أنور كامل - أفيون الشعب – الكتاب كاملاً

“الرابطة الأممية للعمال – الأممية الرابعة” تشكر الشاعر المصري الأستاذ شعبان يوسف على تأمينه هذه الوثيقة الهامّة والفريدة.


سرقة
سرق “مجهول” أصول هذا الكتاب من حافظتي في قاعة المحكمة يوم الأحد 2 مايو سنة 1948 أثناء نظر إحدى قضايا النشر التي اتهمت فيها فاضطررت إلى إعادة تأليفه من جديد. وأغلب الظن أن بعض خصومي في الرأي هم الذين سرقوا أصول الكتاب لمنعه من الظهور. وقد استغرقت كتابته الجديدة بضعة شهور ولكنه بلغ فيها أكثر من ضعف ما كان عليه في الأصل. ولهذا لا يفوتني أن أقدم شكري هنا للسارق “المجهول”.

الإهداء الثاني
إلى الذين سرقوا أصول هذا الكتاب لعل قراءته من جديد تقنعهم بفساد “الخط” الذي يتمسكون بالسير عليه.

حاربت الأفيون وتعاطيت الأفيون!
قضيت ما انصرم من حياتي العامة بمحاربة الأفيون. وأعني بما انصرم من حياتي العامة الفترة التي انقضت بين ظهور أول كتاب لي في سنة 1936(1) وصدور هذا الكتاب في سنة 1948. ولكني -بعد هذه السنوات الطوال- الطوال بأحداثها وإن عُدّت قصار بحكم الزمن -أدركت- ويا للسخرية المريرة فيما أدركت -أني- أنا الذي تحمّلت ما تحمّلت في محاربة الأفيون، كنت أيضاً صريع الأفيون، بل ولعلي كنت من أوائل صرعاه، إن لم يكن أولهم جميعا!
ولكن لمَ السخرية؟ والذين يعرفونني -عن قرب أو عن بعد- يعرفون أن شعاري لا يزال إلى اليوم كما كان منذ البدء: “تطور دائم وتغيّر مستمر”: تطور من أسفل إلى أعلى، ومن ناقص إلى زائد؟
لمَ السخرية؟ وما حادت دعوتي قط عن رغبتي في النمو للناس -وأنا من بين الناس، وما انحرفت دعوتي قط عن رغبتي في النمو للمجتمع- وأنا فرد من أفراد المجتمع؟
سيقول الساخرون في ابتسامة الظفر:
– ألم نقل لك؟ فيمَ إذن كانت صلابة الأسفلت، وطوبة الزنازين. وفيمَ كان عذاب الطرد، والتشريد، والتجويع، وجحيم الحمان من عطف الأصدقاء والأهل؟
وسأجيب الساخرين في ابتسامة الرثاء:
-أي معنى- أيها البسطاء- أحمله لكم في نفسي، لو خيّل إليكم أني كففت عن محابة الأفيون، حين اكتشفت أني كنت صريع الأفيون! لقد حاربت الأفيون، وسأظل أحارب الأفيون الذي كنت أحابه، ولئن كنت قد اكتشفت أني كنت صريع الأفيون، فإني سأحارب الأفيون الذي اكتشفت أني كنت صريعه. ولا فرق في الحالتين سوى أني في الثانية وضعت على كاهلي فوق الحمل القديم حملاً جديداً لا يقلّ عن الأول مشقة. ومن يدري؟ لعل حظي من العناء في محاربة الأفيون الجديد يكون أوفر، ولعل الجهد الذي أبذله في إقناع الناس بأن الأفيون الجديد أفيون حقاً يكون أقسى وأمرّ.
وشتّان بين ظفر مزيف ورثاء أصيل أحمله في نفسي لمن يستحقون الرثاء من زملائنا في انقراض الليل: الليل فحسب!

أصنام وأشباح
أما الأفيون الذي حاربته وسأظل أحاربه إلى أن يسكتني صمت القبر، إن كان لصمت القبر أن يُسكت الكلمة المكتوبة فيخنق معناها الحي في نفوس قرئيها -وقد كتبت فقرأ لي الناس، وسأكتب وسيقرأ لي الناس- أو يُخرس الكلمة المنطوقة فيقتل فكرتها النابضة في قلوب المستمعين إليها -وقد تحدثت فاستمع إليّ الناس، وسأتحدث وسيستمع إليّ الناس- فهو تلك الأصنام التي وقفت ولا تزال تقف عقبة كأداء في سبيل تحرّر الفرد وتحرّر المجتمع، فتعوق الفرد وتعوق المجتمع في وقت معاً عن الحركة والنمو، محاولة أن توقف عجلة التاريخ عن الدوران، بل وإذا تديرها إن استطاعت إلى الواء، متخطية قوانين الحركة الخالقة الصاعدة، التي هي من النواميس الطبيعية الأولى. هو تلك المناطق المحرّمة التي لُقّنا تحريمها منذ الصغر، فشبّ معظمنا والتسبيح بحمدها ركن حصين في نفوسه الباطنة، وبلغ البعض المستبد منّا طور الرجولة وهو على إيمان راسخ بأن خرقها جريمة لا تغتفر، بل وجريمة عليه أن يقومها بالقوة. وما أسهل أن “تتحرج” الأمور، وما أسهل ما “تدعو” إلى استعمال القوة!
والأصنام أشباح!
أشباح تطالع الإنسان -منذ ولادته- أنّى سكن، وأنّى اتجه: تطالعه -على صدر الأم- في لبن الرضاع: في “الكخ” مقرونة بصفعة، و”الدح” مقرونة بقبلة؛ وتطالعه -وهو طفل- من فم الأب- الممثل الهزلي لدور الرّب- ينهى ويأمر، و”يشخط” و”ينطر”؛ وتطالعه -وهو تلميذ- من فم المعلم يلقّنه الوصايا.
والوصايا عفاريت!
عفاريت تطل برؤوسها من كل مكان تظهر فيه العفاريت: من بين أشهر الصحف، وسطور الكتب؛ من أفواه الخطباء التقليديين، وألسنة الزعماء المزيّفين، الذين جعلوا من التطفل على الشعب صناعة رئيسية لهم؛ من لوحات الصور المتحركة، والصابون الذي اتّفق الزعماء على أنه خير صابون!
الأصنام أشباح، والوصايا عفاريت!
والأصنام والأشباح أبواق: أبواق للحكمة المفتعلة، تلفظ الوصايا من جوفها العجيب -دون انقطاع- كأنما هي آلة أوتوماتية، لا تمل، ولا تكل. فالوصايا العشر لا تكفي -لا بد من مائة وصية ووصية؛ والوصايا المائة لا تكفي -لا بد من ألف وصية ووصية؛ والوصايا الألف لا تكفي- لا بد من مليون وصية ووصية!
والفرد -والفرد “مسكين”- هو الضحية الدائمة لهذا الكبت المستمر المرهق. والبت يقتل الفكر الحر، ويخنق الشخصية المستقلة، ويضع الأسوار المنيعة حول عقول الناس، ويحاصر رغباتهم الجياشة بطائفة مدرّبة من عساكر “المرور”، تركل الأفكار “الشاردة” بكعوب أحذيتها السميكة، وتخلع أكتافها ببطون بنادقها الغليظة، حتى لا تجرؤ على “الشرود”.
والرغبات -إذا توالى عليها الكبت- إما أن تُنفّس عن نفسها بالهستيريا، وإما أن تدفع صاحبها إلى إحداث التغيير المعقول. والهستيريا قد تصيب الفرد، فينطح الصخر برأسه؛ وقد تصيب الجماعات، فتقلب عربات الترام، وتحطم فوانيس الحكومة. وقد تجنّبت الهستيريا، واخترت الدعوة إلى إحداث التغيير المعقول.

حرّاس الجمود

عصيت الأصنام، ولم أك حين عصيتها مخرّباً؛ وتمردت على أسوار المناطق الحصينة الشائكة، ولم أك حين تمردت عليها مدمراً أو متلفاً؛ وإنما كنت أحاول أن أفك الحصار الحديدي الذي ضرب ضرباً على نفوس الناس، في غير ما مسوّغ.
ومن هنا بدأ كفاحي سلسلة من الإرتطامات الحادة المتوالية بصخور تلك الأسوار الصماء، أيقظت حراس الجمود -وما من أحد يستطيع أن ينكر أن للجمود حرّاساً- فصوبت إليّ الاتهامات، بعد أن كنت أصوّب أنا إليها الاتهامات.
وكان في مقدمة هذه الاتهامات أني أدعو إلى الهدم في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى البناء؛ ولم يكلفوا بطبيعة الحال أنفسهم مشقة السؤال: وكيف نستطيع أن نبني ما نريد بناءه قبل أن نهدم ما يستحق الهدم مما هو كائن؟ وأنّى لقوى النمو أن تنبثق من نفوس الناس قبل أن تتطهر هذه النفوس من ألغام العبودية المانعة لكل نمو؟ لأن في الرد على السؤال إدانة لهم، وحكما على مستقبلهم.

الحرب في ميدانين

كان لا مفر من الحرب.
وكان عليّ أن أُقدّر -قبل البدء في هذه الحرب- ما سأتعرّض له من أخطار. وقد قدّرته بالفعل، وأدخلته في قائمة الحساب. ولكني لم أكن أتصور أنّي سأُرغم على خوضها في ميدان الأصدقاء بنفس القوة التي خضتها في ميدان الخصوم.
وهل يستطيع أحد أن يلومني على أنّي أحسنت الظن بالناس، فلم أُقدّر أن ميدان الأصدقاء سيكون كميدان الخصوم عنفاً وقسوة؟ والرد لا يمكن أن يكون إلا بالنفي!
وقد يكون تعبير “الحرب في ميدان الخصوم وميدان الأصدقاء في وقت واحد” شيء من التناقض. ومع هذا فلا تناقض. فقد خضت الحرب، في ميدان المجتمع، ضد الخصوم، حين حاربت أفكارهم الضاغطة، التي أذاعوها بين الناس لتثبيت المجتمع.
وخضتها، في ميدان النفس البشرية، ضد الأصدقاء، حين حاربت هذه الأفكار في نفوسهم الباطنة، وقد رسخت في ضمائرهم مع الزمن قطرة قطرة، فحسبوا كل من هاجمها عدواً، مع أنه في واقع الأمر صديق يعمل على إنقاذهم من القيم الزائفة، التي تقعدهم عن الحركة، كلما نما في نفوسهم نزوع إلى إحداث التغيير.

من الجدل إلى التحليل

وبدأت الحرب. وكانت الحرب أول الأمر كلامية، بل وظلت إلى اليوم من جانبي كلامية، فأنا رجل لمّا يحمل السلاح، وإن كان قد حمل ولا يزال يحمل سلاحاً قد يكون أقوى من كل سلاح. أنا رجل يكتب ويتكلم. والسلاح الذي يستعمله -عادة- رجل يكتب ويتكلم، إنما هو القلم واللسان. والوسيلة التي يعتمد عليها -عادة- رجل يكتب ويتكلم، إنما هي الجدل العقلي يفضح به الزيف في أفكار الخصوم، والتحليل النفسي يحاول أن يحرّ به ضمائر الناس من سيطرة هذه الأفكار.

من صميم الفكرة

ناديت بالتحّرر من زيف المتجّرين بالدين، فثار عليّ المتجّرون بالدين، وقالوا: إنه ملحد. ناديت بحق المرأة في الحياة الحرّة، وطالبت بالمساواة بين الرجال والنساء في الحقوق والواجبات، فثار عليّ المتزمتون، وقالوا: إنه إباحي. ناديت بالعدالة الاجتماعية، وطالبت بحق الفقراء في الحياة الإنسانية الكريمة على هذه الأرض الواقعية المادية التي ندبّ فوقها، فتنمّر الجشعون، وقالوا: لقد أعلن الصراع الطبقي!

رد الفعل

ومع هذا فمن ضحايا الشعوذة من تمسك بالشعوذة واتهمني. ومن سجينات التقاليد من أصرت على التقاليد وأدانتني. ومن صرعى الجوع من قبّل يده في وجهي ثلاث مرات من الخارج، ومثلها من الداخل، وحمد الله على نعمة “الستر”، ثم أباح “سرّي” بعد لحظات، نظير “سحاتيت” معدودات، ولا أقول “دينارات”!
ولكن هؤلاء جميعاً، من طرق النداء نفسه، فلبى النداء. وفي هذا لذّة لا تعوّض.

دعوت إلى الاشتراكية… ولكن

أما أنّي دعوت إلى الاشتراكية فهذا حق. فقد كنت أؤمن بأن الاشتراكية هي الخطوة العملية الأولى في سبيل التحرّر، وقد كان التحرّر ولا يزال في نظري هو الهدف الأسمى الذي يجب أن يسعى إليه الناس.
وكنت أؤمن بأن الاشتراكية -حين تضع الضمانات المادية الأولى التي لا يمكن للفرد أن يمارس حريته الكاملة إلا في ظلها- تهيئ للناس -في المستقبل القريب- مجتمعاً أمثل، يُشبع جميع حاجات البشرية، مهما تزايدت هذه الحاجات، فيحقق للإنسان خيالات الجنة، بعد أن تمرّغ طويلاً في أوحال الأرض.
وسمِّ هذا المجتمع ما شئت من الأسماء التي قد يبتكرها العقل البشري فيتناقلها عادة كثير من الناس دون وعي لمضمونها الكامل، فما كنت أسعى فيما صدر عني إلا إلى شيء واحد، هو رفاهية الجميع. وقد رميت فأصبت، ورميت فأخطأت، ولا يُنقص من قدر المجاهدين في سبيل الخير العام أن يعترض الخطأ طريقهم. فالخطأ -في كثير من الأحيان- دلالة من دلالة الحركة، ووفرة النشاط.
وأنا رجل لم ينكر اشتراكيته قط. وقد أكون من القلائل جداً الذين اعترفوا بمبدئهم -بل ولعلي أكون الوحيد الذي اعترف بهذا المبدأ- على ما في هذا الاعتراف من احتمال التعرّض للخطر. ومن يراجع التحقيقات المختلفة التي أجرتها النيابة معي، أو محاضر الجلسات في القضايا المتعددة التي كنت هدفاً لها، يستطيع أن يتثبت من صدق الرواية.
وإذن فالسلطات لم تسرف في الافتراء عليّ -بل ولعلها لم تفترِ عليّ إطلاقاً- حين اتهمتني بما اتهمتني به، وحين زجّت بي في السجون رهن التحقيق فيما وجهته إليّ من تهم، وإن كان البعض قد شوّه الحقائق، وأذاع الأباطيل.
ولكن من الحق أيضاً أن أقول، إن فهمي للاشتراكية أصبح الآن أعمق، وإن موقفي من كثير من المسائل قد نما وتطور، وإن موسكو تقف على رأس القمة في هذه المسائل.
وقد أُتّهم لهذا بشيء من “التأرجح” أو “التذبذب”، والحق أن لا “تأرجح” ولا “تذبذب”. ولا شك أن الذين اتصلوا بي يذكرون أني كنت أرفض دائماً البقاء داخل حدود، وأن الشيء الوحيد الذي كنت لا أحيد عنه هو قانون الحركة الدائمة والتغيّر المستمر، وأن من صميم ما كنت أدعوا إليه تطعيم النفس البشرية بعناصر التطور الدائم، حتى لا تجد أدنى صعوبة في التخلي عمّا يثبت زيفه بالتجربة، كائناً ما كان رسوخه الماضي في عادات الفرد، أو في تقاليد البشرية.
والتخلي عن الزيف هو أولى مراحل النمو.

الاشتراكية وإلغاء المُلكية

أما عن الاشتراكية، فإنها لم تعد ترادف في نظري إلغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج. فالملكية الخاصة لوسائل الإنتاج قد تلغى، ومع هذا يبقى الاستغلال قائماً، بل ويشتد حتى يبلغ أرقاماً فلكية لا تحلم بها الرأسمالية نفسها، وتبقى المساواة بعد هذا حلماً من الأحلام، يداعب الجفون ولا يرى نور الواقع.
وقد تكون الملكية العامة ضماناً لحسن الإدارة، وعاملاً من عوامل القضاء على فوضى الإنتاج. ولكن هذا شيء، والعدالة شيء آخر. فالإدارة الحسنة قد تُستغل -بالرغم من قيام الملكية العامة- لصالح الأقلية الحاكمة.
ولا يغني أن تكون الممتلكات في يد الدولة، لأن حكام الدولة قد يلهبون ظهور العامة حين الشروع في تطبيق ما يزعمون أنه اشتراكية، معتذرين بأنهم مكلفون من قبل الدولة -والدولة فوق الجميع- بأن ينفّذوا من المبدأ شطره الأول: “من كل حسب قوته…”، حتى يتسنّى للمجتمع أن يصل بالإنتاج إلى أقصى ما تسمح به قواته المنتجة.
فإذا جاء دور التوزيع، لا يتركون لهؤلاء سوى النذر اليسير من المنتجات التي أفنوا فيها دماءهم. ولن يكون عذر الحكام -في هذه الحالة أيضاً- سوى أنهم مكلفون من قبل الدولة -والدولة دائماً فوق الجميع- بأن يطبقوا من المبدأ شطره الأخير: “… وإلى كل حسب عمله”.
والأعمال ببداهة الطغاة لا تستوي. وإذن فلا بد من التفاوت، بل ويبلغ هذا التفاوت حدوده الأسطورية، ما دام في الإمكان أن يكون الإرهاب هو الحكم الذي يفرض مقياس المستبدين على الناس فرضاً، حين تقويم الأعمال.
وليذهب بعد هذا المعترضون إلى الجحيم، ولتسحق معارضتهم سحقاً، وما أسهل ما يكون هذا السحق باسم المبادئ الجديدة، أو باسم “الدين” الجديد!

موسكو أفيون الشعب!

وأما عن موسكو، فما يعنيني منها بطبيعة الحال أنها مدينة كبيرة، وأنها عاصمة لسدس الكرة الأرضية. وإنما يعنيني منها هذا التأليه الذي اكتسبته، فحال بيننا وبين الكشف عن حقيقة السياسة المدمّرة التي رسمتها -ولا تزال ترسمها- حفنة من الطغاة استوت على عرش الكرملين، وجعلت من نفسها، بعد القضاء على القياصرة، قياصرة، ومن ورائها جحافل الستالينيين -أو الكرملينيين- المنتشرين انتشار الجراد في أنحاء الأرض، تمهد لبسط نفوذها خارج حدود الاتحاد “السوفييتي”، بعد أن دعمت هي سيطرتها المطلقة الكاملة داخل هذه الحدود.
فقد كان هذا التأليه يدير رؤوسنا بسحر الأفيون، فيعمينا عن رؤية الحقائق، ويجعلنا نتصور الخيانة إخلاصاً، والانحراف استقامة، وما شئت من الأشياء ما شاء لك الوهم، فحرمان الشعب “السوفييتي” من أبسط مظاهر العدالة عدالة، ووأد الحرية من مقومات الحرية، والاعتداء على استقلال الشعوب ضمان لاستقلال الشعوب، وخيانة الحركات التحررية المناضلة ضد الاستعمار “تكتيك” يدبره رأس الكرملين العليم ليقضي به على الاستعمار، إلى آخر هذه الأسطوانة المعادة الممجوجة التي مللنا سماعها، وإن بقيت “الببغاوات” مسحورة بها.
والأفيون -إذا أدار الرؤوس- أجرى الأنهار، وخلق الحور، وحقق في الأحلام أحلام الجنة. والإلهة موسكو -إذا حملت في يدها العصر “الموعود”- جذبت إليها الملعونين، ونثرت من بين أصابعها على قلوبهم قطرات من الأوهام في عزاء عن شقاء الواقع. والعزاء أفيون.
العزاء أفيون. وموسكو -زفرة المخلوق الذي أعياه البؤس على هذه الأرض- أفيون؛ وقلب الدنيا التي ليس لها قلب -أفيون، وعقل العصر الذي ليس له عقل- أفيون الشعب وأفيون الشعوب!
أي صدمة! بل أية كارثة!
ولكن كيف ألّهنا موسكو وجعلنا منها صنماً أكبر؟ بل كيف سمحنا لأنفسنا أن يصرعنا صنع أيدينا؟ وقد كانت رسالتنا -ولا تزال- على الأقل فيما نزعم- هي صرع الأصنام؟
تلك هي الأعجوبة؟

مصير الثورات

منذ قديم والكادحون ينشدون المساواة ويسعون إلى الحرية. ومنذ قديم وأقلية من الناس تستغل تذمر الكادحين فتتزعم الثورات لمصلحتها باسم الأغلبية. منذ قديم والنظم الاجتماعية تتغير والكدح يبقى ولا يتغير: ففي العبودية أسياد وعبيد، وفي الإقطاعية نبلاء وأرقاء، وفي الرأسمالية برجوازيون وبروليتاريون: تغيرت الأشكال وبقي الجوهر الطبقي ولم يتغير. وتهدأ المجزرة فيتساءل المنبوذون المطرودون المحرومون: أين ثمن الدم المسفوك -والدم المسفوك لحم عزيز حبيب؟ ضاع! فضاع أمل القرون الخالد! ضاع الأمل الدائم في الحرية والمساواة والإخاء، ولم يبق للمنبوذين المطرودين المحرومين سوى الأفيون، يتعزون به عن بؤس الواقع!

الماركسية وثورة أكتوبر

وجاءت الماركسية، وأعلنت للكادحين أن الخلاص قريب، وأن ثورة البروليتاريين هي الطريق الوحيد لهذا الخلاص، وقدمت براهينها العلمية على أن “الجنة” الأرضية لا ريب آتية، وأن العصر “الموعود” سوف يتحقق وشيكاً على أيدي الكادحين. وحرّك الماركسيون “زناد” الوعي الجديد، فانتزعوا زجاجات الأفيون من أفواه المحرومين، وأشعلوا نيران الحرب الطبقية في كل مكان يكدح فيه الكادحون.
وفي الخامس والعشرين من شهر أكتوبر سنة 1917 انتصر الحزب البلشفي الروسي -بقيادة لينين وتروتسكي- فخُيّل للناس وخيّل وخيّل: خُيّل لهم أن أبواب “الجنة” الأرضية قد فتحت!
فقد أقام البروليتاريون حكم الشعب في سدس الأرض بضربة واحدة. ونزع البروليتاريون ملكية نازعي الملكية في سدس الأرض بضربة واحدة. وحو البروليتاريون العصر “الذهبي” من مجرد حلم يداعب الأذهان إلى مخلوق حي تجري في شرايينه دماء الملايين في سدس الأرض بضربة واحدة.
وعمّا قريب تفتح أبواب “الجنة” الأرضية، وتقام الحرية الحقّة، وتقام المساواة الحقّة، ويقام الإخاء الحق، في خمسة أسداس الأرض الباقية، فيسجل التاريخ أن تاريخ الإنسان قد “بدأ”!

الهزيمة الأوروبية الأولى
وألهبت التجربة الكبرى حماس الكادحين، فاكتسحت القارة الأوروبية موجة ثورية. ولكنها انتهت بسلسلة من الهزائم، في ألمانيا، وإيطاليا، وهنغاريا، والبلقان.
وحاولت الرأسماليات كما حاولت الجيوش البيضاء سحق الثورة، ولكن الثورة خرجت سالمة من التدخل كما خرجت سالمة من الحرب الأهلية.
وهكذا اكتسبت موسكو في نفوس البروليتاريين منزلة الوطن لمن لا وطن له، فغرست البذرة، وتكوّن جنين “المعبود” الجديد.

الهزيمة الأوروبية الثانية

ونما الجنين في رحم اليسار، يغذيه من ناحية موقف الضحية الذي وقفته روسيا -وقد تعرّضت للهجوم المسلح، والحصار الاقتصادي، والدعاية المضادة المأجورة- والضحية تكتسب عادة عطف المضطهدين.
ويغذيه -من ناحية أخرى- الفشل الذريع الذي منيت به البروليتاريا العالمية في ماحل الجهاد في الفترة التي انقضت بين الحربين.
ويكفي لكي نصور ضخامة هذا الفشل أن نذكر -بعد الهزيمة الألمانية الكبيرة- هزيمة الحرب الأهلية الاسبانية، والظروف القاسية التي اكتسحت فيها الفاشية أوروبا طولاً وعرضاً.
والفشل يبعث اليأس، والذين فقدوا الأمل يبحثون عن أمل، والاتحاد “السوفييتي” هو الأمل الباقي لمن لا أمل له. وهكذا ولد “المعبود” الجديد. وما أجمل حياة الوهم لمن لا حياة له!.

من الكوردون الصحي إلى الستار الحديدي

ولد ونما في ظل الكوردون الصحي الذي فرضه العالم الرأسمالي حماية لنفسه من خطر السرطان الأحمر، أو في ظل الستار الحديدي الذي أقامه الاتحاد “السوفييتي” من حوله حتى يدرأ عن نفسه مؤامرات الرأسماليين.
وظل العالمان يتراشقان التهم من وراء الأسوار.
أما الاتهامات الصادة من العالم الرأسمالي، فما كان ليصدقها من اليسار أحد، وهي صادرة من اليمين.
وأما الاتهامات الصادرة من الاتحاد “السوفييتي”، فيكفي أن تكون صادرة من موسكو، ضد اليمين، حتى يهلّل لها اليسار في أنحاء الأرض.
وهكذا انتهت رسالة الأحزاب “الشيوعية” -في أوروبا وغير أوروبا- إلى ما يشبه الدور الذي يلعبه “المطيبون” في حلبات السباق. فهم يصفقون تصفيق الاعجاب إذا تكلمت موسكو، ويصفرون صفير الازدراء إذا تكلم الغرب.
وقد لعبنا -نحن أيضاً- دورنا في “التطييب”، فصفقنا، وصفرنا. وإني لأذكر اليوم -والابتسامة لا تستطيع أن تفارق شفتي- كم كان يلذ لنا أن نقرأ دفاع الشيوعيين في فرنسا، وانجلترا، وأمريكا، وسوريا، ولبنان، والعراق، وفلسطين، عن الاتحاد “السوفييتي”؛ وكم كان يلذ لنا أن نستمع إلى راديو موسكو وهو يكيل التهم إلى العالم الرأسمالي، ويصوّر لنا “الجنة” الأرضية التي شيّدها ستالين فوق أعمدة أكتوبر؛ وكم كان يلذ لنا أن نردّد مع المذيع “السوفييتي”، أو المذيعة “السوفييتية”، نشيد الانترناسيونال قبل إلغائه، أو الشعار البروليتاري العالمي “يا عمال العالم اتحدوا” قبل إلغائه أيضاً؛ بل كم كان يلذ لنا أن نتجرّع من ثغر موسكو كؤوس الخمر، قبل أن توقظنا برودة الواقع، لتبدد من رؤوسنا أحلام السكارى!
وما أريد بهذا السخر أن أدافع عن الغرب. فالغرب الاستعماري لا يستحق إلا الازدراء.. ماذا أقول؟ بل لا يستحق إلا أن ننقض عليه حتى نتخلص من ناره!
ولكن أحداثاً جساماً وقعت في روسيا منذ الثوة، وقلبت فيها الأوضاع رأساً على عقب؛ و”التطييب” يمنع “اليسار” من رؤية الواقع، والدعاية الروسية تضلل الناس بمختلف الأساليب: تضللهم بإخفاء الحقائق حيناً، وتضللهم بتشويه الحقائق حيناً آخر، وتضللهم ببتر الحقائق حيناً ثالثاً، فتعميهم عن إدراك حقيقة ما يدور في سدس الأرض، وتجعلهم يتصورون الجحيم جنة، ولو بدا الجحيم على حقيقته، لكانت موسكو كالغرب جديرة بالازدراء. ولكن أنّى للجحيم أن يبدو على حقيقته، والجحيم لا يزال وراء القناع؟ والبروليتاريا العالمية هي الفريسة الدائمة لهذا الخداع؟.

إخفاء الحقائق: المجاعة سنة 1932

تضللهم بإخفاء الحقائق، حين يسيء ظهور الحقائق إلى سمعة المشرفين -أو المسيطرين- على الاتحاد “السوفييتي”.
وما أبشع يد الرقيب “الأحمر” -الذي فقد لونه الأحمر- حين يسيطر على وسائل النشر، داخل الاتحاد “السوفييتي”، ووسائل نقل الأنباء، من وإلى الاتحاد “السوفييتي”!
والأمثلة على ذلك عديدة. ولكني أكتفي هنا بمثل واحد اعترفت به -فيما بعد- الدوائر الرسمية نفسها، وأعني به المجاعة التي اكتسحت البلاد في شتاء سنة 1932 فحصدت -وحصدت معها الأوبئة التي صحبتها- ما لا يقل عن مليونين من سكان أوكرانيا وحدها.
فقد كانت الصحف “السوفييتية” تصدر أثناء المجاعة، دون أن تشير إليها بحرف واحد، كأن كل شيء يسير في مجراه الطبيعي، وكأن حصد الملايين ليس من الأهمية حتى تشير إليه الصحف ولو بحرف واحد!
وقدر روى أرثر كيسلر -أحد مفكري العصر البارزين- في كتابه: “اليوجي والفوميسار” -أنه كان في ذلك الوقت في خاركوف -عاصمة أوكرانيا- وأنه شهد بعيني رأسه الأرض الأوكرانية تكاد تتجرّد من الحياة، ومع هذا فما قرأ بصحيفة من الصحف الروسية شيئاً عن المجاعة، في الوقت الذي كانت تطفح فيه بكل شيء من أنباء تحقيق المشروعات الانشائية المختلفة، ونجاح العمال في تخطي الأرقام التي وضعت لها في الأصل!
بل وما قرأ عن هذه المجاعة شيئاً، حتى ولو في صحيفة “كوميونيست” الخاركوفية نفسها، في الوقت الذي كانت تفيض فيه أنهرها بكل شيء من صور الحياة الباسمة، التي تطالعك دائما من وجوه العمال والعاملات وهم يشتغلون داخل المصانع، أو من وجوه الفلاحين والفلاحات وهم يعملون في المزارع، أو من ثغور الشيوخ والنساء والأطفال وهم يتمتعون بما في الدنيا من لذة ومرح!
ويصور كيسلر الشعور الذي كان ينتابه -حين قراءة هذه الصحف- فيقول أنه كان أشبه بمن كان في حلم. فهي -فيما يبدو- كانت تتحدث عن بلاد نائية، ولا صلة لها -على الاطلاق- بالحياة اليومية التي كان يحياها الناس في خاركوف، أو في أوكرانيا، أو في الاتحاد “السوفييتي” كله!
ولا شك أن الرقيب -الذي يستطيع إخفاء الحقائق- إلى هذا الحد داخل الاتحاد “السوفييتي” نفسه- لن يجد أدنى صعوبة في إخفاء الحقائق التي يريد إخفاءها عن العالم الخارجي.
وقد يدهش البعض من ذكر كلمة “الرقيب” الذي لا يظهر عادة في البلاد الرأسمالية نفسها إلا في حالات الأحكام العرفية.
ولكن لا محل للدهشة على الاطلاق. فالرقيب في روسيا رقيب دائم، لأن الصحف فيها خاضعة لسيطرة الدولة خضوعاً مباشراً، ولأن توزيع الأنباء -الداخلية والخارجية على السواء- مركّز بين يدي وكالة تاس، وهي وكالة رسمية لحماً ودماً.

تشويه الحقائق: محاكمات موسكو

وتضللهم بتشويه الحقائق، حين لا يكون هناك مفر من ظهور الحقائق، والأمثلة على ذلك عديدة أيضاً. ولكني أكتفي هنا بمثل واحد شاع وذاع وملأ البقاع والأصقاع! وأعني به محاكمات موسكو.
ولكني أحب -قبل الحديث عن هذه المحاكمات- أن أستعيد هنا حكاية طريفة قرأتها للكاتب نفسه، في كتابه الذي ذكرت، تبيّن إلى أي حد يصل مسخ الأشياء، حين تتدخل المصالح في تصوير الأشياء.
كان أحد كُتّاب أوكرانيا الناشئين يكتب قصة قصير تقع حوادثها في لندن، وكان من بين مشاهد هذه القصة منظر يريد الكاتب أن يصور فيه رجلاً من رجال البوليس يدفع أمامه عاملاً كان يسير في الطريق في صبيحة يوم من أيام الآحاد، ويحاول أن يطرده من الرصيف طرداً. وحار الكاتب -ويبدو أنه لم يزر لندن- والأصح أنه لم يجتز حدود الاتحاد “السوفييتي”- في اختيار اللعنات والشتائم التي يمكن أن يصبها رجل البوليس -في مثل هذه الحالة- فوق رأس العامل المسكين. ولما ذاقت به السبل، التمس النصح عند كيسلر. فلما سأله كيسلر:
– ولكن لماذا يدفع البوليس العامل؟
ما كان من الكاتب الأوكراني الناشئ إلا أن قال على الفور:
– لماذا؟! ألم أقل لك أنه عامل؟ إنه لا يرتدي قميصاً ولا يضع فوق عنقه رباطاً.
والذي يُفهم من هذا أن الكاتب المذكور يعتقد أن من بين مهام رجل البوليس اللندني -صبيحة يوم الأحد- دفع البروليتاريين من فوق الأرصفة دفعاً، وصب الشتائم واللعنات فوق رؤوسهم صبّاً! وإذا كان الكاتب الأوكراني -وهو حاصل على قسط كبير من “الثقافة” من غير شك- يعتقد هذا حقاً، فما الذي يمكن أن ننتظره من القارئ “السوفييتي” العادي، الساذج، المسكين؟ لو صوّر لنا البشر في لندن بذيول، لما كان هناك محل للدهشة!
وما أريد بهذا أن أدافع عن لندن. فأنا أعلم -والناس جميعاً يعلمون- أن لندن حصن من حصون الاستعمار. ولكن هذا شيء وتصوير ما يلقاه البروليتاري على يد رجل البوليس، صبيحة يوم الأحد، في لندن، على هذا النحو المشوّه المزري، شيء آخر. ولو أردت أن أعلّق على حكاية كيسلر العجيبة لما وجدت خيراً من رسم علامة تعجّب كبيرة. ولست أشك -لحظة- في أن المستمعين والقرّاء معاً سشاركونني في هذا كل المشاركة!.
وأما محاكمات موسكو -ولنعد الآن إلى محاكمات موسكو- فإن الدعاية الروسية تحاول أن تقنع الرجل العادي، بما تكتبه عن هذه المحاكمات، بأن صحابة لينين -بعد استبعاد ستالين بطبيعة الحال- كانوا جميعاً يعملون لحساب الجاسوسية البريطانية، أو الألمانية، أو اليابانية.
ونحن نعلم أن صحابة لينين قد يختلفون مع ستالين في الرأي، كما يختلف أي انسان مع أي انسان على أمر من الأمور، دون أن يكون في هذا أي معنى من معاني الخيانة. ولكن يبدو أن ستالين -وستالين هو ممثل الطبقة الحاكمة الجديدة- لا يدرك أن الجدل من مستلزمات الحق، وأن المعارضة ضرورة من ضرورات النمو الاجتماعي. ولعل من الأصح أن نقول إن الطبقة الحاكمة التي يمثلها ستالين هي التي لا تسمح بالمعارضة أو بالجدل، حتى لا يكون في أحدهما، أو فيهما معاً، ما يهدّد النظام السياسي الفاسد الذي يدعمون به مراكزهم، ويفرضون عن طريقه سلطانهم المادي على الناس، رغم أنوف الناس.
وإذا كانت الطبقة التي يمثلها ستالين لا تقبل النقد ولا تحتمل النقاش، فإن الوسيلة الوحيدة الباقية أمامها لتدعيم سيطرتها هي القمع بالقوة، أو التخلص من خصومها بالإفناء. ولإفناء قد يكون عن طريق المؤامرات “الفاشية”، حين تختطف أرواح الخصوم، في غفلة من الزمن والناس. وقد تكون عن طريق “المحاكمات” العلنية، حين يصدر “القضاة” حكم الموت على هؤلاء الخصوم، لمختلف “التهم”.
وما كان من السهل أن تغتال حياة الصحابة أجمعين، في غفلة من الزمن والناس، وهم يتمتعون بنفوذ يكاد يشبه نفوذ لينين نفسه. وإذن لا مفر من طريق “المحاكمات”. ولكن “المحاكمات” لا تستقيم في نظر الجمهور إلا إذا اتسمت بطابع “الحق”، وتشكلت بالشكل “القانوني” المعروف. ومن هنا الحاجة إلى تلفيق التُهم، واصطناع الظروف، وتشويه الحقائق، ومسخ الوقائع.
من أمثلة ذلك، الاتهامات التي وجّهت ضد بوخارين، وزينوفييف، وكامينييف، وغيرهم من الرفقاء القدامى الذين لم ينقذهم الموت الطبيعي من الموت على يد الطبقة الحاكمة الجديدة. فهؤلاء جميعاً جواسيس، وإرهابيون، ودعاة فتنة وتخريب. ومن مصلحة الدولة -لا الطبقة الحاكمة الجديدة- أن يُقضى عليهم!
وما أريد من هذا العرض أن أحبذ رأياً من آراء هؤلاء، فما أنا بوخاريني، وما أنا بكامينييفي، وما أنا بزينوفييفي، وإنما أريد فقط أن أُبرز مدى المسخ الذي يمكن أن تعمد إليه -لتبرير أخطائها- طبقة حاكمة جديدة.
أليس من العجيب، مثلاً، أن يُتّهم تروتسكي الجاسوسية، حتى في الوقت الذي كان يتولى فيه وزارة الدفاع، ويقود الجيش الأحمر، ويقهر المحاولات التي بذلتها الدول الرأسمالية لسحق الثورة؟.
عجيب من غير شك، ولكن لكل عجيب ما “يبرّه” إذا أدركنا الهدف. وهدف موسكو من هذا كله، أن تنجح في سحق المعارضة، وقتل المعارضين، بموافقة “البروليتاريين” في أنحاء الأرض، بل وسط صيحات الإعجاب الهستيري تنطلق من حناجر “الشيوعيين”، الذين أحالوا أنفسهم -دون وعي منهم- طابوراً خامساً يعمل لحساب وزارة الخارجية الروسية.
أقولها والأسف يملأ قلبي!

بتر الحقائق: خداع الإحصاءات

وتضللهم ببتر الحقائق، أو بالدعاية المباشرة لأنصاف الحقائق، حين تغمر الأسواق بفيض من النشرات تملأها بأرقام وإحصاءات تبيّن مدى التقدّم الصناعي وتزايد الإنتاج، وتصور نمو عدد المدارس والمستشفيات في أنحاء البلاد، منذ الثورة إلى يومنا هذا. وما أكثر خداع الأرقام هنا وما أشدّ تضليل الإحصاءات!
إن أحداً لا ينك أن الاتحاد “السوفييتي” قد شهد نهضة واسعة المدى في أكثر من ميدان. ومن المسلّم به أن عدد المدارس والمستشفيات قد قفز بعد الثورة قفزات جبارة، وأن روسيا قد تحولت من دولة زراعية متأخرة إلى دولة صناعية لا يسبقها في التقدم الصناعي من دول العالم الرأسمالي سوى دولة واحدة هي الولايات المتحدة الأميركية.
وبكن ما صلة هذا بالاشتراكية، أو بالعدالة الاجتماعية، أو بفكرة المساواة بين الناس؟ لا صلة على الاطلاق. فالتصنيع الذي شهدته روسيا بعد سنة 1917 شهدته إنجلترا، وألمانيا، وأمريكا، واليابان، في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ومع هذا لم يقل أحد إن هذه البلاد قد خطت نحو الشيوعية خطوة واحدة.
وهل يغيّر من الجوهر الطبقي في الحالين أن يكون التصنيع قد تم في هذه البلاد على أيدي البرجوازيين -والملكية الخاصة لوسائل الإنتاج أساس نظامهم- بينما هو قد تم في الاتحاد “السوفييتي” على أيدي بيروقراطية الكرملين – والملكية العامة لوسائل الإنتاج أساس نظامهم؟
أي عقم في التفكير! بل أي سخف!

مصير جنّة الأرض!

هل تريدون أن أمرّ بيدي على أرض مصر -ولا يأخذكم التعبير، فنحن كما يبدو لا نزال نعيش في عصر “جلاجلا”- فأجعل منها جنّة؟
إن هذا لن يكلّفني أكثر من نفقات نشرة أنيقة رشيقة أصور فيها المنشآت الصناعية الحديثة -من أمثال مصانع المحلّة وغيرها- التي لن تقلّ في الصورة بهاء عن مصانع الأورال، وأُبيّن فيها بالأرقام أن عدد المدارس والمستشفيات قد نما في مصر خلال ربع القرن الماضي كما نما في الاتحاد “السوفييتي”، وأن العمال والعاملات في مصر يبتسمون في مصر وهم يشتغلون في المصانع كما يبتسمون في الاتحاد “السوفييتي”، وأن الفلاحين والفلاحات يبتسمون في مصر وهم يعملون في المزارع كما يبتسمون في الاتحاد “السوفييتي”، وأن شيوخ مصر ونساءها وأطفالها يلعبون ويمرحون ويتمتعون بما في الدنيا من لذّة ومرح كما يفعل زملاؤهم في الاتحاد “السوفييتي”.
ومع هذا فمصر ليست جنّة، والاتحاد “السوفييتي” ليس جنّة. ولئن كان في مصر فقراء وأغنياء، ففي الاتحاد “السوفييتي” فقاء وأغنياء. ولئن كان في مصر تمييز في التعليم، ففي الاتحاد “السوفييتي” تمييز في التعليم. ولئن كان حظنا من الديموقراطية ضئيل، فحظ الجماهير “السوفييتية” من الديموقراطية أضأل!

لا مساواة مادّية

ناديت بالعدالة الاجتماعية، وضربت بروسيا المثل الحي على المساواة المادية بين الناس أو -بتعبير أدق- على الاتجاه نحو المساواة المادية بين الناس. ولكني اكتشفت -ويا لهول ما اكتشفت- أن الاتحاد “السوفييتي” –”وطن” العمال و”حصن” البروليتاريا العالمية- قد بلغ التفاوت فيه بين الناس حدّاً يطأطئ له العالم الرأسمالي رأسه!
وأي تفاوت بين الناس أقسى من أن يستولي 11% أو 12% فقط من شعب الاتحاد “السوفييتي” على حوالي 50% من مجموع الدخل العام فيه(2).
ولماذا لا يطأطئ العالم الرأسمالي رأسه أمام هذه الحالة، والولايات المتحدة الأميركية نفسها -وهي أقوى معاقل الرأسمالية العالمية- يستولي فيها 10% من شعبها على حوالي 35% فقط من مجموع دخلها؟ نسبة كريهة من غير شك ولكن العجيب فيها، أنها تقلّ عن مقابلتها في الاتحاد “السوفييتي”!
لقد كانت نسبة التفاوت في الدخل في السنوات الأولى للثورة لا تزيد عن خمسة أمثال. ولكنها سرعان ما قفزت -والفضل كل الفضل لبيروقراطية الكرملين- قفزاتها العريضة الجبارة التي سمحت بأن يصل التفاوت بين طبقة المديرين وطبقة العمال العاديين إلى أكثر من “30 مثل”
ثم سمحت بظهور المليونير “السوفييتي” الأول (3) في سنة 1943، ونحن الآن في سنة 1948.
فأين المساواة المادية في سدس الأرض؟ انهارت -بل استحال الاتجاه نحوها اتجاهاً نحو التفاوت- فانهار من الاشتراكية ركنها الأول، ومن ثم تداعت بقية أركانها، ركناً بعد ركن!

لا مجانية في التعليم

ناديت بديموقراطية التعليم، وضربت بروسيا المثل الحي على هذه الديموقراطية. ولكني اكتشفت -ويا لهول ما اكتشفت- أن الاتحاد “السوفييتي” – “قلعة” الاشتراكية و”ملاذ” الشيوعيين في أنحاء الأرض- قد أصبح التعليم في بالمال!
ففي الثاني من شهر أكتوبر سنة 1940، صدر مرسوم بتحديد مصروفات مدرسية تتراوح بين 150 و200 روبل في السنة للمدارس المتوسطة، و300 و500 روبل في السنة للجامعات(4).
وهكذا امّحت ديموقراطية التعليم بمرسوم!
وديموقراطية التعليم -إذا امّحت- امّحت معها فكرة المساواة في الفرص. وهكذا تحطمت مساواة الفرص في سدس الأرض، فأصبحت مفاتيح الإنتاج والتوزيع فيه وقفاً على المديرين -وأبناء المديرين من بعدهم- وتركّز التوجيه الأعلى لسياسة الدولة في أيدي حفنة من البيروقراطيين المتحكّمين.
والعفاء بعد هذا على معايير الثقافة البروليتارية، والعفاء على الرقابة الشعبية -والرقابة الشعبية ركن أول من أركان الاشتراكية- ركن لا تقوم له قائمة إلا في ظل المساواة المادية، وإلا إذا اكتسب الشعب درجة من الوعي لا تضمحل مع الزمن -كما هو حادث في الاتحاد السوفييتي- بل تنمو معه.
تلك هي الحقائق -وما أوردت إلا أمثلة عابرة- ولكن البيروقراطية الكرملينية قادرة على كل شيء: قادرة على مسخ العدالة باسم العدالة، وقادرة على حرمان الشعب من التعليم باسم ديموقراطية التعليم، وقادرة على تحطيم الرقابة الشعبية باسم الدولة الشعبية!
وفي زجاجات الأفيون -وهي في متناول الجميع- متّسع للجميع. وزجاجات الأفيون توزعها معامل الحكومة!.

لا ديموقراطية ولا حريات

دعوت الناس إلى التحرّر، وضربت بروسيا المثل الحي على حرية التفكير والتعبير. ولكني اكتشفت -ويا لهول ما اكتشف- أن الاتحاد “السوفييتي” –”مهد” الديموقراطية و”معقل” الحرية- يقتل الديموقراطية، ويشنق الحرية، وينادي بالموت للمعارضين، حتى ولو كان المعارضون هم صحابة لينين، الذين قامت على أكتافهم الثورة، ليبقى ستالين وحده -وستالين هو ممثل الطبقة الجديدة- ديكتاتوراً يفرض سلطان طبقته فرضاً على سدس الأرض.
ومن أردا أن يناقش فليسل سجون سيبيريا ومعسكرات العمل المسخّر: كم رُحِّل إليها وكم عاد منها من شعب الاتحاد “السوفييتي”؟ تنبئه عن مهزلة الحرية التي وئدت في سدس الأرض.
في ديسمبر سنة 1926 كان عدد سكان الاتحاد “السوفييتي” 147 مليون نسمة. وفي يناير سنة 1939 بلغ عدد السكان 170 مليون و126 ألف نسمة. والأخصائيون ينظرون إلى الرقمين في شيء من الدهشة ويقولون: لقد كان المتوقع أن يكون عدد السكان في الإحصاء الأخير 185 مليون نسمة. ومعنى هذا أن عدد المفقودين، في الفترة الواقعة ما بين ديسمبر سنة 1926 ويناير سنة 1939، يبلغ حوالي 15 مليون نسمة، أي ما يعادل 10% من سكان الاتحاد “السوفييتي” في ذلك الوقت. فأين ذهب هذا العدد الضخم؟
لو قال إنسان أن هذه الملايين ذهبت ضحية لحركات التطهير قساوة الظروف والأحوال في معسكرات العمل المُسخّر، لما استطاع أحد أن يكذّبه. ولكن الدعاة المتعصبين سرعان ما يُكذّبون وسرعان ما يتّهمون بالخيانة. ولكن أية خيانة ونحن نستقي معلوماتنا من المصادر الموسكوفية نفسها؟
لقد قدّرت الحكومة عدد السكان في سنة 1930 بحوالي 157,5 مليون نسمة. وفي أول أكتوبر سنة 1935 جاء في تصريح لستالين أن عدد السكان يتزايد في الاتحاد “السوفييتي” بمعدل 3 ملايين نسمة سنوياً. وإذن فالحد الأدنى لما كان ينتظر أن يصل إليه عدد السكان في سنة 1939 هو 185 مليون نسمة(5).
فهل من مجال بعد كل هذا لأحد أن ينكر -حتى ولو كان من أشد المتعصبين- أن الملايين المفقودة قد فقدت بالفعل؟
إن منهم من يعترف بهذه الفظاعات، ولكنه يخرج منها بتبرير جديد: “فليكن. لقد طهرنا الأرض بالفعل من بضعة ملايين ولكنّا طهرناها منهم لمصلحة المجموع. هل كنتم تريد منا أن نعترف بالحرية لأعداء الحرية؟”.
وما أسهل ما تنجح البيروقراطية الكرملينية في حقن الناس بالمبدأ الجديد: “لا حرية لأعداء الحرية”. وقد يكون المبدأ حكيماً في ذاته. ولكن فات للناس أن يحتفظوا -وأنّى لهم أن يحتفظوا- بمعايير الفهم الصحيح، التي تهيئ لهم التمييز بين أصدقاء الحرية وأعدائها الحقيقيين، وفات الناس أن يسألوا: من هم أعداء الحرية الحقيقيون؟

سحر الانتصار الروسي

ويضلل الناس أيضاً خروج موسكو من المجزرة الاستعمارية الثانية ظافرة. فالدعاة يحاولون دائماً أن يحيطوا انتصار روسيا في الحرب بهالة من التقديس. والمعجبون -تحت نشوة النصر- يتخلون دائماً عن عقولهم، فيتصورون أن الجماهير “السوفييتية”، وأن حُماة ستالينغراد، قد هزموا الأداة الحربية الألمانية، لأنهم كانوا يعرفون الهدف الذي يحاربون من أجله، ولأن هذا الهدف لم يكن شيئاً آخر سوى المحافظة على تراث الثورة البروليتارية.
والدعاة المعجبون معاً يزعمون أن مثل هذه الروح العالية التي بدت في ستالينغراد لا يمكن إلا أن تكون مستمدة من طبيعة النظام “السوفييتي” نفسه، وأنه لولا سلامة هذا النظام، وضمانه لرفاهية الجميع، لكان الشعب “السوفييتي” قد انتهز فرصة الحرب إعلان الثورة على حكامه، بدلاً من الاستبسال في الدفاع عن وطنهم تحت وطأة هؤلاء الحكّام.
ومع هذا فإن الذين يدرسون القواعد الأولية لعلم المنطق من تلاميذ المدارس الثانوية لا يحتاجون لكبير عناء للحكم ببطلان هذا التفكير وسخفه. فالانتصار لا يصلح مقياساً للرقي.
والذئب قد ينتصر على الانسان والانسان مسلّح، ومع هذا لم يقل أحد إن الذئب أرقى من الانسان. وفي سنة 1815 انتصر الروس على جيوش نابليون، ومع هذا لم يقل أحد أن النظام القيصري كان أرقى من النظام البونابارتي، أو أن مبادئ الاسترقاق أرقى من مبادئ الثورة الفرنسية.
وأما الروح المعنوية، فإن علوّها -أو انحطاطها- لا يدل على شيء، ولا يصلح مقياساً للحكم على صلاحية النظام الاجتماعي أو فساده. وإلا فبماذا نفسّر علو روح الجندي الألماني، ونحن نعترف بأن النازية نظام فاسد؟ وبماذا نفسّر، في الجندي الياباني، روح التضحية التي لم يشهد التاريخ مثيلاً لها، ونحن نعترف بأن نظام الميكادو نظام فاسد؟ وهل كان دفاع اليابانيين عن سلامون أقل استبسالاً من دفاع الروس عن ستالينغراد؟ وهل كان الألمان أقل حماسة من الروس في الدفاع عن بلادهم، حتى بعد أن تغير ميزان الحرب لصالح الحلفاء. وهل انتهز الشعب الألماني فرصة تغير ميزان الحرب ليعلن الثورة على حكامه النازيين؟
الجواب على كل هذا بالنفي، مع أن هناك فرقاً كبيراً بين الحالين: فمظهر الحرب من جانب ألمانية كان العدوان، ومظهر الحرب من جانب روسيا كان الدفاع عن الوطن -والوطن كما لا يخفى له في النفوس تراث قديم- وقد كان من الأسهل على الشعب الألماني أن يدرك أن الحرب التي يدفعه إليها حكامه حرب لا ناقة له فيها ولا جمل. ولكن الشعب الألماني لم يدرك، والشعب الألماني لم يثُر، بل ظل إلى آخر لحظة متمسكاً بزعيمه الطاغية.
فهل إذا استبسل الروس في الحرب -ومظهر الحرب من جانب روسيا كما قلت كان الدفاع عن الوطن- قيل إن السر كامن في طبيعة النظام “السوفييتي”، أو في سلامة الحكم الستاليني!
“المنطق” سخيف من البداية، والاسترسال في إثبات سخفه ضياع للوقت.

موسكو.. إله العصر

تلك هي الحقائق. ولكن الخمر التي أسكرتني زمناً، لا تزال إلى اليوم تُسكر معظم “الشيوعيين” في مصر، والشرق العربي، بل والعالم أجمع، فتجعلهم يتصورون أن المجتمع “السوفييتي” مجتمع لا طبقات فيه، ولا أثر فيه لاضطهاد يباشره إنسان ضد إنسان، أو أقلية من الناس ضد أغلبية من الناس، ما دامت الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج قد محيت منه.
وفي ظل إخفاء الحقائق، وبتر الواقع، وتشويه الحوادث؛ وفي ظل الهزائم المتوالية، وحاجة المهزومين إلى تعويض؛ يتضخم المعبود الجديد، حتى يغدو -في نفوس المعجبين- إلهاً حقيقياً لا يجوز لمن لا يحمل القرابين أن يقترب من حرمة المقدّس، وإلا اتُّهم بالكفر والزندقة، وعوقب بالفصل والحرمان، أو حكم عليه بالإعدام؛ ومن لم تنله ساحات المحاكم/ دُبّر له الموت، حتى ولو كان في أقاصي الأرض.
ومع هذا فما ألذ الأفيون إذا تجرّعه المضللون من ثغر موسكو: موسكو -زفرة المخلوق الذي أعياه البؤس على هذه الأرض؛ موسكو- قلب الدنيا التي ليس لها قلب؛ موسكو- عقل العصر الذي ليس له عقل؛ موسكو- أفيون الشعب، وأفيون الشعوب!
أي صدمة! بل أي كارثة!

لم أتلقّ تعليمات الكرملين

صدمة من غير شك، بل كارثة ما بعدها كارثة. ولكن يخطئ من يستنتج، من طريقة تصويري لهذه الكارثة، أني كنت يوماً من الأيام على اتصال مادي بموسكو، أو أني تلقيت في وقت من الأوقات تعليمات الكرملين.
صحيح أني كنت أؤيد سياسة الاتحاد “السوفييتي” -على طول الخط- ظناً مني أنه يهدف بهذه السياسة إلى خدمة الشعوب، وتأييدها في نضالها العادل ضد الاستعمار. ولكن هذا لا يعني على الاطلاق أني كنت ملزما بالسير على الخط الستاليني، أو باتباع تعليمات الكرملين. بل ولست أُغالي إذا قلت أني رسمت لنفسي -منذ بدأت نشاطي الاشتراكي في سنة 1940- سياسة مستقلة كل الاستقلال عن موسكو، وعن الدولية الثالثة، وعن مراكز الدعاية العالمية الكبيرة، حتى لا أجد أدنى صعوبة في تجنّب الطريق الذي كنت أسير فيه، لو ثبت لي في المستقبل أن فيه خطأ، أو أن فيه زيفاً، يحيد به عن الهدف الخيّر الذي كنت أسعى إليه.
وقد كان هذا التحوط مني سبباً في كثير من الاتهامات التي وجهت إليّ، ولكن الحوادث أثبتت أني كنت محقاً فيه، بعد أن انكشف أمامي الاتحاد “السوفييتي” على حقيقته.
وبالرغم من أن صلتي بموسكو -وبالستالينية العالمية- كانت صلة فكرية لا أكثر ولا أقل، وبالرغم مما اتخذته لنفسي من تحوطات؛ فقد أحدث اكتشافي للأفيون الجديد في نفسي أزمة حادّة استمرت ثلاث سنوات، هي الفترة التي انقضت بين اكتشافي لهذا الأفيون في أواخر سنة 1944 وإقدامي على إعلان هذا الاكتشاف للناس في أواخر سنة 1948، حين بدأت أذيع عليهم هذه الأحاديث في نطاق واسع.

مدين للسلطان؟

ومن عجب أنّي -إلى حد كبير- مدين للسطات بهذا الاكتشاف! فقد أرغمني فراغ الاعتقال إرغاماً، وأنا معتقل -من أواسط سنة 1943 إلى أوائل سنة 1945- بضاحية الزيتون حيناً -وبقرية “ماقوسة الميناوية” حيناً آخر – وبمنزلي بالجيزة حيناً ثالثاً- على إعادة البحث، وإطالة التأمل، وقراءة الكثير مما كان يمنعني النشاط العملي من قراءته وأنا حر طليق. وإعادة البحث، وإطالة التأمل، وقراءة ما كان يمنعني النشاط العملي من قراءته، هي التي فتحت عيني على الأفيون الجديد.
ومن حق الأصدقاء عليّ أن أقدم لهم شكري، ومن حق السلطات أيضاً أن أقدم لها الشكر. أما الأصدقاء، فلأنهم كانوا يهربون إلى الكتب من خلال الأسوار. وأما السلطات فلأنها أتاحت لي فرصة ذهبية للدرس والتأمل، حين أصدرت أمرها بالاعتقال.
وأنا -إذ أقدم شكري للسلطات- أقدمه لها- غير ناكر للجميل (!)- وإن كنت لا أزال عند معارضتي الشديدة لها في اعتقال الأفكار- كائنة ما كانت هذه الأفكار -وحبس المفكرين- كائنة ما كانت ميولهم الاجتماعية، أو نزعاتهم السياسية.
ومن يدري؟ لعلي لم أكن لأوفّق إلى اكتشاف الأفيون الجديد، لو أن السلطات تركتني مطلقاً من كل قيد، فحجبت من كثرة النشاط، ووفرة الحركة، هذه المعلومات الجديدة، ومنعتني من رؤية الواقع على حقيقته المظلمة، وتركتني أسير على نفس “الخط” المظلم الذي كنت أسير فيه.

الخوف من نفسي

وهكذا خرجت من المعتقل وفي رأسي فكرة جديدة، ولكني خشيت أن أعلنها للناس، خوفاً من نفسي، ومن الناس.
أما الخوف من نفسي فلأني -كما يبدو- لم أكن قد بلغت -بعد- مراتب التحرّر العليا، الت كنت أصبو إليها، والتي كنت أنشدها للمتصلين بي من أبناء هذا الوطن.
وقد كنت أحسب أني مستطيع التخلص من أية فكرة -كائناً ما كان رسوخها الماضي في النفس الباطنة- بمجرّد اكتشاف العقل لزيفها وبطلانها. وأكد عندي هذا الظن أني استطعت في الماضي أن أتخلص بالفعل من كثير من الأفكار التي لا تزال في اعتبار الخاصة من التراث الذي لا يجوز الشك في سلامته. ولكن يبدو أن هناك فرقاً بين فكرة وفكرة. فالنفس “يعزّ” عليها أن تتخلى ولو عن جزء من فكرة جاهدت في سبيلها، وبذلت التضحيات، وتعرّضت في الدفاع عن موسكو -التي كنت أضرب بها المثل الحي- لألوان من الاضطهاد الأدبي والمادي، ليس هنا مجال سردها.
وما السنوات الثلاث، التي انقضت بين اكتشافي للأفيون الجديد وإقدامي على إعلانه للناس في نطاق واسع، سوى سنوات الصراع النفسي بين الوعي واللا وعي: الوعي يحاول أن يخرج بالاكتشاف الجديد إلى النور؛ واللا وعي يتشبث بالارتباطات القديمة، والذكريات الماضية. ولكن الوعي انتصر.

الخوف من الناس

وأما الخوف من الناس، فلأني كنت أعرف مقدماً أني سألاقي في إقناع الناس بصحة الاكتشاف الجديد، مشقة دونها مشقة الإرهاب.
والمشقة هنا مزدوجة: فعقول الناس متحجرة، وعواطفهم جامحة. والعاطفة -إذا تغلبت على العقل- أغلقت سبيل الإقناع إغلاقاً، وحصنت صاحبها ضد المنطق المؤلم، إيثاراً للأوهام اللذيذة. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى -وهي ناحية شخصية تمسّني أنا- فقد كنت متأكداً من أني سأتعرض للوم ما أقساه، وهجوم ما أشد وقعه على النفس، حين يتّهمني “الأصدقاء” -بل والتلاميذ- بأني “مرتد”، أو “منحرف”، أو “منحل”، أو “عدو للطبقة”، إلى آخر هذه الألفاظ التي لم تحسن الببغاوات “الماركسية” -غير الماركسية- إلا “البغبغة” بغيرها.
وهل النوم على الأسفلت أقسى من معاني “الخيانة” يقذفها المتعصبون في وجه من أفنوا حياتهم دفاعاً عن مبادئهم؟ الأسفلت يهون. والجوع يهون. والتشرّد في الشوارع يهون. وكل شيء يهون.. إلا تهمة “الخيانة”.
وعذاب النفس قد يكون أقسى من عذاب الجسم. وموسكو تعرف أن عذاب النفس قد يكون أقسى من عذاب الجسم.
وما أبرع موسكو حين تعرف أن عذاب النفس قد يكون أقسى من عذاب الجسم، فتشهر تهمة “الخيانة” سلاحاً ماضياً في وجه من تحدثه نفسه بالتفكير في دخائل حياتها!
بل وما أبرع الطابور “الأحمر” -الذي فقد لونه الأحمر- حين يخرس الألسنة- في أفواه من تسوّل لهم نفوسهم أن يتبصروا في خصائص هذه الحياة- بعبارة واحدة لا تنطلق حناجرهم بغيرها: أتُعادون موسكو والاستعمار الأنجلو أميركي جاثم على صدر العالم؟! يا لكم من خونة!
وقد يشتد التعصب على الطابور “الأحمر” -الذي فقد لونه الأحمر- والتعصب مرض إذا اشتد بصاحبه أنزل به الهذيان- فيضيف إلى التهمة السابقة تهمة جديدة: أتُعادون موسكو والاستعمار الأنجلو أميركي جاثم على صدر العالم؟! ما الثمن الذي دفعته لكم السفارة الأميركية أيها المأجورون؟
وما أسهل ما يصدّق البلهاء! بل وما أسهل ما يصدق الذين سفكنا من أجلهم الدمع والدم!

الموقف الوسط

والحيرة قاسية. وهي هنا مزدوجة: حيرة أمام نفسي، وحيرة أمام الناس، وكلاهما كان يدفعني دفعاً إلى إيثار الموقف الوسط. والموقف الوسط هو الاستمرار في الدعوة إلى الإصلاح الأكبر دون التعرّض لموسكو بخير أوشر. وإن كان لا بد من جدل فليحصر هذا الجدل في نطاق ضيق لا يتعدّى حدود “الكادر” فإلى عدد ضيق من الحلقات والخلايا.
ولم يكن هذا الموقف الوسط في حقيقة أمره إلا تخاذلاً، ما كنت أرتضيه لنفسي، لو أني ظللت محتفظاً بصلابتي الأولى في إعلان الحق، أو ما أعتقد أنه حق. ولن يغير من هذه الحقيقة شيئاً أني كنت أبرّر هذا الموقف الوسط بأن البروليتاريا العالمية لا يعنيها كثيراً أن يكون في الاتحاد “السوفييتي” طغيان، ما دامت موسكو لا تتدخل تدخلاً إيجابياً في تقرير مستقبل الشعوب، وما دام الاتحاد “السوفييتي” لا يعتدي على أوطان الآخرين، الأمر الذي كنت لا أزال أحتفظ في نفسي الباطنة ببقية من الإيمان به.
وبالرغم من هذا الموقف الوسط، فإن سيل الاتهامات لم ينقطع: فأنا دائماً “مُنحل”، وأنا دائماً “منحرف”، وأنا دائماً “مرتد”، وأنا دائماً “عدو للطبقة”! وأسئلة الناس أيضاً لم تنقطع – وكم كانت تحرجني أسئلة الناس: ولكن ما رأيك في الاتحاد “السوفييتي”؟ وما رأيك في سياسة موسكو؟ وما رأيك في “الخط” الستاليني؟
وأي مشقة كنت أجدها في محاولة التهرّب من الرد على هذه الأسئلة المحرجة، وإرجاء الإجابة عنها إلى وقت آخر قد لا يجيء! ولكن الوقت جاء. جاء بتوالي الأحداث.

الاستعمار الروسي من الشرق الأقصى إلى أوروبا الشرقية

تطورت الأحوال العالمية -بعد خروجي من المعتقل- تطوراً سريعاً، وضحت فيه جميع المعالم، وتكشّفت كل النوايا. اندحر المحور، وانتصر “الحلفاء”، وخيل للناس أن الدم المسفوك لم تشربه الأرض عبثاً. فقد آن للسلم أن يتوطّد، وآن للإنسانية أن تتمتع بالحريات الأربع. ولكن السلم لم يتوطّد، والإنسانية لم تتمتّع بالحريات الأربع، سوى جشع العالم الاستعماري، الذي ألقى في قاع الأطلنطي بميثاق الأطلنطي، قبل أن يجف المداد الذي كتبت به حرياته الأربع.
انتهت المجزرة البشرية، فاندفع “حلفاء” الأمس في حرب “الديموقراطية”، يتسابقون على الغنائم والأسلاب، لا فرق في هذا بين المعسكرين: الشرقي والغربي.
أما الاستعمار أنجلو أميركي، فقد كان ماضيه ينبئ عن حاضره، كما أن حاضره ينبئ عن مستقبله.
وأما البيروقراطية الكرملينية، فقد كشفت القناع عن وجهها الحقيقي، وشرعت تطبق سياسة السلب والنهب في الشرق الأقصى وفي أوروبا الشرقية، فجرّدت المصانع من معداتها، وجنّدت الملايين في معسكرات العمل المُسخّر، وفرضت على الشعوب تعويضات فادحة “تُكفّر” بها عن جريمة لم تقترفها. ومن أراد أن يناقش، فليسل شعب ألمانيا: ماذا صنع “الحلفاء” به؟ وأي اللعنات صبّتها فوق رأسه الديموقراطيات المزيّفة؟ التي استحالت الديموقراطية بين يديها مهزلة!

الاستعمار الروسي في الشرق الأوسط

والذي يبدو لنا أن جشع البيروقراطية الكرملينية لا يقف عند حد، فهي لا تكتفي بما فعلته في الشرق الأقصى، وفي أوروبا الشرقية، بل تشرع تصوغ الغزل في الشرق الأوسط، فتطالب بالزيت الإيراني حيناً، وتنادي بالوصاية على طرابلس حيناً آخر، وتعمل على تقسيم فلسطين بالقوة حيناً ثالثاً.
وهي في كل ذلك ترمي إلى شيء واحد، هو السيطرة على منطقة من أهم المناطق الحيوية التي دار ولا يزال يدور عليها الصراع بين القوى الاستعمارية الكبيرة.
وما سياسة البيروقراطية الكرملينية في الشرق الأقصى، وما سياستها في أوروبا الشرقية، وما سياستها في الشرق الأوسط، سوى حلقات، متشابهة، متتابعة، في سلسلة واحدة، تهدف إلى غرض واحد، هو فرض سلطانها على العالم أجمع.

من الكنيسة الأرثوذكسية إلى الجامعة السلافية

ومن عجب أن تستعين البيروقراطية الكرملينية على تحقيق أطماعها -فضلاً عن قوة الجيش “الأحمر”- الذي فقد لونه الأحمر- ببعث قوتين من متحف القيصرية، ما كان أحد من الماركسيين يتصور أنهما سيعودان إلى الحياة من جديد وأعني بهاتين القوتين الكنيسة والجامعة السلافية. وكلاهما في عُرف الماركسيين أفيون.
الكنيسة في عُرف الماركسيين أفيون، لأنها تبذر الزهد في نفوس الجماهير، وقد أُعفيت في البلاد المحتلة من المصادرة، وأُعيدت لها في روسيا بعض الممتلكات، وسمح لها وسائل الدعاية المختلفة، وتوج بطريرك موسكو في احتفال رسمي، ورُسمت صور آباء الكنيسة إلى جانب صورة أب الشعب، وأبو الشعب هو ستالين، إذا كنت لا تعلم.
والجامعة السلافية في عرف الماركسيين أفيون، لأنها تبذر التعصب العنصري في نفوس الكادحين، وتحيي فيهم أحلام السيادة الجوفاء، التي أحيا هتلر مثيلها في شعب ألمانيا من قبل، فكانت الكارثة.
وهل أجيء بشيء من عندي؟ استمعوا إلى ماركس نفسه: “الجامعة السلافية ليست حكة استقلالية. إنها حركة تريد أن تمحو ما خلقه التاريخ في ألف سنة. إنها حركة لا تقوم لها قائمة إلا بمحو تركيا وهنغاريا ونصف ألمانيا من الخريطة الأوروبية. فإذا ما تحقق لها هذا الهدف لا يستقيم لها كيان إلا بإخضاع أوروبا”(6).
كتب ماركس هذا منذ ثلاثة أرباع قرن، ولكن يبدو أن ما كتبه ماركس في القرن التاسع عشر ينطبق على القرن العشرين؛ فقد نجحت البيروقراطية الكرملينية تقريباً في تحقيق الشطر الأول من البرنامج؛ وما عجز عنه آل رومانوف توصل إليه ستالين؛ ولم يبق أمام الشعب سوى تحقيق الشطر الثاني من البرنامج، وهو إخضاع أوروبا؛ فإذا خضعت أوروبا، لم يبق أمام من تنبعث من حوله أشعة الشمس سوى تحقيق الحلم الأكبر؛ والحلم الأكبر هو إخضاع العالم.
تلك هي الحقائق. فمن منا -في مثل ظروفنا- كان في مقدوره أن يتنبّأ بهذا كله، أو يقطع به قطع اليقين؟ قلّة أو لا أحد.
أما الآن وقد ظهر ما خفي، ودلّت الأحداث المادية على صحة الشك، فهل يمكن لجرمة الموقف الوسط أت تغتفر لمن أراد من الناس أن يحترم عقله، وإن قل من الناس من أراد أن يحترم عقله؟ الرد لا يمكن أن يكون إلا بالنفي!

الذكر في حلقات الذكر

ومن عجب أن تتطور الظروف الدولية هذا التطور الصاعق، فلا تتفتّح العيون البروليتارية في أوروبا وأميركا على الخطر الجديد، بل تظل مغلقة؛ ولا تتيقظ الأحزاب “الشيوعية” -غير الشيوعية- أو الطليعة البروليتارية كما يقولون -بل تواصل دقّ الطبول أشبه ما تكون بموسيقى الجاز- وما موسيقى الجاز هنا إلا تنفيس هستيري عن بعض المكبوت من رغبات البشر- وتستمر على “عربدتها” السياسية، فما تعقده من اجتماعات عامة فوق الأرض حيناً، واجتماعات خاصة تحت الأرض حيناً آخر!
وما أسهل ما تتحول الخلايا “الشيوعية” على يد الستالينيين إلى شيء يشبه حلقات الذكر، ينفّس فيه المجتمعون عن رغباتهم المكبوتة بالهستيريا، حين يردّد فريق منهم اسم ستالين ممطوطاً ممدوداً، ويردّد الباقون في نغم معاد رتيب: ما أبرع موسكو في التكتيك، والجميع يعلو شفاههم شيء يشبه رغوة الصابون!

مأساة الهند الصينية

أجل ما أبرع موسكو في التكتيك!
ألم يقل توريز -وتوريز هو زعيم الحزب “الشيوعي” الفرنسي- “إن فنسا في حاجة لمستعمراتها”؟ الم يقل ديكلو -وديكلو هو سكرتير الحزب “الشيوعي” الفرنسي- “إن الأهالي في معظم هذه المستعمرات متأخرون، وإن فرنسا مسؤولة عن مد يد المساعدة لهم”؟(7).
ألم يُضرب شعب الهند الصينية برصاص الفرنسيين، و”الشيوعيون” الفرنسيون مشتركون في الحكم بأربعة مقاعد، من بينها مقعد وزير الدفاع، أو وزير الهجوم، سمّه ما شئت؟
كل هذا حدث. ومع ذلك فما أبرع موسكو في “التكتيك”! بل وما أبرع الأحزاب الستالينية نفسها في التكتيك!

سورابايا

وهل يختلف موقف الحزب “الشيوعي” الهولندي من موقف زميله الفرنسي؟ أليس من سياسة حزب هولندا إبقاء إندونيسيا جزءاً من هولندا العظمى؟
تلك هي الحقائق. ولتكن سورابايا ستالينغراد أخرى تحت سمع العالم وبصره، فإن إندونيسيا بلاد متأخرة، وسالة هولندا العظمى هي أن تُدخل المدنية في هذه البلاد المتأخرة، حتى ولو كان هذا على أسنّة الحراب، وتحت عجلات الدبابات، وفي ثنايا القنابل الساقطة من الطائرات.
ومع هذا فما أبرع موسكو في التكتيك. وما أبرع الأحزاب الستالينية في التكتيك. بل ما أقسى الغباء الإنساني!

من موسكو إلى الحصوة التي في عين الحسود

ومن عجب ذلك أن تنتشر “العربدة” السياسية في مصر، والشرق الأوسط، في وقت بدأت في أطماع الكرملين تمسسهما في الصميم، انتشاراً قد يكون أحد وأخطر، مع أن تراث الأسطورة الروسية فيهما قريب.
أجل أحَدّ وأخطر: فشعوبنا اعتادت حلقات الذكر من قديم، وشعوبنا درجت على رشق الحداوي في واجهات البيوت، وشعوبنا درجت على وضع الأحجبة في الصدور، وحصوة في عين الحسود.
ولا فرق بين الإيمان بموسكو والإيمان بالحصوة التي في حين الحسود. ولا فرق بين رشق الحداوي في واجهات البيوت وترصيع الصدور بصورة ستالين. ولا فرق بين الذكر الهستيري في حلقات الذكر وذكر ستالين في خلايا “الشيوعيين”. فلا ذكر “الله” في حلقات الذكر سيرزق الإنسان إذا الإنسان قعد. ولا ذكر ستالين في خلايا “الشيوعيين” سيحقق النصر للشعوب إذا الشعوب تخاذلت.
أجل أحدّ وأخطر: وأي أفيون أحدّ وأخطر من أن ينجح الجراد “السوفييتي” -غير السوفييتي- في إقناع شعوبنا المسكينة بأن الاتحاد “السوفييتي” -غير السوفييتي- يطالب بالزيت الإيراني لمصلحة الشعب الإيراني، وينادي بالوصاية على طرابلس لمصلحة الشعب الطرابلسي، ويعمل على تقسيم فلسطين بالقوة لمصلحة الشعب الفلسطيني.

في شمال افريقيا
“الشيوعي” يتحول إلى استعماري
ألم ينادي “الشيوعيين” في شمال افريقيا الفرنسي بالاتحاد مع فرنسا؟ وفي أي وقت؟
في وقت كانت الحكومة الفرنسية -و”الشيوعيين” الفرنسيين مشتركون فيها- تضطهد فيه الوطنيين المطالبين بالحرية، فتصادر حرياتهم، وتمنع اجتماعاتهم، وتفتح لهم أبواب السجون لتبتلعهم في جوفها السحيق، بل وتضربهم بالرصاص “الباريسي” ضرباً، كأنما يريد “الشيوعيون” في شمال افريقيا أن يقنعوا الجماهير الكادحة فيها بأن للرصاص الباريسي إذا ما اخترق صدور الفرنسيين حلاوة، ما دام وزير الدفاع الفرنسي قد بصم كل رصاصة منها بخاتمه، ووزير الدفاع الفرنسي إذا كنت لم تنس رجل يؤمن “بالشيوعية”، وما ألذّ الموت ورائحة “الشيوعية” تنفذ إلى خياشيم الضحايا قبل أن تفارقهم أرواحهم.
ومن يدري؟ لعلنا نسمع في القريب أن “الشيوعيين” في مصر ينادون بالاتحاد مع بريطانيا العظمى، إذا قدر “لشيوعي” أو أكثر أن يشترك في حكومة بريطانيا العظمى، فنحن كما يبدو نعيش في عصر المعجزات.

فلسطين.. فلسطين
“الشيوعي” يتحول إلى صهيوني
وفلسطين جريحة؛ وفلسطين تقطر دماً؛ وفلسطين يأتمر بها الصهيونيون، وتأتمر بها القوى الاستعمارية الكبيرة، وتأتمر بها هيئة الأمم، أو مطبخ اللصوص رقم 2؛ وفلسطين تغطي أرضها جثث القتلى، وتملأ سماءها تأوّهات الجرحى، وصرخات الثواكل، وبكاء الأيتام؛ وفلسطين هذا شأنها.. يؤيد “الشيوعيون” في مصر والشرق العربي قرار التقسيم، بل ومنهم من يعلن أنه مستعد لخوض الحرب في صفوف الصهيونيين، لا لشيء إلا لأن الإلهة موسكو -ولإلهة موسكو لا تُناقش- قد أيّدت قرار التقسيم، ولا لشيء إلا لأن الأب ستالين الذي تنبعث من حوله أشعة الشمس -والأب ستالين الذي تنبعث من حوله أشعة الشمس لا يُناقش- أراد أن يقيم لإسرائيل دولة في فلسطين!
ومن يدري؟ ماذا يكون موقف “الشيوعيين” في مصر والشرق العربي لو أن الدولة المزعومة قامت على أرض القطر الشقيق، وشرعت تمد خراطيمها إلى أحشاء البلاد العربية لتحقق أحلام السيادة الإسرائيلية؟ لعلها تلعب دور الطابور الخامس، فتنادي بحياة الإمبراطورية الصهيونية، فنحن كما يبدو نعيش في عصر المعجزات، ومن المعجزات أن يتحول الشيوعي إلى صهيوني. ولكن “الشيوعي” في هذا العصر تحول في غفلة من الزمن إلى صهيوني. وتلك معجزة أخرى من معجزات العصر، وما أكثر معجزات العصر!

هستيريا الحرب الثالثة

واليوم -والتراب لما يجفّ من دماء عشرة ملايين سُفكت ولا تزال رائحتها تفوح من بطن الأرض- يفقد العام توازنه، فيصاب بحمى الاستعداد لمجزرة ثالثة، وتفقد الدول الاستعمارية رشدها، فتنفق على التسلّح ما لا يقل 30 بليوناً من الجنيهات، وتضع من أبنائها أكثر من 30 مليوناً تحت السلاح!
واليوم -والمجاعة العالمية تنشب أظفارها في العالم أجمع، والبؤس والتشرّد يفتكان بأبناء الشعوب، ونقص التغذية يجفف الأثداء ويلوي البطون -تبدّد الدول الكبيرة- بل والصغيرة- “حلفاء” الأمس في حرب “الديموقراطية”- مقادير طائلة لإنتاج المدافع والدبابات، واستحداث مواد أشد تفجيراً، وابتكار أسلحة أشد فتكاً وتخريبا وتدميراً!
واليوم -والعالم يبدي عجزه الكامل الشامل عن رفع مستوى الشعوب -لا تتردّد الدول الكبيرة- بل والصغيرة- “حلفاء” الأمس في مهزلة “التحرير” -وأن تنفق على معدات الحرب القادمة أموالاً تفوق بكثير ما كانت تنفقه عليها في سنة 1939 استعداداً للمذبحة الماضية!
ومن وراء الملايين الضائعة، على النشاط العسكري الضائع، يجثم على صدر الشعوب مارداً العصر: المارد الأحمر -الذي فقد لونه الأحمر- والمارد الأميركي- ومن ورائه حليفه الإنجليزي الأصفر- وكلاهما يحتل مكان الصدارة في “شرف” الاستعداد الحربي -الذي ابتلع فيهما معاً ما يقرب من نصف الميزانية- وكلاهما يحاول أن يدخل في فلكه أكبر مجموعة من الشعوب، استعداداً ليوم الصراع الأكبر. وما يوم الصراع الأكبر سوى اليوم الذي يحلم به كل الماردين لسحق الآخر، حتى ينفرد بالسيطرة على العالم وحده!
اليوم -وهذا كله يحدث- هل يجوز لي أن أسكت على الزيف القديم؟ وهل يجوز لأمثالي -ممّن اكتشفوا الحقائق الجديدة- أن يتخاذلوا فيقبلوا الموقف الوسط، خوفاً من أن يُقال عنهم إنهم “مرتدّون”، أو “انتهازيون”، أو “منحرفون”، أو “منحلّون”، أو “أعداء للطبقة”، إلى آخر هذه “البغبغانيات” المحفوظة؟
الرد لا يمكن أن يكون إلا بالنفي، وإلا فالعفاء على القيم الإنسانية، والعفاء على الشخصية الإنسانية، بل والعفاء على العقل البشري كله!

الرأي العام هو الحكم

وقد أردت بادئ الأمر أن أحصر الجدل في نطاق ضيق، ولكن الجراد “السوفييتي” -غير السوفييتي- رفض الجدل، حتى في النطاق الضيق، فحذّر “كادره” المأجور المزيّف من الاتصال بنا، وضرب على خلاياه حجراً عقلياً لا يختلف في كثير أو قليل عن الحجر العقلي الذي ضربته النازية على تفكير الشعب الألماني.
وإذن فلا مفر من الاحتكام إلى الرأي العام نفسه، ولا مفر من النزول بهذه الحقائق الجديدة في أوسع نطاق، حتى لا يتفشّى خطر الأفيون الجديد بين الناس، وحتى لا يتسرّب سمه القاتل إلى نفوسهم الباطنة، فيتغلغل إلى أعمق أعماقها، ويصبح من العسير أو من المتعذر بعد ذلك تطهيرها.

سيطرة الدخلاء

وقد يتساءل البعض كيف تسنّى للدخلاء أن يسيطروا على الحركة، سيطرة جعلتها أداة عمياء طيّعة، في أيدي البيروقراطية الكرملينية، أو في أيدي الصهيونيين.
والرد على التساؤل غير عسير. فقد كنا نحن أنفسنا نؤيّد سياسة موسكو، ظناً منا أنها تهدف بهذه السياسة إلى خدمة الشعوب كما ذكرت. وقد كان لهذا التأييد أثره الباقي في نفوس زملائنا وأصدقائنا الذين انقطعوا عنا في أثناء غيابنا الطويل في السجون والمعتقلات. وقد استغل الدخلاء هذا الغياب الطويل، وبذروا أموالهم للسيطرة على الحركة، وتحويلها من حركة مستقلة تؤيد موسكو، وإن تك غير ملزمة بهذا التأييد، إلى مجرّد طابور خامس يعمل لحساب وزارة الخارجية الروسية، بل ويأتمر بأوامر الصهيونيين. وما أقوى الستالينيين والصهيونيين معاً حين يبذرون المال!
ولكن الحق فوق المال، وفوق الوهم، وفوق الدعاية المأجورة، وهو لا بد منتصر ولو بعد حين. ولئن كانت الحيرة التي انتابتنا طويلاً، فجعلتنا نحجم طويلاً عن التعرّض لموسكو بالخير أو بالشر، قد أعطت للخصوم فرصة يمتدون فيها ويتضخمون، فإن هذه الفرصة اليوم ضاعت، لأن الحيرة تبدّدت، والشك تحول إلى يقين، والسرطان الروسي الممتد في كل الاتجاهات -والشرق الأوسط من هذه الاتجاهات- بدا أمام أعيننا سافراً واضحاً لا لبس فيه ولا غموض، فلم يبق أمامنا إلا أن نرفع القناع عن وجه “المعشوقة” الحقيقي، حتى يرى الناس كم هو دميم!
وليس يخيفني ما سأتعرّض له من فقد “الأصدقاء”، على ما في فقد الأصدقاء من إيلام، وليس يخيفني أن أقف في وجه الوهم وحدي أو مع قلّة، على ما في الوحدة والقلّة من عناء ومشقّة، فقد كنت قبل أن أكتسب “الأصدقاء” وحدي أو مع قلة، وما تراجعت.
والحق أقول أني على أتم استعداد لأن أتنازل عن “أصدقائي” السابقين جميعاً، إذا بدأوا هم بالتخلي عني، لا لشيء إلا لأني أقدمت على إعلان الحق، أو ما أعتقد أنه حق.

جرعة ضد الحمى الموسكوفية

ولعل في إقدامي على نشر هذا الحديث ما يحذّر “اليسار” من عمق الهوّة التي سيتردّى فيها لو قدّر للطابور “الأحمر” -الذي فقد لونه الأحمر- أن يظل ممسكاً بعنانه. ولن يكون هذا الحديث سوى بداية أتلوها بسلسلة من الأحاديث أعلج فيها بالتفصيل ما أجملته هنا إجمالاً.
وقد أعددت حتى الآن من هذه الأحاديث أربعة، لعلها تفي بما أريد شرحه للناس في هذه المسألة: الأول يعالج موضوع التفاوت في الدخل، والثاني يعالج موضوع الثقافة والتعليم، والثالث يعالج موضوع الحرّيات، والرابع يعالج سياسة روسيا الخارجية.
وقد كان من الأنسب أن يضم هذه الأحاديث جميعاً كتاب واحد، من الجائز أن تكون “جرعته” كافية لإنقاذ “اليسار” من الحمى الموسكوفية التي بدأت تتلف أعصابه إلى هذا الحد الذي أنزل به الهذيان. ولكن منعني من هذا ضيق الوقت وقلّة المال. أما ضيق الوقت فأنا أعمل من الصباح إلى المساء في سبيل الخبز. وأما قلّة المال فما أقسى المال إذا قلّ، وما أقسى دو النشر إذا امتنعت عن النشر، بل ما أقسى اسم الإنسان إذا وضع في القائمة السوداء فأُغلقت في وجهه الأبواب جميعاً!

اعتذار للأصدقاء

ولا يفوتني أن أعتذر للأصدقاء الأعزاء، الذين حاولوا أن يثنوني عن نشر هذه الأحاديث، حرصاً على مستقبلي السياسي فيما يتصوّرون. فأنا في الماضي لم أكن أبغي لنفسي شيئاً. وأنا في المستقبل لا أريد لنفسي شيئاً. وإن كان قد جاءني شيء فقد جاءني عرضاً. وإن كان سيجيئني شيء فإنه سيجيئني عَرَضاً. وما كان مستقبلي قط مرتبطاً بموسكو أو بغير موسكو من بلاد “الله” الواسعة.
وأنا في الأصل أدعو إلى الحرية. ونمو الحرية مرتبط بنمو العقل. ونمو العقل لا يمكن أن يجيء عن طريق الكتمان. وإذا كانت موسكو قد تحولت إلى أفيون، فإن من واجب المفكرين الأحرار أن يعملوا على تحرير الشعب من هذا الأفيون!
إلى المعسكر الثالث

وبعد فأنا أعتقد أن السير في ركاب المارد الأميركي -ومن ورائه دول الكتلة الغربية التي يشملها مشروع مارشال- أقل ما يوصف به أنه كارثة.
ولكني أعتقد -في الوقت ذاته- أن الارتماء في أحضان المارد “الأحمر” -الذي فقد لونه الأحمر- ومن ورائه بقية الدول الشرقية التي ضرب من حولها الستار الحديدي -أقل ما يوصف به -هو الآخر- أنه كارثة. وهي كارثة لا تقلّ عن الأولى جسامة وفداحة.
وإذن فالخير للشعوب كل الخير، بل والحي الذي ليس بعده حل، أن ترسم أهدافاً بعيداً عن إشعاع الماردَين، وأن تتحد لتحقيق هذه الأهداف خارج المعسكرين، مستوحية مصلحتها الخاصة، غير متأثرة بأطماع واشنطن، أو نوايا موسكو.
وكل ما أرجوه لشعوبنا، هو أن تدرك هذه الحقيقة قبل أن تطحنها عجلة الدولار، أو تسحقها أقدام الكرملين، فلا يكون لهذا التحذير من نفع، ولا يكون لهذا التذكير من جدوى!

الجيزة/ مايو/ 1948

________________________

(1) هو “الكتاب المنبوذ”.
(2) جيمس بيرنهام: الثورة الإدارية، ص 42.
(3) هو الرفيق برهييكوف، مدير إحدى المزارع الحكومية في كازاخستان.
(4) جريدة “الازفستيا” عدد 3 أكتوبر سنة 1940
(5) Arthur koestler.. the yogi & The commissar. P 131
(6) ج. مونس: الثوار وروسيا والستالينية العالمية. ص 33.
(7) جريدة “ايفننغ ستاندرد” عدد 15 سبتمبر سنة 1946.



أعلى