محمد خضير - سردية الجسر..

الجسرُ مَعبرٌ ومَسرَد، ذهابٌ وارتداد؛ علاقةٌ ذات طرفين متقاربين او متباعدين؛ ما أن تبدأ لغتُها بالاشتقاق والتصحيف، حتى تتولّد من الكلمة الراكزة على دعائم ثابتة عشراتُ المعابر الفرعية: "سرج، رجس، سجر".. وكلّ منها لفظة منزوعة من سرديات الرمال والمياه والنيران. فالجسر يسير أحياناً بأقدام عابريه، وقد يُوصِل بين باب التُّقى وباب الهوى، كما أنّه صراط الخاطئين على مهاوي النار المتّقِدة في ذاكرة الأعماق غير المرئية. والجسر يسير بكاتبه أيضاً.
يتدرّج الكاتب في نصّه، وينمو مع انتقالات جسرهِ المحمول على كتفي نهر جار، هو نهر ذاكرته: الطفل البريّ ثم النهريّ؛ الشابّ المدرسيّ ثم السينمائيّ؛ الرجل الحرّ ثم المقيّد؛ الشيخ الغاوي ثم المُغوي للكلمات. سِيرةٌ ملتبسة بسيرة جسر، لَهيَ سِيرةُ النصّ نفسه: من الحسّ إلى المجرّد؛ ثم العكس.
والجسر صيرورة تتقلّب بالكاتب وسيرته؛ لكنّه قد يُعمَّر مستقلاً عنه. الجسر بمشاهدِه، مَعبرٌ يشترك فيه آخرون مجهولون للكاتب، يعبرون به كالمجرى الأسفل، يمضي بسطحه اللامع الى منعطفه، وهو واقفٌ في مكانه. والجسر بُعدان، معروف ومجهول، كمجراه سطح وأعماق. والكاتب يُرغِم جسرَه على النُطق عن سيرورته/ سيرتِه، بالاتفاق المزعوم، أو الزعم المشخَّص. فليس للجسر عمر أو قياس أو عبور يهتدي بها الكاتب إلى ماضيه أو مستقبله، وما يكتب عن كليهما، الجسر والعابرين، مختلف تماماً عن عبوره المنفرد بين الأجيال.
الجسر مبدأ، لكنّه قد يكون منتهى. القناطرُ الخشبية، جذوع الأشجار، الركائز الترابية، العقود الآجرّية،الأسيجة، علامات العبور البسيطة، كلّها تتحوّل إلى هياكل حديد ضخمة، وركائز خرسانية، ومخابئ للكيبلات والتوصيلات الكهربائية والتلفازية. السطوحُ والأعماق تتبادلان الوظيفة، وظيفة التوصيل والاختباء. وهذه أيضاً وظيفة النصّ في تجاوز زمنه. لكنهما غير متطابقين تماماً: تطابق الوظيفة التواصلية والكتابة التأملية. فللعصر قوانينه الموضوعية التي يجهلها الكاتب، أو يحوّلها من وجهة عبوره الخاصة إلى رؤية منحرفة عن اتجاهها. الجسورُ طريقة في اختراق الزمن، ترابية أو حديدية؛ فيما يسير الكاتبُ بحسب فصول كتابته، فتلتقي الوظيفتان، أكثر من مرة، ويتقاطع الزمنان في أكثر من عقدة؛ وتلكما هي مغامرة الكتابة عن/ على/ من أفق الجسور.
المنظر يتغيّر أيضاً: المنظرُ الريفي لعبور قطيع من الأغنام، قد يخلفه عبورُ العجلات المجنزرة والدبابات الثقيلة (كم تتحمّل أضلاع الجسر من أحمال، وكم تحمل النصوص من أثقال، قياس غير منتظم، واضطراد مفتعل، والجسور راسخة!). منظرُ النهر العميق الملتفّ بظلال النخيل في طفولة هذا الطرَف، ومنظر النيران المشتعلة في مستشفى عزل مرضى الكورونا في الطرف الآخر (سيرورة زمنية مُضمَرة، لن تتحكم الذاكرةُ الطويلة، المحمولة على الجسر، في ضبط اتجاهها، توقيتها، اختصارها). الجسر لا يُختصَر، وقد ينتقل من موقعه قليلاً، لكنّه لفظة تصحيفٍ مستمرة بالخداع والغيلة والاختلاف الأجناسيّ. وسيأتي طفل/ عابر ليجنِّس صيرورةَ زمنه، بعد أعوام وأعوام، كما جنَّسها متظاهرُ وثبة ١٩٤٨ قبل مصرعه (لا مصرع الجسر طبعاً). التاريخ قد يُزوَّر، بينما الجسور أجساد حاملة لأقصى الاحتمالات القاتلة. إنّه مصدر أمين، رغم خداع كلمته.
كنت أحتاج لهذه السيرورة المخادعة، المحامِل المتواترة، لأصِف منظري، الذي أدركتُه خلال أحداث انتفاضة تشرين ٢٠١٩_ ٢٠٢٠، في قصة (تحت الجسر) من مجموعة (المَحجر). الزعم ب"الثورة" كما صوّرتْها القصةُ الجديدة، شبيه بزعم الطفل الذي تنبأ بها في خياله، وهو يرى اشتباك ظلال النخل على المجرى الأسفل، ومسيل الدماء إليه من المسلخ القريب في رأس الجسر القديم. يومذاك كان دخان الأكواخ على جرف النهر، رؤيا سابقة لحريق مستشفى العزل (ذاك المعزول في مكانه). لكنّ الطفل قرأ تلك العلامات/ النكبات باعتبارها منظراً عابراً غير مرتبط بالبنية السردية المختبئة في ضمير الجسر، قبل تحوّله إلى ضمير "الثائر" المزعوم، المختبئ بدوره تحت جسر الجمهورية في بغداد. الجسر الطفولي ذاك، والثوري هذا، زعمان كبيران، علامتان واهيتان، مختبئتان في ضمير اللفظة الحديدية العملاقة، الراكزة أمام الطوفان. كلّ هذا، والجسور ألسِنةٌ لا تنطِق عن الهوى!


أعلى