقائق، من الجمهور الذي كان يملأ قاعة مسرح كارييه.
سنخرج للتمشي في شوارع المدينة. الشوارع غاصة بالناس الذين يمضون عطلة نهاية الأسبوع في فرح وغبطة كما أعتقد. نعود إلى الفندق. في اليوم التالي، نتناول طعام الغداء في بيت نيل. نجلس في الحديقة التي تقع خلف البيت. يجيء رجال ونساء من معارف نيل. نتجاذب أطراف الحديث، حديث خفيف من النوع الذي لا يرهق الذهن ولا يتطلب جهداً. ثم نذهب إلى جولة في بعض أنحاء المدينة. ثمة جسر يرتفع كأنه جناحا طائرة لكي تمر السفن، ثم يعود إلى مكانه لتمر من فوقه السيارات. ثمة بيوت مزروعة في الماء، نتأمل الهدوء الذي يخيم عليها وعلى أصحابها، نتذكر انعدام الهدوء في بلادنا.
نجلس أنا ورائدة وجمال في مقهى على الرصيف. (جمال إنسان طيب، مغرم بسرد القصص والتعليقات الساخرة، ثم الغرق في بحر من الضحك المسترسل النابع من القلب) نشرب شاياً، ثم نتوجه إلى المسرح. نلتقي هناك الكاتبة الفلسطينية ليانة بدر، التي وصلت قبل يومين إلى أمستردام بمناسبة صدور روايتها “عين المرآة” باللغة الهولندية، ولإجراء مقابلة معها لإحدى الصحف.
بعد العرض المسرحي، تمشيت وحدي في شوارع المدينة. الطقس معتدل والمطر لم يهطل منذ أيام، وأنا أتأمل كل شيء من حولي. الساحة الرئيسة في المدينة غاصة بالناس، ثمة فرق فنية تقدم ألعاباً أو تعزف مقطوعات موسيقية، مقابل ما يتبرع به المتفرجون من مال. الناس في الساحة مشدودون إلى الموسيقى أو الألعاب، ما عدا شخصاً بائساً مهزول الجسم، اعتدت أن أراه طوال الأيام الماضية، لا يبرح هذه الساحة، يعيش على الفضلات التي يعثر عليها في صناديق القمامة. رثيت لحاله ولم أتصدق عليه بشيء. لاحظت كذلك أن بعض الشباب الهولنديين يستوقفون المارة، يستجدونهم بعض النقود. (حتى هنا! في أرقى عواصم الدول المتقدمة!).
نمت في ساعة متأخرة من الليل. وفي صباح اليوم التالي، ذهبنا، جمال ورائدة وأنا، إلى مؤسسة المسرح بالقرب من محطة “دام”. التقينا أحد المسؤولين في المؤسسة، تبادلنا الحديث حول آفاق تعاوننا المشترك في ميدان المسرح. جاء نيل وانضم إلى الاجتماع. (نيل متعاطف مع الفلسطينيين، لكنه لا يبدو مؤثراً في الوسط الثقافي الهولندي. اصطلحت أنا وجمال على إعطائه لقباً يغنينا عن ذكر اسمه. صرنا نقول كلما ذكرناه: سفيرنا وراء البحار! ثم نضحك لمجرد التسلية) بعد ذلك تفرجنا على أقسام المؤسسة، خصوصاً المكتبة التي تحوي كتباً وأرشيفاً عن المسرح. غادرنا المكان. ذهبت رائدة إلى مكتب للخطوط الجوية. (رائدة شابة ذكية من بيت جالا، لها ابتسامة بريئة، التقيتها أول مرة قبل سنتين في حفل استقبال أقامته القنصلية الأمريكية في فندق الأمريكان كولوني في القدس) عدت أنا وجمال إلى السوق. مشينا في شارع تكثر فيه حركة التجارة وتتنوع المعروضات. بحثنا عن مكتبة، اشتريت أربعة كتب بخمسين دولاراً، وهي مجموعات قصصية لكتاب من أمريكا وإفريقيا (باللغة الانجليزية). دخلنا محلات عديدة للنوفوتيه، تفرجنا على بضائع وملابس وأزياء حديثة. ذهبنا إلى مطعم هندي.
عدنا إلى الفندق، نمت ساعتين. ثم ذهبنا، أنا وجمال ومانفريد ودانييلا (هي عاملة في المسرح النمساوي وهو كذلك) إلى مسرح “دي بالي”، شاهدنا مسرحية “العاصفة” لشكسبير، قدمتها فرقة من أحد عشر ممثلاً وممثلة. برع المخرج باعتماده لغة الجسد التي أداها الممثلون والممثلات بإتقان.
كان ذلك في الليلة التي سبقت ذهابنا إلى دانهاغ العاصمة السياسية لهولندا، (750 ألف نسمة) ركبنا الحافلة، أنا وجمال وسفيرنا وراء البحار، وذهبنا إليها في الصباح المبكر، التقينا مسؤولة العلاقات الدولية في القسم الثقافي بوزارة الخارجية. تبادلنا الرأي حول آفاق التعاون الثقافي بين المؤسسات الثقافية الهولندية والمسرح الوطني الفلسطيني في القدس، ثم اتفقنا على برنامج مشترك.
تمشينا في شوارع المدينة بعد أن افترقنا عن سفيرنا وراء البحار. المدينة شبيهة بأمستردام في نمط البناء وأسلوب تنظيم الأسواق. جلسنا في مقهى. تناولنا الساندويشات وشربنا الشاي. جلستْ إلى طاولة قريبة منا طالبة مغربية اسمها أنيسة ميمون، تدرس الاقتصاد في الجامعة. البنت لا تعرف العربية، لأنها ولدت هنا وتعيش مع أسرتها التي هاجرت إلى هولندا قبل سنوات. بعد أن خرجنا من المقهى، ساورتنا الشكوك تجاه البنت، قلنا ربما كانت تعمل في خدمة الموساد الإسرائيلي. ظلت هذه الشكوك مفتقرة إلى دليل، فلم نتوقف عندها طويلاً.
بحثت في المدينة عن رسّامة هولندية اسمها “مارجي”، التقيتها مع أختها “إيفييت” في براغ حينما كنت أعيش أيامي الأولى من إقامة دامت ثلاث سنوات هناك. ذهب جمال معي للبحث عنها. ركبنا الترام إلى الحي الذي تقيم فيه الرسامة بحسب العنوان الذي أحتفظ به في جيبي. ضغطتُ على جرس الباب. ظهرت أمامي سيدة عجوز ومعها كلبها. سألتها عن “مارجي”، قالت إنها رحلت من هذا البيت إلى بيت آخر لا تعرفه. خاب مسعاي في العثور عليها، في لحظة واحدة.
عدنا إلى أمستردام. خطرت ببالي فكرة مباغتة. أعطيت موظفة الاستقبال في الفندق، عنوان مارجي للبحث عن هاتفها. فوجئتُ بالموظفة تعطيني رقماً، أجربُ الرقم، يصلني صوت الرسامة واضحاً، تقول لي إنها تزوجت رجلاً غيوراً، ما اضطرها إلى التوقف عن مراسلة الأصدقاء. تمنيت لها حياة سعيدة مع زوجها الثاني. (انفصلت عن زوجها الأول بعد سنوات من حياة مشتركة، شهدت الانسجام حيناً والاضطراب حيناً آخر) سألتُ سفيرنا وراء البحار، عن ظاهرة كثرة الشباب في شوارع المدينة. قال: يأتي طلاب وطالبات إلى أمستردام من كل أنحاء البلاد ومن الخارج للدراسة في الجامعة. قال إن نسبة العجائز في هولندا كبيرة.
نشاهد عروضاً مسرحية أخرى: أحدها للأطفال، يقوم فيه عدد قليل من الممثلين والممثلات بتقمص أدوار متنوعة. عرض مسرحي آخر عن شوبنهاور الفيلسوف الألماني، عن علاقته السيئة بأمه. قام ببطولة المسرحية ممثلان اثنان، (أحدهما لعب دور أم شوبنهاور. لم تقم بالدور امرأة، ربما للتماهي مع نزعة التشاؤم التي اتسمت بها أفكار هذا الفيلسوف) المسرحية الأكثر أهمية هي “كاليغولا” التي كتبها ألبير كامو. استعان مخرجها بتقنيات فنية جديدة (مرآة كبيرة في وسط المسرح، أجهزة تلفاز تظهر على شاشاتها وجوه الممثلين) شارك بدور رئيس فيها، ممثل هولندي من أصل فلسطيني، (من بلدة سلفيت) اسمه رمزي نصر، عمره 23 سنة، متخرج حديثاً في الجامعة (تخصص دراما) التقيناه بعد العرض، تحدثنا عن سلفيت، لاحظت أنه يعرف (ربما من والده) شيئاً عن الزجال الشعبي التقدمي المرحوم راجح السلفيتي. (سيأتي رمزي بعد سنة إلى فلسطين، لتقديم مونودراما من تأليفه وإخراجه في القدس وفي مدن فلسطينية أخرى. سيزور مسقط رأسه، ويتواصل مع جذوره).
في الليل، نذهب، جمال ونيل ودانييلا ومانفريد وأنا، إلى صالة للديسكو. الصالة غاصة بالراقصين والراقصات. نمكث هناك ساعتين، نرقص بعض الوقت، (لا أجيد الرقص، أقفز كيفما اتفق، ولا أحد يلقي بالاً إلى ذلك) ثم نعود إلى الفندق وقد أرهقنا التعب.
في يوم الرحلة الأخير، أمضينا، أنا وجمال وسفيرنا وراء البحار، وقتاً طويلاً في المقهى التابع لمسرح “دي باليه” (غادرتْ رائدة قبل يومين إلى قبرص للمشاركة في نشاط فني هناك) تناولنا ساندويشات الجبنة والمرطبات. في المقهى ثلاث عاملات شابات، يقدمن الخدمة لنا ولبقية الزبائن. كم كان منظرهن بهيجاً وهن يتنقلن بيننا مثل الفراشات! في الثالثة بعد الظهر، غادرنا المقهى نحو الترام الذي سيأخذنا إلى محطة القطارات. فوجئنا بمسيرة ضخمة تجوب شوارع أمستردام، احتفاء بيوم الورود، ما أدى إلى تعطيل حركة الترام. ركبنا التاكسي، حاول السائق تفادي الحواجز المقامة في الطرقات، بالسير في شوارع فرعية لن تعبرها المسيرة. وصلنا محطة القطارات، ركبنا قطار الساعة الرابعة متوجهين إلى المطار.
وصلنا في الوقت المناسب. اتجهنا إلى البوابة الخاصة بالرحلة المتجهة إلى تل أبيب. خضعنا لتحقيق قام به أفراد من البوليس السري الإسرائيلي. (أين كنت؟ ماذا تعمل؟ من أعد لك حقيبة السفر؟ في أي فندق كنت تقيم؟ أين تسكن؟ هل تحمل سلاحاً؟ الخ..) استأت من هذا التحقيق المهين. استمرت الرحلة من أمستردام إلى تل أبيب أربع ساعات ونصف الساعة، قضيتها في الاستماع إلى الموسيقى، وقراءة بعض حكايات إفريقية في كتاب باللغة الانجليزية، اشتريته من مكتبة في أمستردام.
ودّعْنا المضيفة السويسرية التي تعمل على الخطوط الجوية الهولندية. كانت تغبطنا لأننا نعود إلى الوطن، فيما ستنام هي الليلة بعيداً من وطنها! قلت لنفسي: ماذا ستقول لو عرفت أنني في زمن سابق، لم أتمكن من العودة إلى وطني إلا بعد مرور ثماني عشرة سنة!.
_______
*روائي وقاص من فلسطين
صلت إليها يوم الخميس، (29/8/1996) ومعي جمال غوشة مدير المسرح الوطني الفلسطيني في القدس، والممثلة المسرحية رائدة غزالة، لحضور مهرجان المسرح الهولندي. أغادر البيت في التاسعة والنصف من ليل الأربعاء، ألتحق بجمال ورائدة ثم نتجه إلى مطار اللد. نبقى في المطار حتى الصباح، بسبب إجراءات الأمن التي لم أشهدها من قبل. العاملون في جهاز الأمن الإسرائيلي جعلونا ننتظر (نحن الفلسطينيين ومعنا بعض الأجانب) ساعات طويلة. كانوا يسمحون للإسرائيليين بالمرور، ومن عداهم، وبالذات الفلسطينيون، تعرضوا لتفتيش دقيق ولانتظار مذلّ. جاء قبطان الطائرة الهولندية، وعد بانتظارنا رغم هذا التأخير المقصود.
وجدنا الهولندي “نيل” في انتظارنا بالمطار. (نيل شاب نحيف طويل القامة، صامت أغلب الوقت. زار فلسطين غير مرة في مهمات تتعلق بالمسرح) ركبنا القطار الذي سيأخذنا إلى المدينة. نصحنا نيل بضرورة الانتباه إلى حقائبنا التي كانت مركونة بالقرب من أحد الأبواب. قال: تحدث هنا بعض السرقات. تأملت وجوه الركاب. إنهم خليط صامت من الرجال والنساء، بوجوه وملامح متنوعة، من مختلف الأعمار.
وضعنا حقائبنا في الفندق. استرحنا قليلاً، ثم ركبنا الترام وذهبنا إلى مركز المدينة. تمشينا في الشوارع وقتاً طويلاً، وكنا مغتبطين بما نفعل. أخذ المطر في الهطول. عدنا إلى الفندق مشياً على الأقدام. مشينا ساعة تقريباً تحت مطر لا يتوقف. في المساء، شاهدنا عرض الافتتاح، وهو مسرحية (من قتل ماري روجرز؟) التي أعدها كاتب هولندي عن قصة للكاتب الأمريكي إدغار ألن بو. المسرحية توليفة جيدة من الدراما والأوبرا، إذ امتزج الشعر بالغناء بالموسيقى بالرقص. بعد العرض جرى حوار مع طاقم المسرحية. الممثلة التي أدت دور ماري روجرز تتمتع بجمال هادئ جذاب. لم يستمر الحوار طويلاً. عدنا إلى الفندق في منتصف الليل تقريباً، ولم يكن ثمة مطر.
في الصباح التالي، ذهبنا إلى معرض للرسام الهولندي فان كوخ. المعرض يقع داخل بناية كبيرة محاذية للشارع الذي يأخذنا إلى الفندق. ثمة مجموعة من لوحات فان كوخ المكرسة للطبيعة، للقرى والمدن، وللوجوه البشرية في حالات نفسية مختلفة. ثمة لوحات له يتضح فيها تأثره بالفن التشكيلي الياباني. في المعرض نفسه، رسوم لبول غوغان بأسلوبه الخاص المتأثر ببيئة تاهيتي وثقافتها الأقرب إلى الفطرة الأولى، وتماثيل لرودان وغيره. في المعرض أيضاً تماثيل ملونة تشكل بدايات الخروج على المألوف في النحت، حيث كان التلوين مرفوضاً في زمن سابق.
أمستردام مدينة جميلة، (750 ألف نسمة) مشيدة على أرض منبسطة، تخترقها أربع أقنية دائرية يجري تغيير مائها من النهر باستمرار، تسير فيها السفن متوسطة الحجم وقوارب النزهة. فيها بنايات من النمط الذي شاهدته من قبل في لندن. الواحدة منها تتكون من أربع أو خمس طبقات، لها نوافذ كبيرة مستطيلة الشكل، وفي واجهاتها زخارف وتماثيل. لها سطوح مائلة من قرميد. تكثر في المدينة خطوط الترام. أهل المدينة يستخدمون الدراجات الهوائية بكثرة. النساء الهولنديات جميلات. يوجد في البلاد نصف مليون نسمة من الأقليات. الأقلية التركية هي الأكثر عدداً، تأتي بعدها الأقلية المغربية التي يبلغ عدد أفرادها 200 ألف نسمة. في المدينة، عدد كبير من الناس ذوي البشرة السوداء، الذين نقلتهم شركات تجارة الرقيق الهولندية من إفريقيا إلى أمريكا، ثم انتقل قسم منهم فيما بعد إلى هولندا ليعيشوا فيها، وثمة أناس من قوميات مختلفة من العالم الثالث يعيشون هنا، بينهم عدد قليل من الفلسطينيين. بعد وصولنا بيومين، فيما كنا ننتظر الترام لنقلنا إلى الفندق، تعرفنا إلى شاب فلسطيني من بيت لحم، يقيم في أمستردام منذ سبعة عشر عاماً، ويعمل حلاقاً. أبدى استعداده لمرافقتنا في أي وقت نشاء، في رحلة داخل المدينة. أعطانا رقم هاتفه ثم افترقنا بعد أن شكرناه على اهتمامه بنا.
أسكن في الطابق الأول من فندق كوك، في الغرفة رقم 154. تأملت سقف الغرفة وجدرانها منذ اللحظة الأولى، بنظرات مستريبة. (الموقف نفسه سوف يتكرر في كل فندق أنزل فيه) توقفت عند لوحتين متقابلتين، في الأولى مستطيل أرضيته من الرمادي والأصفر الغامق، وعليه خمسة عيدان طويلة ذات لون أصفر محاط بسواد كثيف. في الثانية مستطيل أرضيته حمراء وفوقها بياض، وعلى أرضية اللوحة ما يشبه السلك الملتوي. تعجبني هذه البساطة المقرونة بالعمق، التي تثير في النفس بهجة وارتياحاً!
ولا نمكث في الفندق إلى قليلاً. نجوب أنحاء المدينة كلما لاحت فرصة لذلك، ونشاهد عروضاً مسرحية عديدة. أحدها لا يدور فيه أي حوار. الممثلون يتحدثون أحياناً بلغة لا تعني شيئاً. المسرحية تستفيد من بعض تقنيات السيرك، ومن بعض الألعاب والحركات التي يقوم بها الممثلون على إيقاع الموسيقى التي تستمر حتى لحظة العرض الأخيرة. المسرحية متميزة، فيها بعض الإبهار، تشتمل على لحظات إنسانية، بخاصة بعد أن يقتل الرجل، بطريق الخطأ، المرأة التي يحبها. يظل منهمكاً في البحث عن وسيلة لإعادتها إلى الحياة، لكن من دون جدوى، ثم يرقص معها رقصة معبرة، يؤرجحها وهي مربوطة بحبل نازل من سقف المسرح. يحظى الممثلون والممثلات وبقية العاملين في المسرحية، بتصفيق استمر بضع دقائق، من الجمهور الذي كان يملأ قاعة مسرح كارييه.
سنخرج للتمشي في شوارع المدينة. الشوارع غاصة بالناس الذين يمضون عطلة نهاية الأسبوع في فرح وغبطة كما أعتقد. نعود إلى الفندق. في اليوم التالي، نتناول طعام الغداء في بيت نيل. نجلس في الحديقة التي تقع خلف البيت. يجيء رجال ونساء من معارف نيل. نتجاذب أطراف الحديث، حديث خفيف من النوع الذي لا يرهق الذهن ولا يتطلب جهداً. ثم نذهب إلى جولة في بعض أنحاء المدينة. ثمة جسر يرتفع كأنه جناحا طائرة لكي تمر السفن، ثم يعود إلى مكانه لتمر من فوقه السيارات. ثمة بيوت مزروعة في الماء، نتأمل الهدوء الذي يخيم عليها وعلى أصحابها، نتذكر انعدام الهدوء في بلادنا.
نجلس أنا ورائدة وجمال في مقهى على الرصيف. (جمال إنسان طيب، مغرم بسرد القصص والتعليقات الساخرة، ثم الغرق في بحر من الضحك المسترسل النابع من القلب) نشرب شاياً، ثم نتوجه إلى المسرح. نلتقي هناك الكاتبة الفلسطينية ليانة بدر، التي وصلت قبل يومين إلى أمستردام بمناسبة صدور روايتها “عين المرآة” باللغة الهولندية، ولإجراء مقابلة معها لإحدى الصحف.
بعد العرض المسرحي، تمشيت وحدي في شوارع المدينة. الطقس معتدل والمطر لم يهطل منذ أيام، وأنا أتأمل كل شيء من حولي. الساحة الرئيسة في المدينة غاصة بالناس، ثمة فرق فنية تقدم ألعاباً أو تعزف مقطوعات موسيقية، مقابل ما يتبرع به المتفرجون من مال. الناس في الساحة مشدودون إلى الموسيقى أو الألعاب، ما عدا شخصاً بائساً مهزول الجسم، اعتدت أن أراه طوال الأيام الماضية، لا يبرح هذه الساحة، يعيش على الفضلات التي يعثر عليها في صناديق القمامة. رثيت لحاله ولم أتصدق عليه بشيء. لاحظت كذلك أن بعض الشباب الهولنديين يستوقفون المارة، يستجدونهم بعض النقود. (حتى هنا! في أرقى عواصم الدول المتقدمة!).
نمت في ساعة متأخرة من الليل. وفي صباح اليوم التالي، ذهبنا، جمال ورائدة وأنا، إلى مؤسسة المسرح بالقرب من محطة “دام”. التقينا أحد المسؤولين في المؤسسة، تبادلنا الحديث حول آفاق تعاوننا المشترك في ميدان المسرح. جاء نيل وانضم إلى الاجتماع. (نيل متعاطف مع الفلسطينيين، لكنه لا يبدو مؤثراً في الوسط الثقافي الهولندي. اصطلحت أنا وجمال على إعطائه لقباً يغنينا عن ذكر اسمه. صرنا نقول كلما ذكرناه: سفيرنا وراء البحار! ثم نضحك لمجرد التسلية) بعد ذلك تفرجنا على أقسام المؤسسة، خصوصاً المكتبة التي تحوي كتباً وأرشيفاً عن المسرح. غادرنا المكان. ذهبت رائدة إلى مكتب للخطوط الجوية. (رائدة شابة ذكية من بيت جالا، لها ابتسامة بريئة، التقيتها أول مرة قبل سنتين في حفل استقبال أقامته القنصلية الأمريكية في فندق الأمريكان كولوني في القدس) عدت أنا وجمال إلى السوق. مشينا في شارع تكثر فيه حركة التجارة وتتنوع المعروضات. بحثنا عن مكتبة، اشتريت أربعة كتب بخمسين دولاراً، وهي مجموعات قصصية لكتاب من أمريكا وإفريقيا (باللغة الانجليزية). دخلنا محلات عديدة للنوفوتيه، تفرجنا على بضائع وملابس وأزياء حديثة. ذهبنا إلى مطعم هندي.
عدنا إلى الفندق، نمت ساعتين. ثم ذهبنا، أنا وجمال ومانفريد ودانييلا (هي عاملة في المسرح النمساوي وهو كذلك) إلى مسرح “دي بالي”، شاهدنا مسرحية “العاصفة” لشكسبير، قدمتها فرقة من أحد عشر ممثلاً وممثلة. برع المخرج باعتماده لغة الجسد التي أداها الممثلون والممثلات بإتقان.
كان ذلك في الليلة التي سبقت ذهابنا إلى دانهاغ العاصمة السياسية لهولندا، (750 ألف نسمة) ركبنا الحافلة، أنا وجمال وسفيرنا وراء البحار، وذهبنا إليها في الصباح المبكر، التقينا مسؤولة العلاقات الدولية في القسم الثقافي بوزارة الخارجية. تبادلنا الرأي حول آفاق التعاون الثقافي بين المؤسسات الثقافية الهولندية والمسرح الوطني الفلسطيني في القدس، ثم اتفقنا على برنامج مشترك.
تمشينا في شوارع المدينة بعد أن افترقنا عن سفيرنا وراء البحار. المدينة شبيهة بأمستردام في نمط البناء وأسلوب تنظيم الأسواق. جلسنا في مقهى. تناولنا الساندويشات وشربنا الشاي. جلستْ إلى طاولة قريبة منا طالبة مغربية اسمها أنيسة ميمون، تدرس الاقتصاد في الجامعة. البنت لا تعرف العربية، لأنها ولدت هنا وتعيش مع أسرتها التي هاجرت إلى هولندا قبل سنوات. بعد أن خرجنا من المقهى، ساورتنا الشكوك تجاه البنت، قلنا ربما كانت تعمل في خدمة الموساد الإسرائيلي. ظلت هذه الشكوك مفتقرة إلى دليل، فلم نتوقف عندها طويلاً.
بحثت في المدينة عن رسّامة هولندية اسمها “مارجي”، التقيتها مع أختها “إيفييت” في براغ حينما كنت أعيش أيامي الأولى من إقامة دامت ثلاث سنوات هناك. ذهب جمال معي للبحث عنها. ركبنا الترام إلى الحي الذي تقيم فيه الرسامة بحسب العنوان الذي أحتفظ به في جيبي. ضغطتُ على جرس الباب. ظهرت أمامي سيدة عجوز ومعها كلبها. سألتها عن “مارجي”، قالت إنها رحلت من هذا البيت إلى بيت آخر لا تعرفه. خاب مسعاي في العثور عليها، في لحظة واحدة.
عدنا إلى أمستردام. خطرت ببالي فكرة مباغتة. أعطيت موظفة الاستقبال في الفندق، عنوان مارجي للبحث عن هاتفها. فوجئتُ بالموظفة تعطيني رقماً، أجربُ الرقم، يصلني صوت الرسامة واضحاً، تقول لي إنها تزوجت رجلاً غيوراً، ما اضطرها إلى التوقف عن مراسلة الأصدقاء. تمنيت لها حياة سعيدة مع زوجها الثاني. (انفصلت عن زوجها الأول بعد سنوات من حياة مشتركة، شهدت الانسجام حيناً والاضطراب حيناً آخر) سألتُ سفيرنا وراء البحار، عن ظاهرة كثرة الشباب في شوارع المدينة. قال: يأتي طلاب وطالبات إلى أمستردام من كل أنحاء البلاد ومن الخارج للدراسة في الجامعة. قال إن نسبة العجائز في هولندا كبيرة.
نشاهد عروضاً مسرحية أخرى: أحدها للأطفال، يقوم فيه عدد قليل من الممثلين والممثلات بتقمص أدوار متنوعة. عرض مسرحي آخر عن شوبنهاور الفيلسوف الألماني، عن علاقته السيئة بأمه. قام ببطولة المسرحية ممثلان اثنان، (أحدهما لعب دور أم شوبنهاور. لم تقم بالدور امرأة، ربما للتماهي مع نزعة التشاؤم التي اتسمت بها أفكار هذا الفيلسوف) المسرحية الأكثر أهمية هي “كاليغولا” التي كتبها ألبير كامو. استعان مخرجها بتقنيات فنية جديدة (مرآة كبيرة في وسط المسرح، أجهزة تلفاز تظهر على شاشاتها وجوه الممثلين) شارك بدور رئيس فيها، ممثل هولندي من أصل فلسطيني، (من بلدة سلفيت) اسمه رمزي نصر، عمره 23 سنة، متخرج حديثاً في الجامعة (تخصص دراما) التقيناه بعد العرض، تحدثنا عن سلفيت، لاحظت أنه يعرف (ربما من والده) شيئاً عن الزجال الشعبي التقدمي المرحوم راجح السلفيتي. (سيأتي رمزي بعد سنة إلى فلسطين، لتقديم مونودراما من تأليفه وإخراجه في القدس وفي مدن فلسطينية أخرى. سيزور مسقط رأسه، ويتواصل مع جذوره).
في الليل، نذهب، جمال ونيل ودانييلا ومانفريد وأنا، إلى صالة للديسكو. الصالة غاصة بالراقصين والراقصات. نمكث هناك ساعتين، نرقص بعض الوقت، (لا أجيد الرقص، أقفز كيفما اتفق، ولا أحد يلقي بالاً إلى ذلك) ثم نعود إلى الفندق وقد أرهقنا التعب.
في يوم الرحلة الأخير، أمضينا، أنا وجمال وسفيرنا وراء البحار، وقتاً طويلاً في المقهى التابع لمسرح “دي باليه” (غادرتْ رائدة قبل يومين إلى قبرص للمشاركة في نشاط فني هناك) تناولنا ساندويشات الجبنة والمرطبات. في المقهى ثلاث عاملات شابات، يقدمن الخدمة لنا ولبقية الزبائن. كم كان منظرهن بهيجاً وهن يتنقلن بيننا مثل الفراشات! في الثالثة بعد الظهر، غادرنا المقهى نحو الترام الذي سيأخذنا إلى محطة القطارات. فوجئنا بمسيرة ضخمة تجوب شوارع أمستردام، احتفاء بيوم الورود، ما أدى إلى تعطيل حركة الترام. ركبنا التاكسي، حاول السائق تفادي الحواجز المقامة في الطرقات، بالسير في شوارع فرعية لن تعبرها المسيرة. وصلنا محطة القطارات، ركبنا قطار الساعة الرابعة متوجهين إلى المطار.
وصلنا في الوقت المناسب. اتجهنا إلى البوابة الخاصة بالرحلة المتجهة إلى تل أبيب. خضعنا لتحقيق قام به أفراد من البوليس السري الإسرائيلي. (أين كنت؟ ماذا تعمل؟ من أعد لك حقيبة السفر؟ في أي فندق كنت تقيم؟ أين تسكن؟ هل تحمل سلاحاً؟ الخ..) استأت من هذا التحقيق المهين. استمرت الرحلة من أمستردام إلى تل أبيب أربع ساعات ونصف الساعة، قضيتها في الاستماع إلى الموسيقى، وقراءة بعض حكايات إفريقية في كتاب باللغة الانجليزية، اشتريته من مكتبة في أمستردام.
ودّعْنا المضيفة السويسرية التي تعمل على الخطوط الجوية الهولندية. كانت تغبطنا لأننا نعود إلى الوطن، فيما ستنام هي الليلة بعيداً من وطنها! قلت لنفسي: ماذا ستقول لو عرفت أنني في زمن سابق، لم أتمكن من العودة إلى وطني إلا بعد مرور ثماني عشرة سنة!.
_______
* سبتمبر 16, 2015
*محمود شقير
من أدب الرحلات/ يوم الورود في أمستردام - ثقافات
*محمود شقيرخاص ( ثقافات )أصل إليها يوم الخميس، (29/8/1996) ومعي جمال غوشة مدير المسرح الوطني الفلسطي
thaqafat.com
خاص ( ثقافات )